الصفحات

الخميس، 7 فبراير 2019

السعودية والرأي العام العربي /لماذا يكرهوننا؟!!

        حوار جرى في إحدى الملتقيات تم التساؤل خلاله عن سر الموقف السيئ من المملكة العربية السعودية لدى أكثر النخب العربية والذي تتبعه مواقف شعبية يظهر منها
الشنئآن الدائم على بلادنا، وأشد حالاته تتجلى في الميل إلى خصوم دولتنا لدى كثير من المواقف الصعبة التي مررنا بها ؛ هذا مع أن جهودَ المملكة في الوقوف مع الشعوب العربية والمسلمة وأعمالَها في خدمة الدين والدعوة والإغاثة لا يكاد يوازيها فيه أحد من دول العالم ، كما أن السعودية في خصوماتها إنما تقف في الجانب العادل ؛ وإضافة إلى المواقف الضد التي تتخذها النخب فإنها تشارك في تضخيم الأخطاء وتصديق الشائعات والترويج لها ، وأشياء كثيرة يعرفها الجميع .

عزا بعضُ المشاركين في الحوار ، ذلك :إلى بواعث الحسد التي يُواجَه بها الناجحون عادة ، ولاقى هذا الرأي استحساناً في ذلك المجلس ،ولم أتمكن هناك من الاستطراد في شرح فكرتي فرأيت إرجاءها للبسط في هذا المقال.

فأقول :الرأي العام عبارة عن منسوج عريض حين يتم غزله في أمة أو شعب أو مجتمع صغير أو كبير فإن عملية نقضة تصبح صعبة جداً ، أما اختراقه فغالباً ما تكون جدواه ضعيفة أو بطيئة ،وفي النهاية سلبية ؛ لاسيما حين تكون جهود هذا الاختراق متفرقة ومتضاربة ومتناقضة في منطلقاتها وغاياتها.

لذلك نجد أن من يسبق إلى نسج الرأي العام يكسب دائماً، ولِأزْمِنَةٍ طويلة تمتد إلى أن يهترئ هذا النسيج ويسقط بعوامل تاريخية ، ثم تكون الغلبة أيضا لمن يبادر وينسج الرأي العام مجدداً وفق المتغيرات التاريخية الجديدة .

والمملكة العربية السعودية طيلة تاريخها لم تكن زمناً ما مبادِرة وسباقة في صناعة الرأي العام ؛ بل إن علاقتها بالرأي العام دائماً علاقة رَدَّة الفعل ،والعملِ على تحسين الصورة ؛لكنها يوماً ما لم تكن منشغلة بصناعة الصورة ، وفرق كبير بين تحسين الصورة أو تغيير الصورة السيئة ، وبين صناعة الصورة؛ فصناعة الصورة تعني أنك ترسم الصورة التي تريد وتضعها أمام أذهانٍ خالية لينطبع الشكل الذي تريده أن ينطبع في أذهانها.

أما تحسين الصورة أو تغييرها فمعناه أنك تقف أمام صورة رُسِمَت لا كما تريد وأمام أذهان انطبعت فيها الصورة التي لا تريدها ثم تجعل مهمتك محاولة تحسين الصورة القبيحة أو إزالتها بالكامل من الأذهان ووضع الصورة التي تريد ، وهذا ما سَيَصْعُب عليك جداً ؛ وغالباً ما سيرتد بأثر أسوأ مما كان ؛ ومع الأسف الشديد أقول: إن الأخير هو ما تفعله المملكة العربية السعودية منذ عقود.

ففي عهد الملكين سعود بن عبدالعزيز وفيصل بن عبدالعزيز رحمهما الله واجهت السعودية خصوماً ألداء أولهم بريطانيا من الشرق والجنوب حيث وجودها في محمياتها دولِ الخليج الخمس وجنوب اليمن ، وخلافاتُها الحدودية مع السعودية في كل تلك المناطق ، ولاسيما خلافها الحدودي الكبير مع السعودية في واحات البريمي والذي أخذ بعداً عسكرياً ودولياً ؛ وكانت بريطانيا تملك أقوى إذاعة على مستوى العالم ،وتعمل باحترافية على صناعة رأي عام عربي وعالمي ضد السعودية.

كما كان جمال عبد الناصر على خلاف عقائدي واستراتيجي مع السعودية وسَخَّر إذاعته صوت العرب من القاهرة ضد السعودية ، ثم تلتها إذاعة الشرق الأوسط .

وفي العراق كان الخلاف عقائديا واستراتيجياً أيضا بين السعودية وعبد الكريم قاسم وسخرت العراق عدة إذاعات وبرامج إذاعية لتشويه صورة المملكة ، ولم يكن الحال أحسن كثيراً في عهد الرئيسين عبد السلام عارف وشقيقه عبد الرحمن ، ولا في عهد محمد حسن البكر .

أما اليمن الشمالي فلم تكن ثورة ١٣٨٢هـ تمتلك إعلاما ذائعاً، إلا أن خطابها كان يغذي مشاعر الكراهية لدى اليمنيين تجاه السعودية ، كما كانت تستخدمها منصات الإعلام المصري لترويج خطاب الكراهية هذا ضد بلادنا.

هذا العمل الإعلامي المتضافر ضد المملكة العربية السعودية والذي وصل تأثيره إلى الداخل السعودي ، كان يواجَه منَّا بصمت كبير ، فلم يُخَصِّص الإعلام السعودي أي حصة إذاعية لمواجهة ذلك الإعلام فضلاً عن أن يؤسس إذاعة موجهة للقيام بهذا الأمر.

كانت سياسة الملك فيصل رحمه الله يُمَثِّلُها قول الشاعر:

إذا نطق السفيه فلا تجبه

فخير من إجابته السكوت

أو قول هرون الرشيد رحمه الله :الجواب ماترى لا ما تسمع .

كانت سياسة الفيصل رحمه الله هي العمل لا الكلام.

نعم كان هذا موقف المملكة بينما كان الإعلام المسموع والذي تسيطر عليه القوى اليسارية غالباً يُشَكل الرأي العام العربي ضد السعودية.

 

ومن عجائب الرأي العام إذا تَشَكَّل أنه يستوي فيه الفرقاء ولو تباينت اتجاهاتهم ، فقد انصهر فيه القومي والاشتراكي والشيوعي مع الإسلامي الحزبي ليُكَوِّن الجميع توجهاً عاماً ضد السعودية.

وقد كانت أعمال السعودية جليلة في خدمة المسلمين ما بين دعم لحركات التحرر من الاستعمار والسعي لبناء الوحدة الإسلامية والعربية ،وجهود دعوية في الخارج وجهود إغاثية ووقوف حاسم مع قضية فلسطين ، إلى غير ذلك ، لكن الرأي العام حينما تتمكن منه فكره فإنها تسيطر على فهمه لكل ما حوله ولتقييمه للأمور ؛ وهذا سر ضعف تأثير أعمال المملكة الجليلة على مواقف النخب والجماهير منها فقد بُنِيَت لديهم قناعة بأن السعودية سيئة ، فأصبحت هذه القناعة مثل سائل الأسيد الذي تذوب فيه كل الفضائل والكرامات ولا يُرَى لها أثرٌ.

وبعد حرب العاشر من رمضان أواخر عهد الفيصل ، ثم عهد الملك خالد رحمه الله توقفت معظم تلك الحملات نظراً للتغير السياسي في كل تلك البلدان ، فيما عدا إذاعة لندن التي ظلت تحت مزاعم الحياد تصوغ الأخبار بشكل واضح التوجيه ضد السعودية ، وفي كثير من الأحيان تبث تقارير يتضح فيها قصد الإساءة والتضليل ؛ ومع ذلك كانت الفرصة مواتية للعمل على بناء رأي عام عربي جديد يتفهم مواقف السعودية ويعطيها ما تستحقه من الإجلال والتقدير ، إلا أن ذلك لم يحدث إلا عبر المشروع الصحفي الذي قام به بعض رجال الأعمال من المثقفين السعوديين ، حيث أصدروا مجموعةً من الصحف والمجلات باللغة العربية والإنجليزية يتم إصدارها في لندن وغيرها ويطبع بعضها ويوزع في عدد من البلاد العربية.

إلا أن هذه المجموعة اعتمدت في تحريرها بشكل أكبر على الليبراليين والعلمانيين والقوميين واليساريين ؛ ولم يراعِ واضعو سياسة المجموعة كون تلك الفترة كانت فترة انحسار تلك التوجهات لصالح التوجهات الإسلامية ، الأمر الذي أضعف كثبراً من قُدْرَةِ هذه المجوعة على التأثير فضلاً عن بناء رأي عام عربي يصطف مع السعودية ؛ وقد تجلى ضعف أثر تلك المجموعة أو لنقل أثرها السلبي في أزمة الخليج الثانية أي بعد أكثر من عقد على إنشائهن ، حيث تبين أن معظم النخب العربية تقف ضد الموقف السعودي رغم وضوح عدالته ؛ وأعزو التأثير الضعيف لتلك الإصدارات في إدارة الرأي العام :إلى ركوبها الحصانَ الخطأ باختيارها المنظومة الفكرية المنحسرة وسيلة لخطابها ؛ بل إن تبني تلك الصحف والمجلات الدولية لكُتَّاب ومفكرين من المنظومة الفكرية المنحسرة في ذلك التاريخ من ليبراليين وقوميين ويساريين جعل حمولة الكراهية وعدم الثقة وخيبة الأمل التي تحملها الشعوب العربية لهم أو لتياراتهم التي عانت الشعوب من فشلها وخيانتها في حقبة الاستعمار وما بعدها ، جعل تلك الحمولة تُلقِيها الشعوب العربية أيضا على المؤسسات الصحفية التي تتبناهم وبالتالي على الدولة التي ينتمي لها مُلَّاكُ تلك المؤسسات.

بعد أزمة الخليج الثانية كان دور الإذاعة والصحافة قد بدأ في الانحسار لصالح القنوات التلفزيونية الفضائية ؛ وهنا كان رجال الأعمال السعوديون المعنيون بالإعلام مبادرين في إنشاء عدد من الشبكات التلفزيونية ؛وهي مبادرة تُحمد لهم ؛ إلا أنها مبادرة لم تستفد من تجربة المجموعات الصحفية الدولية ؛ بل كان الطابع المنفتح على الثقافة الغربية هو السائد والمميز لبرامجها ؛ وهذا الأمر أكسبها مشاهدات عظيمة حتى غدت أكثر القنوات العربية شهرة ومشاهدةً لكنها في مجال الفِكر والرأي السياسي لم تكن أكثر القنوات تأثيراً بسبب مجافاتها للتوجه الذي تتطلبه الشعوب العربية وهو التوجه المحافظ المتبني الدفاعَ عن آمال الشعوب وتطلعاتها وحكاية آلامها ونقل رسالتها للعالم أجمع ولحكوماتها .

 

كان انتساب تلك القنوات للسعودية في غاية الإساءة والتشويه للمملكة فهو يعطي من الانطباع عن السعودية عكس ما هي عليه ، ويُخفي واقع الشعب السعودي المحافظ المُشَرِّف لكل مسلم ، كما يخفي حقيقة السياسة السعودية المبنية على الإسلام وخدمة مصالح المسلمين ، ولا يعتني بإبراز مشاريع السعودية وجهودها في خدمة الشعوب الإسلامية وقضاياهم عبر مؤسساتها الكثيرة الشعبية كرابطة العالم الإسلامي، والشبابية كالندوة العالمية للشباب ، والدعوية كوكالة وزارة الشؤون الإسلامية للدعوة في الخارج ، والإغاثية كهيئة الإغاثة العالمية وغيرها.

فكانت تلك القنوات جاذبة لبصر المشاهد العربي بما تحمله من فنون وجمال حسي وترويج للثقافة المكسيكية والأمريكية ، لكنها بذلك كانت مصادمة لمشاعره وأحاسيسه وتطلعاته وأمانيه.

والحق يقال: لم تكن واحدة من هذه المحطات تنطلق من السعودية ؛ لكن كون مُلاك تلك القنوات سعوديين وعدم إعلان وزارة الإعلام السعودية نأيها بنفسها عن تلك القنوات ؛ وأيضا تركيز الإعلام المعادي للسعودية على إلصاق تلك القنوات بالإرادة السياسية السعودية كل ذلك أعطى المشاهد العربي أن تلك القنوات تحمل إليه رسالة السعودية.

كانت قوة تلك القنوات وكثرتها تحول بين المشاهد العربي وبين أن يعتبر قنوات كمثل المجد وإقرأ والرسالة ، لأنها لم تكن بتلك القوة ولا بتلك الاحترافية كما أن الأخيرتين تنطلقان من مؤسستين لهما العديد من القنوات على المنوال المضاد لهما مما أفقدهما المصداقية.

إن الرأي العام العربي المناوئ للسعودية صَنَعَتْه عواملُ عديدة ، مثله كمثل أي ظاهرة ، من الصعب نسبة ظهورها إلى سبب واحد ؛ لكن ما كان من تلك الأسباب بأيدينا لا يمكن أن يخفى علينا أنه من أهم الأسباب ؛ وإذا كنا جادين في الرغبة بالتغيير فلا زالت الفرصة متاحة وفي الأمر سَعَة وفي العمر بقية والله ولي التوفيق.

 

د محمد بن إبراهيم السعيدي

الأربعاء 1 جمادى الثانية 1440 هـ



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..