الصفحات

الاثنين، 22 أبريل 2013

جهل الشعب الأمريكي وأسبابه

منذ الاضطرابات الاجتماعية التي حدثت في الستينيات من القرن الماضي، سعت المؤسسة الأمريكية
لتقييد التفكير الناقد من خلال مجموعة متنوعة من التقنيات، شملت حملات دعائية لسرية الحكومة إلى الإحتفاء بالجهل في شبكة فوكس نيوز. لكن هناك ضغوط مجتمعية واسعة، في عام 2008 قام ريك شينكمان، رئيس تحرير شبكة أخبار التاريخ History News Network بنشر كتابا بعنوان " كم نحن أغبياء ؟ مواجهة الحقيقة حول الناخب الأمريكــــــــي  Just How Stupid Are We? Facing the Truth about the American Voter". وقد بين في الكتاب، إلى جانب أشياء أخرى، أن أغلب الأمريكيين:
(1) لا يعلمون شيئاً عن الأحداث الكبرى في العالم،
(2) لا يعرفون الكثير عن الكيفية التي تسير بها حكومتهم، أو من يقوم بتسييرها،
(3) يقبلون المواقف والسياسات الحكومية بالرغم من أن قدر لا بأس به من الفكر الناقد يقول أن هذه المواقف والسياسات سيئة بالنسبة للبلاد،
(4) يمكن استمالتهم بسهولة من خلال القوالب النمطية، والحلول المبسطة، والخوف غير المنطقي، وثرثرة العلاقات العامة.
لقد وثق شينكمان هذة المزاعم في 256 صفحة، مستخدماً في ذلك عدد كبير من استطلاعات الرأي والدراسات الميدانية من مصادر موثوقة جداً. ومن الصعب أن تجادل حجته هذه.
إذاً، ماذا يمكن أن نقول عن ذلك؟
هناك شيء واحد يمكن قوله وهو أن هذه ليست حالة شاذة. وكما ورد في تحليلات سابقة، تجاهل الشؤن الخارجية (عادة ما يؤدي إلى افتراضات غير صحيحة، وقبول سلبي للسلطة، وتصرفات غير منطقية) هو في واقع الأمر موقف متخلف لأي شعب.
وبعبارة أخرى، الغالبية في أي مجتمع ستولي القليل من الاهتمام للتقارير الإخبارية أو الإجراءات الحكومية التي لا يبدو أنها تؤثر على حياتهم أو حياة أقاربهم أو أصدقائهم. فلو حملت إليهم وسائل الإعلام وقوع حدث ما خارج البلاد، فسيتعاملون بشيء من اللامبالاة مع التفسيرات الحكومية والحلول التبسيطية.
والموضوع الأساسي هو "هل هو يؤثر على حياتي؟" فإن كان سيؤثر، سيهتم به الناس. ولكن لو بدا لهم أنه لن يؤثر على حياتهم، فلن يلتفتوا إليه. على سبيل المثال، في كتاب شينكمان، هناك مقارنات غير محبذة تتم بين الأمريكيين والأوربيين. وعادة ما يقال أن الأمريكيين أكثر جهلاً من الأوربيين بجغرافيا العالم من حولهم. ربما يكون هذا صحيحاً، ولكنه للمفارقة، فالأمريكيين يعيشون في شبه قارة معزولة بين محيطين. بينما الأوربيين يتزاحمون في دويلات صغيرة متجاورة، كانت حتى وقت قريب يغزوا بعضها البعض بالإضافة إلى أنها كانت تملك مستعمرات في الخارج.
وفي ظل هذه الظروف، فمعرفة الجغرافيا، بالإضافة إلى الاهتمام بما يحدث في الجانب الآخر من الحدود، هو أكثر أهمية بالنسبة للذين يعيشون في تولوس أو أمستردام أكثر مما هو عليه الحال بالنسبة للذين هم في بطرسبيرج أو توبيكا. فلو انعكست الأحوال، لأصبح الأوربيون أقل معرفة بالجغرافيا، ولأصبح الأمريكيون أكثر إلماماً بها.
الفكر والبيروقراطية
إن حالة "المحلية" التي أشرنا إليها أعلاه، ليست السبب الوحيد في هذا الجهل المتفشي على نطاق واسع. فالاعتناق القوي للفكر والعمل ضمن محيط بيروقراطي يؤدي إلى تضييق رؤية الشخص للعالم من حوله ويشل قدرته في النقد.
وفي الواقع، الشخص الذي يغالي في اعتناقه فكراً بعينه يتحول إلى عقلية محلية تعاني من بعض القصور ويحاصر نفسه ضمن حدود معينة أشبه ما تكون بالحدود الجغرافية. فلو اعتبرنا الوطنية فكره حديثة منتشرة، فهناك علاقة ارتباط مباشرة بين الحدود التي يفرضها العقل أو تلك التي على الأرض. وعلاوة على ذلك، لا يهم ما إذا كان الفكر يميل إلى اليمين أو اليسار من الناحية السياسية، أو كان علمانيا أو دينيا. فإن القدرات الناقدة للشخص سيتم قمعها لصالح الإجابات القياسية الجاهزة التي يقدمها ذلك الفكر. وهذا الذي يحدث بالضبط في المحيط البيروقراطي.
تعمل البيروقراطيات على وضع العمل ضمن إدارات تخضع لإشراف مباشر، حيث النجاح يساوي القيام بعمل محدد وبناء على قواعد محددة. وفي هذا العالم المحصور، يفقد المرء قدرته في التفكير خارج الصندوق. ولذلك، يصبح التفكير الناقد غير مرحب به باستثناء ما ينطبق على المهمة المكلف بها. وتأتي نظرة الشخص متوافقة مع رؤية البيروقراطية. ولهذا السبب عادة ما يطلق على البيروقراطيين بأنهم مجرد تروس في آلة.
وكون الجهل الأمريكي قابل للتبرير فذلك لا يجعل منه أقل إيلاماً. فهو على أقل تقدير يسبب الحرج للأقلية التي ليست جاهلة. خذ مثلا : الحقائق التي عرضها استطلاعات الرأي، أكثر من نصف البالغين الأمريكيين لا يعرفون اسم البلد التي ألقت القنبلة الذرية على هيروشيما، و30% لا يعرفون ما هي المحرقة اليهودية.
ويمكننا تفسير هذا الواقع بأنه ناتج عن التعليم الخاطئ، ولكن هناك لحظات أخرى محرجة أيضاً تعتري الذين نالوا قسطاً جيداً من التعليم. وخذ مثلاً : احد العاملين في محطة فوكس نيوز. لو دوبس (وهو خريج جامعة هارفارد) يقدم برنامج الحوار المسمى "لو دوبس الليلة" بشبكة الأعمال التابعة للمحطة كان يتحدث في يوم 23 مارس عن قانون السيطرة على حمل السلاح، فقام هو وزميلته أنجيلا ماكغلوان (خريجة جامعة المسيسبي) بتبادل ما يلي:
ماكغلوين: "ما يخيفني هو أننا لدينا رئيس يريد أن يأخذ أسلحتنا، ومع ذلك، يريد مهاجمة إيران وسوريا. فإذا جاءوا وهاجمونا هنا، فلا نملك الحق في حمل السلاح في ظل إدارة أوباما هذه".
لو دوبس: "وزارة الأمن الداخلي قالت لنا أن هناك عملاء لتنظيم القاعدة يعملون في هذا البلد. فلماذا لا نؤكد للعالم أن المواطنين الأمريكيين مسلحين وعلى أتم الاستعداد؟"
وبالرغم من التعليم، فالجهل مع فكر ايدولوجي يقود إلى نوع من الغباء لا يمكن أن يكون أكثر وضوحاً من هذا الذي رأيناه.
ويكفي أن نقول أن الرئيس لم يقترح أبداً جمع الغالبية العظمي من السلاح الذي يملكه الأمريكيون. بل أن الخطوات التي يريد الرئيس اتخاذها تشير إلى أنه لا يريد مهاجمة إيران أو سوريا، وأن كلا البلدين ليست له القدرة لأن "يهاجمنا هنا".
وأخيراً، مع أنه قد تكون هناك قلة قليلة من الأمريكيين المتعاطفين مع تنظيم القاعدة، فلا يمكن وصفهم بشكل دقيق بأنهم "عملاء" لمنظمة مركزية بعينها تملي عليهم أفعالهم.
فهل حقيقة أن ما يقوله كل من دوبس وماكغلوين لا معني له ويمكن أن يغير شيئاً لدى الغالبية من الذين يستمعون لهم؟ ربما لا؟ فمستمعيهم العاديين ربما يكونون جهلاء أيضاً ولا يعرفون أن هذه الحلقة السريالية لا علاقة لها بالواقع. وأن جهلاتهم ستمنعهم من أن يتحققوا من حقيقة ما يقوله دوبس وماكغلوين. وربما يقومون بتسويغ بعض الحقائق الأخرى إذا ما مرت بهم. وبذلك، يمكن الحفاظ على كل شيء بسيط ومريح، وهو المسئول عن قدر كبير من الفوضى، وعادة ما يؤدي إلى تعقيد الحقائق.
للأسف الشديد يمكن للمرء أن يضاعف هذا السيناريو عدة مرات. فهناك الملايين من الأمريكيين، وأغلبهم من المتعلمين، يعتقدون أن الأمم المتحدة منظمة شريرة عازمة على تدمير سيادة الولايات المتحدة. وقام بوش الابن في عام 2005 بتعيين أحد هؤلاء، وهو جون بولتون (خريج جامعة يال) سفيراً للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة.
وبنفس القدر، فالمحمسين للسلام مصابون بجنون العظمة (ومستوياتهم التعليمية مختلفة على نطاق واسع) وأن أي إشراف حكومي حقيقي على تجارة السلاح في الولايات المتحدة سينظر إليه على أنه خطوة كبيرة نحو الدكتاتورية. ولذلك جمعية تجارة الأسلحة الأمريكية تستخدم نفوذها في الكونغرس، حيث نجحت لعدة سنوات بحظر مكتب الكحول والتبغ والأسلحة النارية والمتفجرات، من استخدام أجهزة الكمبيوتر لإنشاء قاعدة بينات مركزية لصفقات السلاح.
وأخيراً، وليس آخراً. هناك حرب لا تنتهي ضد تدريس نظرية التطور في المدارس الأمريكية. وهذا الجهد المسيحي المتطرف عادة ما يتمتع بنجاح مؤقت في أجواء واسعة من البلاد وفي النهاية يصمد بقرارات من المحكمة تعكس (حتى يومنا هذا) احساس قوي بالحقيقة في هذا الموضوع. وبالمناسبة، فنظرية التطور نظرية علمية لديها الكثير من الأدلة التي يمكن أن تدافعها تماماً مثل نظرية الجاذبية الأرضية.
تدريس التفكير الناقد ؟
ومع الانزعاج الذي تسببه هذه المشكلة كما تبد، إلا أن المزعج أيضاً أن تسمع مراراً عن مشاريع لتدريس التفكير الناقد في المدارس الحكومية. وبطبيعة الحال، يمكن تدريس عادة طرح الأسئلة الناقدة. ولكن إذا لم تكن لديك قاعدة معرفية يمكن من خلالها الحكم على الأمور، فمن الصعب أن تتعامل معها من خلال التفكير الناقد.
ولذلك، فإن الجهل يحول دون التفكير الناقد في كثير من الأحيان حتى وإن تم حيازة التقنية. وعلى أية حال، أنظمة المدارس الحكومية دائماً لديها هدفين، ليس بينهما التفكير الناقد. وقد صممت المدارس لإعداد الطلاب للسوق وحتى يصبحوا مواطنين مخلصين لبلادهم.
والسوق، بطبيعته متأرجح بين الصعود والهبوط، والعالم الاستبدادي والإخلاص هما نتاج لصناعة الأساطير والروابط العاطفية. وفي كلتا الحالتين، التفكير الناقد الحقيقي ربما يكون متنافيا كليا مع الغايات المرجوة.
لقد قدم مخؤخرا اقتراح بالتخلي عن فكرة أن المدارس أماكن تصلح لتدريس التفكير الناقد. وعلى حسب ما جاء في مقال دينيس بارتيل "هل من الأفضل تدريس التفكير الناقد خارج نطاق الصفوف الدراسية" والذي نشر في موقع (Scientific Americanonline)، لان المدارس لا يمكنها تدريس التفكير الناقد لأنها مشغولة جداً بالتدريس من أجل الاختبارات الموحدة.
لقد كان هناك وقت كانت المدارس فيه تملك التكليف اللازم للتدريس بهذه الطريقة، وليس هناك أي دليل على أنها قامت بتدريس التفكير الناقد في ذلك الوقت. ويعتقد بارتيلز أن الناس يتعلمون التفكير الناقد في بيئة تعلم غير رسمية، ومن خلال المتاحف، أو بمشاهدة بعض البرامج اليومية  لـ"جون ستيوارت". ويخلص إلى القول بأنه "على الناس أن يكتسبوا هذه المهارة في مكان ما. حيث أن مجتمعنا يعتمد علينا في أن نكون قادرين على ممارسة التفكير الناقد" فلو صح ذلك، فستصبح هذه مشكلة بسيطة من السهل حلها.
قد يكون من الأفضل أن تقوم المجتمعات بتنظيم نفسها -سواء كان ذلك بوعي أو بغير وعي-لكي يمارسوا التفكير الناقد حتى في أدنى المستويات. فهذا يعني أن تتسامح مع ذلك حتى تصل إلى النقطة اللازمة للحصول على متطلبات حياتك اليومية، ومعالجة الجوانب التي تتطلب الفكر الناقد في مهنة الفرد.
والأبعد من ذلك، فنحن ندخل في المياه الخطرة. لزعزعة الإستقرار والمجتمعات، سواء كانت ديمقراطية ام لا، فلن تشجيع التفكير النقدي حول المعتقدات أو السياسات الحكومية السائدة. فإذا كان الأمر كذلك، فان معظم الناس لن يفكروا في أي شيء حاسم بأسلوب ناقد ما لم يقع في تلك المساحة المحلية التي تتعلق بحياتهم ومعايشهم اليومية.
وفي ظل هذه الظروف يمكن الاعتماد على سلبية الناس تجاه الأحداث التي تقع خارج نطاقاتهم المحلية حتى تقرر الحكومة أنه قد آن الأوان لإيقاظهم من سباتهم العميق ببعض الأساليب الدعائية.
والحقيقة أن الذين ينشطون باستمرار في ممارسة التفكير الناقد، لن يجدو شعبية بين الناس ولن يجدو الترحيب، لا لدى الحكومة ولا حتى لدى جيرانهم. ويطلقون عليهم المشاكسين أو المزعجين. الناس الذين هم مثل سقراط - لعله على الأرجح  أفضل مفكر ناقد في التاريخ الغربي- والذين لديهم قدر جيد من التعليم يعرفون ما جرى له.


الكاتب:  لورانس ديفدسون Lawrence Davidson
10 إبريل 2013

المصدر :
http://consortiumnews.com/2013/04/06/the-whys-of-american-ignorance/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..