الصفحات

الثلاثاء، 30 أبريل 2013

أصنامنا السياسية

عندما تضطرب المبادئ وتختل الثوابت وتتذبذب المواقف السياسية وتتعارض مع أدبيات الحزب أو
الجماعة وتاريخها ينتقل كل ذلك التشوه إلى منهجية الاستدلال المستقرة لديها - والتي هي إحدى أهم خصائص المنهج العلمي لأهل السنة والجماعة - لتتحول إلى منهجية التبرير !!
أقول هذا بعد أن قرأت مشاركات كثيرة لمجموعة من الشباب الإسلامي تصب كلها في الاحتجاج لمواقف جماعتهم أو حزبهم أو تصريحات بعض رموزهم التي أثارت تساؤلات من البعض واستهجانا وإنكارا من آخرين، وجل هذه المشاركات والاستدلالات لاتنطلق من تأصيل شرعي أو استدلال واحتجاج علمي وإنما تنطلق من استحضار مواقف وأفعال فصيل آخر منافس لطالما انتُقِد عليه تقديس رموزه و تقديم العقل والمصلحة الموهومة على النص المحكم، ولطالما رفضنا مواقف له رأينا فيها تميعا عقديا وإخلالا بمفهوم الولاء والبراء الذي تزخر به أدبياتنا!!
لست هنا في معرض مناقشة هذه الاجتهادات وتلك المواقف والتصريحات وما وجه لها من الاعتراضات ، لأنه لا إشكال أن نراجع مواقفنا واجتهاداتنا وخياراتنا الفقهية فهذه مسألة أخرى.
إنما الحديث على التغير الضخم والانحراف الخطير في منهجية الاستدلال التي تعتبر من أهم خصائص أهل السنة والجماعة، والتي يفترض أن ينطلق منها أبناء التيار الإسلامي في تقويمهم للمواقف والأحداث المختلفة والتأصيل لهذه المواقف، والتي تعتمد بالدرجة الأولى على نصوص الكتاب والسنة وغيرها من أصول الأدلة المعروفة لدى أهل السنة والجماعة!! وليس منها بالطبع الاستدلال لها بأفعال ومواقف البعض ممن نختلف أو نتفق معه!!
إن هذه المنهجية الجديدة تنطلق من ثقافة غريبة على المنهج السلفي عبر تاريخه كله، ثقافة تقديس الرموز والأشخاص والثقة المطلقة في كل ما يصدر عنهم واعتبارها أقوالا معصومة لايأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها!!
لطالما درسنا وقرأنا أن الرجال يعرفون بالحق ولا يعرف الحق بالرجال!!
وهي مقولة جميلة ومتفق عليها لكن يبقى ذلك في الإطار النظري فقط!!
أما في الواقع العملي؛ فإننا عانينا كثيرا من ظاهرة الأرباب الدعويين!! الذين يدين لهم الأتباع بالولاء المطلق والخضوع التام؛ فيحبون من يحب، ويبغضون من يبغض، ويمنحون الاسم الشريف من يمنحه، ويمنعونه ممن يمنعه!! ويوثقون ويزكون من يوثق ويزكي،ويصوبون ما يصوب، ويخطئون ما يخطئ!! ويسقطون ويبدِّعون من يبدِّع، فهذا سروري وذاك إخواني له لحية، وذلك لا يقر بمرجعية المشايخ...وقائمة طويلة من تصنيفات عجيبة لا مستند لها ولا أصل ولا ساق، وإنما هي ظاهرة الأرباب الدعويين وحسب: إن الشيخ الفلاني يحب فلانًا فأحبوه، ويبغض فلانًا فأبغضوه  !!
واليوم تطل علينا ظاهرة أشد وضوحا وأكثر دلالة وهي ظاهرة الأرباب السياسيين!! فالموقف وربما ضده إذا صدرا عن الشيخ السياسي!! فهما الحق الذي لامحيد عنه وهو الصواب المطلق!!
فالانتخابات مثلا والمشاركة السياسية؛ تنتقل من التحريم إلى المشروعية بفتوى... والتحالفات والمواقف السياسية تحل وتحرم بفتوى.. وتصويب موقف سياسي أو رأي اجتهادي أو تخطئته يصدر عن فتوى تحمل قداسة النص وعصمة المصدر!!
اكتظت أدبيات المدرسة السلفية مثلا بحرمة الانتخابات والمشاركة السياسية وكفر الديمقراطية- وهذا شيء يحمد لها ويقدر ويحترم بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه؛ لأنه اجتهاد نشأ عن بحث ودراسة علمية – ثم فجأة تغير هذا الاجتهاد- وتغير الاجتهاد في حد ذاته أمر مقبول لا إشكال فيه- لكن الإشكال الخطير أنه ألغى جميع الدراسات والتأصيل السابق بفتوى مجردة دون تأصيل لهذا التحول الضخم بدراسة منهجية علمية تجيب على الأقل على ذلك الميراث التاريخي العلمي الضخم الذي قام عليه الرأي الآخر!!
الأمر نفسه يقال عن التحالف مع الأحزاب العلمانية؛ فالذي يقرر أن هذا تحالف مشروع أو غير مشروع – أو إن هذا تحالف وذاك تنسيق، أو هذا يجوز وذلك لا يجوز- هو الشيخ السياسي وحده؛ ليبدأ الأتباع للترويج والاستدلال لهذا الخيار وإلباس فتوى الشيخ لباس العصمة وثوب القداسة!!
وتحشد بعد ذلك لا قبله النصوص التي يستدل بها لفتوى الشيخ ورأيه السياسي المعصوم!!
وتخرج علينا تصريحات صادمة من بعض الرموز التي نحبها ونقدرها من عينة تفضيله خيار من رفض مرجعية الشريعة صراحة وندمه على اختيار خصمه!!
وأعجب من ذلك أن يبتهج الأتباع مع الخصوم بمثل هذا الموقف، وكأنه الوحي المعصوم الذي جاء ليحسم الخلاف بين المسلمين!!
وبينما ترفع هذه المدرسة شعار أن كلا يؤخذ من قوله ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وتطبقه على أئمة السلف وأكابر أهل العلم وأئمة الفقه سلفا وخلفا- إلا أن هذا الشعار ينسخ العمل به إذا وجه نقد أو اعتراض إلى المعصومين الجدد من بعض رموز تلك المدرسة، فتقوم الدنيا ولا تقعد وتبدأ الحملات الإلكترونية المدفوعة وغير المدفوعة فعالياتها !!
وعندها لا تسأل عن أدب خلاف ولا عن سابقة خير ولا عن احترام سن وسبق ولا عن ساعات أو لحظات ود!! فكل ذلك يهون ويسقط أمام تلك الإساءة النكراء أو حتى شبهة هذه الإساءة للذات المقدسة للأرباب الجدد!!
  وبين هذا وذاك تحشد المواقف المختلفة لخصمنا السياسي في الاستدلال على صحة مواقفنا وصوابها!!
فهاهو الرئيس مثلا وقد دعا ما يسمى جبهة الإنقاذ للجلوس معه بل والمشاركة في الحكومة؟!! وهذا الرمز الفلاني من هذا الحزب أو تلك الجماعة وتلك صوره يجلس مع رموز النظام السابق قبل الثورة أو بعدها!!
وفي ظل عمية الحزبية المقيتة- وقد ألقى صاحبنا عن كاهله ما تعلمه نظريًا من منهجية الاستدلال وقواعده وأصوله- ينسى أو يتناسى صاحب هذه الشبهة أو تلك الحجة أن الرئيس قائد الجميع ورئيس الجميع بمن فيهم مخالفوه، ولايقبل منه غير تأليف الجميع، واحتواء الجميع لصالح هذا البلد !!
ثم يجعل صاحبنا هذا الرمز أو ذاك وتلك الصور له- وبعيدا عن كونه معذورا أو غير معذور، مكرهًا أو مختارًا، فعل ذلك مداراة أم مداهنة؟! يجعل ذلك دليلاً قاطعا بمنزلة النص المعصوم للاستدلال به على صحة مواقفه وتصريحاته؟!!
وربما لم يخطر بباله أن يسأل نفسه: أهذا الرمز من تلك الجماعة حجة معصومة للتأسي والتقليد؟!! هب أنه شرب خمرا أيكون هذا مبيحا لأن نشرب الخمر مثله!! 
أيها الكرام !! لا إشكال أن نجتهد ونختلف ليسدد بعضنا بعضا، ، وليس من حق أحد أن يحتكر لنفسه الحق المطلق في مسائل الاجتهاد المعتبر، ولكن يبقى ذلك كله كلامًا نظريًا مجردًا لا قيمة له إذا كنا نحدد مواقفنا ورؤانا وقناعاتنا بناء على مواقف ورؤى أصنامنا السياسية التي اتخذناها أربابا؛ نحل ما تحله لنا ونحرم ما تحرمه علينا!!
مفكرة الاسلام

بقلم: د.هشام برغش
نائب رئيس حزب الإصلاح

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..