في هذه الأيام كمثيلاتها من كل عام يعود الحديث عن زكاة الفطر وهل تكون قوتاً أم مالاً ؟
لكن الحديث هذا العام أخذ بعداً وصيتاً أكبر من كل عام ، وقد بدا لي الكتابة في هذا لإيضاح مسألة لعلها لم تُطْرَق بها كثيراً .
تلقى الفتوى بإجزاء زكاة الفطر مالاً يُعادل قيمة الصاع رواجاً وقبولاً عند الكثيرين ، وذلك لتعليلها بكونها أنسب للفقراء في هذه الأيام وأرفق بهم ،وأن غالب الناس يُزكُون رُزَّاً حتى يزيد عن حاجة الفقراء ، ومنهم من يلجأُ إلى بيعه بنصف قيمته من أصحاب المتاجر لحاجته إلى المال ، مما يؤكد كوّن إعطا' الفقير القيمة أنفع له من القوت .
ويُضيف أخرون :أن الاقتصاديين يُقَدِّرون ما يبذله الناس في بلادنا للزكاة بمائتين وعشرين مليون ريال ، وهذا المبلغ لوقَسَمَته الجمعيات الخيرية على الفقراء لكان أجدى .
وهذه الحجج وإن كانت أقرب إلى العاطفة فليست أقرب إلى أصول الفقه ، ويُوضِّح ذلك ما يلي :
أن الزكاة بصاعٍ من الأقوات التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هو منصوص الشرع ، والأحاديث في ذلك كثيرة صريحة مشهورة ، أما الزكاة بالقيمة فهي عُدُول عن النص إلى الاستدلال بالحكمة المستنبطة من النص أو إلى العلة المنصوصة وهي الرفق بالمساكين وإغناؤهم عن السؤال يوم العيد .
وهذا النوع من الاستدلال لا يصح المصير إليه إلا في حال العجز عن القيام بما هو مطلوب نصاً ، أما تجاوز المنصوص إلى حكمته فهو خطآ من وجهين:
الأول : أن المسلمين متعبدون باتباع النص وليسو مُتَعَبَّدين باتباع الحكمة سواء أكانت منصوصة أم مستنبطة ، لكثرة النصوص الآمرة بالاتباع وعمومها ،كقوله تعالى ﴿ وَما آتاكُمُ الرَّسولُ فَخُذوهُ وَما نَهاكُم عَنهُ فَانتَهوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَديدُ العِقابِ﴾ [الحشر: ٧] وقوله تعالى : ﴿اتَّبِعوا ما أُنزِلَ إِلَيكُم مِن رَبِّكُم وَلا تَتَّبِعوا مِن دونِهِ أَولِياءَ قَليلًا ما تَذَكَّرونَ﴾ [الأعراف: ٣] وقوله ﴿وَاتَّبِعوا أَحسَنَ ما أُنزِلَ إِلَيكُم مِن رَبِّكُم مِن قَبلِ أَن يَأتِيَكُمُ العَذابُ بَغتَةً وَأَنتُم لا تَشعُرونَ﴾ [الزمر: ٥٥]
وقد عَظَّم الله النصوص الشرعية من أمر ونهي تعظيماً لا ينبغي الاستهانة به من أجل آرائنا وعقولنا وتقديراتنا للمصلحة والمفسدة .
واللجوءُ إلى ما يظنه المصلحة قبل العجز عن الامتثال للنص هو أساس العدول عن المصلحة الحقة ، لأن المؤمن يجب أن يعلم أن الخير فيما اختاره الله تعالى لنا لا ما اخترنا لأنفسنا.
الوجه الآخر : أن الزكاة بالقيمة بدل عن الزكاة بالقوت ، والبدل لا يصح أداؤه إلا مع تعذر المُبْدَل ، فلا يُلْجأ إلى التيمم إلا مع تعذر الماء ، ولا يُلجأ إلى الإطعام إلا مع تعذر الصيام حيث يُطعِم من لا يُرجى برؤه عن كل يوم أفطره نصف صاع ، ويصوم إذا عجز عن فدية التمتع في الحج والأمر كذلك في كل بَدَل، هذا إذا كان البدل منصوصاً عليه في الكتاب والسنة كحال التيمم والإطعام والصيام في الأمثلة المتقدمة، فإذا كان البدل غير منصوصٍ عليه كحال الزكاة بقيمة القوت في مسألتنا هذه ، فهو أولى بأن لا يُعْدَل عن النص إليه إلا في حال العجز عن أداء المنصوص .
والأمر الأهم الذي تنبغي مراعاته : أن العدول عن النص بدعوى المصلحة ذريعة للعدول عن النصوص بالكلية بدعوى المصالح ، وذلك أنه لا يوجد أمر شرعه الله إلا وله حكمة ، فمتى أقررنا بجواز العدول عن المنصوص إلى حكمته في حالة واحدة أو حالتين ، فقد أجزنا العدول عن كل ما شرع الله إلى ما نتصور أنه يُحقق الحكمة منه ، وهذا ما حَذَّر منه الإمام الشافعي رحمه الله من أول كتاب الرسالة إلى نهايتها .
ألا ترى إلى بعض من يُسَمُّون أنفسهم اليوم بالتنويريين يطالبون بإسقاط الحدود لأن الحكمة منها العقوبة وزجر المجرم وذلك متحفق بغيرها كالسجن والغرامات المالية !
ومنهم من يقول إن الحكمة من عدة المتوفى عنها زوجها والمطلقة الاستبراء ، وهذا يمكن اليوم بالتحليل ، فيعدل إليه عن العدة لما فيها من حبس المرأة وإيدائها ك .
إلى آخر ما يقولون .
بل إن قولنا بترك المنصوص إلى البدل هو حجة أولئك الذين يقولون بتاريخية النص الشرعي وأن النصوص الشرعية بنات ظروفها فإذا انقضت ظروفها انقضى العمل بها ، فهم يقولون :إن الإطعام بالقوت نص تاريخي مناسب لزمانه ، ولا يتناسب مع زماننا !
وأما الحديث عن كون القيمة هي الأرفق وعن الاقتصاديين وما يقولون ، فذلك أيضا أمر ظني ليس قطعياً ، فإن الله تعالى هو الأعلم بالأرفف لعباده ، ولو علم أن القيمة ستكون يوما أرفق لبينها نبيه إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
كما أن النصوص لا يعدل عنها إلى الأرفق ولا الأنسب بالعقل ، وقد قال علي كلمته المشهورة:" لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهرها .
وقد احتج الاقتصاديون في الجاهلية بقولهم فما حكاه الله عنهم (إنما البيع مثل الربا) أي لا فرق بينهما فكلاهما معاوضة مال بمال ، لكن الله لم يَرُد عليهم ببيان الفرق بين العقدين أو بالمصالح المتوخاة من تحريم الربا ، بل أجاب بما هو أبلغ فقال ( وأحل الله البيع وحرم الربا) أي يلزمكم اتباع النص ، عرفتم الفرق أم لم تعرفوا وأدركتم الحكمة أم لم تدركوا ﴿فَمَن جاءَهُ مَوعِظَةٌ مِن رَبِّهِ فَانتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَن عادَ فَأُولئِكَ أَصحابُ النّارِ هُم فيها خالِدونَ﴾ [البقرة: ٢٧٥]
والذي أراه صواباً هو أن الحكمة والرفق إنما هي في انباع ما نص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولو تمت دراسة ذلك دراسة اقتصادية عميقة لوجدنا أنه هو الأخْيَر والأرفق وأننا لو نأملنا الزكاة بالأقوات تأملاً أكثر عُمقا وتخصصا وحيادية سنجد فيها من المصلحة العامة التي قَلَّ من يُبْصِرُها فوق ما في المصلحة الخاصة التي يتحدث عنها الناس في هذه الأيام .
وهذا مثال عن ما يُقال من أن قيمة ما يبذله الناس في زكاة الفطر ٢٢٠مليون ربال ، ويقولون لو وُزِّعت هذه على الجمعيات الخيرية لتعطيها الفقراء مالاً ، أو أعطيت مباشرة مالاً للفقراء لكان أفضل ، فأقول : لنفرض أن عدد الفقراء مليون إنسان من سعوديين ومقيمين ، فمعنى ذلك أن نصيب كل إنسان ٢٢٠ريالاً ، ونصيب كل أُسْرة يزيد عن الألف قليلاً ، إذا اعتبرنا متوسط عدد الأسرة خمسة أفراد ، وهذا المبلغ سَيَضِيع أكثره من الفقير في أُمور الترفه وسوء الإنفاق ، وقد رأينا ذلك من كثير ممن يستفتون في مسائل زكاة المال ، فتتعجيب من أن بعض من يستفتون ، يقولون :إننا نريد أن نعطِي زكاة المال مالاً لكننا نخشى أن يضيعها الفقراء فيما لا فائدة فيه ، فهل يجوز لنا أن نشتري لهم بها طعاماً؟!
هكذا يستفتون ، والأعجب أنهم في زكاة الفطر التي الأصل فيها الإطعام يقولون المال أرفق وأفضل .
يطلب الإنسان في الصيف الشتا
فإذا جاء الشتا أنكرهُ .
وختاماً أنصح بلزوم المنصوص عليه من أمر الله تعالى وأمر رسله ، فإنه إنه هو الذي نفعه أعظم من ضرره وليس غير .
----------------------------------------
مواضيع مشابهة او ذات صلة :
د محمد بن إبراهيم السعيدي
المصدر----------------------------------------
مواضيع مشابهة او ذات صلة :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..