الصفحات

الأربعاء، 2 أكتوبر 2013

العام والخاص والمطلق والمقيد (دراسة أصولية فقهية)

  الفصل السادس
تعريف المطلق
هذا الفصل يحتوي على:

1- تعريف المطلق والمقيَّد.
2- كلام الشوكاني عن المطلَق والمقيَّد.
3- حُكم المطلَق.
4- حمْل المطلَق والمقيَّد.
5- ورود الخِطاب مطلقًا في موضع، ومقيدًا في موضع.

الفصل السادس

تعريف المطلق

(المطلق): مأخوذ من مادَّة تدور عَلَى معنَى الانفكاك من القَيْد، فلذلك فهو في الاصْطِلاح: "ما تناول واحدًا غير معيَّن باعتبار حقيقةٍ شاملة لجنسِه".

فخرج بقولنا: "ما تناول واحدًا" ألفاظُ الأعداد المتناولة لأكثرَ من واحد، وخرج بـ"غير معيَّن" المعارفُ، كزيد ونحوه.

وبباقي الحدِّ المشترَك والواجب المخيَّر، فإن كلاًّ منهما يتناول واحدًا لا بعَيْنِه، لا باعتبارِ حقائق مختلفة.

وذلك مثل قوله - تعالى -: ﴿ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ﴾ [المجادلة: 3]، وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا نِكاحَ إلا بوليٍّ))، فكل واحد من لفظ "الرقبة" و"الولي" قد يتناول واحدًا غير معيَّن من جِنس الرِّقاب، والأولياء[1].

ويحسن بالباحِث أن يُشيرَ إلى مقابل المطلَق، فبالضِّدِّ تتميَّز الأشياء؛ لذلك أذكُر بيانَ المقيد باختصار شديد، ولبيانه تفصيليًّا مبحثٌ خاص، وإنما أشرتُ إليه هنا لدوره في جلاءِ صورة المطلق، ولما يترتَّبُ على علاقتهما وجودًا وعدمًا في مباحثِ أصول الفقه.

ويقابل المطلق (المقيَّد)، وهو: "ما تناول معينًا أو موصوفًا بزائد".

أي: بوصف زائد على حقيقة جنسه، نحو (شهرين متتابعين) و(رقبة مؤمنة)، و"هذا الرجل".

وتتفاوت مراتبُه في تقييده باعتبار قلَّةَ القيود وكثرتها، فما كثرُتْ فيه قيوده، كقوله - تعالى -: ﴿ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَات ﴾ [التحريم: 5]... الآية - أعْلى رتبةً ممَّا قُيوده أقل.

وقد يجتمعانِ - أي: الإطلاق والتقييد - (في لفظ) واحِد باعتبار الجهتين، فيكون اللفظ مقيدًا من وجه، مطلقًا من وجهٍ آخر.

نحو قوله - تعالى -: ﴿ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ﴾ [النساء: 92]، قيِّدتِ الرقبة من حيثُ الدين بالإيمان، فتتعيَّن المؤمنة للكفَّارة، وأطلقت مِن حيث ما سوى الإيمان من الأوْصاف، ككمال الخِلقة، والطول والبياض وأضدادها، ونحو ذلك، فالآية مطلَقة في كلِّ رقبة مؤمِنة، وفي كلِّ كفَّارة مجزئة، مقيدة بالنسبة إلى مطلَق الرِّقاب ومطلَق الكفَّارات"[2].

كلام الشوكاني في المطلق والمقيَّد:
يجدُر في هذا البحْث أن نذكرَ كلام الشوكاني في حدِّ المطلَق والمقيَّد، وكذلك في حمْل المطلَق على المقيَّد، وهاكُم بيانُ ذلك، وبعدَه يذكر الباحُث تعقيبًا مقارنًا بيْن كلام الشوكاني وغيره.

ذكر الشوكاني عدَّةَ مباحثَ في المطلق والمقيَّد، وأسرد بعضها سردًا فيه بعضُ التصريف، الذي لا يُخلُّ بمراد الإمام، واللَّه المستعان:
المبحث الأول: في حدِّهما (المطلق والمقيد):
أما المطلق، فقيل في حدِّه: ما دلَّ على شائع في جِنْسه، ومعنى هذا أن يكون حِصَّة محتملة لحِصص كثيرة، مما يندرج تحتَ أمْر، فيخرج من قيْد الدلالة المهملات، ويخرج من قيْد الشيوع المعارِف كلها؛ لما فيها من التعيين، إمَّا شخصًا نحو "زيد، وهذا"، أو حقيقة نحوَ "الرجل، وأسامة"، أو حصَّةً نحو: ﴿ فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ﴾ [المزمل: 16]، أو استغراقًا نحو "الرجال"، وكذا كل عام ولو نكرة، نحو: "كلّ رجل، ولا رجل".

وقيل في حدِّه: هو ما دلَّ على الماهية بلا قيْد من حيْث هي هي، قال في "المحصول" في حدِّه: "هو ما دلَّ على الماهية مِن حيث هي هي"، من غير أن تكونَ له دَلالة على شيءٍ من قيوده، والمراد بها عوارضُ الماهية اللاحِقة لها في الوجود.

وقد اعتُرِض عليه بأنه جعَل المطلَق والنَّكِرة سواءً[3]، وبأنه يَرِدُ عليه أعلامُ الأجناس، كأسامة وثعالة، فإنها تدلُّ على الحقيقة من حيث هي هي.

وأجاب عن ذلك الأصفهاني في شرحه للمحصول بأنه لم يجعلِ المطلق والنكرة سواءً، بل غاير بينهما، فإنَّ المطلقَ الدالُّ على الماهية من حيث هي هي، والنكرة الدالة على الماهية بقَيْدِ الوحْدة الشائعة.

قال: وأما إلزامُه بعِلم الجنس، فمردودٌ بأنه وضع للماهية الذهنية بقَيْدِ التشخيصِ الذهني، بخلاف اسم الجنس، وإنما يَرد الاعتراض بالنكرة على الحدِّ الذي أورده الآمدي للمطلَق، فإنه قال: هو الدال على الماهية بقَيْد الوَحدة، وكذا يرد الاعتراض بها على ابن الحاجب، فإنه قال في حدِّه: هو ما دلَّ على شائعٍ في جنسه، وقيل: المطلَق هو ما دلَّ على الذات دون الصِّفات[4].

وقال الصفي الهندي: المطلق الحقيقي ما دلَّ على الماهية فقط، والإضافي يَخْتَلِف، نحو: رجل، ورقبة، فإنَّه مطلَقٌ بالإضافةِ إلى "رجل عالِم"، و"رقبة مؤمِنة"، ومقيَّدٌ بالإضافة إلى الحقيقي؛ لأنَّه يدلُّ على واحدٍ شائع، وهما قيْدانِ زائدانِ على الماهية.

المقيد:
وأما المقيَّد، فهو ما يقابل المطلَق، على اختلاف هذه الحدود المذكورة في المطلَق، فيُقال فيه: هو ما دلَّ لا على شائعٍ في جِنسه، فتدخُل فيه المعارِف والعمومات كلها، أو يُقال في حدِّه: هو ما دلَّ على الماهية بقَيْد مِن قيودها، أو ما كان له دلالة على شيءٍ من القيود.

حكم المطلق:
حُكم المطلَق أن يَجري على إطلاقه، كما أنَّ المقيد على تقييده، فإذا وردَا - أي: المطلق والمقيد - فإنِ اختلفَ الحُكم، لم يُحمل المطلَق على المقيَّد إلاَّ في مِثل قولنا: أعتق عني رقبة، ولا تملكني رقبة كافِرة، فالإعْتاق يتقيَّد بالمؤمِنة، وإنِ اتحد - أي: الحكم - فإنِ اختلفت الحادثة ككفَّارة اليمين وكفَّارة القتْل، لا يُحمل عندَنا.

وعند الشافعي - رحمه اللَّه تعالى - يحمل، وبعضهم زادوا إنِ اقتضى القياس، وإن اتَّحدت - أي: الحادثة - فإنْ دخلاَ على السبب نحو: أدوا عن كلِّ حرٍّ وعبد، وأدوا عن كل حرٍّ وعبْدٍ مِن المسلِمين، لم يحمل عندَنا، بل يجب العمل بكلٍّ منهما؛ إذ لا تنافِيَ في الأسباب خلافًا له.

وإن دخلاَ على الحُكم نحو: ﴿ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ﴾ [البقرة: 196]، مع قراءةِ ابن مسعود - رضي اللَّه تعالى عنه - وهي ثلاثةُ أيام متتابعات، يُحمل بالاتفاق؛ لامتناع الجمْع بينهما.

هذا إذا كان الحُكم مُثبتًا، فإن كان منفيًّا نحو: لا تعتق رقبة ولا تعتق رقبة كافِرة، لا يحمل اتفاقًا، فلا تعتقد أصالَةً أنَّ المطلِق ساكِت والمقيِّد ناطق، فكان أوْلى؛ لأنَّ السكوت عدم، ولأنَّ القيد زيادة، و...[5].

حمْل المطلَق على المقيَّد:
مرَّ تعريف كلٍّ مِن المطلَق والمقيَّد، وثَمَّة مسائل تتعلَّق بارتباط المطلَق بالمقيَّد، والعكس، ويسردُها الباحث ثم يُعقِّب عليها ذاكرًا الخلاف الواقِع بيْن الأصوليِّين المتمذهبين وغيرهم، واللَّه المستعان.

المسألة الأولى:
المطلق والمقيَّد إذا وردَا، فإمَّا أن يكون حُكم أحدهما مخالفًا لحُكم الآخر، أو لا يكون.

والأول: مثل أن يقول الشارع: "آتوا الزكاة، وأعْتِقوا رقبةً مؤمنة"، ولا نِزاعَ في أنه لا يحمل المطلَق على المقيَّد ها هنا؛ لأنه لا تعلُّق بينهما أصلاً.

وأما الثاني: فلا يخلو إما أن يكون السببُ واحدًا، أو يكون - هناك - سببان متماثلان، أو مختلفان، وكل واحد - مِن هذه الثلاثة - فإمَّا أن يكون الخِطاب الوارد فيه أمرًا، أو نهيًا، فهذه أقسام ستَّة، فلنتكلَّم فيها:
أمَّا إذا كان السببُ واحدًا، وجَب حمْل المطلَق على المقيَّد؛ لأنَّ المطلَق جزءٌ من المقيَّد، والآتي بالكلِّ آتٍ بالجزء لا محالة، فالآتي بالمقيَّد يكون عاملاً بالدليلين، [والآتي بغيْر ذلك المقيَّد لا يكون عاملاً بالدليلين، بل يكون تاركًا لأحدهما].

والعمل بالدليلَيْن عند إمكان العمل بهما أوْلى من الإتيان بأحدهما، وإهمال الآخَر.

فإن قيل: لا نُسلِّم أنَّ المطلَق جزء من المقيَّد، فبيانه: أنَّ الإطلاقَ والتقييدَ ضدَّان، والضدَّان لا يجتمعان.

سلَّمنا ذلك، لكن المطلَق له - عند عدم التقييد - حُكم، وهو: تمكُّن المكلَّف مِن الإتيان بأيِّ فرْد شاء مِن أفراد تلك الحقيقة، والتقييد يُنافي هذه المُكْنَة. فليس تقييدُ المطلَق أوْلى من حمْل المقيَّد على الندب، وعليكم الترجيح.

والجواب: أما أنَّ المطلَق جزء من المقيَّد، فلأنَّا بينَّا أنَّ المراد من المطلَق نفْس الحقيقة، والمقيَّد عبارة عن الحقيقة مع قيْد زائد، ولا شكَّ أنَّ الإطلاق أحدُ أجزاء الحقيقة المقيَّدة.

قوله: "الإطلاق والتقييد ضدان".

قلنا: إنْ قيدت بالإطلاق كون اللفظ دالاًّ على الحقيقة، مِن حيث هي هي، مع حذْف جميع القيود السلبية، والإيجابية، فلا نُسلِّم أنَّ ذلك ينافي التقييد.

وإنْ عنيت بالإطلاق كونَ اللفظة دالةً على الحقيقة الخالية عن جميعِ القيود، فنحن لا نُريد بالإطلاق ذلك، بل الأوَّل فرْق بيْن الحقيقة بشرْط، وبيْن الحقيقة بلا شرْط، فإنَّ عدمَ الشَّرْط غيرُ شرْط العدم.

وأيضًا: فشرط الخلوِّ عن جميعِ القيود غيرُ معقول؛ لأنَّ هذا الخلو قيْد.

المسألة الثانية:
اختلفوا في الحُكمين المتماثلين، إذا أُطلِق أحدهما، وقُيِّدَ الآخر، وسببهما مختلف، مثال: تقييد الرقبة في كفَّارة القتْل بالإيمان، وإطلاقها في كفارة الظِّهار.

وفيه ثلاثة مذاهب: اثنان طرَفان، والثالث هو الوسط.

أما الطرفان:
أحدهما: قول مَن يقول - من أصحابنا -: تقييد أحدهما يقضي تقييدَ الآخر لفظًا.
وثانيهما: قول كافَّة الحنفية: إنه لا يجوز تقييدُ هذا المطلَق بطريقٍ ما أَلْبتةَ.
وثالثهما: القول المعتدل وهو مذهب المحقِّقين منا - أنَّه يجوز تقييد المطلَق بالقياس على ذلك المقيَّد.

ولا ندَّعي وجوبَ هذا القياس، بل ندَّعي أنَّه إن حصَل القياس الصحيح، ثبَت التقييد، وإلاَّ فلا.

واعلم أنَّ صحَّة هذا القول إنما تثبُت إذا أفسدْنا القولين الأَوَّلَيْن.

أما الأول، فضعيفٌ جدًّا؛ لأنَّ الشارع لو قال: "أوجبت في كفَّارة القتل رقبةً مؤمنة، وأوجبتُ في كفَّارة الظهار رقبةً كيف كانت، لم يكن أحدُ الكلامَيْن مناقضًا للآخر، فعلمنا أنَّ تقييد أحدهما لا يقتضي تقييدَ الآخر لفظًا.

احتجوا: بأنَّ القرآن كالكلمة الواحدة، وبأنَّ "الشهادة" لَمَّا قيدت بالعدَالة مرَّة [واحدة]، وأطلقتْ في سائرِ الصور، حملْنا المطلَق على المقيَّد، فكذا ها هنا.

والجوابُ عن الأول:
أنَّ القرآن كالكلمةِ الواحِدة في أنَّها لا تتناقض لا في كل شيء، وإلاَّ وجَب أن يتقيَّد كلُّ عام ومطلَق، بكلِّ خاصٍّ ومقيَّد.

وعن الثاني: أنَّا إنما قيدْنا بالإجماع، وأما القول الثاني فضعيف؛ لأنَّ دليلَ القياس وهو أنَّ العمل به دفَع للضرَر المظنون عامٌّ في كلِّ الصُّور شُبهة المخالِف:
أن قوله: "أعتق رقبة" يقتضي تمكينَ المكلَّف مِن إعتاق أيِّ رقبة شاء مِن رقاب الدنيا، فلو دلَّ القياس على أنَّه لا يجزيه إلاَّ المؤمنة، لكان القياس دليلاً على زوال تلك المُكْنَة الثانية بالنصِّ، فيكون القياس ناسخًا، وإنه خلافُ الأصل.

والجواب: هذا لا يتمُّ على مذهبكم؛ لأنَّكم اعتبرتم سلامةَ الرقبة عن كثيرٍ من العيوب، فإنْ كان اشتراط الإيمان نسخًا، فكذا نفي تلك العيوب يكون نسخًا.

وأيضًا: فقوله: "أعتق رقبة" لا يَزيد في الدَّلالة على اللفظ العام، وإذا جاز تخصيصُ العام بالقياس، فأنْ يجوز هذا التخصيص به أوْلَى[6].

فصل
ورود الخطاب مطلقًا في موضع ومقيدًا في موضع

جاء في "البحر المحيط": "اعلم أنَّ الخطاب إذا ورد مطلقًا لا مقيِّدَ له، حُمِل على إطلاقه، أو مقيَّدًا لا مطلِقَ له، حُمِل على تقييده، وإنْ ورد مطلقًا في موضع، ومقيدًا في آخَر، فالكلام على مقامين:
أحدهما: في المطلَق هل يجب حملُه على حُكم المقيَّد مِن جِنسه أم لا؟
ثانيهما: في المقيَّد هل يجب أن يكون حالُه مقصورًا على الشَّرْط المقيَّد أم لا؟

أما الأول: فهو المقصود بعدَ ثبوت كوْن التقييد شرطًا في المقيَّد، فينقسم المطلَق والمقيَّد إلى أقسام:
أحدهما: أن يختلفَا في السبب والحُكم، فلا يُحمل أحدهما على الآخَر بالاتفاق، كتقييدِ الشهادة بالعَدَالة، وإطلاق الرَّقبة في الكفَّارة، وشرْط الآمدي أن يكونَا ثُبُوتِيَّيْنِ، فإن لم يكن، كما إذا قال في كفَّارة الظِّهار: أعتق رقَبة، وقال: لا تملك رقبة كافِرة، فلا خلافَ أنَّ المقيَّد يوجِب تقييدَ الرقبة المطلَقة بالمسلِمة في هذه الصورة.

واعلم أنَّ الاتفاق في هذا القسم نقلَه القاضي أبو بكر، وإمام الحرمين، وَإِلْكِيَا، وابن برهان، والآمدي، وغيرهم.

وذكَر الباجي عن القاضي محمد مِنَ المالكية أنَّ مذهب مالك في هذا حمل المطلَق على المقيَّد، وأُخِذ ذلك من روايةٍ عنه: أنه قال: عجبتُ من رجل عظيم من أهل العِلم يقول: إنَّ التيمُّم إلى الكوعين، فقيل له: إنَّه حَمَلَ ذلك على آيةِ القطع، فقال: وأين هو مِن آية الوضوء؟ قال الباجي: وهذا التأويلُ غير مُسلَّم؛ لأنَّه يحتمل حمله عليه بقياسٍ أو عِلَّة، وإنما الخلافُ في الحمْل بمقتضَى اللفظ.

قلت: ومِن هذا كله يخرج خلاف في حمْل المطلَق على المقيَّد في هذا القسم، وينبغي الالتفاتُ إلى أنه من بابِ القياس، أو اللفظ، فإنْ قلنا من باب القياس، امتنع؛ لأنَّ مِن شرْط القياس اتِّحاد الحُكم، والحُكم هنا مختلِف؛ حيث أطلق الإطعام، وقيد الصيام.

القسم الثاني: أن يتفقَا في السبب والحُكم، فيحمل أحدُهما على الآخر كما لو قال: إنْ ظاهرتَ فاعتق رقبة، وقال في موضِع آخر: إنْ ظاهرْت فاعتق رقبة مؤمنة، وأبو حنيفة يوافِق في هذا القِسم، كما قاله أبو زَيْد في "الأسرار"، وأبو منصور الماتريدي في تفسيره، وغيرهما؛ ولهذا حمل قوله - تعالى -: ﴿ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ﴾ [البقرة: 196] على قراءةِ ابن مسعود: "متتابعات"، وكذا لو قيل له: تَغَدَّ عندي اليوم، فقال: واللَّه لا أتغَدَّى، حُمِلَ على ذلك اليوم؛ حتى لا يحْنث بغيره.

وممَّن نقَل الاتفاقَ في هذا القسم: القاضيان أبو بكر وعبدالوهاب، وابن فورك وإِلْكِيَا الطبري، وغيرهم، وكإطلاقِ تحريم الدم في موضِعٍ، وتقييده في آخر بالمسْفُوح.

وأما الثاني، فهو البحْث في أنَّ مفهوم الشرْط والصفة حُجَّة أم لا، كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى.

فإن قلنا: ليس بحُجَّة، لم يُحمَل المطلَق عليه، وإن قلنا: حُجَّة، حُمِل، ولا بدَّ في الحمْل من تقديم كون القيد شرطًا فيما قيِّد به، والأصوليُّون قد أهملوا ذِكْرَه هنا؛ لوضوحه، وإنَّما تعرَّض له الماوردي والروياني، واعتبرَا معنى المقيَّد، فإن كان خاصًّا ثبَت حُكم التقييد، وإن كان عامًّا يسقط حُكمُه، فالأول كقوله - تعالى -: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ ﴾ [النساء: 43] إلى قوله: ﴿ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً ﴾ [النساء: 43]، فتقييد التيمُّم بالمرَض والسفر شرْطٌ في إباحته.

والثاني: كقوله: ﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾ [النساء: 101] إلى قوله: ﴿ إِنْ خِفْتُمْ ﴾ [النساء: 101]، فليس الخوف شرْطًا في القصْر.[7]


[1] "شرح الكوكب" المنير"، المجلد الثالث، ص392.
[2] "شرح الكوكب" المنير"، (3/393، 394).
[3] قد بين الباحث في مبحث خاص يسمى بـ"الفروق" الفرق بين المطلق والنكرة.
[4] "البحر المحيط" (3/414).
[5] "شرح التلويح" (1/115).
[6] "المحصول" في علم أصول الفقه (1/213 وما بعدها).
[7] "البحر المحيط"، لبدر الدين بن محمد بهادر الزَّرْكشي.


محمود محمد عراقي

 
 
_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..