الصفحات

السبت، 7 يونيو 2014

ماهية الأحداث والدلالات


فلتأخذ دورك أستاذ أبا يعرب بتعظيم السيسي  كي ينجح في تحقيق ما تمنيته منه وتصطف الأمة وتقتتل مائتي عام لينعم أحفاد أحفاد أحفاد أحفادنا بِقِيَم ثورة الياسمين العظيمة

تشرفت بجواب الأستاذ الكبير أبي يعرب المرزوقي على استدراكي الوارد على إحدى ملاحظاته في
مجموعة عبد العزيز قاسم ، والحق أنني نويت عدم الرد حين قال : إن هذا جوابه الأخير حتى لا يدخل في سجال ، ثُمَّ رأيته بعد ذلك طرح عليَّ سؤالاً طلب مني الإجابة عليه فقررت الرد ، وبالرغم من أن أستاذنا الكبير  قال إنه لن يرد على جزئيات ما أوردتُه أجد أنه أوقعني في حيرة كبيرة لكثرة ما حشده في مقالته من الجُزئيات التي بنى عليها فكرته والتي أختلف معه في جميعها ، لكنني سأقتصر على ما أتصور أنه الأهم ، وتحقيق الرد عليها يستوجب وقفات طويلة وتأصيلية ، لكنني سأستعين بالله تعالى وأجيب بقدر ما أستطيع من الاختصار ، وذلك في نقاط مرقومة.


١-  يقول أستاذنا أبو يعرب : (الاستاذ السعيدي يستند إلى أحداث الثورة الفرنسية وليس إلى دلالاتها...)
 وأقول : لا يخفى على أحد أن دلالاتِ التاريخ بنات أحداثه ، وما لم نقرأ الأحداث قراءة صحيحة فلن نصل إلى دلالات صحيحة ، والواقع أن الذين يتمثلون بالثورة الفرنسية في أحداث اليوم أكثرهم لم يقرأوا الثورة مطلقاً ، وقليل منهم قرأوها لكنْ قراءةً مُخْتَزلة ، فأسقطوا من تاريخ الأمم الأوربية مائة وخمسين عاماً ، أي عُمُرَ خمسة أجيال كي يوهموا الناشئة أن ما تم في أوربا سنة ١٩٤٥ هو ثمرة ثورة باريس التي انتهت سنة ١٧٩٣ملغين بذلك كل قوانين المنطق الفِطرِي والذي يقضي بأن الأسباب تقع على إثر مسبِّبَاتِها ، وكأن هذه الفواصل الزمنية - قرن ونصف - لا قيمة لها ولا أثر سوى أنها محض ثورة مضادة لا غير ، فلولا تدخل نابليون في ألمانيا سنة ١٧٩٧ لما توحدت سنة ١٩٩٠ولولا حروبه الأوربية ١٧٩٤-١٨١٤ لما تحققت الوحدة الأوربية الحالية سنة ١٩٩٠[هكذا قال أبو يعرب ] أي أن أحداث مائتي عام فاصلة بين التاريخين لا قيمة لها ولا أثر فيما حدث في ألمانيا وسائر أوربا وإنما العامل والمؤثر هو الثورة الفرنسية المتعثرة حسب وصفه لها بقوله [ أما تعثر الثورة الفرنسية فمعلوم للجميع]
وأبو يعرب حفظه الله لا يُمانع حسب فهمي لكلامه من أن تقع الأمة الإسلامية في الويلات نفسها التي وقعت فيها أوربا لكي تتوحد بعد مائتي عام مستلهمة قِيَمَ ثورة الياسمين كما يحلو للتونسيين تسميتها ، فقد ذهب في بعض تحليلاته كما نص على ذلك في رده عليَّ بأنه يتمنى أن يتدخل السيسي في ليبيا كي يوقض في الأمة حالة الاصطفاف كما فعل نابليون حين تدخل في أوربا .
وأقول له إذاً فلتكن يا فيلسوفنا الكبير مثل فلاسفة أوربا الذين فرحُوا بنابليون وعظَّموه وعلى رأسهم فيلسوف أوربا الأعظم [هيجل] ، فلتأخذ دورك بتعظيم السيسي  كي ينجح في تحقيق ما تمنيته منه وتصطف الأمة وتقتتل مائتي عام لينعم أحفاد أحفاد أحفاد أحفادنا بِقِيَم ثورة الياسمين العظيمة ، هذا إذا لم يظهر الدجال قبل ذلك وتقوم الساعة 
أما أنا فلا أخفي أمنيتي أن يكون دُعاة الثورات صُرَحَاء بقدر صراحة أستاذنا أبي يعرب فينبهوا الشباب إلى أن ما يقدمونه الآن من دماء وحرية لن يجني ثماره إلا أحفادهم القادمون في المستقبل البعيد ، وأنا أؤكد أن هؤلاء الشباب لو علموا ذلك ما خرجوا من بيوتهم .
٢- يقول أستاذنا أبو يعرب :(ثم إن المعلق يعلم ككل الناس أن الرأسمالية مثلا لم تحارب الاشتراكية بنفيها فحسب بل هي حاربتها بتبني أهم مبادئها حتى تصمد أمامها. فإذا كان ذلك قصده فلا خلاف بيننا)
الحقيقة أنني لا أعلم ما ذكر الأستاذ الكبير أن كل الناس يعلمونه ، إذ لا أعرف بين الاشتراكية التي حاربتها الرأسمالية وبين الرأسمالية أي مبادئ مشتركة ، إذ الحرب كانت بين الرأسمالية والاشتراكية الماركسية التي يعتبرها ماركس المرحلة الممهدة للشيوعية ، وليس بين الاثنتين - الاشتراكية الماركسية وبين الرأسمالية أي مبادئ مشتركة على حد علمي . 
نعم هناك مُشتركات بين ما يُعرَف بالاشتراكية الفابية وغيرِها من أنماط الاشتراكية التي وُلِدَت في ظل الرأسمالية ، لكن هذه الأنماط لم تُحاربها الرأسمالية ، بل مازالت تعيش في ظلها .
وأعلمُ أن هذه مسألةٌ مغرقة ٌ في الفرعية بالنسبة لحوارنا الذي تشرفنا به مع أستاذنا الكبير ، لكنه لمَّا نَسَب العلم بما قرَّرَه فيها لكل الناس أحببت أن أبين أن ما أعرفه خلاف ما قرَّره . 

٣- يقول أستاذنا أبو يعرب :(لكني لا أتصوره يقصد هذا  المعنى بل هو إن صح فهمي يسعى إلى تبرير بقاء الحال على ما هي عليه بحجة الخوف من الفوضى والدفاع عن الاستقرار تأييدا لحجج الأنظمة المحافظة على الوضع )
لا أعتقد أن إنساناً - مطلق إنسان- يبرر بقاء أي وضع سيئ على ما هو عليه ، فما بالك برجل مشتغل في القراءة والكتابة والدرس والتدريس !
لكن مشكلة دُعاة الثورات أن الثورة سدَّت عليهم كُلَّ آفاق التفكير فأصبحوا لا يرون سوى الثورة وسيلة للإصلاح ، وأصبحوا لا يبالون في أن يَصِفوا كل من خالفهم في نظرية الإصلاح بالثورات بأنه مؤيد لحجج الأنظمة التي تريد أن تحافظ على الوضع ، وهذه هي عبارة أستاذنا أبي يعرب التي حاول تلطيفها كثيراً - وذلك من عظيم أدبه- كي لا يقع فيما يقع فيه موافقوه من وصم المخالفين لهم بالعمالة والارتزاق ووو..
نعم أنا ككل الناس لا أريد أن يبقى الخطأ كما هو عليه تحت أي مُبَرر ، لكنني لا أرى الثورات لاسيما الشعبية منها وسيلة للإصلاح ، وحُجَجِي في ذلك كثيرة ليس هذا مقام بسطها ، وأنسَبُهَا لمقامنا هذا :حجة التاريخ الذي لا يحفظ لنا ثورةً شعبية أنتجت إصلاحا ، بل كل ثورةٍ شعبية تأتي بما هو شرٌ منها ، وأعظم مثالٍ عندي في ذلك هو الثورة الفرنسية التي لم تٰثمر خيراً ، ومع ذلك يرفعها دعاة الثورات حجة لصحة توجههم كما يفعل الأستاذ الكبير أبو يعرب المرزوقي .
هذا ونحن نمتلك البديل الأيسر والأنسب والأسرع والأقوم ، والذي شرحتُه في البحث الذي قدَّمتُه للمؤتمر الذي شاركنا فيه سويا - الأستاذ المرزوقي وأنا - قبل أشهر قليلة في دولة قطر ، ولعلي أخرجه كتابا في القريب إن شاء الله . 

٤- يقول أستاذنا الكبير أبو يعرب : (ما يتعلق به الأمر في كلامي هو سنن الأحداث لا الأحداث بأعيانها: فالقيم التي تسعى إليها الثورات هي التي تظهر في الغاية على كل ما عداها حتى عند الأشد ممن عاداها)
نعم : كذلك كلامي إنما يتعلق بسنن الأحداث وليس الأحداث بأعيانها ، وسُنن الأحداث يدل عليها ما ينتجُ عنها لا ما ينتجُ عن غيرها ، ولا يوجد مثال في التاريخ لثورة شعبية أنتجت القِيَم التي نادى بها منظروها ، وما ذكره الأستاذ أبو يعرب من الحرية والعدالة والمساواة فهي قِيَمٌ إنسانية وُجدَت قبل الثورات في عصور متفرقة من تاريخ الإنسان ومن تاريخ الإسلام ووجدت بعد الثورات بأسباب مختلفة لكنها لم توجد على إثر الثورات كناتجٍ ومحَصَّلٍ لها . 
فكل القِيَم التي تسعى إليها الثورات تقتُلها الثورات .
٥- يقول أستاذنا الكبير: (وبهذا المعنى فإن سؤالا وحيدا ينتظر الجواب من  الأستاذ الذي يبرهن بكلامه أنه على علم بظاهر الأحداث: هل بقي بعد الثورة الفرنسية نظام أوروبي وحيد لم يصبح يحكم باسم قيم الثورة الفرنسية أعني الحرية والعدالة والمساواة أيا كان شكل النظام دون أن يجرفه التاريخ؟ )
وأنا أقول : إن الثورة الفرنسية لم يكن لها قِيَمٌ نبيلة تخصها ، وقِيَم الحرية والعدالة والمساواة قِيَم طبيعية وفطرية كما هي فلسفة ديكارت الذي وُلِدَ قبل الثورة الفرنسية بمائتي عام  وكما هي فلسفة إيمانويل كانط الألماني الذى وُلد قبل الثورة الفرنسية بسبعين عاماً ، وكانت هذه القيم  مرفوعة ، في أحداث مهمة قبل الثورة الفرنسية بل منها ما هو أهم من الثورة الفرنسية ، فالثورة الإنجليزية المجيدة - هذا هو اسمها- سبقت الثورة الفرنسية بمائة عام وكانت تحمل الدعوة إلى هذه القِيَم .
الفرق المهم والشاسع بين الثورتين : أن الإنجليزية نجحت في تحقيق قِيَمِها ، والثورةالفرنسية فشِلَت ، والسؤال هنا: لماذا نجحت الأولى وفشلت الثانية ، ولماذا يُصِر دعاة الثورات على نسبة هذه القيم للثورة الفرنسية الفاشلة ويضربون بها الأمثال دون الثورة الإنجليزية المجيدة ؟
الجواب عن الأول : أن الثورة الأولى [الإنجليزية المجيدة]كانت نُخبَوِيَة محددة الوسائل والأهداف ، واضحة القيادة منظمة الجهود حريصة على إبقاء هيبة الدولة في النفوس ولذلك نجحت في الحفاظ على الدولة وفي إصلاحها ، أما الثانية[ الفرنسية] فشعبية غوغائية هدفها الماثل أمامها إسقاط الدولة ومحو هيبتها من النفوس،  قيادتها بيد كل متسلق يستطيع أن يخادع الناس أكثر وأكثر ، وهذا سبب فشلها وإيصالها لنتائج عكسية .
وما يُسمى بالربيع العربي كانت ثوراته على النمط الثاني ، لذلك نسَبُوا هذه القِيَم إليها واختزلوا تاريخها ، ونسبوا كل ما حقَّقَتهُ أوربا من النتائج الإيجابية إليها .
لذلك أُجِيبُ مُؤكِّداً على سؤال الأستاذ أبي يعرب : إنه لا يوجد بلدٌ أوربي يعمل بهذه القيم لأنها قِيَم الثورة الفرنسية ، بل لأنها قِيَم إنسانية فطرية كما يقول ديكارت .
وعند السبر لتاريخ كل دولة أوربية على حدة لا نجد للثورة الفرنسية أثر في تكوين فلسفتها ، وهذا هو السبب في أنه لا توجد دولة في العالم ترفع الحرية والعدالة والمساواة شعاراً رسمياً لها سوى فرنسا وهاييتي .
بل حتى الجمهوريتين الفرنسيتين الثالثة والرابعة لم تُشَكِلهما قِيَمُ الثورةِ الفرنسية ولا تأثيراتها ، فالثالثة أنشأها الاحتلال الألماني البروسي للأراضي الفرنسية ، والرابعة أنشأها الانتصار الأمريكي في الحرب العالمية الثانية .
وليَ أن أقول : إن الحُرِّية التي وهبتها الولايات المتحدة الأمريكية لفرنسا ، هي حُرِّيَة الثورة الإنجليزية المجيدة - كما تُعرَف تاريخياً- حرية ثورة النُخبة التي استطاعوا تحقيقها على أرض الواقع ، وليست حُرِّيةَ الثورة الفرنسية ثورة الغوغاء التي فشلوا في تحقيقها ،  فالمعروف تاريخياً أن الثورة الأمريكية سبقت الثورة الفرنسية ، وكانت تستلهم وثيقة الحقوق التي أصدرها البرلمان الإنجليزي بعد ثورته ، كما كانت تستلهم بعض كتابات جون لوك الإنجليزي عن الحرية والحقوق .
تنبيه مهم قبل أن أُغادر ، وهو أن الذي استطاعت الثورة الفرنسية نشره في شعوب أوربا هي قِيَمُ الانحلال الديني والأخلاقي بين الشعوب والتي لا تزال الإنسانية تعاني من آثارها .

أخيراً جميل الشكر أُسديه لأستاذنا أبي يعرب على هذه الفرصة لمحاورته ، وهناك نقاط عديدة أشار إليها في جوابه الكريم لا أتفق معه فيها لكنني اقتصرت على ما رأيت أنه الأهم الوافي بالمراد والحمد لله رب العالمين . 

محمد بن إبراهيم السعيدي

مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..