الصفحات

السبت، 25 مارس 2017

مؤتمر حرية التعبير.. هل نحن إزاء "سلفية جديدة"؟!

         وأنا بوسط القاعة التي تمّ فيها افتتاح مؤتمر "الاتجاهات الفكرية وحرية التعبير" الذي نظمه الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي الأسبوع الفارط؛ شُدهت وأنا أتفرّس في وجوه صفوة علماء الإسلام الذين تقاطروا من كل القارات الخمس، وهمست لصديقي : "استجابة وتقاطر هؤلاء العلماء للحضور للمؤتمر؛ دليلٌ على مكانة هذه البلاد، وهذه الرابطة، في وجدانهم، فضلا على أهمية الموضوع الذي جاءوا لمناقشته".
البعض من هؤلاء العلماء أتى القاعة على كرسي متحرك كالشيخ يوسف القرضاوي، دعك من سماحة الوالد عبدالعزيز آل الشيخ الذي حضر رغم الوعكة التي تلمّ به، وألقيت كلمته نيابة عنه، ورغم ذلك حرص على حضور معظم الجلسات، دلالة على أهمية هذا المؤتمر الذي وفقت أمانة المجمع الفقهي في اختيار موضوع حساس وهام، أدخل العالم الإسلامي في فتنة كبيرة قبل عام، وتلظّت به الأمة أيضا مع الغرب في مفهومه لحرية التعبير إبان الرسوم الكاركاتورية في الدانمرك، ثم في فرنسا.
بعد قراءتي للبيان الجامع المانع للمؤتمر الذي صيغ بعبارات شرعية دقيقة جدا، ولكنها في المقابل واضحة وضوح الشمس، مما لم يتعود اعلامي مثلي على هاته الصياغة في المؤتمرات الكبرى، التي تكتفي عادة بإشارات عامة، يستطيع كل أحد أن يكيفها بما يريد؛ انتابني شعور بأن ثمة خطابا جديدا لم نألفه بدأ يحضر في الساحة الشرعية، بل برأيي أنه تأخر كثيرا للأسف، ومن يدقق في المؤتمر ككل، والبيان الختامي ليلحظ مباشرة ما أرمي له، وسأمرّ في سطوري التالية بقراءة عجلى لبعض ما ورد في ذلك البيان.
المؤتمر، وجمهرة علماء الأمة الذين وقعوا على بيانه، أهالوا التراب على تلك الفتنة التي كانت في مؤتمر "غروزني" ، بعد أن أطفئت قبل أشهر على يد الأمير محمد بن سلمان يحفظه الله، الذي عالج تداعياتها بكل عقلانية وحكمة، وأرسل حينها معالي أمين الرابطة إلى الشيشان، فقد جاء في البيان أن المؤتمر دعا إلى الاستمساك برابطة المسلمين ومظلتهم وهويتهم واسمهم الذي سماهم الله به "الإسلام"، وحذر من الأسماء والأوصاف الأخرى التي من شأنها الإساءة لهذا الاسم الجامع الحاضن، وطالب بأن يكون بيان الحق داخل أصول وفروع هذا الوصف الجامع، على منهج الإسلام الحكيم في النصح والبيان.
واعتبر المؤتمرون "الأوصاف المتعلقة بالتوجهات المذهبية في الأصول والمدارس الفقهية في الفروع من الأوصاف الكاشفة التي أقرها علماء الإسلام سلفاً، وأنها ليست بديلة ولا مزاحمة لاسم الإسلام الجامع، ولا يُتوسع في تلك الأوصاف الكاشفة عما تقرر في مدونات المسلمين لأي نزعة كانت، سواء لذرائع سياسية أو تنظيمية أو غيرها".
المؤتمر في بيانه أيضا عالج مسألة لطالما أضرت بالإسلام وكثير من المسلمين الذين يعيشون في الغرب، وكان صريحا جدا في مطالبته الجاليات الإسلامية التي تعيش في الغرب باحترام دساتير وقوانين وثقافة البلدان التي يعيشون فيها، والالتزام بخصوصياتهم وفق الأدوات الدستورية والقانونية المتاحة، والتقيُّدَ التام بما تنتهي إليه من حسم نهائي، بل طالب المؤتمرون "الذين لم يسعه المقام ولم يتكيف بقوانين تلك البلاد غير الإسلامية مغادرتها دون إخلال بالنظام أو إساءة للوجدان العام".
الحقيقة أن مشكلة المسلمين في الغرب، وسلوكياتهم هناك، لا تنعكس على الجاليات المسلمة وحسب، بل حتى علينا نحن هنا، وأكثر من ذلك على ديننا، ولطالما ساطنا الاعلام الغربي وتوجه إلينا هنا عقب كل حادثة أو سلوك عنيف، وحمّلنا نحن في هذا البلد التبعات، لذلك كان المؤتمرون واضحين في هذه النقطة، ووجهوا رسالة إلى الهيئات والمؤسسات والمراكز الإسلامية في البلدان غير الإسلامية إلى توعية الجاليات الإسلامية باحترام دساتير وقوانين وثقافة البلدان التي يعيشون فيها، لأن "أي إساءة من شأنها أن تسيء للإسلام وتنفر منه أو تضعه في دائرة الاتهام، والإسلام بريء من ذلك كله، وعليها أن تكون في أعمالها ومناشطها واضحة شفافة داعمة للسلم والتعايش، وأن تكون فاتحة خير وإضافة للدول التي تقيم فيها، معينة لها ومسهمة في سِلمها وأمانها".

في مقابل دعوة المؤتمرين للمسلمين في الغرب باحترام ثقافة البلاد التي يعيشون فيها، أشاروا -بشكل صريح أيضا- لتفشي ظاهرة الإسلاموفوبيا هناك، وتوظيفها في المزايدات السياسية والإعلامية بوصفها من أخطر أسباب إثارة العاطفة الدينية، بل ووصفوها بأنها "الوجه الآخر للتطرف العنيف"، وقالوا: "بل هي في بعض صورها تحمل إشارات الإرهاب الفكري الموازي، وتجاهل الخصوصيات الإسلامية المنسجمة مع القواعد العامة للدساتير والقوانين والقيم المتحضرة الحاثة على التسامح والتعايش واحترام حقوق الإنسان وحرياته في بعض البلدان غير الإسلامية بفعل تنامي دور الاتجاهات الحزبية المتطرفة، الداعية إلى تجاوز إيجابية الاندماج الوطني والتعايش السلمي الذي انسجمت معه أحوال عموم الأقليات".

البيان كان واضحا أيضا تجاه المنظمات المتطرفة التي تتدثر بالإسلام، وحَمَلَة الفكر الضال، وأصدر حكمه فيهم، بأنهم "خارجون عن جادة الإسلام والمسلمين"، بل أشار المؤتمرون بأن كل الأديان تبتلى بمثل هؤلاء المتطرفين، وأنهم "قدر مقدور في كل دين، فليس ثمة دين في أصله متطرف، ولا دين يخلو من متطرفين، والتاريخ الإنساني حكى فصولاً من الوقائع في هذا الأمر لم يسلم منها دين ولا زمان ولا مكان، وإنما تحضر وتغيب بين مد وجزر من حين لآخر".
أزعم أن ما جاء في البيان الختامي لهذا المؤتمر -أهنئ فيه أمانة المجمع الفقهي على نجاحه الكبير- هو بداية حقيقية لمرحلة جديدة، تقودها رابطة العالم الإسلامي، عبر علماء الأمة بأجمعهم، من كل المذاهب والطوائف، ومن يدقق في أسماء الحضور؛ ليذهل من دقة وميزان الاختيار، الذي لم ينس أي توجّه أو مدرسة أو مذهب معتبر على ديننا، بل أكثر من ذلك في تلك الرسالة الفاقعة في دعوة سبعين عالما من سنة العراق، من مختلف أطيافهم الكبرى لهذا المؤتمر، ما يؤذن بانفراجة حقيقية لأحبتنا السنة في بلاد الرافدين، وقبل ذلك الدور الحقيقي والمهم الذي عادت له رابطة العالم الإسلامي في تصديها لمشاكل الأمة.
هل نحن إزاء "سلفية جديدة منفتحة" بما زعم بعض المراقبين وهم يعلقون على المؤتمر؟
في تصوري أننا إزاء خطاب أصيل يمثل سماحة الإسلام وسعته، آن له أن يتصدّر المرحلة وأن يشيع في الأمة أجمعها، وأن نتداعى جميعا –أفرادا وهيئات ومجامع- لتجذير أسسه.
.
 
بقلم : عبدالعزيز قاسم
إعلامي وكاتب سعودي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..