الصفحات

الأحد، 6 يوليو 2014

الأحنف بن قيس


الأحنف بن قيس سيِّد من سادات بني تميم، وداهية من دُهاة العرب، وممَّن يُضرَب به المَثَل في حِلْمه.
قَدِم الأحنف على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في أهل البصرة، وأهل الكوفة، فتكلَّموا عندَه في
أنفسهم، وما ينوب كل واحد منهم، وتكلَّم الأحنف فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّ مفاتيح الخير بيد الله، وقد أتتْك وفود العراق، وإنَّ إخواننا من أهل الكوفة والشام ومصر نزلوا منازلَ الأمم الخالية، والملوك الجبابرة، ومنازل كِسرى وقيصر وبني الأصفر، فهُم من المياه العذبة، والجنان المختلفة في مثل حولاء السَّلَى، وحدقة البعير، تأتيهم ثمارُهم غضَّة لم تحضر، وإنَّا أُنزِلنا أرضًا طرفٌ في فلاة، وطرفٌ في مِلح أُجاج، جانب منها منابت القصب، وجانب سبخة نشاشة، لا يجفُّ ثراها، ولا ينبت مرعاها، يخرج الرجل الضعيف منا يستعذِب الماء من فرسخين، وتخرج المرأة بمثل ذلك ترنق لولدِها ترنيقَ العنز، يُخاف عليه العدوُّ والسَّبُع، فإن لا ترفع خسيستنا، وتنعش ركيستنا، وتجبر فاقتنا، وتَزِد في عيالنا عيالاً، وفي رجالنا رجالاً، وتُصغِّر درهمنا، وتُكبِّر قفيزنا، وتأمر لنا بنهر نستعذب به الماء - هلكْنا، فقال عمر: هذا والله السيِّد، ثم كتب إلى أبي موسى الأشعري أن يحتفرَ لهم نهرًا.

ووفد الأحنف على معاوية مع أهل العراق، فخرج الآذن فقال: إنَّ أمير المؤمنين يَعزِم عليكم ألاَّ يتكلَّم أحدٌ إلاَّ لنفسه، فلمَّا وصلوا إليه قال الأحنف: لولا عزمةُ أمير المؤمنين لأخبرته أن دافَّةً دَفَّتْ، ونازلةً نَزَلتْ، ونابتةً نَبَتتْ، كلهم بهم حاجة إلى معروف أمير المؤمنين وبرِّه، فقال معاوية: حسبُك يا أبا بحر، فقد كفيتَ الشاهد والغائب.

قيل للأحنف: ممَّن تعلمتَ الحِلم؟ قال: مِن قيس بن عاصم المنقري، رأيتُه قاعدًا بفناء داره، محتبيًا بحمائل سيفِه، يُحدِّث قومه، حتى أُتي برجل مكتوف، ورجل مقتول، فقيل له: هذا ابنُ أخيك قَتَل ابنَك، فوالله ما حلَّ حُبوتَه، ولا قطع كلامه، ثم التفتَ إلى ابن أخيه، وقال: يا ابنَ أخي، أسأتَ إلى رَحِمك، ورميتَ نفسك بسهمك، وقتلت ابن عمِّك، ثم قال لابنٍ له آخر: قُمْ يا بني، فحلَّ كتاف ابن عمِّك، ووارِ أخاك، وسُقْ إلى أمِّه مائةَ ناقة دية ابنها، فإنها غريبة، ثم أنشأ يقول:
إِنِّي امْرُؤٌ لاَ يَطَّبَى حَسَبِي
دَنَسٌ يُهَجِّنُهُ وَلاَ أَفْنُ
مِنْ مِنْقَرٍ فِي بَيْتِ مَكْرُمَةٍ
وَالْغُصْنُ يَنْبُتُ حَوْلَهُ الْغُصْنُ
خُطَبَاءُ حِينَ يَقُولُ قَائِلُهُمْ
بِيضُ الْوُجُوهِ مَصَاقِعٌ لُسْنُ
لاَ يَفْطِنُونُ لِعَيْبِ جَارِهُمُ
وَهُمُ لِحِفْظِ جِوَارِهِ فُطْنُ

ولَمَّا عَزَم معاوية على البيعة ليزيدَ، كتب إلى زياد أن يوجِّه إليه بوفد أهل البصرة والكوفة، فتكلَّمتِ الخطباء في يزيد، والأحنفُ بن قيس ساكتٌ، فلمَّا فرغوا قال معاوية: قل يا أبا بحر، فإنَّ العيون إليك أشرعُ منها إلى غيرك، فقام الأحنف، فحَمِد الله وأثنى عليه، وصلَّى على نبيه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم قال:
يا أميرَ المؤمنين، إنَّك أعلمُنا بيزيد في ليله ونهاره، وإعلانه وإسراره، فإن كنتَ تعلمُه لله رِضًا فلا تشاورْ فيه أحدًا، ولا تُقِم له الخطباءَ والشعراء، وإن كنت تعلم بُعدَه من الله فلا تزودْه من الدنيا وترحل أنت إلى الآخرة، فإنَّك تصير إلى ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ﴾ [عبس: 34 - 36]، فكأنَّه أفْرَغ على معاوية ذَنوبَ ماءٍ بارد.

فقال له: اقعدْ يا أبا بحر، فإنَّ خِيَرة الله تجري، وقضاءَه يمضي، وأحكامه تنفذ، لا مُعقِّب لحُكمه، ولا رادَّ لقضائه، وإنَّ يَزيدَ فتًى بلوناه، ولم نجد في قريش فتًى هو أجدرُ بأن يجتمع عليه منه.

فقال: يا أمير المؤمنين: أنت تحكي عن شاهِد، ونحن نتكلَّم على غائب، وإذا أراد الله شيئًا كان.

سأل غيلان بن خرشة الأحنفَ بن قيس: ما بقاءُ ما فيه العرب؟ قال: إذا تقلَّدوا السيوف، وشدُّوا العمائم، وركبوا الخيل، ولم تأخذْهم حمية الأوغاد، قال غيلان: وما حمية الأوغاد؟ قال: أن يَعُدُّوا التواهبَ فيما بينهم ضَيْمًا.

قال رجل للأحنف: دُلَّني على حمدٍ بلا مرزئة؟ قال: الخُلق السجيح، والكفُّ عن القبيح، ثم اعلموا أنَّ أدوى الداء اللِّسان البذيء، والخُلق الرديء.

وقال: مَن ظلم نفسه كان لغيرِه أظلمَ، ومَن هدم دِينه كان لمجدِه أهدم.

قال رجل في مجلس الأحنف بن قيس: ليس شيءٌ أبغض إليَّ من التَّمْر والزُّبد، فقال الأحنف: رُبَّ ملومٍ لا ذنبَ له.

يعزل الولاة ويُولِّيهم:
كان زياد بن أبيه يُقرِّب الأحنف ويُدنيه، فلمَّا مات زياد وولي ابنه عبيدالله لم يرفع به رأسًا، فتأخَّرت عنده منزلتُه، فلما وفد برؤساء العراق على معاوية أدخلهم عليه على مراتبهم عندَه، فكان الأحنف آخِرَ مَن أدخله عليه، فلمَّا رآه معاوية أجلَّه وأعظمه، وأدْناه وأكرمه، وأجلسه معه على الفراش، ثم أقبل عليه يحادثه دونهم، ثم شَرَع الحاضرون في الثناء على ابن زياد، والأحنف ساكت، فقال له معاوية: مالك لا تتكلَّم؟ قال: إن تكلمت خالفتُهم، فقال معاوية: أُشهِدكم أني قد عزلتُه عن العراق، ثم قال لهم: انظروا لكم نائبًا، وأجَّلهم ثلاثة أيام، فاختلفوا بينهم اختلافًا كثيرًا، ولم يذكر أحدٌ منهم بعد ذلك عبيدالله ولا طلبه أحدٌ منهم، ولم يتكلَّم الأحنف في ذلك كلمة واحدة مع أحد منهم.

فلما اجتمعوا بعدَ ثلاثٍ أفاضوا في ذلك الكلام، وكثر اللغط، وارتفعت الأصوات، والأحنف ساكت، فقال له معاوية: تكلَّم، فقال له: إن كنتَ تريد أن تولِّيَ فيها أحدًا من أهل بيتك، فليس فيهم مَن هو مثل عبيدالله، فإنَّه رجل حازم لا يسدُّ أحد منهم مسدَّه، وإن كنت تريد غيرَه، فأنت أعلم بقرابتك، فردَّه معاوية إلى الولاية، ثم قال له بينه وبينه: كيف جهلتَ مثل الأحنف؟ إنَّه هو الذي عزلَك وولاَّك، وهو ساكت؟! فعظُمت منزلة الأحنف بعد ذلك عند ابن زياد جدًّا.

قال الأحنف: خير الإخوان مَن إذا استغنيت عنه لم يزدِك في المودة، وإن احتجتَ إليه لم ينقصك منها، وإن عثرتَ عضدك، وإن احتجت إلى مؤونته رفدك وأنشد:
أَخُوكَ الَّذِي إِنْ تَدْعُهُ لِمُلِمَّةٍ
يُجِبْكَ وَإِنْ تَغَضَبْ إِلَى السَّيْفِ يَغْضَبِ

حكى ابنُ أبي عائشة: أنَّ شابًّا كان يجالس الأحنف، ويطيل الصمت، فأَعجب ذلك الأحنف، فخلَتِ الحلقة يومًا، فقال له الأحنف: تكلَّم يا ابن أخي، فقال: يا عمِّ أرأيت لو أنَّ رجلاً سقط من شرف هذا المسجد، هل كان يضرُّه شيء؟ فقال: يا ابن أخي، ليتنا تركناك مستورًا، ثم تمثَّل بقول الأعور الشني[1]:
وَكَائِنْ تَرَى مِنْ صَامِتٍ لَكَ مُعْجِبٍ
زِيَادَتُهُ أَوْ نَقْصُهُ فِي التَّكَلُّمِ
لِسَانُ الْفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ
فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ

قال الأحنف: إنَّ الله جعل أسعدَ عباده، وأرشدَهم لديه، وأحظاهم يوم القيامة - أبذلَهم للمعروف يدًا، وأكثرَهم على الإخوان فضلاً، وأحسنَهم له على ذلك شكرًا.
جاء رجلٌ فشتم الأحنف، فسكت عنه، وأعاد فسكت، فقال الرجل: والْهفاه، ما يمنعه من أن يردَّ عليَّ إلا هواني عنده.
قال الأحنف: لا صَدِيقَ لملول، ولا وفاءَ لكذوب، ولا راحة لحسود، ولا مروءة لدنيء، ولا زعامة لسيئ الخُلق.
قال الأحنف لمعاوية: أخافك إنْ صدقتُك، وأخاف اللهَ إن كذبتُك.
قال الأحنف: لقد اختلفْنا إلى قيس بن عاصم في الحِلم كما نختلف إلى الفقهاء في الفِقه.
وكان يقول: لا مروءةَ لكذوب، ولا سوادَ لبخيل، ولا ورعَ لسيئ الخُلق.
وقال الأحنف: رُبَّ رجل لا تغيب فوائده، وإن غاب آخَرُ لا يسلم منه جليسه وإن احترس.
قال الأحنف بخراسان: يا بني تميم، تحابُّوا تجتمعْ كلمتُكم، وتباذلوا تعتدلْ أموالكم، وابدؤوا بجهاد بطونكم وفُروجكم يصلحْ لكم دينكم، ولا تَغلُّوا يَسلمْ لكم جهادكم.
وقال: أسرع الناس إلى الفِتنة أقلُّهم حياءً من الفرار.
قال الأحنف: السؤدد مع السواد - يريد أنَّ السيِّد يُعرف في حداثته وسواد رأسه ولحيته.
قال الأصمعي: وَفَد الأحنف والمنذر بن الجارود إلى معاوية، فتهيَّأ المنذر، وخرج الأحنف على قَعود وعليه بَتٌّ، فكلَّما مرَّ المنذر قال الناس: هذا الأحنف، فقال المنذر: أراني تزينت لهذا الشيخ.
قال رجل للأحنف: بِمَ سدتَ قومك؟ قال: بترْكي من الأمر ما لا يَعنيني، كما عناك من أمري ما لا يَعنيك.
وأغلظ رجلٌ للأحنف في الكلام، وقال له: والله يا أحنف، لئن قلتَ لي واحدة لتسمعنَّ بدلها عشرًا، فقال له: إنَّك إن قلت لي عشرًا لا تسمع مني واحدة.
كان معاوية يَأْذَن للأحنف أوَّلَ مَن يأذن له، فأذِن له يومًا، ثم أذِن لمحمد بن الأشعث، فأقبل حتى جلس بين معاوية والأحنف، فقال له معاوية: لقد أحسستَ من نفسك ذُلاًّ، إني لم آذَن له قبلك إلاَّ ليكونَ في المجلس دونك، وإنما كما نَملِك أموركم، كذلك نملك تأديبَكم، فأريدوا ما يُراد بكم، فإنه أبقى لنعمتكم، وأحسنُ لأدبكم.
قال رجل لأحنف بن قيس: بأيِّ شيءٍ سُدتَ تميمًا، فوالله ما أنت بأجودِهم ولا أشجعهم، ولا أجملهم ولا أشرفهم؟! قال: بخلاف ما أنت فيه؟ قال: وما خلاف ما أنا فيه؟ قال: ترْكي ما لا يَعنيني من أمور الناس، كما عناك من أمري ما لا يعنيك.
استعمل عمر بن عبدالعزيز رجلاً، فقيل له: إنَّه حديث السِّنّ، ولا نراه يضبط عملك، فأخذ العهد منه، وقال: ما أراك تضبط عملك لحداثتك، فقال الفتى:
وَلَيْسَ يَزِيدُ الْمَرْءَ جَهْلاً وَلاَ عَمًى
إِذَا كَانَ ذَا عَقْلٍ حَدَاثَةُ سِنِّهِ

فقال عمر: صَدَق، وردَّ عليه عهده.

عامر الشعبي:
كان عامرٌ الشعبي من العلماء الأدباء، ذوي الكياسة والنباهة، وكان عبدالملك بن مرْوان يُدنيه ويُكرِمه ويأنس به، ولا غرو، فقد كان عبدالملك فقيهًا أديبًا شغلتْه الخلافة بأعبائها، ولم تُنسِه إعزازَ العلماء، وتقديرَ الفضلاء.

قال ابن خلكان: حكى الشعبي قال: أنفذني عبدالملك بن مرْوان إلى ملك الرُّوم، فلمَّا وصلتُ إليه جعل لا يسألني عن شيء إلاَّ أجبتُه، وكان الرسل لا تُطيل الإقامة عنده، فحبسني أيامًا كثيرة، حتى استحثثتُ خروجي، فلما أردتُ الانصراف قال لي: مِن أهل بيت المملكة أنت؟ فقلت: لا، ولكني رجل من العرب في الجملة، فهمس بشيء فدُفعتْ إليَّ رقعة، قال: فأديت الرسائل عند وصولي إلى عبدالملك، وأنسيت الرقعة فلمَّا صرت في بعض الدار أُريد الخروج تذكرتها، فرجعت فأوصلتها إليه، فلمَّا قرأها قال لي: أقال لك شيئًا قبل أن يدفعها إليك؟ قلت: نعم، قال لي: مِن أهل بيت المملكة أنت؟ قلت: لا، ولكني من العرب في الجملة، ثم خرجتُ من عنده، فلما بلغتُ الباب رُدِدت، فلمَّا مثلتُ بين يديه، قال لي: أتدري ما في الرُّقعة؟ قلت: لا، قال: اقرأها، فقرأتها فإذا فيها: عجبتُ من قوم فيهم مثل هذا، كيف ملَّكوا غيره؟!

فقلت له: والله لو علمتُ ما فيها ما حملتها، وإنما قال هذا؛ لأنَّه لم يَرَكْ، قال: أفتدري لِمَ كتبها؟ قلت: لا، قال: حَسَدني عليك، وأراد أن يغريني بقتلك، قال: فتأدَّى ذلك إلى ملك الروم فقال: ما أردتُ إلا ما قال.

وروى أبو القاسم عبدالرحمن بن إسحاق الزجَّاجيُّ في كتابه "مجالس العلماء" عن الشعبي، قال: دخلتُ على عبدالملك بن مرْوان فصادفتُه في سرار مع بعض مَن يقرب منه، فوقفتُ ساعة لا يَرفع إليَّ طَرْفه، فقلت: يا أمير المؤمنين، عامرٌ الشعبي، فقال: لم نأذنْ لك حتى عَرَفْنا اسمك، فقلت: نقدةٌ والله من أمير المؤمنين، فلمَّا فرغ ممَّا كان فيه، وأقبل على الناس رأيتُ في المجلس رجلاً ذا رُواء وهيئة لم أعرفْه، فقلت: مَن هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: الخلفاء تَسأل ولا تُسأَل، هذا الأخطل الشاعر، قلت في نفسي: هذه أخرى، قال: وخُضْنا في الحديث فمرَّ له شيء لم أعرفْه، فقلت: أكتبنيه يا أمير المؤمنين! قال: الخلفاء تَستكتِب ولا تُستكتَب، فقلت: هذه ثالثة.

وذهبتُ لأقوم فأشار إليَّ بالقعود فقعدتُ، حتى خفَّ مَن كان عنده، ثم دعا بالطعام فقُدِّمتْ إليه المائدة، فرأيت عليها صحفة فيها مخ، وكذا كانت عادته أن يُقدَّم إليه المخ قبلَ كلِّ شيء، فقلت: هذا يا أمير المؤمنين كما قال الله - جلَّ وعزَّ -﴿ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ﴾ [سبأ: 13]، فقال: يا شعبي، مازحتَ مَن لم يمازحْك، فقلت: هذه والله رابعة.

فلما فرغ من الطعام وقعد في مجلسه، واندفعنا في الحديث وذهبتُ لأتكلَّم، فما ابتدأتُ بشيء من الحديث إلاَّ استلبَه مني فحدَّث الناس به، وربَّما زاد فيه على ما عندي، ولا أنشدتُه شعرًا إلاَّ فعل مثل ذلك، فغمَّني ذلك، وانكسر بالي له، فما زِلْنا على ذلك بقية نهارنا، فلمَّا كان آخر وقتنا التفت إليَّ فقال: يا شعبي، قد والله تبينتُ الكراهة في وجهك لِمَا فعلت، وتدري أيُّ شيء حملني على ذلك؟ قلت: لا يا أميرَ المؤمنين، قال: لئلاَّ تقول: لئن فازوا بالمُلْك أولاً، لقدْ فُزْنا نحن بالعلم، فأردتُ أن أعرِّفَك أنَّا فُزْنا بالملك، وشاركناك فيما أنت فيه، ثم أمر لي بمال، فقمتُ من عنده وقد زللت أربع زلاَّت.

أدب عال:
ذَكَر رجل من القرشيِّين عبدالملك بن مروان - وعبدالملك يومئذ غلام - فقال: إنه لآخذٌ لأربع، وتارك لأربع: آخذ بأحسن الحديث إذا حَدَّث، وبأحسن الاستماع إذا حُدِّث، وبأيسر المؤنة إذا خُولِف، وبأحسن البِشْر إذا لُقِي، وتارك لمحادثة اللئيم، ومنازعة اللجوج، ومماراة السفيه، ومصاحبة المأفون.

كان عمارة الفقيه يجالس عبدَالملك بن مرْوان في ظل الكعبة - وأشار له عبدالملك يومًا أنَّ الخلافة ستصير إليه، وطلب منه أن يَعرِضَ حاجاتِه عليه حينذاك، ومرَّت السِّنون، وصارتْ إليه الخلافة، فقصدَه عمارة، فأكرَمه وقدَّمه على خاصته، وأعطاه عطاءً جزلاً، وذكَّره عبدالملك بوعْدِه له، فاستغرب عمارة من تذكُّره لوعْد قد مضى عليه أمدٌ طويل، قال: نعم، والله لا خير فيمَن ينسى ما وَعَد به، ويَذْكُر ما أَوْعد.

وعلَّل عبدالملك توقُّعَه أن تصير إليه الخلافة بأنَّه عقل في حداثته أشياءَ رجَا أن يرفع الله بها درجتَه، وينشر بها ذِكْره، قال عمارة وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: كنت لا أشاري ولا أماري (أي: لا يلاحي ولا يماري)، ولا أهتِك سِتْرًا ستره الله دوني، ولا أرتكب محرَّمًا حظره الله عليّ، ولا أحدثتُ ولا بغيت، وكنت من قومي واسطةَ القلادة، وكنت أُكْرِم جليسي وإن كان ذميمًا، وأرفع قدرَ الأديب، وأُكرِم ذا الثقة، وأداري السفيه، وأرحم الضعيف، فبذلك رفع الله قدري.

قال محمد بن حرْب الهلالي: دَخَل زفر بن الحارث (الكلابي) على عبدالملك بن مرْوان بعدَ الصُّلح، فقال: ما بقي من حبِّك للضحَّاك؟
فقال: ما لا ينفعُني ولا يضرُّك.
قال: شد ما أجبتموه معاشر قيس.
قال: أجبناه ولم نواسِه، ولو كنَّا آسيناه لقد كنا أدركْنا ما فاتنا منه.
قال: فما منعك من مواساته يومَ المرج (مرج راهط) قال: الذي منع أباك من مواساة عثمانَ يومَ الدار.

رُوي أنَّ بعض عمَّال عبدالملك بن مروان بعث إليه بجارية اشتراها بعشرة آلاف دينار، فلما استحضرها وأَنِس بها، دخل إليه رسولُ الحجَّاج بأنَّ عبدالرحمن بن الأشعث خلَعَه، فأجاب عن كتابه، وجعل يقلِّب كفيه، وقال لها: إنَّ ما دونك منية المتمني، فقالت: وما يمنعك؟
قال: بيت الأخطل؛
قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُمْ
دُونَ النِّسَاءِ وَلَوْ بَاتَتْ بِأَطْهَارِ

فمكث ثلاثَ سنين وخمسة أشهر لا يقرب امرأةً حتى أتاه خبرُ قتل ابن الأشعث، فكانتْ أوَّل امرأة تمتَّع بها.

أُتِي الحجَّاجُ برجل من أصحاب ابن الأشعث، فقال له: أسألك أن تقتلني وتخلِّصني، فقال له الحجَّاج: لِمَه؟
فقال: إني أرى كلَّ ليلة في المنام أنك تقتلُني، وقتلة واحدة خيرٌ من قتلات، فضَحِك وخلَّى سبيله.

كان بالكوفة امرأةٌ موسِرة لها على الناس ديونٌ كثيرة بالسواد، فأتتِ الحكمَ بن عبدل وعرضَتْ له بأنها تتزوَّجه إذا اقتضى لها ديونها، فقام ابن عبدل بدَيْنها حتى اقتضاه، ثم طالبها بالوفاء، فكتبتْ إليه:
سَيُخْطِيكَ الَّذِي حَاوَلْتَ مِنِّي
فَقَطِّعْ حَبْلَ وَصْلِكَ مِنْ حِبَالِي
كَمَا أَخْطَاكَ مَعْرُوفُ بْنُ بِشْرٍ
وَكُنْتَ تَعُدُّ ذَلِكَ رَأْسَ مَالِ
وكان ابنُ عبدل يأتي ابنَ بِشْر بن مرْوان بالكوفة، فيسأله فيقول له: أخمسمائة أحبُّ إليك العام، أم ألْف في قابل؟ فيقول: ألْف في قابل، فإذا أتاه مِن قابل قال له: ألْفٌ أحبُّ إليك العام، أم ألْفان في قابل؟ فيقول ألفان، فلم يزلْ كذلك حتى مات ابن بِشْر ولم يعطِه شيئًا، فدخل ابن عبدل على عبدالملك بن مرْوان بعدما جرى مع المرأة، فقال له عبدالملك: ما أحدثتَ بعدي؟ قال: خطبتُ امرأة مِن قومي فردَّتْ عليَّ بيتي شعر، قال: وما هما؟ قال قالت:
سَيُخْطِيكَ الَّذِي حَاوَلْتَ مِنِّي... بيتان، فضَحِك عبدالملك، وقال له: لَحَاك الله أذكرت بنفسك، وأمَر له بألفي درهم.

لما وجَّه سليمانُ بن عبدالملك محمَّدَ بن يزيد إلى العراق ليطلقَ أهلَ السُّجون، ويقسم الأموال، ضيَّق على يَزيد بن أبي مسلم، فلمَّا وَلِي يزيد بن عبدالملك الخلافة وَلِي يزيد بن أبي مسلم أفريقية، وكان محمَّدُ بن يزيد واليًا عليها، فاستخفى محمَّد بن يزيد، فطلَبَه يزيد بن أبي مسلم وشدَّ في طلبه، فأُتِي به في شهر رمضان عند الغروب، وكان في يدِ يَزيد بن أبي مسلم عُنقودُ عنب، فقال لمحمد بن يزيد حين رآه: يا محمَّد بن يزيد، قال: نعم، قال: طالَما سألتُ الله أن يمكِّنني منك، فقال: وأنا والله طالَمَا سألتُ الله أن يُجيرني منك، فقال: والله ما أجارَك ولا أعاذَك، وإن سبقني مَلَك الموت إلى قَبْض رُوحك سبقتُه، والله لا آكُل هذه الحَبَّة العنب حتى أقتلَك، ثم أمر به فكُتِّف ووضع في السطح، وقام السيَّاف، فأقيمتِ الصلاة، فوضع العُنقود من يدِه وتقدَّم ليصلِّي، وكان أهل أفريقية قد أجمعوا على قَتْلِه، فلمَّا رفع رأسَه ضربَه رجل بعمود على رأسه فقتله، وقيل لمحمد بن يزيد: اذهبْ حيث شئت.

ذَكَر بعضُ الأدباء القُدماء بعضَ فرسان العرب، فمِن فرسان العرب في الجاهلية: ربيعة بن مكدم، وعنترة الفوارس، وعتبة بن الحارث بن شهاب، وأبو براء عامر بن مالك ملاعِب الأسِنَّة، وزيد الخيل، وبِسْطام بن قيس، والأحيمر السعدي، وعامر بن الطفيل، وعمرو بن عبدود، وعمرو بن معد يكرب.

وفي الإسلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، والزبير، وطلحة، ورجال الأنصار: عبدالله بن خازم السُّلَمي، وعبَّاد بن الحُصَين، وعمير بن الحباب، وقطري بن الفجاءة، والحريش بن هلال السعدي، وشبيب الحروري.

كتب رجلٌ مِن البخلاء إلى رجلٍ من الأسخياء يأمره بالإبقاء على نفسِه، ويخوفه الفقر، فردَّ عليه ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 268] إنِّي أكره أن أتركَ أمرًا قد وَقَع لأمرٍ لعلَّه لا يقع.

أمر الحجَّاج بإحضار رجل من السِّجن، فلمَّا حضر أَمَر بضرْب عنقه، فقال: أيُّها الأمير، أخِّرْني إلى غد، قال: وأيُّ فرج لك في تأخير يوم واحد؟! ثم أمر بردِّه إلى السجن، فسمعه الحجَّاج وهو راجع إلى السجن يقول:
عَسَى فَرَجٌ يَأْتِي بِهِ اللَّهُ إِنَّهُ
لَهُ كُلَّ يَوْمٍ فِي خَلِيقَتِهِ أَمْرُ

فقال الحجَّاج: واللهِ ما أخذه إلاَّ من كتاب الله، وهو قوله – تعالى -: ﴿ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ [الرحمن: 29] وأَمَر بإطلاقه.
قال مالك بن دينار: لربَّما رأيت الحجاج يتكلَّم على مِنبره، ويذكر حسنَ صنيعه إلى أهل العراق، وسوءَ صنيعهم إليه حتى ليخيل للسامع أنَّه صادق مظلوم.

ليته أدركهم:
قيل للحجَّاج: كيف وجدتَ منزلك بالعراق أيُّها الأمير؟ قال: خير منزل، لو أدركتُ بها أربعة نفر لتقرَّبتُ إلى الله - سبحانه وتعالى - بدمائهم، قيل له: ومَن هم؟ قال: مقاتل بن مسمع، ولي سجستان فأتاه الناس فأعطاهم الأموال، فلمَّا قدم البصرةَ بسط له الناس أرديتَهم فمَشَى عليها، فقال: لمثل هذا فليعمل العاملون، وعبيدالله بن ظبيان؛ خطب خُطبةً أوجز فيها، فناداه الناس من أعراض المسجد: كثَّر الله فينا أمثالك، قال: لقد كلفتم ربَّكم شططًا.

ومعبد بن زرارة؛ كان ذات يومٍ جالسًا على طريق فمرَّتْ به امرأة، فقالت: يا عبدالله، أين الطريق لمكان كذا؟ فقال: لمثلِي يقال يا عبدالله؟ ويلَك.

وأبو السمَّاك الحنفي، أضلَّ ناقته، فقال: والله لئن لم يرددْ عليَّ ناقتي لا صليتُ أبدًا.

قال عليُّ بن عبدالله: شهدتُ الحجَّاج خارجًا من عند عبدالملك بن مرْوان، فقال له خالد بن يزيد بن معاوية: إلى متى تقتل أهلَ العراق يا أبا محمد؟ فقال: إلى أن يكفُّوا عن قولهم في أبيك: إنَّه كان يشرب الخمر.

تسامح من الحجاج!
قال أبو عبيدة: كان بين الحجَّاج وبين العديل بن الفرخ العجلي بعضُ الأمر، فتوعَّده الحجاج بالقتل، فقال العديل:
أُخَوَّفُ بِالْحَجَّاجِ حَتَّى كَأَنَّمَا
يُحَرَّكُ عَظْمٌ فِي الْفُؤَادِ مَهِيضُ
وَدُونَ يَدِ الْحَجَّاجِ مِنْ أَنْ تَنَالَنِي
بِسَاطٌ لِأَيْدِي الْيَعْمُلاَتِ عَرِيضُ
مَهَامِهُ أَشْبَاهٌ كَأَنَّ سَرَابَهَا
مُلاَءٌ بِأَيْدِي الْغَاسِلاتِ رَحِيضُ

ثم ظفر به الحجَّاج، فقال له: إيه يا عديل، هل نجَّاك بساطُك العريض؟ فقال: أيُّها الأمير، أنا الذي أقول فيكم:
وَلَوْ كُنْتُ بِالْعَنْقَاءِ أَوْ بِيُسُومِهَا
لَكَانَ لِحَجَّاجٍ عَلَيَّ دَلِيلُ
خَلِيلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَسَيْفِهِ
لِكُلِّ إِمَامٍ مُصْطَفًى وَخَلِيلُ

فقال له الحجَّاج: اربَح نفسك، واحقنْ دمك، وإياك وأختَها، فقد كان الذي بيني وبين قتلك أقصرَ من إبهام الحُبارَى.

نحوي وفقيه:
اجتمع الكسائي وأبو يوسف القاضي عندَ هارون الرشيد، فجعل أبو يوسف يذمُّ النحو، ويقول: وما النحو؟ قال الكسائي - وأردتُ أن أعلِّمه فضْل النحو -: ما تقول في رجل قال لرجل: أنا قاتلُ غلامِكَ، وقال له آخر: أنا قاتلٌ غلامَكَ، أيَّهما كنت تأخذ به؟ قال: آخذهما جميعًا، فقال له هارون: أخطأتَ - وكان له عِلم بالعربية - فاستحيا، وقال: كيف ذلك؟ قال: الذي يؤخذ بقتْل الغلام هو الذي قال: أنا قاتلُ غلامِكَ بالإضافة؛ لأنه فِعْل ماض، وأما الذي قال: أنا قاتلٌ غلامَكَ بالنَّصْب فلا يؤخذ؛ لأنه مستقبل لم يكن بعدُ، كما قال الله - عز وجل -: ﴿ وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ [الكهف: 23 - 24]، فلولا أنَّ التنوين مستقبل ما جاز فيه غدًا، فكان أبو يوسف بعدَ ذلك يمدح العربية والنحو.

صاح رجل بالمأمون: يا عبدالله، يا عبدالله، فغضب المأمون وقال: أتدعوني باسمي؟! فقال الرجل: نحن ندعو الله باسمِه، فسَكَت المأمون، وقضَى حاجتَه، وأنعم عليه.

دخل محمَّد بن زياد مؤدِّب الواثق على الواثق، فأظهر إكرامَه، وأكثر إعظامَه، فقيل له: مَن هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا أول مَن فتق لساني بذِكْر الله، وأدناني من رحمة الله.

قال أبو عثمان بكر بن محمد: وفدتُ على الواثق، فلمَّا دخلتُ وسلمتُ قال: هل خليت وراءَك أحدًا يهمُّك أمره؟ قلت: أُخيَّة لي ربيتُها، فكأنها بنتي، قال: ليت شعري ما قالت حين فارقتها؟ قال: أنشدتني قولَ الأعشى:
تَقُولُ ابْنَتِي يَوْمَ جَدَّ الرَّحِيلُ
أَرَانَا سَوَاءً وَمَنْ قَدْ كَتَمْ

أَبَانَا فَلاَ رُمْتَ مَنْ عِنْدَنَا
فَإِنَّا نَخَافُ بِأَنْ تُخْتَرَمْ
أَرَانَا إِذَا أَضْمَرْتَكَ الْبِلاَ
دُ نُجْفَى وَتُقْطَعُ مِنَّا الرَّحِمْ

قال: ليت شعري، ما قلتَ لها؟ قال: أنشدتها يا أمير المؤمنين، قولَ جرير:
ثِقِي بِاللَّهِ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ
وَمِنْ عِنْدِ الْخَلِيفَةِ بِالنَّجَاحِ

قال: أتاك النجاح، وأمر له بعشرة آلاف درهم.
روى أبو حيان التوحيدي في كتابه "مثالب الوزيرين" (الصاحب بن عبَّاد وابن العميد) عن الصاحب بن عبَّاد: أنَّه قال يومًا: ما صدر قول الشاعر:
............... = وَالْمَشْرَبُ الْعَذْبُ كَثِيرُ الزِّحَامْ
فسكت الجماعة، فقال: قد والله فشا النقص، وذهب الحِفظ، ومات الأدب، فقال ابن الرازي: صدره:
يَزْدَحِمُ النَّاسُ عَلَى بَابِهِ =..............
فأقبل عليه بغيظ، وقال: ما عرفتكُ إلا متعجرفًا جاهلاً، أما كان لك بالجماعة أسوة!!

نظر زرارة بن عدس إلى ابنه لقيط، فقال: مالي أراك مختالاً، كأنَّك جئتني بابنة ذي الجدين، أو مائة من هجائن النعمان؟! فقال: والله لا يمسُّ رأسي دُهْن حتى آتيَك بها، أو أبلى عذرًا، فانطلق حتى أتى ذا الجدين - وهو قيس بن مسعود الشيباني - فوجده جالسًا في نادي قومه من شيبان، فخَطَب إليه ابنته علانية، فقال له: هلاَّ ناجيتني؟ قال: قد علمت أني إن ناجيتك لم أخدعْك، وإن عالنتُك لم أفضحك، قال: ومَن أنت؟ قال: لقيط بن زرارة، قال: لا جرم لا تبيتنَّ فينا عزبًا ولا محرومًا، فزوَّجه، وساق عنه المهر، وبنى بها من ليلته تلك.

ثم خرج إلى النعمان، فجاء بمائتين من هجائنه، وأقبل إلى أبيه، وقد وفى نذرَه، فبعث إليه قيس بن مسعود بابنته مع ولده بسطام بن قيس، فخرج لقيط يتلقَّاها في الطريق، ومعه ابن عم له يقال له: قراد، فقال لقيط:
هَاجَتْ عَلَيْكَ دِيَارُ الْحَيِّ أَشْجَانَا
وَاسْتَقْبَلُوا مِنْ نَوَى الْجِيرَانِ قُرْبَانَا
تَامَتْ فُؤَادكَ لَمْ تَقْضِ الَّذِي وَعْدَتْ
إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَا
فَانْظُرْ قُرَادُ وَهَلْ فِي نَظْرِةٍ جَزَعٌ
عُرْضَ الشَّقَائِقِ هَلْ بَيَّنْتَ أَظْعاَنَا
فِيهِنَّ جَارِيةٌ نَضْحُ الْعَبِيرُ بِهَا
تُكْسَى تَرَائِبُهَا دُرًّا وَمَرْجَانَا
كَيْفَ اهْتَدَيْتَ وَلاَ نَجْمٌ وَلاَ عَلَمٌ
وَكُنْتَ عِنْدِي نَؤُومَ اللَّيْلِ وَسْنَانَا

ولَمَّا رحل بها بسطام بن قيس قالت: مرُّوا بي على أبي أُودِّعه، فلما ودعتْه، قال لها: يا بُنيَّة، كوني له أَمَةً يكن لك عبدًا، وليكن أطيب طِيبك الماء، ثم لا أذكرت ولا أيسرت، فإنَّك تلدين الأعداء، وتقرِّبين البُعداء، إنَّ زوجك فارس من فرسان مضر، وإنَّه يوشِك أن يُقتل أو يموت، فإذا كان ذلك فلا تخمشي عليه وجهًا، ولا تحلقي شعرًا.

فلمَّا قتل لقيط تحمَّلت إلى أهلها، ثم مالتْ إلى محلة عبدالله بن دارم، فقالت: نعم الأحماء كنتم يا بني دارم، وأنا أوصيكم بالغرائب خيرًا، فلم أرَ مثل لقيط، ثم لحقتْ بقومها فتزوَّجها ابن عم لها، فكانت لا تسلو عن ذكْر لقيط، فقال لها زوجها: أي يوم رأيتِ فيه لقيطًا أحسن في عينيك؟ قالت: خرج يومًا يصطاد، فطرد البقر فصُرِع منها، ثم أتاني مخضبًا بالدماء، فضمَّني ضمة، ولثمني لثمة، فليتَني مت ثَمَّة، فخرج زوجُها ففعل مثل ذلك، ثم أتاها فضمَّها ولثمها، ثم قال لها: مَن أحسن أنا أم لقيط عندك؟ قالت: "مرعى ولا كالسعدان".

العكوك الشاعر:
لما قال العكوك الشاعر قصيدتَه في أبي دلف التي يقول فيها:
إِنَّمَا الدُّنْيَا أَبُو دُلَفٍ
بَيْنَ مَغْزَاهُ وَمُحْتَضَرِهْ
فَإِذَا وَلَّى أَبُو دُلَفٍ
وَلَّتِ الدُّنْيَا عَلَى أَثَرِهْ
كُلُّ مَنْ فِي الْأَرْضِ مِنْ عَرَبٍ
بَيْنَ بَادِيهِ إِلَى حَضَرِهْ
يَرْتَجِيهِ نَيْلَ مَكْرُمَةٍ
يَأْتَسِيهَا يَوْمَ مُفْتَخَرِهْ

وبلغت المأمون، فطلبَه فهرب منه، ثم أحضر بين يديه، فقال له: ويحَك، فضَّلْتَ القاسم بن عيسى علينا.

فقال: يا أمير المؤمنين، أنتم أهل بيت اصطفاكم الله مِن بين عباده، وآتاكم ملكًا عظيمًا، وإنما فضلتُه على أشكاله وأقرانه، فقال: والله ما أبقيت أحدًا، حيث تقول:
كُلُّ مَنْ فِي الْأَرْضِ مِنْ عَرَبٍ
بَيْنَ بَادِيهِ إِلَى حَضَرِهْ

ومع هذا فلا أستحلُّ قتلَك بهذا، ولكن بشركِك وكفرك.
حيث تقول في عبد ذليل:
أَنْتَ الَّذِي تُنْزِلُ الْأَيَّامَ مَنْزِلَهَا
وَتَنْقُلُ الدَّهْرَ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالِ
وَمَا مَدَدْتَ مَدَى طَرْفٍ إِلَى أَحَدٍ
إِلاَّ قَضَيْتَ بِأَرْزَاقٍ وَآجَالِ

ذاك الله يفعله، أخرجوا لسانَه مِن قفاه، فأخرجوا لسانه فمات.

قال المتنبي:
لَوْلاَ الْمَشَقَّةُ سَادَ النَّاسُ كُلُّهُمُ
الْجُودُ يُفْقِرُ وَالْإِقْدَامُ قَتَّالُ

قال يزيد بن المهلَّب يومًا لجلسائه: أراكم تعنفون في الإقدام، قالوا: نعم، والله إنك لترمي بنفسك في المهالك، فقال: إليكم عني، فوالله لو لم آتِ الموت مسترسلاً، لأتاني مستعجلاً، إني لستُ آتي الموت من حبِّه، إنما آتيه من بُغضه.

وقد أحسن الحصين بن الحمام المرِّي حيث يقول:
تَأَخَّرْتُ أَسْتَبْقِي الْحَيَاةَ فَلَمْ أَجِدْ
لِنَفْسِي حَيَاةً مِثْلَ أَنْ أَتَقَدَّمَا

قال ياقوت الحموي في "معجم الأدباء"[2]: "وروي أنَّه لَمَّا عزم السلطان محمود على قتْل الطغرائي، أمر به أن يشدَّ إلى شجرة، وأن يقف تُجاهَه جماعةٌ بالسهام، وأن يقف إنسان خلف الشجرة يكتب ما يقول، وقال لأصحاب السهام: لا ترموه حتى أُشير إليكم، فوقفوا والسهام مفوفة الرمية، فأنشد الطغرائي في تلك الحالة:
وَلَقَدْ أَقُولُ لِمَنْ يُسَدِّدُ سَهْمَهُ
نَحْوِي وَأَطْرَافُ الْمَنِيَّةِ شُرَّعُ
وَالْمَوْتُ فِي لَحَظَاتِ أَحْوَرَ طَرْفُهُ
دُونِي وَقَلْبِي دُونَهُ يَتَقَطَّعُ
بِاللَّهِ فَتِّشْ عَنْ فُؤَادِيَ هَلْ يُرَى
فِيهِ لِغَيْرِ هَوَى الْأَحِبَّةِ مَوْضِعُ
أَهْوِنْ بِهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي طَيِّهِ
عَهْدُ الْحَبِيبِ وَسِرُّهُ الْمُسْتَوْدَعُ

فرقَّ له، وأمر بإطلاقه، ثم إن الوزير أغراه بقتله بعد حين فقتله.

تكريم العالم:
أشرف الرشيدُ على الكسائي وهو لا يراه، فقام الكسائي ليلبسَ نعلَه لحاجة يريدها، فابتدرها الأمين والمأمون - وكان مؤدبَهما - فوضعاها بين يديه فقبَّل رؤسهما وأيديهما، ثم أقسم عليهما ألاَّ يُعاودَا، فلما جلس الرشيد مجلسه، قال: أيُّ الناس أكرم خدمًا؟ قالوا: أمير المؤمنين - أعزَّه الله - قال: بل الكسائي؛ يخدمه الأمين والمأمون - وحدَّثهم الحديث.

طلقها أو طلقته:
جاءتِ امرأة إلى القاضي، وذكرتْ أنَّ زوجها طلقها، فقال القاضي: لك بيِّنة؟ فقالت: نعم، جار لنا، فأحضره القاضي، وسألَه أسمعتَ طلاق هذه المرأة؟ فقال: يا سيِّدي خرجتُ إلى السوق فاشتريتُ لحمًا وخبزًا، ودبسًا وزعفرانًا، فقال له القاضي: ما سألتُك عن هذا، هل سمعتَ طلاق هذه المرأة؟ قال: ثم تركتُه في البيت وعدت، فاشتريتُ حطبًا وخلاًّ، فقال: دعْ هذا عنك، فقال: ما أحسن الحديث إلاَّ بالحديث من أوَّله، ثم قال: جلتُ في الدار جولةً، فسمعت زعقاتهم، وسمعتُ الطلاق الثلاث، فما أدري أهي طلقتْه، أم هو طلَّقَها؟!

قال محمد بن شهاب الزهري: دخلت على عبدالملك بن مرْوان في رجال من أهل المدينة، فرآني أحْدثَهم سِنًّا، فقال لي: مَن أنت؟ فانتسبت إليه، فعرفني فقال: لقد كان أبوك وعمُّك نعَّاقين في فتنة ابن الزبير، قلت: يا أمير المؤمنين، مثلك إذا عفا لم يَعُد، وإذا صَفَح لم يُثرِّب، قال لي: أين نشأت؟ قلت: بالمدينة، قال: عند مَن طلبت؟ قلت: عند ابن يسار وابن أبي ذؤيب، وسعيد بن المسيب، قال لي: وأين كنت من عروة بن الزبير، فإنه بحرٌ لا تكدره الدلاء؟!

قال أبو الحسن بن محمد: ما خلق الله أحدًا كان أعرفَ بالحديث مِن يحيى بن معين، كان يُؤتَى بالأحاديث قد خُلطت وقُلبت، فيقول: هذا الحديث لذا، وذا لهذا، فيكون كما قال.

أبو حنيفة والخوارج:
كان الخوارج حين دخلوا الكوفة انتهوا إلى أبي حنيفة - رضي الله عنه - فانتضوا سيوفَهم، فقالوا: يا عدوَّ الله، ما أحدٌ منَّا إلا وقتْلُك عنده أحبُّ إليه من عبادة سبعين سَنة، وقد جئناك بمسألتين، فإن أجبتَ عنهما، وإلا أرقْنا دمَك، فقال: أنصفوني، أغمدوا السيوف، فإنَّ بريقها يهولني فأبوا، فقال: تكلَّموا، فقالوا: جنازتان على باب المسجد إحداهما جنازة شارب خمر شربها فمات فيها غرقًا، والأخرى جنازة زانية حبلتْ وشربت دواء، فقتلت جنينها وماتت؟ فقال: أمِن النصارى كانَا، أم من اليهود؟ قالوا: لا، قال: فمن أي الملل كانَا؟ قالوا: ممَّن يشهد ألاَّ إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، قال: فما يشهدان به من الكفر أم من الإيمان؟ قالوا: من الإيمان، قال: أقول كما قال نوح - عليه السلام - في قوم كانوا أعظمَ جرمًا منهم ﴿ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي ﴾ [الشعراء: 112 - 113]، أو ما قال إبراهيم: ﴿ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [إبراهيم: 36]، أو ما قال عيسى: ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118]، وأقول ما قال نبيُّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم -:﴿ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 31].

فألقى القوم أسلحتَهم، وقالوا: تبرأنا مما كنَّا عليه.

حُكي عن أبي حنيفة، قال: كنا نأتي حمادًا، فلا ننصرف عنه إلاَّ بفائدة، فقال يومًا: إذا وردتْ على أحدكم مسألةٌ معضلة، فليجعلْ جوابها منها، فما رأيت قوله شيئًا حتى دخلتُ يومًا دار المنصور، فخرج الربيع، وسألني ممتحنًا: أفتني في رجل أمرني أميرُ المؤمنين بقتْله؛ أعليَّ في طاعته حرج؟ فذكرت قول حماد: فقلت: أليس يأمرُك أمير المؤمنين بحقٍّ رآه؟ قال: نعم، فقلت: افْعل، فكلُّ حق يأمرك به لا حَرَج عليك فيه.

إمامة بالقوة:
كان يحيى بن اليمان يصلِّي بقومه، فتعصَّب عليه قومٌ منهم، فقالوا: لا تصلِّ بنا، لا نرضاك، إن تقدَّمت نحيناك، فجاء بالسيف فسلَّ منه أربع أصابع، ثم وضَعَه في المحراب، وقال: لا يدنو منِّي أحد إلا ملأتُ السيف منه، فقالوا: بيننا وبينك شريك، فقدَّموه إلى شريك، فقالوا: إنَّ هذا كان يصلِّي بنا وكرهناه، فقال لهم شريك: مَن هو؟ فقالوا: يحيى بن اليمان، فقال: يا أعداءَ الله، وهل بالكوفة أحد يُشبه يحيى؟! لا يصلِّي بكم غيرُه، فلما حضرتْه الوفاة، قال لابنه داود: يا بني كاد دِيني يذهب مع هؤلاء، فإن اضطروا إليك بعْدي، فلا تصلِّ بهم.

كان أبو العلاء الهمذاني من تلامذة الشيخ أبي المعز المقرئ القلانسي، وكان يفضله على أصحابه، فشقَّ ذلك عليهم، فاجتمع بهم يومًا، وفيهم أبو العلاء، فسألهم الشيخ أبو العز عن اختلاف القرَّاء في قوله تعالى: ﴿ كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ ﴾[النور: 35]، وأقاويل الأئمَّة فيها، فَسُقِط في أيديهم، وتاهوا في شرْحها، وما أجابوا بطائل، ثم أقبل الشيخ أبو العز على أبي العلاء، وقال: تكلَّم أنت فيها يا أبا العلاء، فشَرَع فيها وعدَّ بضعةَ عشر قولاً، وأدَّى فيها حقَّها بأحسنِ إشارة، وأبلغِ عبارة، فلمَّا فرغ نظر الشيخ أبو العز إلى أصحابه الحاضرين، وقال: بهذا أُفضِّله عليكم، ولو أمهلتكم مدَّة لَمَا قدرتم على الذي ذكره بديهةً من غير عزيمة سابقة، وروِيَّة سالفة.

أيهم المغبون؟
باع حَكيمُ بن حزام دارَه من معاوية بستِّين ألف درهم، فقيل له: غبنَك واللهِ معاوية، فقال: واللهِ ما أخذتُها في الجاهلية إلاَّ بزقٍّ من خمر، أشهدكم أنها في سبيل الله، فانظروا أينا المغبون؟!
قتيل ليس لأعظُمِه جبر:
جاء يومًا عبدالله بن المعتز في المسجد الجامع إلى أبي العباس أحمد بن يحيى؛ ليسلِّمَ عليه، فقام له وأجلسه مكانَه، فداس ابنُ المعتز قلمًا فكسَره، فلمَّا جلس قال لِمَن حوله:
لِكَفِّيَ ثَأْرٌ عِنْدَ رِجْلِي لِأَنَّهَا
أَثَارَتْ قَتِيلاً مَا لِأَعْظُمِهِ جَبْرُ

دعـاء:
اللهمَّ الْطفْ بنا، فإنك لطيف رحيم، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، واجعلْنا من أوليائك المفلحين، وحزبك المنصورين، وعبادك المتقين.

أخلاق عالية:
قال الشيخ محمد بن عبدالهادي في كتابه "العقود الدرية":
"سمعتُ الشيخ تقيَّ الدين - رحمه الله - يذكر: أنَّ السلطان لَمَّا جلس بالشباك أخرج من جيبه فتاوى لبعض الحاضرين في قتْله، واستفتاه في قتْل بعضِهم، قال: ففهمتُ مقصودَه، وأنَّ عنده حنقًا شديدًا عليهم لَمَّا خلعوه، وبايعوا الملك المظفر ركنَ الدين بيبرس الجاشنكير، فشرعتُ في مدحِهم والثناءِ عليهم، وأنَّ هؤلاء لو ذهبوا لم تَجِدْ مثلهم في دولتك، أمَّا أنا فَهُم في حلٍّ من حقِّي ومن جهتي، وسكَّنت ما عنده عليهم، قال: فكان القاضي زَيْن الدِّين بن مخلوف - قاضي المالكية يقول بعد ذلك: ما رأيْنا أتْقى من ابن تيمية: لم نُبقِ ممكنًا في السعيِ فيه، ولَمَّا قَدَرَ علينا عفَا عنَّا".

حوَّل السجن إلى مدرسة صالحة:
قال محمد بن أحمد بن عبدالهادي في كتابه "العقود الدرية" من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية:
"لَمَّا دخل الحبسَ وجَد المحابيس مشتغلين بأنواع من اللَّعِب، يلتهون بها عمَّا هم فيه، كالشطرنج والنرد، ونحو ذلك من تضييع الصلوات، فأنكر الشيخ عليهم ذلك أشدَّ الإنكار، وأمرَهم بملازمة الصلاة، والتوجُّه إلى الله بالأعمال الصالحة، والتسبيح والاستغفار والدعاء، وعلَّمهم من السُّنَّة ما يحتاجون إليه، ورغَّبهم في أعمال الخير، وحضَّهم على ذلك، حتى صار الحبسُ بما هو فيه من الاشتغال بالعِلم والدِّين خيرًا مِن الزوايا والربط، والخوانق والمدارس، وصار خَلْقٌ من المحابيس إذا أُطْلِقوا يختارون الإقامةَ عنده، وكثر المتردِّدون إليه، حتى كان السجن يمتلئ بهم".

كتب شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية من مصر إلى دمشق كتابًا جاء فيه:"تعلمون كثرةَ ما وقع في هذه القضية مِن الأكاذيب المفتراة، والأغاليط المظنونة، والأهواء الفاسدة، وأنَّ ذلك أمرٌ يجلُّ عن الوصف، وكل ما قيل: مِن كذب وزور، فهو في حقِّنا خيرٌ ونِعمة، قال – تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جاؤوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾[النور: 11].

وقد أظْهَر الله من نور الحق وبرهانه ما ردَّ به إفكَ الكاذب وبهتانَه، فلا أُحِبُّ أن يُنتصرَ من أحد بسبب كذِبه عليَّ، أو ظُلْمه وعدوانه، فإني قد أحللتُ كلَّ مسلم، وأنا أحبُّ الخير لكلِّ المسلمين، وأريد لكلِّ مؤمن من الخير ما أحبُّه لنفسي، والذين كَذَبوا وظلموا، فهم في حلٍّ من جهتي، وأما ما يتعلَّق بحقوق الله، فإن تابوا تاب الله عليهم، وإلاَّ فحُكم الله نافذ فيهم".

يكتب بالفحم في سجنه:
ذَكَر ابن عبدالهادي في "العقود الدرية" عن شيخ الإسلام ابن تيمية في سجنه في آخر مرَّة سُجِن فيها، ومدتها سنتان وثلاثة أشهر وأيام:
قال: "وكان ما صنَّفه في هذه المدَّة قد خرج بعضُه من عنده، وكتَبه أصحابُه، واشتهر وظهر، فلمَّا كان قبل وفاته بأشهر ورَدَ مرسومُ السلطان بإخراج ما عنده كلِّه، ولم يبقَ عنده كتاب ولا ورقة، ولا دواة ولا قلم، وكان بعدَ ذلك إذا كتب ورقةً إلى بعض أصحابه يكتبُها بفحم، ثم قال ابن عبدالهادي: وقد رأيت أوراقًا عِدَّة بعثها إلى أصحابه، وبعضُها مكتوب بفحم".

قال السيوطي في كتابه: "نظم العقيان في أعيان الأعيان" في ترجمة أحمد بن إبراهيم العسقلاني:
"وانتهت إليه رياسةُ الحنابلة، وولي التدريس بغالب المدارس العظيمة، كالجامع الطولوني، والجامع الحاكمي، ومدرسة السلطان حسن، والشيخونية، والجمالية، والمؤيدية والأشرفية، وغيرها.
ثم وَلِي قضاء القضاة بعدَ موْت البدر البغدادي، فباشره بعفَّة ونزاهة، وتواضُع مفرد - بحيث لم يَتخذ له نقيبًا ولا حاجبًا - وترْك تكلُّف، وحُسْن معاشرة، وهذا شأن مَن يكون عريقًا في الرِّياسة أنَّ المنصب لا يزيده إلاَّ تواضعًا، وطرحًا للتكلُّف، والإكرام لا يَزيده إلاَّ لينًا ولطفًا، والأراذل على الضدِّ مِن ذلك إذا ولوا ولاية، ازدادوا تكبُّرًا وترفُّعًا، وإذا أكرموا ازدادوا عتوًّا وطغيانًا، وقد جاء بالإسناد عن السَّلَف قال: "احذروا صولةَ الكريم إذا أُهين، واللئيم إذا أُكرِم، والحرِّ إذا جاع، والعبد إذا شبع".

عالم نحوي:
عيسى بن عمر أبو عمرو الثقفي، البصري، النحْوي، شيخ سيبويه، كان عالمًا كبيرًا، وإمامًا في اللغة والنحو والقراءات، من تلامذته الخليل بن أحمد، والأصمعي، وسيبويه.

وقد لازَمَه سيبويه، وانتفع به، ومن كتبه "الجامع" وقد أخذه سيبويه، فزاد عليه وبسط، فهو كتاب سيبويه المعروف، والذي يطلق عليه النحاة اسم "الكتاب" لشهرته، وكان سيبويه يسأل شيخَه الخليل بن أحمد عمَّا أُشكل عليه من كتاب "الجامع"، فسأله الخليل عمَّا صنَّف عيسى بن عمر، فقال: جمع بضعًا وسبعين كتابًا، ذهبتْ كلُّها إلا كتاب "الإكمال"، وهو بأرْض فارس، وهو الذي أشتغل فيه، وأسألك عن غوامضِه، فأطرق الخليل ساعةً، ثم أنشد:
ذَهَبَ النَّحْوُ جَمِيعًا كَلُّهُ
غَيْرَ مَا أَحْدَثَ عِيسَى بْنُ عُمَرْ
ذَاكَ إِكْمَالٌ وَهَذَا جَامِعٌ
وَهُمَا لِلنَّاسِ شَمْسٌ وَقَمَرْ

وكان عيسى يتقعَّر في كلامه، ويأتي بألفاظ غريبة في مخاطبته للناس، حَكَى الجوهريُّ في "الصحاح": أنَّه سقط يومًا عن حِماره، فاجتمع عليه الناس، فقال: مالكم تكأكأتُم عليَّ كتكأكئكم على ذِي جِنَّة؟! افرنقعوا عنِّي - يقصد: ما لكم تجمعْتُم عليَّ كتجمُّعكم على مجنون، تفرَّقوا عني، قال بعضهم: إني حسبتُه يتكلَّم بالفارسية حين قال هذا الكلام!!



[1] هذان البيتان في معلقة زهير بن أبي سلمى.
[2] (4/52).




الشيخ زيد بن عبدالعزيز الفياض

تاريخ الإضافة: 24/8/2010 ميلادي - 15/9/1431 هجري

 

مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..