الصفحات

الأحد، 19 مايو 2013

ظاهرة إنكار الحقائق الثابتة؟

جاء طفل الثامنة إلى جده يروي له قصة أثارت استغرابه الشديد. يقول: "سمعت وأنا ذاهب إلى البقالة رجلا يقول بحدة لآخر: "أنا لا أصدق أن هناك قمرا أو نجوما كما تقول."

فعلق جده: لعل الرجل ضرير، يفتقد حاسة النظر أو مجنون لا يدرك ما يقول.
ورد الطفل متعجبا: ولكن كل الناس (المبصرون) يؤكدون أن هناك قمرا ونجوما. فهل يكذبهم؟
كثيرا ما يغيب عن أذهاننا أن هذه القصة ليست غريبة. فهي تتكرر كل يوم، وقول الضرير يتردد على لسان وأقلام حتى كبار المفكرين والصحفيين... ويحصل هذا من الكبار والأطفال، والعقلاء والمجانين، وعامة الناس والمتخصصين في كل مجالات المعرفة: الدينية، والدنيوية…

ويتكرر هذا الإنكار للحقائق الثابتة علميا وفطرة ليس بسبب فقدان حاسة من الحواس الخمس بالنسبة لأعمى البصر ، ولكن لأسباب أخرى. ولعلي في هذه العجالة أقتصر الحديث عن بعضها مع أمثلة لها. وأرجو أن يلاحظ القارئ بأني لا أصدر أحكاما شرعية تجاه هذه الأخطاء العلمية، ولكن أناقش منطقيتها مستخدما المنطق المشترك ين الأسوياء من البشر.
تتعدد أسباب مشكلة إنكار الحقائق الثابتة فطرة وعلميا، ومن هذه الأسباب:
أولا: الاعتماد كلية على المعرفة التي يحصل عليها "الإنسان" بحواسه الشخصية   
      الخمس، أو على المعرفة غير الكافية في المجال المحدد.
ثانيا: التحيز الأعمى لرأي والارتزاق بهذا التحيز.
ثالثا: الجهل أو الغفلة المؤقتة أو المستديمة، أو الذهول عن ربط المعلومات ذات
      العلاقة بعضها ببعض.

أولا: الاعتماد كلية على القدرات الشخصية:

هناك مشاكل في اقتصار المعرفة المقبولة على الحواس الخمس الشخصية. ومن أبسطها أن هذا "الإنسان" ينكر وجود روح له وعقل وعاطفة. وهذه العناصر الثلاث تمثل ثلاثة أرباع العناصر الأساسية للإنسان الطبيعي أو السوي الذي يكملها العنصر العضوي المحسوس (المادي).
وصحيح أن الحيوانات الأخرى، وحتى النباتات... لا تفتقر كلية إلى العناصر الثلاثة غير المحسوسة، ولكن ما لديها منها لا يجعلها مؤهلة لأن تكون من المخلوقات المكلفة، مثل الإنس والجن.
ومن مشاكل الاقتصار على المعرفة المكتسبة بواسطة حواسنا الخمس أن بعض الحيوانات المهينة تتفوق فيها علينا، مثل القط وحاسة الرؤية، والكلب وحاسة الشم... فالحواس البشرية الخمس حتى مع استعمال أحدث الوسائل التي تُقوِّيها لا تزال عاجزة عن إدراك الكثير من الأشياء المحسوسة وغير المحسوسة التي نعيش بينها ومعها.
ومن مشاكلها، كما لاحظنا، رفض الأعمى الحقيقة المؤكدة التي ينقلها إليه المبصرون أو رفض الجاهل للحقائق التي أثبتها الآخرون.
وتشبه حالة الأعمى الذي ينكر الثابت عند المبصرين حالة ذلك الإنسان الذي يستند إلى عقله هو وعلى تأمله السطحي، فيرفض بعض الأحاديث النبوية التي أثبتتها العقول  المتخصصة وبطريقة علمية مقننة، مثل المتخصصين في علم أصول الحديث.
فمثلا هناك حديث نبوي يقول "إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً وَفِي الأخرى شِفَاءً".([1]) فيفهم أحدهم أن هذا الحديث ملزم، ويصلح مستندا للتنازل عن النظافة في المأكولات المعروضة في الأسواق. بيد أن المؤهل في فهم النصوص يدرك أن الحديث يكشف عن حقيقة علمية أثبتتها أبحاث علمية حديثة، ويرشد إلى طريقة الاستفادة منها بالنسبة للشراب فقط، إذا رغب الإنسان في ذلك... وقد يستغرب بعض المسلمين من هذا الحديث النبوي والحديث الآخر الذي يفيد بأن أبوال الإبل تعالج بعض الأمراض.([2]) مع أنهما حديثان صحيحان عند المختصين. وفي الوقت نفسه يصدقون الاكتشافات البشرية التي تفيد، مثلا بأن سم الأفاعي يُعتبر مصلا ذا طبيعة وقائية وعلاجية.(تساؤلات حول الإسلام وتعليقات)
لقد غاب عن ذهن الأعمى ومنكري الأحاديث السابقة أن من مصادر المعرفة والحقائق ما ينقله الآخرون إلينا. وغاب عن هؤلاء أن العقل البشري الفردي ليس مؤهلا لإصدار أي حكم في قضية عامة بدون الاستعانة بما أنتجته العقول البشرية المتخصصة بطريقة مقننة.
فمعرفة الإنسان وقدراته على الإدراك والإحاطة بالوسط المحسوس الذي يعيش فيه محدودة. وقدراته للإحاطة بما هو غير محسوس أكثر ضعفا. ولهذا فهو يجهل الكثير منها، حتى مع افتراض اطلاعه على الاكتشافات العلمية الهائلة، مع أنه مضطر إلى التعامل معها. (تساؤلات)
وهذه الحقائق تؤكد بأن مصادر المعرفة يستحيل أن تقتصر على ما يدركه أحدنا بحواسه الخمس، ولا غنى عن قبول المعرفة المنقولة إليه من الآخرين. فمصادر المعرفة، بالإضافة إلى الفطرة، متعددة: التلقي، والملاحظة، والتجربة، والاستنتاج. (قواعد أساسية في البحث العلمي)
ليس هذا فحسب، ولكن هناك نوعان من المناهج لتوثيق المعرفة التي نكتسبها من الآخرين: المنهج النقلي والمنهج العقلي. ويعتمد المنهج النقلي على مصداقية من ينقل إلينا المعرفة المحددة سواء أكان واحدا أم أكثر، وسواء أكان سلسلة من الأفراد أم من الجماعات (منهج المحدثين). وأما المنهج العقلي فيعتمد بصورة رئيسة على ما تدركه حواسنا الخمس وما تُوصلنا إليه قدراتنا الاستنتاجية عند التأمل في المعرفة المنقولة إلينا.
وعندما يتعلق الأمر خاصة بالمعلومات المنسوبة إلى الخالق تعالى مباشرة، مثل الكتب المقدسة، أو بواسطة الأنبياء فإن الجيل الثاني الذي لم يعايش الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يجد مفرا من ترجيح كفة أدلة المنهج النقلي عند توفرها، ثم تأتي بعد ذلك أدلة المنهج العقلي. وذلك لأننا عندما نستعرض تاريخ تطور العلم نجد أن البشر لم يتمكنوا من فهم كثير من الأشياء الطبيعية الموجودة منذ الأزل إلا بصورة متدرجة عبر العصور الطويلة ومن خلال الجهود المضنية للمختصين. ولا يزال الكثير مما أوجده الخالق سبحانه غامضا، لم يتمكن العقل البشري المحدود من التعرف عليه أو اكتشاف حقيقته أو فهمه. وكثير من الاكتشافات العلمية تثير الاستغراب والشك، ولكنا نثق فيها لثقتنا في المصادر التي وصلتنا عن طريقها، مثل المراكز العلمية والعلماء المختصين. فنحن نتقبلها ليست لأن الأدلة العقلية الشخصية أو العادية تثبت وجودها، ولكن لأن الأدلة النقلية هي التي تثبت وجودها. (قواعد أساسة)
ومن المؤكد أن هذه الحقيقة لا تقول بعصمة جميع النتائج التي يتوصل إليها المختصون، ولكنا لا نرفضها بطريقة يتميز بها  الجاهل أو المجنون أو المتحيز قناعة أو "ترزقا".
فطريقة التعبير في الأمور العامة وحول الحقائق العامة تتدرج من حيث القوة والرقي. وفي مثل هذا السياق يمكن أن يقول أحدهم:
1.    أشعر بأن هذا القول غير صحيح. (شعور شخصي).
2.    أظن أن هذا القول غير صحيح. (رأي شخصي يترك مجالا لصحة الآراء الأخرى).
3.    هذا قول غير صحيح. (مرفوض إلا من الجاهل أو المجنون).
4.    هذا قول غير صحيح لوجود الأخطاء التالية... في المنهج الذي أوصل إلى تلك النتيجة.
5.    هذا قول غير صحيح للأخطاء المنهجية التالية...، والقول الصائب ومنهجه هو كذا وكذا.
ولعلنا نلاحظ أن التعبير الأول مقبول لأنه يتحدث عن الشعور الشخصي، والثاني مقبول لأنه يتحدث عن الظن. أما الثالث فمرفوض ممن يحترم نفسه ويتوقع احترام الآخرين له. وأما أرقاها فهو التعبير الخامس. فالطريقة التي تليق بالإنسان الذي يحترم نفسه هو أن يناقش المنهج الذي تم استعماله للوصول إلى تلك النتائج التي يرفضها. وإذا جاء ببديل له وبنتائج بديلة بعد تصحيح المنهج المرفوض فهذا أليق بمن يعتبر نفسه مؤهلا للنقد والنصح.

ثانيا: التحيز والارتزاق بالطعن في بعض الحقائق:

من المعلوم أن المتحيز والمرتزق بمحاربة الحق أنه يتبع الشبهات ويتصيد الروايات التي تحتاج إلى توضيح متجاهلا الروايات الواضحة أو التي توضحها في الموضوع نفسه، ويتصيد الشواذ ليعممها. ويفعل بعضهم ذلك بطريقة واضحة في طريقة عرضهم لأفكارهم مثل مهاجمة المصدر الموثق وتعميم الشاذ والمبالغة في التعبير عن إنكاره الشديد. والأصل أن يوضح بأن الحالات التي يستنكرها هي شاذة، لا تمثل المصدر. ويفعل ذلك بعضهم بطريقة ذكية تنطلي على كثير من المخلصين وتضع العقلاء في حيرة بين أقوالهم وما عرفه من الحقائق الثابتة باختلاف دراجات الثبوت.
ومن المعلوم أن المتحيز قد يكون مخلصا بقناعة وقد يكون مقلدا أعمى، فهما بريئان من الخبث، وأمرهما متروك إلى علم الله بنيتهما وجهدهما في التوصل إلى الحق. وأما المرتزق فهو يبيع سعادته في الحياة الأبدية بسعادته في الحياة المؤقتة.

ثالثا: الغفلة أو الجهل:
قامت شبكة "البي بي سي ون" في إحدى برامجها بطرح السؤال "هل هناك إله؟" على بعض الناس من ذوي الأعمار المختلفة. فكانت معظم الإجابات تقول نعم، ولكن لا نعرف كنهه، أو يقول أستاذ جامعي: نعم، ولكن "لا يمكن إثبات وجوده علميا".
وإني لأعجب من استدراك الأستاذ الجامعي: "ولكن لا يمكن إثبات وجوده علميا." والسبب في عجبي أن هذا البروفسر (الأستاذ بكرسي) غفل عن تعريف الطرق العلمية أو أنواع البراهين العلمية. ثم أخطأ في قوله هذا الذي يكثر من ترديده اللادينيون الملحدون والمنبهرون بالثقافة الغربية وينساقون وراءه بدون وعي.

والسؤال ما هي وسائل الإثبات العلمية أو البراهين؟

إن من لديه الحد الأدنى من المعرفة في طرق البحث العلمي التي لا تنتمي إلى أي من الأطر الفكرية أو الدينية، يدرك أن من الطرق الرئيسة ما يلي: (قواعد أساسية)
1.               الاستقصاء المقنن survey. وهو يختلف عن المقابلات العشوائية غير العلمية. وتستخدم هذه الطريقة العلمية للتعرف على السمات العامة للظواهر الطبيعية أو المنتشرة، مثل الآراء، والمشاعر، والصفات. فهي تشخص الواقع الموجود بدرجات ثقة علمية متفاوتة، significance level تتراوح بين صفر ومائة في المائة. وسواء أكانت الظاهرة طبيعية توجد بدون تدخل بشري يذكر أو ظاهرة أوجدها الإنسان مثلا. وليكون الاستخدام علميا فإنه يشترط أن تكون العينة المستقصاة علمية، وأن تكون طريقة الاستقصاء مقننة عند جمع البيانات وتحليلها وعرض نتائجها.
2.               الملاحظة Observation. وهي عملية إدراك الظواهر الطبيعية والمكتسبة باستخدام وسائل الإدراك الحسية، الحواس الخمس. وليكون الاستخدام علميا فإنه يشترط أن تكون العينة المستقصاة علمية، وأن تكون طريقة الملاحظة مقننة (أسلوب جمع البيانات وتحليلها وعرض نتائجها). وعند الاقتصار على هذه الطريقة فإن إثبات وجود الشيء المحدد أيسر من إثبات عدم وجوده. فمثلا يمكنني البحث في عمارة بها مائة غرفة عن شخص، وقد أجده في الغرفة الأولى أو الأخيرة، ولكن لا يمكنني القطع بعدم وجوده في العمارة لأني نظرت في الغرف كلها بطريقة متتالية.
3.               الاستنتاج. Inferential technique. وهي طريقة تستند إلى الملاحظة والاستنتاج منها. فمن المعلوم أنه لكل موجود سبب. وهو ما نسميه بالسنن الكونية laws of nature التي تتألف من سبب أو أسباب ونتيجة أو نتائج حتمية. وباستخدام هذه الطريقة يمكننا ملاحظة الأسباب لاستنتاج النتائج منها أو ملاحظة النتائج لاستنتاج الأسباب منها. ويمكن أن يكون الاستنتاج علميا عند توفر الشروط العلمية عند جمع البيانات وتحليلها وعرض النتائج. وقد يكون ارتجالي غير علمي.

والسؤال الآن: كيف نثبت بالطريقة العلمية وجود الإله أو القوة الخارقة الخارجية التي تسيطر على الكون تخلق ما فيه وتدبر شئونه؟ يمكننا استخدام الفرضية الصفرية Null hypothesis  التالية:

 "ليس هناك قوة خارقة خلقت الكون وتخلق ما فيه وتدبر شئونه"

عند استخدام الاستقصاء بطريقة علمية مقننة سنحتاج إلى استخدام عينة عشوائية علمية، تمثل جميع ألناس ونطرح على أفرادها مثلا: السؤال: هل تعتقد بوجود قوة خارقة خارجية (الله، إله، God، معبود...)؟ 
ويمكن لأي "متفلسف" أو متطفل أن يجري هذه التجربة بأي درجة من الإتقان في توفير الشروط العلمية للاستقصاء العلمي. إن النتيجة الحتمية هي: الأغلبية تؤكد وجود هذه القوة الخارقة باختلاف أسمائها. وهذا طبيعي لأن الإنسان المخلوق يدرك هذه الحقيقة بالفطرة التي فطره الله عليها عند خلق جده آدم. فالعنصر الروحي من المكونات الجوهرية للإنسان، وهي تمثل العلاقة المباشرة بين الإنسان وخالقه. فليس في مقدور البشر تحديد الثانية التي يولد فيها الإنسان، والتي يموت فيها على وجه اليقين.

وعند استخدام الملاحظة بطريقة علمية سنحتاج إلى عمل استبانة ملاحظة مقننة موحدة نزود بها أفراد عينة من البشر سوية، من حيث توفر الحواس الخمس ومن حيث الصدق في القول،... وتتكون الاستبانة من فقرات مثل: هناك شمس، وقمر، ونجوم، وسماء، وفضاء، ومحيطات، وأشياء عظيمة...، والإنسان يموت ويحي (له روح)، ويفكر ويختار (له عقل)، ويضحك ويبكي (لديه عاطفة)، وذلك إضافة إلى تكوينه العضوي (له جسد).

ويمكن إضافة فقرات حول الطريقة التي تعمل بها السنن الكونية التي تسيطر على نشوء الأشياء المحسوسة ونموها وموتها... ومثالها ولادة الإنسان والحيوانات والنباتات ونموها وموتها...
 إن النتيجة الحتمية هي: أن أي إنسان يقوم بملاحظة ما هو موجود حوله ويجرى في دائرة حواسه الخمس عبر المكان والزمان سيدرك أن هناك أشياء عظيمة محسوسة وسنن كونية لم يوجدها الإنسان.

وهذه الحقيقة تطرح السؤال: فمن أوجدها؟

نعم هناك نظريات قابلة للنقض، وهناك اكتشافات لبعض السنن الكونية، ولكن ما نسبتها؟ وما مستواها في الهرم المتشابك من السنن الكونية التي تشير في النهاية إلى وحدانية خالق الكون ومدبر أمورها والمسيطر عليها كلها؟ هل استطاع العلماء رغم الجهود المضنية عبر القرون اكتشاف السبب الأول في هذه الشبكة الضخمة من السنن الكونية laws of nature التي أوجد ويوجد ويُسيِّر الأشياء التي نلاحظها ونعيش معها وبينها؟
ومن الملاحظ والمعلوم بالاستنتاج البدائي أن الإنسان يتكون من أربعة عناصر: الروح، والعقل، العاطفة، والأعضاء، فمن أبدع الإنسان بمكوناته هذه؟
ومن المعلوم أن نظرية التطور وأبحاث الجينات كلها مبنية على التكوين العضوي للإنسان ولا تسيطر إلا عليها. وليس لهذه الأبحاث سبيل في التحكم الكافي على المكونات الثلاث الباقية. فالإنسان يموت ويحي، ويفكر ويختار، ويحب ويكره لأسباب لا تعد ولا تحصى.

وهنا تأتي وظيفة الطريقة الأكثر تطورا للحصول على الحقائق اليقينية أو شبه اليقينية. ونسميها الطريقة الاستنتاجية. فنحن لدينا ملاحظات، ولدينا مسلمات وعلى رأسها أن كل نتيجة وراءها سبب أو أسباب. المولود له والد ووالدة، والنباتات لها بذور وتحتاج إلى تربة وماء... وهي تنمو ثم تموت...
فالاستنتاج ينطلق من المحسوسات، ولكن لا يقف عندها، ويختلف عن التخمين أو الحدس الصرف (إما صح أو خطا). فالاستنتاج العلمي يحتاج أيضا إلى توفر الشروط العلمية عند جمع البيانات (بالملاحظة مثلا)، وعمد تحليلها (ببرامج التحليل الإحصائي مثلا)، وعند عرض النتائج (توفير فكرة كافية عن منهج البحث، وعرض النتائج بطريقة منطقية).
إذا اعتمدنا على نتائج الاستقصاء والملاحظة  العلمية وقمنا بالاستنتاج منها سنجد أن النتيجة الحتمية تشير إلى وجود القوة العليا الخارقة التي خلقت الكون وتخلق ما فيه وتدبر أموره كلها وتسيطر عليه. فالأغلبية التي بقيت محتفظة بدرجة كافية على الفطرة تؤكد وجود هذه القوة، والملاحات للأشياء المحسوسة وللسنن الكونية تؤكد وجود هذه القوة.
يضاف إلى ذلك أن درجة إتقان الموجودات والتشابه في المكونات الأساسية للمخلوقات الحية والسنن الكونية والتناسق المتقن بين الموجودات يشير إلى وجود خالق واحد.
وبعبارة أخرى، فإن نتائج الطرق العلمية في البحث تؤكد الحقيقة العامة التي تقول بأن هناك خالق واحد للكون كله، يسيطر عليه كله. وهذه القوة الخارقة الوحيدة تخلق وتدير الكون كله بالأمر المباشر "كن فيكون"، وبشبكة السنن الكونية الهائلة. وهو السبب الأول في سلسة الأسباب التي المتسلسلة المتتابعة التي لا تعد ولا تحصى.

وأما عن صفات هذه القوة الخارقة وأسمائه فيندرج بعضها في الصفات العامة، ومنها عند المسلمين قوله تعالى:  { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}.(4)(الإخلاص) ويندرج بعضها في التفاصيل التي يتدخل البشر في صناعتها أو اختيارها مما نزل به الأنبياء والرسل، ويختلفون حولها. بل إن تصورات الإنسان الواحد قد تختلف عبر الزمان لهذه القوة الخارقة التي نسميها نحن المسلمين "الله".
وهذه الحقيقة بذاتها تجيب على سؤال يطرحه بعض الناس، وهو: إذا كان الله خلق كل الأشياء فمن خلقه؟
وهنا نسأل السائل: هل يمكنك حجز صفات الله في مجموعة من الصفات الملموسة، يمكن إدراكها بالحواس الخمس، ولا يمكن استبدالها أبدا؟
ستكون الإجابة المؤكدة: لا. فنقول له: إن الله هو آخر صورة ترسمها للخالق في خيالك في أي وقت من الأوقات. فهو كما قال تعالى { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(الحديد: 3، وانظر سورة الحديد لبعض صفات الله).
وأقول للقراء: معذرة إذا اقتصرت في مناقشتي على الأدلة العقلية، واستبعدت كثيرا من نصوص القرآن الكريم التي تؤكد الحقائق التي تم التوصل إليها.
خلاصة القول: إن قصة الأعمى الذي ينكر وجود القمر والنجوم ليست غريبة؛ فهي تتكرر في صور كثيرة. فخطأ إنكار الحقائق الثابتة تصدر حتى من الأذكياء والمخلصين للحق، ولا تقتصر على الجهلة والمجانين. وأسأل الله أن يعيننا على بذل الجهد المطلوب لتجنب الوقوع فيه، وأن يحفظنا منه بصورة دائمة.
سعيد صيني

10/7/1434هـ
‏19/5/2013م


([1] ) صحيح البخاري: بدء الخلق.
([2] ) صحيح البخاري: الجهاد والسير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..