الصفحات

الثلاثاء، 4 أغسطس 2015

عفا الله عنك يا معالي الوزير.. كيف استثرت بقرارٍ واحدٍ كلَّ هذا الغثاء؟

لا تربطني بمعالي وزير التعليم الأخ الفاضل الدكتور عزام الدخيِّل؛ أي رابطة شخصية أو عملية على الإطلاق، وقد كنت ممّن فُوجئ، كما فُوجئ هو نفسه - حفظه الله - بقرار تعيينه وزيراً للتعليم. ولئن كنت غير متابعٍ ولا مطلعٍ على ما كان
يتولاه من أعمالٍ قبل تعيينه وزيراً للتعليم، فإنني أشهد شهادةً خالصةً لله، أنني لم أسمع عنه منذ توليه منصبه الوزاري إلا كل خير، كما أعلم أنه قدَّم نفسه للمجتمع ولمنسوبي الوزارة إنساناً مخلصاً لدينه ووطنه، حريصاً على الخير، خلوقاً متواضعاً بعيداً كل البُعد عن المظاهر الزائفة، وإن من أول ما يُحمد له أنه مدركٌ لحقيقة مجتمعه، والكيان الذي ينتمي إليه، والأصول الإيمانية التي قام عليها، وأنه أرهف السمع لنبض مجتمعه وأحسن اختيار مستشاريه، وأنه شرع في تطوير الوزارة على أسسٍ تتوافق مع أهم مكونات مجتمعه ودعائم دولته، مسترشداً في ذلك بتاريخ أمته الطويل وحضارتها العظيمة، ومستفيداً من التجارب الناجحة لدى المجتمعات الأخرى، كما أن مما يُحمد له أن فطرته السوية لم تتلوّث لا بوافدٍ غريب ولا بتالدٍ مريب.
لقد أصدر هذا الوزير المتوقد، قبل أيام قليلة، تعميماً قضى بسرعة معالجة احتياج إدارات التعليم من مدارس تحفيظ القرآن الكريم، وفتح فصول لتحفيظ القرآن في مدارس التعليم العام؛ يلتحق بها مَن يرغب من الطلاب، وفق ضوابط معينة، في حال عدم وجود مقاعد كافية في مدارس تحفيظ القرآن الكريم. هذا القرار غير المستغرب على الإطلاق من قِبل مَن يعرفون حقيقة المملكة وما تقوم عليه، الذين لم تطمس الشهوات أو الانحرافات قلوبهم، كان في نظرهم خطوة متناغمة مع هوية المملكة دولة ومجتمعاً، ففي هذه الأرض نزل القرآن ومنها انطلقت مشاعله في الدنيا كلها، وعلى أساسه وهديه توحّد كيان الدولة السعودية وانعقدت الرابطة بين الولاة والمجتمع فيها، ولا غرو بناءً على ذلك أن يكون القرآن محور اهتمامات هذه الدولة وهذا المجتمع، وإن العيب كل العيب والعار كل العار هو ألا يدرك أحدٌ من أبناء هذا الوطن المبارك قيمة القرآن ومنزلته في مجتمعه ومسؤولياته العظيمة تجاهه، وأن يجهل ضرورة تربية النشء على قيمه وتعاليمه.
لقد فرح الصالحون والغيورون على الدين والوطن بالقرار الموفق وتسابقوا في الإشادة به والدعاء لمَن كان وراءه، لكن بعضاً ممّن طمس الله على قلوبهم، وحُرموا من نعمة التعلُّق بالقرآن، ضاقت بهم الأرض بما رَحُبت وضجوا بالنكير على الوزير، ونعتوه بالتخبط وبالانتكاس بالتعليم، وبلغت الحماقة عند بعضهم دركاً هابطاً جعله يحذّر الوزير ويصف قراره بأنه "أدلجة" للتعليم ويضعه رهينة في أيدي أهل التحريض والتأزيم.
إن من نعم الله - عزّ وجلّ - أن هذا القرار الصائب كشف عن مخبوء صدور مَن طمس الله على قلوبهم، وأظهرهم على حقيقتهم، وبيّن إلى أي مدىً هم منسلخون عن مكونات هوية مجتمعهم، وإلى أي مدى يجمعون بين الجهل وسوء الطوية، فقد حرمهم جهلهم من معرفة أن القرآن الكريم أعظم ما شرّف الله به أمتهم، وأنه النور الذي أشرقت به القلوب وأضاءت البصائر، وأنه السبب الأكبر لحفظ لسان أمتهم على مدى خمسة عشر قرناً، وأنه من أهم ما أعان ويعين الدارسين على إتقان اللغة التي هي وعاء الفكر والعلم معاً. وإن من جهلهم أنهم لم يتعرفوا على حقيقة مدارس تحفيظ القرآن وطبيعة مناهجها فظنوا - بحماقة وسطحية - أنها لا تقوم إلا بتحفيظ القرآن الكريم، في حين أنها تطبق المنهج الدراسي الذي تطبقه المدارس العامة بحذافيره، مضيفة إليه عنايةَ خاصةَ بالقرآن الكريم وعلومه وحفظه، بل لقد بلغت بهم الوقاحة إلى حد وصف مدارس تحفيظ القرآن بأنها معاقل لتخريج المتطرفين والإرهابيين، ولو قاموا بواجبهم الأخلاقي في البحث قبل القول بلا علم لوجدوا أن هناك دراساتٍ وبحوثاً أكاديمية كثيرة، الأغلبية العظمى منها دراسات تطبيقية، أثبتت جميعها بشكلٍ قاطع أن المتخرجين في مدارس تحفيظ القرآن متفوقون على أقرانهم من المتخرجين في مدارس التعليم العام، وأن هناك علاقة طردية بين تعلُّم القرآن وتطوّر القدرات اللغوية والتحصيل العلمي عند الدارسين؛ بل إن معظم المتخرجين من مدارس تحفيظ القرآن يتميّزون بالاستقامة الفكرية والأخلاقية والسلوكية عن كثير من أقرانهم، ولمَن أراد التعرُّف على هذه الحقائق فما عليه إلا أن يعود إلى الدراسات الكثيرة التي عنيت بالعلاقة بين تعلُّم القرآن وحفظه وبين تطور الملكات اللغوية لدى الدارسين وتطور المهارات الأخرى لديهم، ومن تلك الدراسات؛ الدراسة التي أجراها الأستاذ الدكتور محمد رواس قلعة جي بعنوان "دور القرآن الكريم في تنمية المهارات الأساسية لتلاميذ المرحلة الابتدائية"، والدراسة التي أجراها الدكتور يحيى الببلاوي بعنوان "أثر تحفيظ جزء (عم) في تقويم لسان طفل العام السادس"، والدراسة التي أجرتها الدكتورة هانم بنت حامد ياركندي بعنوان "الفروق في مهارات القراءة والإملاء والحساب بين طالبات تحفيظ القرآن الكريم والمدارس العادية"، والدراسة التي أجرتها الباحثة القطرية بنت علي السويدي بعنوان "العلاقة بين حفظ القرآن وتلاوته ومستوى الأداء لمهارات القراءة الجهرية والكتابة لدى عيّنة من تلاميذ وتلميذات الصف الرابع الابتدائي بدولة قطر"، وقبل هذا وبعده وأهم منه عليهم الاطلاع على الدراسة التحليلية المستفيضة التي أعدّها الدكتور فهد بن سعد الحسين؛ ونشرها في مجلة "المعرفة" بتاريخ 28 / 3 / 2012م، عن نتائج اختبارات المركز الوطني للقياس والتقويم في التعليم العالي، وهو المركز الذي أُسس عام 1421هـ في المملكة العربية السعودية بأمرٍ سامٍ؛ ليكون مركزاً متخصّصاً مستقلاً يشرف على اختبارات القياس والتقويم في المملكة العربية السعودية ويتولى من خلال اختبارات علمية مقننة تحديد مستوى طلاب وطالبات الثانوية العامة في مجالي التحصيل الدراسي والقدرات العامة. فقد أظهرت هذه الاختبارات التي تمّت على مدى سنوات عديدة وطُبقت على جميع المدارس الثانوية في المملكة العربية السعودية تفوّق مدارس تحفيض القرآن بشكل كبير على جميع المدارس والمعاهد الثانوية الأخرى في المملكة، كما أظهرت استحواذها شبه الكامل على المراتب الأولى في قسمَي البنين والبنات؛ ليس فقط  في اختبارات التحصيل الدراسي، وإنما في اختبارات القدرات العامة كذلك، التي شملت قياس القدرة على فهم المقروء، والقدرة على إدراك العلاقات المنطقية، والقدرة على حل مسائل مبنية على مفاهيم أساسية، والقدرة على الاستنتاج، والقدرة على القياس. وإن من المهم التنويه إلى أن هذه النتائج الباهرة ظهرت بشكل عفوي وغير مقصود؛ حيث إن الاختبارات طُبقت على مدى سنوات لتحديد مستوى الطلاب والطالبات بشكل عام دون النظر إلى نوع مدارسهم أو مدارسهن.
ورحم الله عالم الاجتماع الكبير ابن خلدون الذي قال في مقدمته الشهيرة ما نصّه: "ويظهر لك من هذا الفصل، وما تقرّر فيه سر آخر، وهو إعطاء السبب في أن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة وأذواقها من كلام الجاهلية، في منثورهم ومنظومهم، فإنا نجد شعر حسان بن ثابت وعمر بن أبي ربيعة والحطيئة وجرير والفرزدق ونصيب وغيلان وذي الرمة والأحوص وبشار، ثم كلام سلف من العرب في الدولة الأموية وصدراً من الدولة العباسية، في خطبهم وترسيلهم ومحاوراتهم للملوك أرفع طبقة في البلاغة بكثير من شعر النابغة وعنترة وابن كلثوم وزهير وعلقمة بن عبدة وطرفة بن العبد، ومن كلام الجاهلية في منثورهم ومحاوراتهم، والطبع السليم والذوق الصحيح شاهدان بذلك للناقد البصير بالبلاغة، والسبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث، اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثليهما، لكونها ولجت في قلوبهم ونشأت على أساليبها نفوسهم، فنهضت طباعهم وارتقت ملكاتهم في البلاغة عن ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية، ممّن لم يسمع هذه الطبقة ولا نشأ عليها، فكان كلامهم في نظمهم ونثرهم أحسن ديباجة وأصفى رونقاً من أولئك، وأصفى مبنى وأعدل تثقيفاً بما استفادوه من الكلام العالي الطبقة، وتأمل ذلك يشهد لك به ذوقك إن كنت من أهل الذوق والتبصر" (انتهى كلام ابن خلدون) . فسبحان من حرم من طمس الله على قلوبهم من أن يكونوا من أهل الذوق والتبصّر.
وإني والله لأعجب كل العجب كيف أعمى الله - عزّ وجلّ - أبصار هؤلاء وبصائرهم عن إدراك أن قرار الوزير - حفظه الله - لم يكن سوى ترجمة عملية لإرادة ولاة الأمر!، وكيف لم يدركوا أنه منذ عهد الملك عبدالعزيز - رحمه الله - وإلى اليوم وملوك المملكة يتسابقون في دعم المشاريع المتعلقة بالقرآن وحفظه، وما مجمع الملك فهد - رحمه الله - لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوّرة إلا واحدٌ من الشواهد على ذلك، وكيف لم يفطنوا إلى أن خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - كان الداعم الأكبر والرئيس الفخري للجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم في منطقة الرياض على مدى عقود!، بل كيف غاب عنهم أن هناك مشروعاً عالمياً ضخماً تشرف عليه جمعية تحفيظ القرآن الكريم في مدينة جدة اسمه "مشروع الأمير سلمان بن عبدالعزيز لتعليم القرآن عن بُعد"، وأن خادم الحرمين الشريفين قد تبرّع له قبل أقل من عام بمبلغ ستة ملايين ريال! إنه الجهل الذي ما بعده جهل، وإن من أعظم الجهل وسوء الطوية أن يربط من طمس الله على قلوبهم بين تعليم القرآن وحفظه وبين التطرُّف والإرهاب، بل إن من أعظم المصاب أن يكون هؤلاء من أبناء هذا المجتمع الذي أعزّه الله بالإسلام وأكرمه بأكبر حركة إسلامية إصلاحية تجديدية في تاريخ المسلمين الحديث.
إن تكثيف العناية بمدارس تحفيظ القرآن الكريم وافتتاح فصول في المدارس العامة تتبع منهج مدارس تحفيظ القرآن لا يعني على الإطلاق أن ذلك سيكون على حساب مواد التعليم الأخرى، أو أن الوزارة لا تولي العلوم الأخرى الاهتمام اللائق بها؛ بل كل ما يعنيه هو أن الوزارة تدرك قيمة القرآن في حياتنا، وتحرص على تحقيق ما يأمر به الدين من الجمع بين الروح والمادة، والأخلاق والعلم، وأنها تبني قراراتها على أساس الدراسات العلمية التطبيقية التي لا يجادل فيها إلا مكابر أو معاند، وكل مطلع على مناهج التعليم في المملكة يدرك أن العناية بالعلوم البحتة لا تقل عن العناية بالعلوم الشرعية، ولا تضاد بين العنايتين وإنما هما مكملتان لبعضهما بعضا، وإن ما يصرح ويلمح به بعض من طمس الله على قلوبهم من ربط بين تحفيظ القرآن بوجه خاص والتدين بوجه عام وبين التخلف العلمي، تدحضه الحقائق الواقعية، فمعظم المبرزين في الجامعات سواء من الطلاب أم من أعضاء هيئة التدريس هم من المتدينين، وكثير منهم ممّن درس في مدارس تحفيظ القرآن، بل إن كثيراً من العاملين في القطاعات الحيوية والشركات الكبرى في وطننا الغالي؛ إن لم نقل الأغلبية العظمى هم من المتدينين ولله الحمد، واسألوا إن شئتم "سابك" ومصانعها للبتروكيماويات واسألوا المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة، واسألوا مدينة الملك عبدالعزيز، واسألوا عن الأطباء والمهندسين والمهنيين بجميع تخصّصاتهم ، وستظهر لكم الحقيقة ناصعةً لا تخفى إلا على من في قلوبهم زيغٌ.
 إن المملكة العربية السعودية مهبط الوحي وقبلة المسلمين ومحضن الحرمين الشريفين ومثوى خير الأولين والآخرين، ومنها انطلقت حركة الدعوة والتجديد التي قادها الإمامان محمد بن سعود؛ ومحمد بن عبدالوهاب، رحمهما الله، وهي أولى الناس كل الناس برعاية القرآن الكريم وتعليمه وتربية أجيالها عليه، بل إن من أوجب واجباتها أن يكون القرآن محور وجودها ودستور جميع شؤونها وأن يكون أبناؤها هم حفظته وحملة مشاعله وراياته في العالمين، وإن كل معترض على هذا النهج ما هو في حقيقة الأمر إلا جاهلٌ موغلٌ في الجهل أو عدوٌ ليس للدولة والمجتمع فحسب، وإنما عدو للفضيلة والدين،  وما أصدق إمام الحرم فضيلة الشيخ الرباني سعود الشريم - حفظه الله - حين علّق على ما أثاره بعض مَن شغبوا على قرار الوزير، بقوله: "الذين كرهوا قرار تحفيظ القرآن بالمدارس إنما خصومتهم مع دين الله لا مع مَن أقرّه".
ستظل المملكة - بإذن الله وتوفيقه - أكبر راعية للقرآن وحفّاظه، وسيبقى القرآن الكريم دستورها ونبراسها في كل شؤونها، وسيبقى المجتمع السعودي - بإذن الله - متعلقاً بقرآنه حريصاً على تلاوته وحفظه وتربية أبنائه وبناته على حبه والعناية به والاهتداء بهديه، رغم أنف من طمس الله على قلوبهم، ومهما شكّك المشكّكون وتربص المتربصون، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

19 شوال 1436-2015-08-0301:45 PM
د . أحمد  التويجري






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..