الصفحات

الأربعاء، 1 أغسطس 2012

بَابُ العَفْوِ عَنِ القِصَاصِ

 
بَابُ العَفْوِ عَنِ القِصَاصِ
يَجِبُ بالعَمْدِ القَوَدُ، أَوْ الدِّيَةُ، فَيُخَيَّرُ الوَلِيُّ بَيْنَهُمَا، وَعَفْوُهُ مَجَّاناً أَفْضَلُ،
اعلم أن هذه الملة ـ ولله الحمد ـ ملة وسط بين ملتين: إحداهما
غلت في القصاص، والثانية فرَّطت فيه، وليس معنى ذلك أننا نقول: إن هاتين الشريعتين خرجتا عما شرعه الله، ولكن الله بحكمته أوجب على هؤلاء كذا، وأوجب على هؤلاء كذا، فقد ذكروا أن شريعة اليهود وجوب القصاص، وأنه لا طريق إلى العفو عن الجاني، وأن شريعة النصارى وجوب العفو عن القصاص، وأنه لا سبيل إلى القصاص.
وجاءت هذه الشريعة وسطاً بين الملتين، فيجب القصاص ويجوز العفو، ولهذا قال الله ـ تعالى ـ في الآية: {{ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ}} باعتبار إيجاب القصاص، {{وَرَحْمَةٌ}} [البقرة: 178] باعتبار العفو، أي: من رحمة الله تعالى أن يعطي لأولياء المقتول حظاً لأنفسهم يتشفون به من القاتل.
قوله: «يجب بالعمد» أي: العمد العدوان الذي بغير حق.
قوله: «القوّد أو الدية» «أو» هنا للتخيير؛ ولهذا قال:
«فيخير الولي بينهما» الولي، أي: ولي المقتول وهم ورثته، فالولي اسم جنس، فيشمل ما كان واحداً أو أكثر.
ودليل ذلك قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}}، فقوله: {{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيءٌ}} علم منه أن لمن له القصاص أن يعفو ويأخذ الدية، ولهذا قال: {{فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ}} هذا من القرآن، ومن السنة قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فمن قُتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يقاد وإما أن يودى» [(30)]، أي: إما أن يقاد للمقتول، وإما أن تؤدى ديته.
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «بخير النظرين» صريح بأن الخيار لأولياء المقتول؛ لقوله: «من قتل له قتيل» وعلى هذا فلا خيار للقاتل، فلو قال القاتل: اقتلوني، أنا أريد أن يكون المال لورثتي، فلا خيار له، بل الخيار لأولياء المقتول؛ وذلك لأن هذا الجاني معتدٍ ظالم فلا يناسب أن يعطى خياراً، وأما أولياء المقتول فقد اعتدي عليهم، وأهينت كرامتهم بقتل مورثهم، فكان لهم الخيار؛ ولهذا يقول المؤلف: «ويخير الولي بينهما» .
قوله: «وعفوه» أي: ولي المقتول.
قوله: «مجاناً» أي: بدون مقابل.
قوله: «أفضل» من القصاص، ومن الدية.
فالمراتب ثلاث: قصاص ودية وعفو مجاناً، فهذه الثلاث يخير فيها أولياء المقتول.
ويوجد شيء رابع اختلف فيه أهل العلم، وهو أن يصالح عن القصاص بأكثر من الدية، وسيأتي في كلام المؤلف إن شاء الله تعالى، ونبين ما هو الحق في ذلك.
وقوله: «وعفوه مجاناً أفضل» ظاهر كلامه أنه أفضل مطلقاً، سواءً كان هذا الجاني ممن عرف بالظلم والفساد، أم ممن لم يعرف بذلك؟ لكن الصواب بلا شك ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ حيث قال: إن العفو إحسان، والإحسان لا يكون إحساناً حتى يخلو من الظلم والشر والفساد؛ فإذا تضمن هذا الإحسان شراً وفساداً أو ظلماً، لم يكن إحساناً ولا عدلاً، وعلى هذا فإذا كان هذا القاتل ممن عرف بالشر والفساد فإن القصاص منه أفضل.
ويدل لما قاله شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ قوله تعالى: {{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}} [الشورى: 40] ، وهل العافي عن المجرم الظالم المعتدي، المعروف بالعدوان، مُصلح؟! لا؛ لأنه إذا عفي عنه اليوم، فقد يقتل واحداً أو عشرة غداً، فمثل هذا لا ينبغي أن يعفى عنه، وإن لم نقل بتحريم العفو، فإننا لا نقول بترجيحه.
ومن هنا نعرف خطأ بعض الناس الذين عندهم عاطفة أقوى من التعقل، والعاطفة إذا خلت من التعقل جرفت بالإنسان؛ لأن العاطفة عاصفة، فلهذا يجب على الإنسان أن يحكم العقل في أموره قبل العاطفة، وإلاّ عصفت به عاطفته حتى أودت به إلى الهلاك، فبعض الناس إذا حدثت من إنسان حادثة سير، وما أشبه ذلك، فإنه يعفو عن الدية سريعاً، وهذا خطأ عظيم، أمَّا إذا كان الميت عليه دين، أو كان الورثة قصّاراً فإن العفو حرام بلا شك، والعجب أن بعض الورثة يعفون ولا يسألون هل عليه دين أو لا؟ والدَّين مقدّم على حق الورثة.
وأمَّا إذا لم يكن عليه دين، والورثة كلهم مرشدون، فإنه يجب علينا أن نتعقل وننظر، هل هذا الرجل من المتهورين الذين لا يبالون، والذين يُذكر عنهم أنهم يقولون: نحن لا نبالي، الدية في دُرْج السيارة!! فمثل هذا لا يقابل بالعفو، بل ينبغي أن يقابل بالشدة؛ حتى يكون رادعاً له، ولأمثاله من المتهورين.
ودليل المؤلف على أن العفو أفضل، قوله تعالى: {{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}} [البقرة: 237] ، وقوله في وصف المتقين: {{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}} [آل عمران: 134] ، ولكنا نقول: إن الله تعالى يقول: {{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}} فإذا كان في العفو مخالفة للتقوى، فكيف يكون أقرب للتقوى؟! وقوله تعالى: {{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}} أعقبه تعالى بقوله: {{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}} فإذا لم يكن العفو إحساناً فإن صاحبه لا يمدح.

فَإِنِ اخْتَارَ القَوَدَ، أَوْ عَفَا عَنِ الدِّيَةِ فَقَطْ فَلَهُ أَخْذُهَا وَالصُّلْحُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهَا،...
 قوله: «فإن اختار القود أو عفا عن الدية فقط» دون القصاص «فله أخذها» أي: إن اختار القود فله أخذ الدية، وإن اختار الدية فليس له القود ـ أي: القصاص ـ مثاله: قيل لولي المقتول: أنت بالخيار، إن شئت فاقتص، وإن شئت فخذ الدية، فقال: أريد القصاص، ثم بعدئذٍ فكّر، وقال: أنا لن أستفيد من قتله، فرجع إلينا، وقال: أريد الدية، فله ذلك؛ لأنه نزل من الأشد إلى الأخف.
لكن لو قال الجاني: أنا لا أقبل تنازله، والقصاص أحب إلي، فظاهر كلام المؤلف أنه ليس له ذلك، وأن الخيار بيد أولياء المقتول.
وقال بعض أهل العلم: بل له ذلك، لأنه أعلم بنفسه، وهذا رجل اختار القصاص، فإذا رجع إلى الدية فليس له أن يرجع إلاّ برضا الجاني، والجاني قد يختار القصاص على الدية؛ وذلك بأن يكون رجلاً بائساً، قد ملَّ من الدنيا وأتعبته، ويقول: لعلي إن قُتِلْتُ قصاصاً أن أستريح، كما يسأل بعضهم ويقول: أنا سئمت من الدنيا، ومللت منها وتعبتُ، ودائماً في قلق، وأرغب أن أذهب إلى جبهة القتال؛ لأجاهد فأُقْتَل، فهل أنال أجر الشهداء؟
الجواب: لا، بل هذا حرام عليه، أن يذهب للجهاد من أجل أن يقتل.
فقد يختار الجاني القصاص على الدية لمثل هذه الأمور، لكن مذهبنا خلاف مذهب مالك ـ رحمه الله ـ الذي يقول: إنه ليس له أن يرجع، فمذهبنا أن له الرجوع؛ لأنه نزول من الأشد إلى الأخف.
وقوله: «أو عفا عن الدية فقط» يعني أنه لمّا خُيِّر قال: أنا عفوت عن الدية، فهذا لا يكون عفواً عن القصاص؛ لأن عندنا شيئين، فإذا عفي عن أحدهما تعين الثاني، كما لو عفا عن القصاص فله الدية، فإذا عفا عن الدية فله القصاص.
قوله: «والصلح على أكثر منها» أي: أنه إذا اختار القصاص، ثم إن القاتل وأهله قالوا لولي المقتول: لا تقتله، ونحن نعطيك بدل الدية ديتين، أو ثلاث ديات، أو أربعاً، أو عشراً، أو ما أردت، فهذا جائز؛ لأنه لما اختار القصاص تعين له، فله أن يبيعه بما شاء.
ورجَّح ابن القيم ـ رحمه الله ـ أنه ليس له إلاّ الدية فقط؛ لأنه ورد في حديث رواه الإمام أحمد، لكن في سنده محمد بن إسحاق وقد عنعن، أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم حين قال: القود، أو الدية، أو العفو، ثم قال: «فإن اختار الرابعة فخذوا على يديه» [(31)]، أي: لا توافقوه، ولهذا رجَّح ابن القيم أنه ليس له أن يصالح بأكثر من الدية؛ لأن الشرع ما جعل له إلاّ هذا، أو هذا، فإمّا أن تقتص أو الدية، والغالب في هذا أنه إذا قيل له: ما لك إلاّ الدية، فإنه يختار القود.

وَإِنِ اخْتَارَهَا، أَوْ عَفَا مُطْلَقاً، أَوْ هَلَكَ الْجَانِي، فَلَيْسَ لَهُ غَيْرُهَا، .......
قوله: «وإن اختارها، أو عفا مطلقاً، أو هلك الجاني، فليس له غيرها» فتتعين الدية في ثلاث صور:
الأولى: إذا اختار الدية، فلو قال: رجعت إلى القصاص، نقول: لا قصاص؛ لأنك باختيارك الدية سقط القصاص.
الثانية: إن عفا مطلقاً، والعفو له ثلاث حالات: إما أن يكون مطلقاً، أو يقيد بالقصاص، أو يقيد بالدية، فإن قال: عفوت عن القصاص، فهذا عفو مقيد بالقصاص فتثبت له الدية، وإن قال: عفوت عن الدية، فهو عفو مقيد بالدية، فله القصاص وله أن يعود إلى الدية، فإن قال: عفوت، وأطلق، فالمذهب أن له الدية، والقول الثاني في المذهب: أنه ليس له قصاص ولا دية؛ لأنه عفو مطلق.
ودليل المذهب أن العفو المطلق ينصرف إلى الأشد، وهو القصاص، ويمكن أن نرد على هذا بأن نقول: إن العفو المطلق مقتضاه أن لا يجب على المعفوِّ عنه شيء، والناس يعرفون أنه إذا قال: عفوت عنه، أو سامحته، أو ما أشبه ذلك، أن المعنى أنني لا أطالبه بشيء، اللهم إلا إذا دلّت قرينة على أن المراد بالعفو العفو عن القصاص، كأن يُسأل: هل ستقتل فلاناً، فقال: لا، سامحته، فربما نقول: إذا وجِدت قرينة تدل على أن المراد العفو عن القصاص، لا مطلقاً عُمل بها، وأما إذا نظرنا إلى مجرَّد اللفظ، فإن مجرَّد اللفظ يقتضي العفو مطلقاً، فلا يستحق دية ولا قصاصاً.
الثالثة: إذا هلك الجاني أي: مات، فهنا تتعين الدية، ولا يمكن القصاص، وعليه فتتعين الدية في أربع صور:
الأولى: إذا اختار الدية.
الثانية: إذا عفا عن القصاص.
الثالثة: إذا عفا مطلقاً.
الرابعة: إذا هلك الجاني.
ومن ذلك لو قتل هذا الجاني أربعة أشخاص، تعلق به أربع رقاب، فإذا اختار أولياء المقتول الأول القصاص وقتل، فهنا يتعين للآخرين الدية، ولهذا لو قتل رجل أربعة أنفس فأولياء المقتولين كُلٌّ له حق، لكن نبدأ بالأول فالأول.

وَإِذَا قَطَعَ إِصْبَعاً عَمْداً فَعَفَا عَنْها، ثُمَّ سَرَتْ إِلَى الْكَفِّ أَوِ النَّفْسِ، وَكَانَ العَفْوُ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ فَهَدَرٌ، وَإنْ كَانَ العَفْوُ عَلَى مَالٍ فَلَهُ تَمَامُ الدِّيَةِ،...........
 قوله: «وإذا قطع إصبعاً عمداً» لفظ «أصبع» فيه عشر لغات مجموعة في قولك:
وهمزَ أنملة ثَلِّثْ وثالثَه
التسعُ في إصبع واختم بأصبوع
قوله: «فعفا عنها» الضمير في «عنها» يعود على المقطوع، يعني فعفا المقطوع عن هذه الإصبع.
قوله: «ثم سرت إلى الكف أو النفس» بمعنى أن الجرح تعفَّن، وسرى هذا التعفن إلى الكف حتى تساقطت الكف، وزالت كلها، أو صار الجرح يتعفن حتى مات الإنسان.
قوله: «وكان العفو على غير شيء فهدر، وإن كان العفو على مالٍ فله تمام الدية» أي: هل تضمن هذه السراية، أو لا تضمن؟ نقول: فيه تفصيل، إن كان العافي عفا على غير شيء، بأن قال: عفوت مجاناً، ثم سرت إلى الكف، أو النفس فهدر، ولا شيء له؛ لأن عفوه مجاناً دليل على أنه لا يريد أخذ عوض عن هذه الجناية، وأن الرجل متبرع، يريد ثواب الله تعالى، وإن كان العفو على مال، سواء كان هذا المال الدية أو غيرها، فإن له تمام الدية، بمعنى أننا نسقط ما يقابل دية الأصبع، أي: عُشْر الدية، وهو عشر من الإبل.
مثاله: قطع رجل إصبع رجل عمداً، فقال المجني عليه: أنا أريد أن أصالحك، فصالحه على الدية، أو على مالٍ فوق الدية، أو دونها، ثم سرت الجناية إلى الكف والنفس، فيقول المؤلف: «فله تمام الدية» والدية مائة من الإبل، فيسقط منها عشر من الإبل، ويبقى تسعون، هذا إذا سرت إلى النفس، وإذا سرت إلى الكف، فإن في الكف نصف الدية، فيجب عليه أربعون من الإبل، وتسقط عشر من الإبل، ولهذا قال المؤلف: «وله تمام الدية» أي: دية النفس فيما إذا سرت إلى النفس أو دية الكف فيما إذا سرت للكف.
وقيل: ليس له شيء مطلقاً، وتكون هدراً، سواء عفا على مال، أو على غير مال، وقالوا في توجيهه: إنه إذا عفا مطلقاً بدون عوض، فقد رضي بأن تكون الجناية هدراً، ويريد الثواب من الله عزّ وجل، وإن أخذ المال فقد اقتنع بما أوتي من المال، سواء كان الدية، أو أكثر، أو أقل، وأخذ عوض الجناية، فإذا سرت فليس له شيء، ويؤيد هذا ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ من أنه لا يقتص من جرح قبل أن يبرأ، ولا تطلب له دية قبل أن يبرأ، فإن طلبت له دية ثم سرى فهدر، وعلى هذا فنقول للمجني عليه: انتظر حتى تنظر ماذا تكون النتيجة؛ لأن هذه الجناية ربما تسري إلى الكف، أو إلى النفس، وهي إلى الآن لم تستقر، فكونك تعفو وتصالح على مال فخطأ، فانتظر، أما إذا كنت تريد الأجر من الله، وتقول: أنا لا أريد شيئاً حتى لو سرت إلى كفي، أو نفسي، فهذا إليك.
والمذهب أن له تمام الدية، سواء عفا على مال أو على غير مال.
وما ذهب إليه المؤلف أصح، وهو أنه إذا عفا على مال فله تمام الدية، وإذا كان العفو مجاناً فليس له شيء.

وَإِنْ وَكَّلَ مَنْ يَقْتَصُّ ثُمَّ عَفَا، فَاقْتَصَّ وَكِيلُهُ وَلَمْ يَعْلَمْ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِمَا،
وَإِنْ وَجَبَ لِرَقِيقٍ قَوَدٌ، أَوْ تَعْزِيرُ قَذْفٍ، فَطَلَبُهُ وَإِسْقَاطُهُ إِلَيْهِ، فَإِنْ مَاتَ فَلِسَيِّدِهِ.
قوله: «وإن وكَّل من يقتص ثم عفا، فاقتص وكيله ولم يعلم فلا شيء عليهما» كإنسان وجب له قصاص، سواء كان في النفس أو فيما دونها، فوكَّل شخصاً ليقتص له، ثم إنه عفا قبل أن ينفّذ الوكيل، ولكن الوكيل لم يعلم ونفَّذ القصاص فلا شيء عليهما، لا على العافي ـ سواء كان المجني عليه، أو أولياءه إن كان قد مات ـ ولا على الوكيل؛ لأن الوكيل معذور، وهو في قصاصه مُستَنِدٌ إلى مُستَنَدٍ شرعي، وهو توكيل من له الحق، وأما العافي فإنه محسن، وقد قال الله تعالى: {{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}} [التوبة: 91] .
مثال ذلك: رجل جُني عليه وقطعت يده، فثبت له القصاص على قاطع يده، فوكَّل من يقتص، وقبل أن ينفّذ الوكيل القصاص، عفا المجني عليه، وقال: أشهدكم أني قد عفوت عن فلان، والوكيل لم يعلم فقطع يد الجاني استناداً إلى وكالة الرجل، فنقول: لا شيء على الوكيل؛ لأنه إنما قطع مستنداً إلى مستندٍ شرعي وهو التوكيل؛ ولا شيء على العافي؛ لأنه محسن، والله تعالى يقول: {{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}} [التوبة: 91] .
فإن اقتص الوكيل بعد علمه بالعفو فهو معتدٍ ظالم، وتقطع يده إذا كان التوكيل في قطع اليد، ويقتل إذا كان القصاص في النفس؛ لأنه لمَّا عفا صاحب الحق صار الجاني بعد ذلك معصوماً، فإذا جنى عليه الوكيل وقطع يده، أو قتله، فقد اعتدى على نفس معصومة، فأُلزم بما يقتضيه ذلك العدوان.
وفي هذا دليل على أن تصرف الوكيل بعد العزل إذا لم يعلم تصرف صحيح، والمشهور من المذهب أن تصرفه غير صحيح، إلاّ في هذه الصورة فإن تصرفه فيها صحيح، فلو وكَّلت شخصاً يبيع لك سيارة، وبعد أن ذهب عزلته، أو بعت أنت السيارة بنفسك على آخر، وبيعك لها عزل للوكيل بالفعل، ثم باع الوكيل السيارة قبل أن يعلم بالعزل، فالمذهب أن تصرف الوكيل في هذه الحال غير صحيح، وأن بيعه باطل، ويجب أن ترد السلعة إلى صاحبها، مع أنه لا فرق في الحقيقة؛ فإن هذا الرجل الذي وكِّل في القصاص عُزِل بالفعل، فالصحيح أن الوكيل إذا تصرف قبل أن يعلم بالعزل فإن تصرفه صحيح؛ لأنه مستندٌ إلى مستند شرعي وهو التوكيل، وأي فرق بين هذه المسألة، وبين المسائل الأخرى؟! وإذا كانت هذه المسألة مع عظم خطر الدماء إذا كان عزله لا يعتبر عزلاً، ويكون التصرف صحيحاً، فإن كون تصرفه صحيحاً في البيع، والرهن، والتأجير، وما أشبه ذلك، من باب أولى؛ لأنها أقل خطراً.
قوله: «وإن وجب لرقيق قود، أو تعزير قذف، فطلبُهُ وإسقاطُهُ إليه» فلو أن رقيقاً قطع يد رقيقٍ عمداً عدواناً فيجب القود للرقيق المقطوع، وطلب القود وإسقاطه إليه لا إلى سيده، فإن شاء طلب أن يقتص له من الجاني، فتقطع يد القاطع، وإن شاء قال: عفوت، لكن هل له أن يعفو مطلقاً، أو لا يعفو إلا على مال؟ إذا عفا مطلقاً كان في ذلك ضرر على السيد، حتى إذا وجب له القود وقال: أنا أريد القصاص، فسيقول السيد: وما ينفعني أن تقتص من الذي جنى عليك، أنا أريد أن آخذ الدية، نقول للسيد: ليس لك حق في أن تمنعه من القصاص؛ لأن القصاص فيه تشفٍّ للإنسان المعتدى عليه، فقد يقول: أنا لا يشفيني ولا يذهب ما في قلبي من الغم والغل إلاّ أن أقطع يده مثل ما قطع يدي.
فالخسارة المالية على السيد، ربما تكون اليد المقطوعة هي اليمنى، وهذا العبد كاتِبٌ فإذا قطعت يده صار بدلاً من أن يساوي عشرة آلاف، لا يساوي إلا ألف ريال، لكن نقول: الحق له، وليس له أن يعفو مجاناً، بل لا بد أن يكون عفوه على مال؛ لأننا إنما أبحنا له القصاص؛ لأجل التشفي، فإذا لم يرد التشفي فلا يمكن أن تضيع المالية على سيده.
وقوله: «أو تعزير قذف» القذف هو أن يرميه بالزنا، وقذف العبد لا يوجب الحد؛ لأن من شرط الإحصان أن يكون حراً، وهذا ليس بحر، وإنما يوجب التعزير؛ لئلا يتطاول الناس على الأرقاء، ولهذا قال المؤلف: «تعزير قذف» ولم يقل: حد قذف؛ لأنه لا حد.
فلو قُذِف هذا العبد نقول له: إن شئت فطالب، وإن شئت فلا تطالب، فإن قال السيد: الحق لي أنا؛ لأنه إن قُذِف ولم يطالب، قال الناس: إن قذفه بذلك صحيح، وإذا كان موصوفاً بالزنا فإن قيمته تنقص، فإذا قال هذا العبد: أنا أسقط تعزير القذف، قال السيد: أنا لا أسقطه، فهذه المسألة في النفس منها شيء، أي: كوننا نجعل للعبد الخيار بين إسقاط تعزير القذف، وعدم إسقاطه؛ ووجه ذلك أن الضرر ليس عليه وحده، بل الضرر عليه وعلى سيده؛ فإنه إذا قيل: إنه قد زنا، ولم يأخذ بحقه بتعزير القاذف، فإنه سيرخُص في أعين الناس ولا يريده أحد، إلاّ إنسان سيخاطر، فالصواب أن الحق للعبد ولكن ليس له إسقاطه.
قوله: «فإن مات فلسيده» أي: إن مات العبد فالحق لسيده، ولم نقل: لورثته؛ لأن الرقيق لا يورث، لوجود مانع من موانع الإرث، وهو الرق.

--------------------

[30] أخرجه البخاري في الديات/ باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين (6880)، ومسلم في الحج/ باب تحريم مكة وصيدها (1355) (447) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ .
[31] ولفظه: «من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث، إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية، فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه، ومن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم» . أخرجه أحمد (4/31)، وأبو داود في الديات/ باب الإمام يأمر بالعفو في الدم (4496)، وابن ماجه في الديات/ باب من قتل له قتيل فهو بالخيار بين إحدى ثلاث (2623)، والدارمي في الديات/ باب الدية في قتل العمد (2351) ط. البغا، عن أبي شريح الخزاعي ـ رضي الله عنه ـ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..