الصفحات

الثلاثاء، 12 يوليو 2016

مشاهدات الزبير اليوم وذاكرتها ... مدينة لتجمع حضري نجدي في العراق

     ظلت هضبة نجد ومدنها وقراها لقلة أمطارها وندرة مصادر الرزق فيها بيئة مانعة لتشكل تجمعات حضرية كبيرة. والى حد كبير يمكن اعتبارها بيئة طاردة أكثر منها جاذبة للهجرة، وبقيت كذلك على مدى آلاف السنين، ولربما كانت أكثر الهجرات كثافة منها تلك التي صاحبت الفتح الإسلامي للعراق والشام ومصر.
وموضوع الهجرات النجدية عبر السنين الى المحيط الشمالي للجزيرة العربية متشعب، وقد لا تروي ظمأه عشرات بل مئات الكتب. وما دعا الى مراجعة هذا الموضوع هو أن الحرب الأخيرة سلطت الأضواء على مدينة عزيزة على قلوب النجديين وعلى أهل هذه المدينة المنتشر أكثرهم في المملكة العربية السعودية والكويت. اذ ان الحديث عن هذه المدينة وأهلها سيأخذنا الى الحديث عن أهل نجد، وعن رحلاتهم على جمالهم للتجارة، ولتلمس طرق لمواطن أغنى وأكثر استقراراً.
هذه المدينة هي الزبير التي تقع على بعد 15 كيلومتراً جنوب غربي البصرة، وظلت منذ نشأتها في أواخر القرن السابع عشر وحتى آخر الخمسينات من القرن الماضي مدينة نجدية بأهلها وعمارتها وبطابعها العام، على رغم ملاصقتها لمدينة البصرة التي تبعد عن نجد أكثر من 500 كيلومتر. ولا يمكن فهم الخوض في تاريخ هذه المدينة من دون مراجعة عميقة ومتلازمة لتاريخ العراق والكويت ونجد، إضافة الى تاريخ الهجرات النجدية في القرون الأربعة الماضية الى العراق والشام وبالذات الى تاريخ "العقيلات" الذين يذكر عبدالعزيز عبدالغني إبراهيم في كتابه المميز "نجديون وراء الحدود" الصادر عن دار الساقي أنهم "رحلوا الى مناطق عدة من نجد تدفعهم ظروف الجدب أو عوامل انفراط الأمن، أو لقيامهم بالمعارضة السياسية التي استلزمت جلاءهم أو إجلاءهم، كما خرج كثير منهم مدفوعاً بالسعي في طلب الرزق والبحث عن حياة أفضل. واستقرت طلائع أوائل النفر الذين حلوا من نجد في الزبير بأرض العراق، وعمروها وكان ذلك مع إرهاصات قيام الدولة السعودية الأولى، ثم تفرقت بهم السبل فاستقر بعضهم في البصرة وآخرون في بغداد أو بعض الحواضر الصغيرة بينهما.
توزعت أهواء أهل نجد في تحديد اتجاهات سفرهم وهجراتهم، فكثير من النجديين اتبعوا مسارات مختلفة للهجرة، وبعضهم اتجه شمالاً والى مدن الشام وفلسطين واستقروا في مدن عدة في سورية أهمها دمشق، فيما استقر بعضهم الآخر في مدن فلسطين وأهمها مدينة نابلس في الضفة الغربية. ويذكر أن أهل القصيم وهي من المناطق المهمة في نجد، وتقع فيها مدينتا بريدة وعنيزة، فضلوا السفر الى العراق والشام. اذ فضل أهل المدينة الأولى مدن العراق فيما فضل أهل الثانية مدن الشام. واندمج كثير منهم بالتجمعات الحضرية التي استقروا فيها مثل منطقة العقيلات في بغداد وحي الميدان في دمشق، وغلبت على لهجتهم وطبائعهم مع مرور الوقت لهجة وطبائع هذه الحواضر الكبيرة التي استقروا فيها. إلا أن حال النجديين الذين استقروا في مدينة الزبير ظلت استثنائية، اذ حافظوا على لهجتهم التي يغلب عليها طابع لهجة أهالي مدن وقرى المجمعة وحرمه وحريملاء التي تقع في منطقة سدير في نجد، وحافظوا على عاداتهم، فأصبحت هذه المدينة مخزوناً مبهراً لتاريخ أهل نجد وطبائعهم وعاداتهم على أرض العراق، الى درجة أن الملك عبدالله بن الحسين تساءل عندما زارها عام 1941 بعد ثورة رشيد عالي الكيلاني: "هل أنا في نجد أم في العراق؟". وتميزت المدينة بأن أكثر العائلات التي تولت الإمارة عليها كانت تنتمي الى مدينة حريملاء في نجد، بغض النظر عن انتمائها القبلي، وهو ما لم يحدث في الدول أو الإمارات الواقعة على الخليج العربي.
ولا شك في أن تحول الزبير الى حاضرة تجذب الهجرات النجدية يرجع الى قربها من مدينة البصرة، فهي أرض بين البادية والصحراء، مما وفر للنجدي القرب من مركز تجاري وزراعي وحضري من جهة والمحافظة على الاستقلالية والتميز وتشابه البيئة في تلك التي تركها خلفه في نجد. ويذكر عبدالعزيز عبد النبي إبراهيم في كتابه المشار إليه: "انها كانت في طريق القوافل التي تعبرها من الإحساء الى الشام، وكان لرغاء الإبل فيها الوقع النفسي الذي يجعل النجديين يطمئنون الى المكان، ويمارسون بعض الأعمال التي ألفوها في مناطقهم الطبيعية". إلا أن هناك عاملاً آخر ساهم في تحول هذه البقعة من الأرض الى مدينة. اذ قام السلطان العثماني سليم الثاني عام 1689 ببناء مسجد عند قبر الصحابي الزبير بن العوام، ثم أقام قبة على قبره جذبت الناس الى التوافد إليها للسكن قرب الضريح والتبرك به و"طلباً للرزق من قاصديه من العثمانيين".
وقدر جون كارمايكل سكان الزبير التي زارها عام 1751 بنحو 700 فرد. وزار الزبير بعد ذلك الرحالة الدنماركي نيبور عام 1765. ويذكر عبدالعزيز إبراهيم في كتابه "نجديون وراء الحدود" أن لوريمر زار الزبير في أواخر القرن التاسع عشر، وقدر سكانها بنحو 6000 نسمة، كلهم من المسلمين السنّة، وأنه كان لكثير من وجهاء البصرة وأثريائها مساكن في الزبير يفدون إليها في فصل الصيف، نظراً لجفاف هوائها. وينقل إبراهيم عن لوريمر أنه: "أما بالنسبة الى التجارة فكانت هذه المدينة سوقاً مهماً بالنسبة الى المناطق المحيطة بها خصوصاً قبائل البدو، وكان الكثير من السكان يتخذون حرفاً أخرى إضافة الى التجارة، وكانت البلدة تصدر الجص والجبس والجير والصنادل والسروج التي هي من نتاجها الذاتي". وتضمن ذلك ما نشر في "دليل الخليج" للوريمر في أواخر القرن التاسع عشر والذي ألّفه بتكليف من قسم الخدمات الفنية بحكومة الهند التي كانت تشرف على المصالح البريطانية في الخليج.
كما زار الزبير المستشرق الفرنسي الكبير ماسينون عام 1905 وقدر عدد سكانها آنذاك بخمسة آلاف، وهو كان أستاذاً لطه حسين ولكثير من المتخصصين بالدراسات الإسلامية، وألّف كتباً عدة عن الإسلام، أهمها عن التصوف الإسلامي والشخصيات الإسلامية التي اضطهدت نتيجة لغلوها في هذا المجال. واهتم ماسينون بما أطلق عليه "الشخصيات القلقة في التاريخ الإسلامي"، واشتهر بكتابه عن "أخبار الحلاج".
وكم من مشقة وجهد تحملهما هذا المستشرق الفرنسي ليأتي الى الزبير من باريس في مطلع القرن العشرين. ولكن ليهتم العالم بالشخصيات الإسلامية القلقة كان لا بد من زيارة الأرض التي نشأ على أرضها كثير من الشخصيات المميزة والمثيرة للجدل. وأي أرض تثير التوتر والقلق أكثر من تلك التي اقتتل فيها صحابة رسول الله رضي الله عنهم. ففي الزبير كانت واقعة الجمل في 36 هـ. اذ شيدت مباني الزبير على أرض البصرة القديمة نفسها التي كان لعلمائها الريادة في البحث في الفقه واللغة والفلسفة وعلوم الطبيعة على أرض العراق في القرون الهجرية الثلاثة الأولى. كما زار الزبير الأديب اللبناني بطرس البستاني، وكان ذلك خلال الفترة التي كان يعمل فيها مع الادارة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. ونقل المؤرخان عبدالرزاق الصانع وعبدالعزيز العلي في كتابهما "إمارة الزبير بين هجرتين" عن دائرة المعارف لهذا الأديب بعض انطباعاته عن هذه المرتبة حيث ذكر "ان الزبير يبلغ عدد سكانها عشرة آلاف نسمة معظم تجارتهم الخيل ترسل منها الى البصرة فإلى الهند وليس لها زراعة ذات شأن، فيزرع في ضواحيها شيء يسير من الحنطة والشعير ولا يقوم بماء المطر لقلته عندهم فيسقى بماء القليب وهي آبار يحفرونها لتلك الغاية. معظم معروشاتها الأثل وهو شجر يشبه الأرز لا يستفيدون منه إلا للوقود. ويعمل ذوو اليسار منهم على التملك بأرض البصرة. وهم جميعاً مسلمون حنابلة مشهورون بكرم الأخلاق والذكاء وإكرام الغريب إلا أنهم على عظيم من التهاون تلجئهم إليها قلة الأشغال".
وكأي مدينة عربية يكون للأدب والشعر بخاصة دور مهم في تكوين ذاكرتها التاريخية والمتعارف على درجة وعي أهلها. وعرفت الزبير في تاريخها الذي امتد ما يزيد على ثلاثة قرون شعراء كثيرين أهمهم حميدان الشويعر وابن ربيعة وابن غنيم وابن لعبون وآخرون. وللأول قصيدة جميلة يصف فيها كم تحسنت أحواله عندما خرج من نجد وما وصل إليه من سعة عندما وصل الى الزبير. أما الأخير ابن لعبون فولد في ثادق عام 1205 هـ وانتقل الى الزبير عندما بلغ السابعة عشر وعاش فيها ثم انتقل الى الكويت وعاش فيها الى أن توفي هناك عام 1247 هـ. وفي العصر الحديث عرفت الزبير أدباء كثيرين بعضهم عرف أدبه على نطاق العالم العربي. ولعل من أهمهم الشاعر محمود البريكان والأديبان نجيب وسميرة المانع.
وتردد اسم مدينة الزبير كثيراً في الحملة العسكرية الأميركية - البريطانية على العراق. وكانت هدفاً للقوات البريطانية، فيما توجهت القوات الأميركية بمحاذاة جبل سنام ثم غرب الزبير نحو الناصرية. ولم تكن هذه المرة الأولى التي تدخل القوات البريطانية الزبير. اذ دخلتها للمرة الأولى عام 1915 بقيادة الجنرال تاونزند الذي انتهى به المطاف الى الاستسلام للقوات التركية مع عشرات الألوف من جنوده في الكوت، أخذ بعدها أسيراً الى الأستانة. إلا أنه كما هو معروف فإن القوات البريطانية استعادت المبادرة بعدما عين الجنرال مود وأرسلت قوات جديدة ليتمكن من دخول بغداد بعد ذلك بنحو سنة. كذلك دخلت القوات البريطانية الزبير خلال الحرب العالمية الثانية. إلا أن دخولها الأخير وبسبب التغطية الإعلامية المكثفة المدعومة بأحدث وسائل تكنولوجيا الاتصالات كان أمام أنظار العالم، خصوصاً بعد أن اكتشف فيها رفات لمئات الرجال الذين قتلوا في حروب سابقة. وظهر جدل حول أسباب مقتلهم. لكن إيران حسمت الجدل بعدما أعلنت ان الصناديق هي لرفات جنود إيرانيين قتلوا في الحرب العراقية - الإيرانية، كان اتفق على تسليمها قبل نشوب الحرب الأخيرة. ويبدو أن الرواية الإيرانية هي الأقرب الى الصحة، لأنه ما كان للنظام العراقي أن يضع رفات ضحاياه في صناديق عند تسليمهم الى أهلهم أو لدفنهم.
ما كان لأهل الزبير الذين عرفوها في الخمسينات من القرن الماضي مدينة مسالمة ومتجانسة الى حد كبير أن يتوقعوا دخول الحروب والمآسي مدينتهم. فخلال هذه الفترة التي بدأت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، شهدت الزبير ازدهاراً واستقراراً أدى الى نمو في التجارة والتعليم. وفي تلك الفترة تكونت طبقة تجارية طموحة لعبت دوراً رئيساً في الحركة التجارية لمدينة البصرة، بل أن كثيراً من تجار الزبير امتدت تجارتهم لبغداد التي أسسوا فيها مكاتب تجارية، وبعضهم استقر فيها. كما ساعدت على ازدهار الزبير التحويلات المالية اليها من العاملين من أهلها في الكويت والسعودية، إضافة الى ما تنتجه مزارع الزبير من طماطم وقرع وبطيخ. كما ازدهر التعليم فيها والذي بدأ بتأسيس مدرسة النجاة الأهلية عام 1921، حيث يتلقى الطلاب التعليم فيها مجاناً، واعتمدت هذه المدرسة على تبرعات التجار في استمراريتها واستقدمت مدرسين فلسطينيين بعد نكبة 1948 ليدعموا هيئتها التعليمية من المدرسين النجديين. إلا أن ازدهار التعليم في العراق في تلك الفترة امتد الى الزبير. وفتحت الحكومة العراقية مدارس كثيرة للبنين والبنات، في المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية، وكان أولها مدرسة الزبير الابتدائية التي تأسست عام 1932. وأرسل الزبيريون أبناءهم وبناتهم لتلقي تعليمهم في جامعتي البصرة وبغداد.
ومع تفاعلهم الثقافي والتجاري والإنساني مع المجتمع العراقي المحيط بهم إلا أن أهل الزبير احتفظوا بخصوصيتهم وعاداتهم النجدية. وظلت علاقات نخبة مجتمع هذه المدينة مع القنصلية السعودية في البصرة من الأمور المسلّم بها. وقد زار المغفور له الملك سعود بن عبدالعزيز هذه المدينة عام 1957، واحتفل أهل الزبير بزيارته معبرين عن شعور عميق من المحبة احتفظوا به لأجيال متعاقبة مؤكدين أن بعد المسافات عن ديار أجدادهم لا يعني أبداً بعد القلوب.
وباستثناء العمل في المدارس التي أسستها الحكومة العراقية لم ينخرط الزبيريون في العمل بمؤسسات الدولة العراقية إلا نادراً. كما انهم لم يستفيدوا من وجود شركة نفط العراق الانكليزية التي كانت تستغل الثروة النفطية لحقول تمتد مكامنها الى بيوتهم. ولا يعرفون عن النفط الذي يستخرج من أرضهم إلا احمرار السماء ووهجها بعد الغسق، أو أن ينبهوا الى عدم الاقتراب من أسوار الشركة عندما يذهبون الى غابات الأثل التي زرعوها على مدى عشرات السنين كمصدر للطاقة ولتقليل أضرار العواصف الترابية عن مزارعهم. فالزبير التي تقع بقربها حقول الرميلة، إضافة الى حقول الزبير، معروفة في دوائر المهتمين بشؤون النفط والطاقة سواء في لندن أو روتردام، لكن بالتأكيد لم يعها أهل الزبير ولم يستفيدوا من هذه الثروة إلا القليل خصوصاً إذا ما قورن ذلك بحجمها وحاجة أهل الزبير البسيطة. ولعزلتهم عن أثر هذه الثروة كانوا لا يدركون الأهمية الإقتصادية لمدينتهم أو يعلمون بوجود هذا المخزون النفطي الكبير فيها. فعندما التحق أحد أبناء المدينة بجامعة بغداد في منتصف الخمسينات، وسأله الأستاذ عن أهمية الزبير للاقتصاد العراقي، ظنه للوهلة الأولى يسأل عن مزارع القرع والبطيخ، اذ كانت المزارع أكثر التصاقاً بمصالح أهل الزبير من حقول النفط المترامية. إلا أن هذه الحقول ووجود شركة نفط العراق الانكليزية كانا عاملاً مهماً في تغيير التركيبة الديموغرافية للمدينة. فعندما بدأت تعمل، استقطبت مهندسين وعمالاً من مدن عراقية مختلفة وأسكنتهم في منطقة المربد ملتقى الشعراء قديماً، بعضهم جاء بخبرات سابقة من كركوك وآخرون من مدن وأرياف العراق البعيدة من أجل وظيفة بسيطة مع هذه الشركة.
كان ذلك من البدايات المهمة التي خففت من الطابع النجدي لهذه المدينة. ولم يرحب أهل الزبير، مثل أي مدينة محافظة في العالم، بهذا التغيير الديموغرافي الجديد. لكن حدث انسجام كبير بين أهالي الزبير وأهالي قضاء الخصيب وقراه الواقعة في جنوب البصرة، وذلك لتملك أهالي الزبير أراضي مزرعة بالنخيل في هذه المناطق ولتقارب في العادات، ولانتماء الطرفين الى المذهب السنّي.
لكن يظل ما هز العراق وأربك وتيرة الحياة فيه ما حدث بعد ثورة 14 تموز يوليو وهو نفسه الذي أدى الى تسارع اضمحلال هذا التجمع الحضري الفريد. اذ أدت دموية الحدث وما أعقب ذلك من صراع على السلطة وانحدار في المنطق وتحوله الى ممارسات عنيفة وانتقامات عشوائية، الى جرح قلوب كثير من المخلصين الذين لم يسمح لهم بالتعبير عن أنفسهم في حينه، وأسدل على بلاد دجلة والفرات حجاباً من الكآبة واليأس لم يرفع منذ ذلك التاريخ. وكان أهل الزبير من المتضررين من هذه الأحداث، اذ فوجئوا بفيضان الأحداث السياسية العراقية نحوهم وهدد عدم الاستقرار والسياسات الإقتصادية المتذبذبة للجمهورية العراقية مصالحهم وأعمالهم، ليؤدي ذلك الى دفع أكثرهم الى المضي بهجرة معاكسة نحو المملكة العربية السعودية والكويت، فالعلاقات العائلية والاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي الذي عم المملكة والكويت جعلهما ملاذاً لأهل الزبير. وكان لموقف المغفور له الملك فيصل بن عبدالعزيز الذي أصدرت في عهده وزارة الداخلية قراراً بتاريخ 7/2/1392 هـ بالموافقة على منح النجديين المقيمين في العراق فرصة العودة الى جنسية بلادهم الأصلية الأثر الكبير بفتح باب المستقبل من جديد لأهالي الزبير. وكانت عملية الهجرة المعاكسة قد بدأت فعلاً منذ الحرب العالمية الثانية، لذا كان النجاح التجاري مصاحباً للعائلات التي بدأت هجرة مبكرة نسبياً. اذ استفادت من الفرص التي سنحت خلال الفترة الأولى من الازدهار الاقتصادي الذي عم المملكة في أول الخمسينات. فيما تأخرت العائلات التجارية التقليدية في الزبير في هجرتها وذلك لارتفاع مستوى معيشتها في العراق آنذاك. وحققت هجرة الزبيريين العكسية الى أراضي أجدادهم نجاحات كبيرة لهم في مجالات التعليم والاقتصاد، وشغلوا مراكز علمية واقتصادية مهمة مستفيدين مما حصلوا عليه من تعليم راق في المدارس والجامعات العراقية، واندمجوا سريعاً في مجتمعهم الجديد. ومنذ الستينات ظهرت أجيال جديدة لا تعرف عن الزبير إلا ذكريات تسمع على لسان الآباء والأجداد، يتحدثون عن الزبير ومناطقها وشوارعها لأطفال شبوا بعيداً منها وكثيراً ما صدموا بعد زيارتها للمرة الاولى لبدائية بناء منازلها مقارنة بما اعتادوه في الكويت والرياض والخبر والدمام. وأدت هذه الحرب الى هجرة آخر بقايا لتجمع نجدي في الزبير. فعندما نشبت، لم يكن عدد النجديين في الزبير أكثر من مئتي فرد، معظمهم من كبار السن من الرجال والنساء الذين كانوا يعتمدون على مساعدات من أبنائهم وأقاربهم الآخرين في السعودية والكويت. اذ تلاشى حضورهم في هذه المدينة التي بدأ أجدادهم تشييدها منذ أكثر من ثلاثة قرون والتي أصبحت تضم عشية الحرب الأخيرة ما يقارب مئة ألف نسمة. وكما أصاب معظم العراق، أفضت الحرب الى انهيار تام للأمن مما شكل خطورة كبيرة على حياتهم وقلقاً كبيراً لدى أقاربهم الذين يعيش معظمهم في السعودية.
ومنذ الأيام الأولى للحرب، بذل كثيرون في الكويت جهوداً وعرضوا أنفسهم لمخاطر من أجل تجميع هؤلاء الزبيريين ونقلهم عبر الكويت الى السعودية. وكانت للجهود التي بذلها الشيخ أحمد فهد الأحمد وزير النفط ووزير الإعلام الكويتي وأخيه الشيخ عذبي الأثر الكبير في نجاح عملية نقل هؤلاء بسلام من الزبير في ظل ظروف صعبة وخطيرة. وما كان لهذه العملية أن تتم من دون عطاء من النفس قبل المال من قبل رجل الأعمال الكويتي عبدالعزيز البابطين، الذي عرف بأعماله الخيرية في الكويت والعالم العربي والإسلامي والذي عرف كذلك بدعمه للأدب والأدباء.
ترك أهل الزبير النجديون وراءهم بيوتاً وأراضي في البصرة مزروعة بالنخيل. هذا النخيل الذي كان يثمر بالبرحي والحلاوي والبريم، وينقل طازجاً الى الزبير يومياً على عربات تجرها الخيول وبعدها بالسيارات. لكن الحروب التي توالت على البصرة وتعرضها للقصف الإيراني على مدى الثمانينات ثم حروب أخرى وقصف أكثر حداثة، عرضت مزارع النخيل للحرائق والجفاف. وكان الأخير بسبب دفن الأنهر لمرور الدبابات والعربات الأخرى للجيش العراقي عندما تحولت هذه البساتين ساحات حرب ضروس. وانتهت هذه البساتين الغنية لأن تكون أرضاً يباب. وصورت الشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة المقيمة في كاليفورنيا معاناة هذا النخل من الحروب، معبرة عن ذلك بلسان فلاح أميركي اسمه لي أندرسن هو بنفسه يزرع النخل وقد تألم عندما شاهد على شاشة التلفاز النخل محترقاً قائلة:
كنا نتبادل مع لي أندرسن/ أخبار النخل وما أكثرها/ ونعود بأعذاق خلال البرحي/ وصناديق الخضراوي/ في موسم ما بعد الحرب/ كان حزيناً جداً لي أندرسن/ شاهد في التلفاز/ صور النخل المحروق على مد البصر/ منتصباً أعمدة سوداء/ كنساء بثياب حداد/ وثكالى بغداد/ منتصباً يقف النخل المحروق على مد البصر/ شهداء لم تدفن/ ليذكر بالحرب العبثية/ ترثيه الريح/ وتعول نادبة:/ حتى النخل ضحية؟/ حتى النخل ضحية؟
لكن وبعد أكثر من أربعة عقود لم تعد هذه الأرض تنشد الأمل فقط وإنما بدأت تراه عن قريب. وستظل هذه المدينة، والبصرة والعراق بأكمله دائماً عزيزاً على قلوب أهل الزبير والنجديين عموماً. هذا البلد الذي كان كريماً عليهم بعلمه وتمره وأرزه تمنه وحنطته.
* كاتب كويتي.


تفاصيل النشر:

المصدر: الحياة
الكاتب: حامد الحمود العجلان
تاريخ النشر(م): 3/5/2003
تاريخ النشر (هـ): 2/3/1424
منشأ:
رقم العدد: 14649
الباب/ الصفحة: 17 - تحقيقات


مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..