الصفحات

الأربعاء، 26 يونيو 2013

أحكام النخب المسبقة وعلامات إخلالها بدورها القيادي


تمهيد:
كان دافعي ولا يزال في سعيي للمشاركة في الحياة العامة المشاركة قدر المستطاع
في ما اعتبره شرط المحافظة على سلمية الثورة والحيلولة دون الانزلاق إلى الحرب الأهلية. وكان اعتقادي راسخا في أن ذلك لا يكون إلا إذا التقى عقلاء الصفين المتواجهين في المعركة الحضارية التي بدأت منذ أكثر من قرنين:


حركة الإصلاح بإحياء قيم الحضارة العربية الإسلامية.
وحركة التحديث بأقلمة القيم الكونية من خلال تنزيلها التنزيل السديد.

وكان ما يعوق هذا المسعى ما شاب قيم حضارتنا بسبب الانحطاط من تشبث بالقشور الدينية دون المعاني العميقة لقيم الإسلام وحضارته وما شاب قيم الحداثة بسبب الاستعمار من تشبث بالقشور الدنيوية دون المعاني العميقة لقيم الحداثة وحضارتها:

 1-فالتحديث المستبد جعل التحديث حربا على تراث الأمة وهو يستعمل
قوة الدولة ما جعل الدولة تتحول إلى تبشير بدين وليست مؤسسات لتحقيق الوظائف الشارطة للحياة الجماعية السلمية في الإنتاج المادي والتعاوض وفي الإنتاج الرمزي والتواصل المستند إلى الاحترام المتبادل.

2-والإحياء المستبد جعل الإصلاح حربا على تراث الحداثة وهو يستعمل
قوة المجتمع ما جعل المجتمع يتحول إلى خلايا صمود أمام هذا العدوان الصارخ من الدولة فأصبح عائقا بذلك لكل الحريات الفكرية والإبداعية حماية لتقاليده بما رد روحها إليه من قشور لا يمكن أن تحقق شروط البقاء.

فنتج عن ذلك حربان واحدة على الذات ومصادرها والثانية على تجديد الذات وإثراء المصادر وأصبح الفرد يعيش تراجيديا الفصام المتفاقم بين الدولة والمجتمع حتى انسحق الإنسان فيه بين طغيانين:

 أحدهما آت من فوق ممثلا بالدولة وسطوتها المستبدة والمفسدة بسبب اعتمادها على شرعية مستمدة من سند التحديث الخارجي المتطرف فبدت وكأنها تواصل مهمة التحضير الاستعماري المستبد: ليست القيم التي تريد تحقيقها مصدر شرعيتها بل إرادة حاميها الغربي لأن الحكم لا شرعية له في نظر الشعب.

 والثاني آت من تحت ممثلا بالمجتمع وسطوته المستبدة والمفسدة بسبب اعتمادها على شرعية مستمدة من سند التأصيل المتطرف فبدت وكأنها تقتصر على مهمة التصدي المستبد للتحديث المستبد: ليست القيم التي تريد المحافظة عليها هي مصدر شرعيتها بل إرادة التصدي لأن المقاومين لا شعرية لهم في نظر الشعب إلا بما هم مقاومون وليس بما لهم من فكر إيجابي.

وهكذا فقد أصبحنا في معركة بين كاريكاتورين تحديثي وتأصيلي وبدا الاستبدادان السياسي والمجتمعي وكأنهما قد قضيا نهائيا على فاعلية الأفراد والجماعة. وذلك هو المأزق التاريخي الذي لا نحسد عليه إلى أن حدثت الثورة.

والمطلوب أن نتجاوز هذا المأزق. فتصورت الثورة قابلة لأن تعد فرصة للخروج من هذا المأزق لأنها حصلت دون أن يستطيع أحد طرفي هذه المعادلة أن يدعي أنه صاحبها حتى وإن أصبح كلا الصفين يدعي ذلك مباشرة بعد النبضة الأولى من الثورة.

لذلك حاولت المشاركة. وكان هدفي والأخير هو تحقيق الوصل بين التوجهين التأصيلي الذي أنتسب إليه حقا والتحديثي الذي لا أرى من يقدر أن يشكك في انتسابي إليه. واعتقادي أني أنتسب إلى مجموعة من النخب في الوطن العربي وفي دار الإسلام-وهي ليست بالقليلة-تحاول الجمع في ذاتها بين هذين البعدين بمحاولة استيعاب التراثين قدر المستطاع اعتقادي هذا هو الذي جعلني أتوسم الخير في المرحلة واعتقد أن محاولة توجيهها الوجهة التي تخلصها من المآزق أمر واجب بل هو اجتهاد عين. لكن تبين لي أن مجرد الاعتقاد لم يكن كافيا: فكلا الصفين عاد إلى العمل من جديد بنفس المنطق المتقدم على الثورة. لذلك عدت إلى موقعي للمشاركة بصورة غير مباشرة دون الاندراج في العمل المباشر من خلال فهم الأحداث والخطابات المصاحبة لها. ولما كنت قد كتبت الكثير في فهم صف التأصيل فإني أتوجه اليوم إلى فهم صف التحديث من خلال أحكامه المسبقة حول منطلقات الصف الثاني.

                  في الشعارات ودلالتها الغريبة

وسأبدا بالكلام على الشعارات. فالكثير من الشعارات الشائعة عند الكثير من نخب تونس ومصر خاصة شعارات متطابقة لكأن كلتا النخبتين قدتا من طينة واحدة. وجمعيها لا تدل على عمق الفهم ولا على جدية الدور في الظرفية العربية وصلتها بالوضعية التاريخية العالمية بل هي لا تكاد تتجاوز الوعي العامي المهموم بالحجاج السطحي الذي يرد إلى عبارة شعبية واحدة: ليت الأمر بقي على ما كان عليه. وهي عبارة مفادها: الثورة أربكت عاداتنا ونحن نريد أن نواصل النوم.  لكن هيهات: بعض ما بقي في الشعب من حيوية قيمية وإرادة تحرر ومن يمثلهما لم يعودوا قابلين بنوم التبعية وأخلاق الفساد المطلق في جميع وظائف الدولة والمجتمع أعني في جوهر العادات التي تمثل التكيف مع الفساد والاستبداد وهم ساعون سعيا لا مرد له لتحقيق شروط التحرر منهما. وأول عناصر المنشود في هذا السعي هو ما نتج عن الانحطاط والاستعمار من جراثيم الفساد والاستبداد الذي يستمرئه من يشنع اليوم على الثورة والثوار.

إن هذه الشعارات المبتذلة والمشتركة بين نخبتي تونس ومصر (وقد عاينت ذلك مباشرة في القاهرة خلال الأيام الأخيرة رغم عدم الحاجة للمعاينة المباشرة لأن وسائل الاتصال الجماهيري كفيلة بمدك بها يوميا) تمثل مهزلة مضحكة ومبكية في آن. ويمكن أن نورد منها هذه الأمثلة:

الديموقراطية ليست قرار الصندوق لأن الشعب جاهل وغبي.
ينبغي أن يحصر التصويت في المتعلمين أمثالهم.

الإسلاميون الحاكمون بعد الثورة جهلة ولا كفاءة لهم
 ينبغي ألا يخرج الحكم من أيدي السادة.
والدستور إسلامي أو إخواني إلخ...

وأمثال ذلك من مبتذلات القول لكأن ممثلي الشعب في تونس ومصر عليهم أن يكتبوا دستور لفرنسا التي يهيمون بلائكيتها وليس لتونس ومصر ولكأن العلاقة بين الدين والدولة ليس لها من تصور إلا الحدين الفاشلين المتمثلين في الدولة الدينية والدولة اللائكية مع تناقض عجيب يجعلهم يحالفون الخميني وروباس بيار في آن. ويصاحب هذه السخافات حنق عجيب وعنف لفظي وحتى بدني ضد أغلبية الشعب وممثليه. وكلامهم على افتكاك الحكم بالقوة يذكرني بالمثل التونسي: داهم على جبل بقادوم. فهذه السخافات لا تدل إلا على الحمق الذي لا يكتفي بفضح ذاته بل هو يعلن فقدان صاحبه الحيلة ما يلجئه إلى التعبير العنيف عن العجز.

             شروط الدور السلمي لأي نخبة سوية

لذلك فيحق لنا أن نتساءل: هل بوسع هذا الرهط من النخب-وجلهم من خدم الأنظمة التي أسقطتها الثورة بنوعيهم أعني طحالب الساحة من أشباه المثقفين وثعالب الإدارة من دجالي المبشرين بتجارة الحداثة- أن يصلوا إلى الحكم بطريقة ديموقراطية أعني أن يحصلوا على الرضا والقبول من الشعب لحكمه سلميا ودون الاستناد إلى التأييد الأجنبي الذي يتهمون من لا يحتاج إليه بكونه صادرا عنه ؟ أليس دورهم مشروطا بالتبعية الدائمة للاستبداد والفساد ما داموا لا يمكن أن يحكموا إلا بهما وبسند يبقيهم في الحكم رغم عدم الشرعية حتى وصلت البلاد العربية إلى حال من الفساد في جميع وظائف الدولة بل وفي جميع وظائف المجتمع يجعل المرء يكاد ييأس من بقاء أي قابلية للإصلاح في التربية والثقافة والاقتصاد والسياسة فضلا عن شروط الحياة الكريمة والخدمات التي لم تعد ممكنة من دون التبعية لمافية الداخل التابعة هي بدورها لمافية الخارج

لذلك فأنت تراهم في تعبيرهم الصبياني بأسلوب من أسقط في يديه بعد الانتخابات قد ملأوا الساحة ضجيجا والفايس بوك تنبيرا و"تمقعيرا"-وما أسهل أن يعلق المرء على الطائر على كل شيء ولا شيء دون أن يكلف نفسه فهم ما يتكلم فيه مع ادعاء التمكن الخاتم في علوم الإنسان نفسا ومجتمعا وانثروبولوجيا. ولعل من مكر التاريخ أن يصبحوا بهذا السلوك الأرعن أكبر المشوهين لما يظنون أنفسهم مدافعين عنه من الأفكار إن صح أنها أفكار وأكبر الداعين لأفكار خصومهم بما بلغوا إليه من سلوك تجاوز الغباء إلى البلادة: فهم يقنعون الشعب كل يوم بـ"دوزة" أكبر بحقيقتهم التي لا يمكن أن يقبل بها الشعب أو يرضى عنها طواعية. ذلك أن ملخص ما يطالبون به يجعل شرط عودتهم مرهونا بشرط عودة الاستبداد والفساد اللذين وقعت عليهما الثورة بوصفهما علل كل الأدواء التي أفقدت الوطن والمواطن الحرية والكرامة.

فلنوجز حماقاتهم الدالة على حنق العاجزين والموتورين أمام رفض الشعب لهم-بقيادة عجائز النظام السابق في تونس ومصر من العهدين انطلاقا مما نجده من التماثل العجيب بين الوضعتين- أعني باشوات عهد البايات وباشوات عهد المافيات في الحالتين:

حزب السبسي في تونس
وحزب الوفد في مصر

فهذان الحزبان يلخصان حراكهم ويمثلان الرمز الغني عن مزيد شرح ويثبتان أن هذه الحماقات هي أفضل برنامج دعاية ضدهم ولصالح الإسلاميين في كل حملة انتخابية. ولعل آخر مزحة سمعتها في تونس وفي مصر على حد سواء هي التهديد بالوصول إلى الحكم بالقوة وبطرد الإسلام والإسلاميين من الحياة الإسلاميين الذين صاروا أجانب عند هؤلاء لا محل لهم إلا في المنفى أو في السجن. فهم يزعمون أنهم قادرون على ما عجزت دونه الأنظمة السابقة ومساعدوها من الاستعماريين سواء في الأقطار قطرا قطرا أو في كل دار الإسلام.

ورأيي أن هذه الحماقة التي تثبت أن هذه النخب ومن معهم من العضاريت والبلطجية قد فقدوا كل عقل وحياء وحكمة. فهم يريدون زج تونس ومصر في حرب أهلية ستعطل مسيرة الأوطان دون شك. وهي دون شك كذلك ستكون نهايتهم الأكيدة إذ حتى الحامي الاستعماري الذي ينتظرون منه النجدة قد جرب فعلم أن منع الإسلام من العودة إلى ركح التاريخ بات أمرا ممتنعا. والمنشود هو أن تكون هذه العودة سلمية وتوافقية. لكن إذا كان رفض الإسلاميين المدافعين عن ذلك قد ذهب إلى تهديدهم بالإفناء نفيا وسجنا وتصفية جسدية فإن دعاة العنف والتطرف قد أصبحوا من غير الإسلاميين حتى لو اضطر هؤلاء للدفاع عن أنفسهم.

 لذلك فأنا مطمئن لامتناع مثل هذه السخافة لأن الأقلية التي تهدد بهذا المسار ليس لها القدرة عليه إلا إذا وجدت سندا مباشرا من الخارج سندا تتهم الأحزاب الإسلامية يكونها عميلة له لا لشيء إلا لأنه لم يؤيد هذه الأقلية على مواصلة اضطهادهم بعد أن تبين فشل سياسة الاستئصال الرمزي (تجفيف المنابع) والاستئصال المادي (سياسة النفي والسجن والتعذيب). لكن إذا ذهب بهم الغباء إلى الإقدام على ما يهددون به في تونس ومصر وإذا وصلت الأمور لا قدر الله إلى هذا الحد الذي لا يريده الإسلاميون لأنهم  في غنى عنه ما بقي الوصول إلى الحكم سلميا لكونهم ليسوا أقلية تعادي تراث الشعب وقيمه ولا تراث الحداثة وقيمها بل تسعى للمصالحة بينهما فإن الشعب  سيعاملهم بما ينوون معاملة الإسلاميين به: سيلحقهم الشعب بالمعمرين الذين هم مثلهم بما أصبحوا التجسيد الفعلي لاحتقاره والسخرية من قيمه وتاريخه. فيحصل لهم ما حصل للحركيين وعملاء أمريكا في فياتنام.


                     حقد دفين ينبغي فهم علله

يصعب أن يفهم المرء الحقد الدفين على الإسلام والإسلاميين عند هذه النخب الهجينة. وأعسر منه فهما جنس التفكير الذي ينطلقون منه وخاصة من يتزعم منهم خرافة الحداثة والتقدمية رغم تخلفه البين أصلا ومفصلا. ذلك أن هذا الحقد والتفكير العجيب هما أصل التعبير الناقم والموتور الذي يظهرونه في مواقفهم مما يجري في الساحة العربية والإسلامية عامة وخاصة بعد ما جرى في الربيع العربي وما تلا نبضته الأولى من صعود التيارات الإسلامية في مجريات الأحداث السياسية. وليس العسر في الفهم مرده عمق في تفكيرهم أو تعقيد في تعبيرهم:

فتعبيرهم أكثر بساطة من رأي أي عامي معاد للتغيير ذلك أن أفضل ما برعوا فيه لا يتجاوز التنبير في وسائل الاتصال الاجتماعية التي لا يتجاوز التعبير فيها ما يمثل الخاصية الأساسية للجري وراء الأحداث التي لا تترك للمرء الزمن الكافي للتلقي الفاهم فضلا عن الاستيعاب المتجاوز.

وتفكيرهم ليس أقل من تعبيرهم سطحية إذ إن أفضل ما وجدته أحزابهم وتنظيماتهم لقيادة معارضتهم المزعومة ثقافية هم أقل من أرباع مثقفين يمضغون أفكارا ماتت عند أهلها منذ قرنين على الأقل. فلا هم ممن حصلوا تكوينا متينا في الشباب ولا هم ممن يكفي زمن صحوه القليل في أيام حياته من تحصيل الثقافة الكافية التي ليست ممكنة من دون قراءة ودراسة وبحث.

ما المحير إذن في فهم تفكير هذه النخبة التي وصفنا تفكيرها وتعبيرها هذا الوصف الموجز؟ المحير هو "الحجج " التي يحاجون بها والتي هي في حقيقتها "عقد" يعانون منها. ولنحاول تصنيف هذه "الحجج-العقد" استنادا إلى ما بدأ يتضح بكامل الصراحة والمباشرة بعد الثورة بفضل انطلاق الألسن وافتضاح أمر المشرفين على هذه المدرسة التي ورثت حرب المستعمر ليس على مقومات المناعة التي من دونها تصبح الأمم منزوعة السلاح المصدر الوحيد لمضاء أي سلاح قصدت الوعي بالذات الحرة جماعيا وفرديا بل وكذلك على شروط التحرر المادي (الاقتصاد القادر على القيام بذاته دون تبعية) والتحرر الروحي (الثقافة القادرة على القيام بذاتها دون تبعية) التحررين اللذين من دونهما تمتنع شروط الكرامة ومن ثم شروط الاستقلال السياسي الممكن من الدور التاريخي المسهم في تحديد مستقبل الإنسانية من موقع الفعل لا رد الفعل. وسأبدأـ بتصنيف هذه "الحجج-العقد" فأقسمها إلى الأجناس التالية وكل واحد منها ذو صنفين بمقتضى درجتيه الحاجبة والمحجوبة في لعبة التقية والحجاج ذي النوايا المفضوحة لأن ممثليهم الأقل قدرة على الخطاب الحاجب يبينون المقصود الحقيقي من المواقف المعادية للثورة:

                         جنس الحجج-العقد الأول

هو جنس الحجج العقد المحددة للموقف من الإسلام عامة ومن الإسلام السلفي خاصة: وحيلة الازدواج هي جعل الموقف من الإسلام الثاني حجابا يخفي الموقف من الإسلام الأول المحجوب. وهي حيلة تنتسب إلى تقنيات التقية التي باتت عبارتها البينة للجميع متمثلة في المقابلة بين الإسلام التونسي والإسلام المستورد. وكان يمكن للمرء أن يصدقهم لو لم يكونوا هم الذين قضوا على ما يسمونه بالإسلام التونسي. فالجميع يعلم أنهم قبل بروز ما يزعمونه إسلاما مستوردا سعوا جهدهم لمحو ما يسمونه الإسلام التونسي مؤسسات وشخصيات. ولذلك فأنت تجد أقلهم قدرة على التقية شعارهم الوحيد هو: تونس حرة حرة والإسلام على برة.

                     جنس الحجج-العُقد الثاني

هو جنس العقد المحددة للموقف من العرب عامة ومن عرب الخليج خاصة: وحيلة الازدواج من نفس طبيعة الحيلة السابقة. فالموقف من عرب الخليج حاجب والمحجوب هو الموقف من العرب عامة. والتقية هنا باتت عبارتها البينة متمثلة في تسمية المغرب العربي الكبير بالمغرب الكبير إسقاطا لصفة العربي. ولذلك تجد أقلهم قدرة على إخفاء حقده يقول نحن لسنا عربا ولا يقصر ذلك على من يسميهم شاربي بول البعير (عرب الخليج) ليفاخر بكونه منتسبا إلى شعب عظيم هم سكان البلد الأصليين من الأمازيغ أخذا لموقف يؤسس لطائفية مقيتة سببها الحقيقي العيش على عقدة احتقار العرب التي زرعها من كان يتصور لون عينيه كافيا لتحديد هويته في حين أن أصحاب هذه العيون لم يروه جديرا حتى ببلدية في مرسيليا أعني مدينة العرب المهاجرين والسوق السوداء.

                      جنس الحجج-العقد الثالث

هو البؤرة التي تفهمنا ما تقدم عليها وما يتأخر في تصنيفنا أعني الجنسين الأولين (الموقف من الإسلام والموقف من العروبة) والجنسين الأخيرين (الموقف من الثقافة العربية والموقف من الثقافة الفرنسية): إنه جنس الحجج والعقد المحددة للموقف من التراث الإسلامي عامة ومن التراث العربي خاصة بعد أن صار العرب مقصورين على الأعراب منهم في نظر هؤلاء الجهلة من قراء الانثروبولوجيا والتاريخ. وحيلة الازدواج من نفس الطبيعة كذلك. وهي تجمع في ذاتها الحيلتين السابقتين جمع هذا الموقف للموقفين السابقين. فالتراث العربي حجاب والتراث الإسلامي محجوب. والعبارة البينة هنا يمثلها أدعياء التحديث من جهابذة سطحيي المفكرين في الحضارة أعني ممن تسكره زبيبة فيدعى علما لدنيا. لكن من يجرؤ فلا يستعمل التقية يقف الموقف الصريح الداعي إلى ضرورة غسل اليد من التراث العربي الإسلامي جملة وتفصيلا لأنه عنده متناف مع الحداثة وحقوق الإنسان.

                            وجنس الحجج-العقد الرابع

هو جنس العقد المحددة للموقف من التراث الغربي المسيحي عامة والفرنسي خاصة. وهنا أيضا نجد تقية تتمثل في جعل موقف الإعجاب بالتراث الفرنسي حجابا يخفي وراءه موقف الإعجاب بالتراث الكاثوليكي. والترابط بين الوجهين علته أن اللائكية الفرنسية هي الرديف الملازم للكاثوليكية حتى وإن لم تكن إلا وجهها الحديث أعني الفصل بين الكنيسة والدولة. فالعلاقة هي ضرورة تمكين الدولة من الاستفراد باستعباد الإنسان المادي والزماني وتمكين الكنيسة من الاستفراد باستعباده الرمزي والروحي. وكلا الاستعبادين يعد إلى الثاني لكونه شرطه ومن ثم فالعلاقة علاقة تشارط وتلازم: فقسمة حياة الإنسان بين قيصر والله هو المبدأ في هذه العلاقة. لذلك ترى العلمانية اليعقوبية والمسيحية الكاثوليكية متلازمتين في السلطان على إنسان الداخل وفي غزو إنسان الخارج.

والأمثلة في تونس بينة للعيان لأنها ماثلة حتى في العمران: والرمز هو المواجهة المكانية بين محل المقيم العام والكاتدرائية في قلب العاصمة فضلا عن المؤتمر الافخارستي وبواقي أثره في قرطاج حتى لا نتكلم على ممثلي نسخته المشوهة في ما يسمى بالتحديث الديني عند أقزام المبشرين ممن لا يفهم لا معنى الدين ولا معنى التحديث في بعض أقسام الجامعات التونسية والمصرية. ولعل الأمر أعم. وجل النخب التي هامت باللائكية الفرنسية تهيم بالماركسية التي عوضت فيها كنيسة روما كنيسة موسكو وعوض فيها البابا الكاثوليكي البابا الماركسي في الشيوعية العالمية. وليس التعويض إلا في الظاهر لأن العلاقة هي عينها العلاقة التي حددها الغزالي في فضائح الباطنية بضرورة تقديم الخلع من المعتقد الأصلي باللااعتقاد لتعويضه بالمعتقد الجديد.

                       جنس الحجج-العقد الأخير

هو أساس كل هذه الحجج-العقد: إنه الحجج-العُقد في علاقة ذات المحتج بنفسه. فهذه الحجج العقد يصاب بها كل من اغترب عن ذاته فتحول عمق روحه (الجنس الأول) في سطح روحه (الجنس الأخير) تحولا جعله بآلية التعويض عما يعاني منه احتقار لنفسه نفيا لأعماق نفسه وتمسكا بسطحها بجعل ذاته الكاريكاتورية من نموذجه مهربا من ذاته التي يحتقرها فينتسب إلى كنيسة النخبة التقدمية والتحررية والحداثية التي هي أكثر نخب العالم رجعية وعبودية وتخلفا في سلوكها وفي فكرها بدليل عيشها في ظل مافيات الاستبداد والفساد وسعيها الحالي لعودة ما تعتبره العهد السعيد لما يقدمه لها من حياة الإخلاد إلى الأرض حياة الأنعام أو أدنى.

والمستويان هما الموقف إزاء الشعب عامة والموقف إزاء الذات خاصة. لكن الحاجب والمحجوب هنا في اتجاه معاكس: الأعم يحجب الأخص بخلاف الحالات الأربع السابقات.  فاحتقار الشعب هو الحاجب. واحتقار الذات هو المحجوب. ذلك أن الحجاب هنا ليس آلية تقية حرة إزاء الغير بل هو آلية حجب مضطرة إزاء الذات تبين في الغاية لأن ما يظن آلية حرة هو في الحقيقة ثمرة لآلية مضطرة هي آلية دفاع بالمعنى التحليلي للكلمة: حتى لا يعترف أمام نفسه باحتقاره ذاته التي لم يعد يفهم أعماقها يلجأ إلى احتقار كل هذه الأبعاد المحجوب بالأبعاد الحاجبة من ثنايا وعيه المريض.

وإذن فجميع أجناس العقد بمستويي كل جنس منها يعود إلى عقدة العقد أعني هذه العقدة الأخيرة التي تجعل أدنى الناس قدرة على التحليل والتمحيص يتصورون أنفسهم قضاة عصرهم وقادته بالاستناد إلى آليات التزييف المطلق التي تجعل العرائس توهم نفسها بأنها ذاتية الحركة لغفلتها عن الأيد الخفية التي تحركها أعني أيدي مستعمر الأمس. فهو الذي يجعل أتفه النخب أصحاب حل وعقد إيهاميين لخدمة أنظمة الاستبداد والفساد في البلاد التي يعوض فيها الاستعمار غير المباشر بهذه الأدوات أدوات الاستعمار المباشر بالاحتلال العسكري الصريح.

                   أوهام هذه الأجناس من النخب

إن هذه النخب كل فرد منها يظن نفسه الوحيد ذا الأهلية فيدعي تمثيل معاني القيم الحديثة ويحتقر كل من يرى الأمور رؤية أخرى فيفترض مثلا أن أفق البشرية لم ينغلق نهائيا بل هو قد يجد في ما يحدث عندنا من تجارب جديدة فرصة لفتح آفاق جديدة تثري البشرية وتحررها من نظرية نهاية التاريخ والتحديد النهائي للقيم التي ينتظم بها الاجتماع الإنساني ببعديه الضروري والكمالي. لذلك تراهم يزعمون بجرأة تلامس الوقاحة السعي إلى تغيير القيم العليا للإسلام في ضوء القيم السفلى لما يعتبرونه أكثر اطلاقا مما نراه حاصلا في وعي أكثر الناس جهلا وتعصبا لطبيعة القيم في الأديان: فتراهم يفاضلون بين العادات متوهمين أنهم يفاضلون بين المعاني العقلية في حين أن العادات من حيث الوظيفة متماثلة عند كل عاقل خاصة إذا كان ما يراد تعويضه أكثر تكيفا مع المطلوب من العادات مما يريدون فرضه بقوة الدولة.

لذلك فهم لا يتساءلون عما يظنوه تقدما وتحررا للوطن والمواطن ولا يدركون أنه لا يمكن تحقيق التقدم حتى لو تصورنا ذلك غاية في ذاته من دون شروطه التي هم غير واعين بها فضلا عن امتلاكها. والمعلوم أن هذه الشروط والقيم قابلة للحصر عقلا وهي تتعلق بالمجالات التالية التي سنعود إليها تباعا في محاولات لاحقة إن شاء الله لنبين أن من يُظن في سلم الوعي بالعصر أقل الناس قربا من هذه القيم والشروط أعني أبعد الجماعات الإسلامية قبولا بهذا الفهم للتحديث العنيف بقوة الاستبداد والفساد هم أقرب إلى فهم المطلوب لتحقيق التحديث السوي من منطلق الإيمان بالذات شرطا في تحقيق ما تحتاج إليه لتكون قائمة بذاتها وحاصلة على حريتها وكرامتها.

 فهذه الجماعات التي يعتبرها هذا الرهط من النخب رمزا للتخلف هي رغم سذاجة تعبيرها عن الوعي أكثر قربا من فهم ما يقتضيه العصر من شروط الحرية والكرامة أعني مقومات القوة المادية والروحية أكثر قربا إليها ممن يتصورون أنفسهم ذروة التقدم والحداثة حتى وإن كان وعي الجماعات الإسلامية وعيا بالغايات يشوبه سوء تدبير للأساليب والمناهج والسياسات الموصلة إليها. وفي كل الأحوال فإن التحديث السوي لن يتم إلا بعد التحرر من المسائخ الحداثية التي لم تر من التحديث إلى ثمراته الاستهلاكية والتفسخية من دون مقوماته الإنتاجية والخلقية:

1-غايات التقدم وعلاماته

2-وأسس التحرر وشروطه

3- وأدوات التحديث ونظمه

  4-ومبدأ المناعة الممكنة من القيام الذاتي شرط كل قدرة على الإبداع الذي في غيابه يتحول الكائن إلى كومبارس في التاريخ  وذلك هو شرط التحرر الحضاري والروحي

5-وأصل المقومات الدالة على حياة الأمة بحياة أفرادها لكونها شروط تجاوزها لتعينات التاريخ الموثن تاريخ الإسلام كان أو تاريخ الغرب التاريخان المتلازمان منذ أسلمة الشرق وتسميح الغرب في نفس الفترة بقيادة أمتين عظميين هما العرب والجرمان.


بقلم: أبو يعرب المرزوقي

منزل بورقيبة في 2013.06.25

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مواضيع مشابهة - أو - ذات صلة :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..