الصفحات

الجمعة، 28 يوليو 2023

معدود في أهل بدر مع أنَّه لم يشهدها... فمن هو ؟

رجل من أنصار الله -عزَّ وجلَّ- ورسوله ﷺ.  معدود في أهل بدر مع أنَّه لم يشهدها.
كان النبيُّ ﷺ يستخلفه مكانه على المدينة.
فيا تُرى...
مَن هو؟ وماذا تعرف عنه؟
 
🔸أَبُو لُبَابَة الْأَنْصَارِيُّ -رضي الله عنه-🔸

🟡 اسْمُه وَنَسَبُه:

هو أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ بْنِ زُبَيْرِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أُمَيَّةَ، العَوْفِيُّ، الْأَوْسِيُّ، الأنصاريُّ، اختُلف في اسمه، فقيل: بَشِير، وقيل: رِفَاعَة، وقيل: مروان، ولكنه مشهور بكنيته.
تزوَّج أَبُو لُبَابَة من نُسَيْبَة بِنْت فَضَالَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، فولدت له لُبَابَة التي يُكْنَى بها، والتي تَزَوَّجَهَا فيما بعد زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي الله عنهم جميعًا-.
ثم تزوج أَبُو لُبَابَة من الخنْسَاء بِنْت خِذامٍ الأنصاريَّة، وولدت له السَّائب بن أبي لبابة -رضي الله عنهم جميعًا-.
وكان -رضي الله عنه- له بَيْتَانِ: بَيْتٌ فِي قُبَاءٍ، وَبَيْتٌ في المدينة بالقُرب من يهود بني قريظة الذين كانوا حلفاءه في الجاهليَّة. الإصابة (٢٨٩/٧) وأسد الغابة (٢٦٠/٦).



🟡 إسلامُهُ وبَيْعَتُهُ:

ولما فاح عَبيرُ الإسلام في مكة وَبَلَغَ أثَرُه أرضَ يثرب، اسْتَنْشَقَه أَبُو لُبَابَة -رضي الله عنه- حتى باتَ يَسْرِي بداخله كسريان الدَّم في عروقه.
وقد كان النبيُّ ﷺ في هذه الفترة (يَتْبَعُ النَّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ بعُكَاظٍ وَمَجَنَّةَ، وَفِي الْمَوَاسِمِ بِمِنًى، يَقُولُ: «مَنْ يُؤْوِينِي؟ مَنْ يَنْصُرُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي وَلَهُ الْجَنَّةُ؟» فلَا يَجِدُ أَحَدًا يَنْصُرُهُ وَيُؤْوِيهِ). أحمد (١٤٦٩٦) وابن حبان (٧٠١٢) والسلسلة الصحيحة (٦٣).
فدفع الأسفُ على حال النبيِّ ﷺ سبعين رجلًا من شباب يثرب -من بينهم بطل قصتنا (أَبُو لُبَابَة)- أن يَعقدوا اجتماعًا عاجلًا يناقشون فيه ما ينبغي عليهم فعله تجاه رسول الله ﷺ، وطالت جلسة النِّقاش والمشاورة حتى خرجوا منها، وقد عزموا على أخذ قرار حاسم سيُغيِّر مجرى التَّاريخ، ويكون نقطة تحوُّل في تاريخ الإسلام، بل في تاريخ البشـريَّة جمعاء، ألا وهو إيواء النبيِّ ﷺ في بلدتهم ونصرته حتى يبَلِّغَ رسالة ربِّه في الأقطار والأمصار، ويَبْلُغَ الإسلامُ ما بلغَ الليل والنَّهار، كَائِنٌ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ.
وها هو ذا جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أحد شهود عيان هذه الوقعة يروي لنا القصَّة قائلًا: (فَأْتَمَرْنَا، وَاجْتَمَعْنَا سَبْعُونَ رَجُلًا مِنَّا، فَقُلْنَا: حَتَّى مَتَى نَتْرُكُ رَسُولَ الله ﷺ يُطْرَدُ فِي جِبَالِ مَكَّةَ وَيَخَافُ؟! فَرَحَلْنَا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَيْهِ فِي الْمَوْسِمِ، فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَهُ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ حَتَّى تَوَافَيْنَا، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ الله عَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: «تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْـرِ وَالْيُسْـرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي الله لَا تَأخُذُكُمْ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ يَثْرِبَ، فَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُم الْجَنَّةُ»، قال: فَقُمْنَا إِلَيْهِ فَبَايَعْنَاهُ). رواه أحمد (١٤٦٩٦) وابن حبان (٧٠١٢) وصحَّحه الألباني السلسلة الصحيحة (٦٣).
(ثُمَّ قَالَ لهم رَسُولُ الله ﷺ: «أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمْ اثْنَيْ عَشَـرَ نَقِيبًا يَكُونُونَ عَلَى قَوْمِهِمْ»، فَأَخْرَجُوا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا، مِنْهُمْ تِسْعَةٌ مِن الْخَزْرَجِ، وَثَلَاثَةٌ مِن الْأَوْسِ). رواه أحمد (١٥٧٩٨) عن كعب بن مالك، وحسَّنه الألباني والأرناؤوط.
وَكان أَبُو لُبَابَة بْن عَبْد المنذر -رضي الله عنه- ممن انتُخِبَ ليكون أحد نقباء الأوس الثلاثة، فجزى الله أصحاب هذه البيعة عن المسلمين خيرًا. أسد الغابة (٢٦٠/٦) وتاريخ الإسلام للذهبي (١٩٦/٢).



🟡 مكانته عند رسولِ الله ﷺ:

ولما خرج النبيُّ ﷺ في غزوة بدر الكبرى استخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم -رضي الله عنه- ليصلي بالنَّاس، وكان عدد الدوابِّ التي تحمل جيش المسلمين قليلة، فَقَسَّمَ النبيُّ ﷺ الناس كُل ثَلَاثَةٍ عَلَى بَعِيرٍ، وعندئذٍ ظهرت مكانة أبي لبابة -رضي الله عنه-، عند رسول الله ﷺ حيث شّرَّفه بأن جعله يتعاقب معه على بعير واحد، وفي أثناء المسير كان لأبي لبابة -رضي الله عنه- فِعْلًا نبيلًا ظهر من خلاله...

🟡 أَدَبُهُ معَ رسولِ الله ﷺ:

فعَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ: (كُنَّا فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ كُلُّ ثَلَاثَةٍ عَلَى بَعِيرٍ، وَكَانَ أَبُو لُبَابَةَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنهما- زَمِيلَيْ رَسُولِ الله ﷺ، فَإِذَا كَانَ عُقْبَةُ رَسُولِ الله ﷺ قَالَا لَهُ: ارْكَبْ يَا رَسُولَ الله وَنَحْنُ نَمْشِي عَنْكَ، فَيَقُولُ: مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى عَلَى الْمَشْيِ مِنِّي، وَمَا أَنَا بِأَغْنَى عَن الْأَجْرِ مِنْكُمَا). أحمد (٣٩٦٥-٤٠٠٩) والنسائي (٨٨٠٧) والسلسلة الصحيحة (٢٢٥٧).
وفي هذا المشهد الجميل رَسَم لنا أَبُو لُبَابَةَ مع علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- صورةً بديعةً نرى من خلالها أدب الصَّحابة -رضي الله عنهم- مع رسول الله ﷺ وتعظيمهم لمقامه، إلى جَنْبِ صُوَر البطولة والجهاد، كما نرى فيه أيضًا النبيَّ ﷺ وهو يُعلِّم البشريَّة جمعاء كيف يكون التَّواضُع.
وظلَّ أبو لبابة -رضي الله عنه- مُلَازِمًا لرسول الله ﷺ حتى وصل الجيش منطقة يُقال لها: الرَّوْحَاء، وهناك فعل النَّبِيُّ ﷺ فِعْلًا تَبْرُزُ من خلاله...



🟡 ثقةُ النبيِّ ﷺ بأَبِي لُبَابَةَ:

ألا وهو رَدُّ النبيِّ ﷺ أبا لُبَابَةَ من الرَّوْحَاءِ ليستخلفه مكانه على المدينة. الطبقات الكبرى (٣/٣٤٨) وأسد الغابة (١/٥٩٨).
فيا له من شرف عظيم لأبي لبابة -رضي الله عنه- أن يجعله النَّبِيُّ ﷺ منه بمنزلة هارون من موسى حين قال له: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}. [الأعراف: ١٤٢].
ولما رجع النبيُّ ﷺ من بدر ضَرَبَ لأَبِي لُبَابَةَ -رضي الله عنه- بسَهمٍ كمَن شَهِدَ بدرًا. مستدرك الحاكم (٦٦٥٧) والكبرى للبيهقي (١٧٩٨٧).
فهو كأهل بَدْرٍ تمامًا؛ لأنَّه رجع امتثالًا لأمر رسول الله ﷺ، وقد كان يتعامل بين النَّاس معاملة أهل بدر، بل وقد كان الْبَعْضُ يسميه أَبُو لُبَابَةَ البَدْرِيُّ. صحيح البخاري (٤٠١٦).
ولم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي استخلف فيها النَّبِيُّ ﷺ أبا لبابة على المدينة مكانه، فقد استخلفه ﷺ عليها عند خروجه لإجلاء يهود بني قينقاع عن المدينة، وعند خروجه ﷺ في غزوة السَّوِيقِ. الاستيعاب (١٧٤٠/٤) والطبقات الكبرى (٢٢/٢).
ولم تنحصر ثقةُ النبيِّ ﷺ بأَبِي لُبَابَةَ -رضي الله عنه- في استخلافه مكانة على المدينة فقط، بل كان يُوَلِّيه بعض المهام في المعارك والغزوات، فقد كان يحمل راية بني عمرو بن عوف في جيش الإسلام الذي فتح مكة مع رسول الله ﷺ. الاستيعاب (١٧٤٠/٤).



🟡 قِصَّةُ زَوَاجِهِ:

أراد أبو لبابة -رضي الله عنه- أن يتزوَّج امرأةً من جيرانه من أهل قُباء اسمها خَنْسَاء بِنْت خِذَامٍ الأَنْصَارِيَّة.
تقدم أَبُو لُبَابَةَ -رضي الله عنه- لخطبة الخنساء، وفي نفس التَّوقيت تَوَالَى الخُطَّاب على أبيها، فَحَنَّتْ الخَنْسَاءُ إِلَى أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، أمَّا أبوها فَزَوَّجَهَا رَجُلًا مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفِ، فَكَرِهَتْ الخَنساءُ ذَلِكَ، وأَبَتْ إِلَّا أَنْ تَحُطَّ إِلَى أَبِي لُبَابَةَ، وَأَبَى أَبُوهَا إِلَّا أَنْ يُلْزِمَهَا الْعَوْفِيَّ، حَتَّى ارْتَفَعَ أَمْرُهُمَا إِلَى رَسُولِ الله ﷺ، فَأَتَتِ الخَنْسَاءُ النَّبِيَّ ﷺ فَاشْتَكَتْ إِلَيْهِ قائلة: يا رسول الله، زَوَّجَنِي أَبِي وَأَنَا كَارِهَةٌ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفِ، وَلَمْ يُشْعِرْنِي، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «الْأَمْرُ إِلَيْكِ»، قَالَتْ: فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، فَأرسلَ رَسُولُ الله ﷺ إلى أبِيهَا، فقال له: «هِيَ أَوْلَى بِأَمْرِهَا، فَأَلْحِقْهَا بِهَوَاهَا»، وقَالَ رَسُولُ الله ﷺ لها: «لَا نِكَاحَ لَهُ، انْكِحِي مَنْ شِئْتِ»، فَتَزَوَّجَتْ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، فَوَلَدَتْ لَهُ السَّائِبَ بْنَ أَبِي لُبَابَةَ -رضي الله عنهم-. البخاري ( ٥١٣٨).

🟡 تَوْبةٌ ونَدَمٌ:

وفي السَّنة الخامسة من الهجرة نقض يهود بني قريظة العهد مع رسول الله ﷺ وتمالؤوا مع جيش الأحزاب، فهزم اللهُ الأحزابَ، وكفى الله المؤمنين قتالهم، ثم أمَرَ اللهُ نبيَّه ﷺ أن يتوجَّه إلى بني قريظة؛ لينفذ فيهم حكم الله تعالى، (فَأَتَاهُمْ رَسُولُ الله ﷺ فَحَاصَرَهُمْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَلَمَّا اشْتَدَّ حَصْرُهُمْ وَاشْتَدَّ الْبَلَاءُ، قِيلَ لَهُمْ: انْزِلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللهﷺ). أحمد (٢٥٠٩٧) وابن حبان (٧٠٢٨) والسلسلة الصحيحة (٦٧).
فَصَـرَخُوا بِأَبِي لُبَابَةَ يستغيثون به وكانوا حُلَفَاءَ الْأَوْسِ، فَقَالَ أَبُو لُبَابَةَ -رضي الله عنه-: لَا آتِيهِمْ حَتَّى يَأْذَنَ لِي رَسُولُ الله ﷺ، ثُمَّ بَعَثُوا إِلَى رَسُولِ الله ﷺ أنْ ابْعَثْ إِلَيْنَا أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ نَسْتَشِيرُهُ فِي أَمْرِنَا، فَقَالَ رسول الله ﷺ له: «قَدْ أَذِنْتُ لَكَ»، فَأَتَاهُمْ أَبُو لُبَابَةَ -رضي الله عنه-، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَامَ إِلَيْهِ الرِّجَالُ، وَجَهَشَ إِلَيْهِ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ يَبْكُونَ فِي وَجْهِهِ، فَرَقَّ لَهُمْ، فقَالُوا لَهُ: يَا أَبَا لُبَابَةَ مَاذَا تَرَى؟ وَمَاذَا تَأْمُرُنَا؟ فَإِنَّهُ لَا طَاقَةَ لَنَا بِالْقِتَالِ، أَتَرَى أَنْ نَنْزِلَ عَلَى حُكْمِ مُحَمَّدٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَأَشَارَ أَبُو لُبَابَةَ بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِهِ، وَأَمَرَّ عَلَيْهِ أَصَابِعَهُ يُرِيهِمْ أَنَّهُ الذَّبْحُ، ثم انتبه أبو لبابة -رضي الله عنه- لفعله، وانْتابته حالةٌ يُحدِّثنا بها فيقول: فوالله مَا زَالَتْ قَدَمَايَ تَرْجُفَانِ حِينَ عَرَفْتُ أَنِّي قَدْ خُنْتُ اللهَ وَرَسُولَهُ.



فَلَمَّا انْصَرَفَ أَبُو لُبَابَةَ -رضي الله عنه- سُقِطَ فِي يَدِهِ، وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ، فَقَالَ: وَالله لَا أَنْظُرُ فِي وَجْهِ رَسُولِ الله ﷺ حَتَّى أُحْدِثَ لله -عَزَّ وَجَلَّ- تَوْبَةً نَصُوحًا يَعْلَمُهَا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ نَفْسِي.
ثُمَّ انْطَلَقَ -رضي الله عنه- عَلَى وَجْهِهِ، وَلَمْ يَأْتِ رَسُولَ الله ﷺ، فَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَرَبَطَ يَدَيْهِ إِلَى جِذْعٍ مِنْ جُذُوعِ الْمَسْجِدِ، وَعَاهَدَ الله أَن لَا يَطَأَ بَنِي قُرَيْظَةَ أَبَدًا، وَقَالَ -رضي الله عنه-: لَا أَبْرَحُ مَكَانِي هَذَا حَتَّى يَتُوبَ اللهُ عَلَيَّ مِمَّا صَنَعْتُ، وَلَا يَرَانِي فِي بَلَدٍ خُنْتُ اللهَ وَرَسُولَهُ فِيهِ.
فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ حِينَ تأخرعَلَيْهِ أَبُو لُبَابَةَ: أَمَا فَرَغَ أَبُو لُبَابَةَ مِنْ حُلَفَائِهِ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ انْصَرَفَ مِنْ عِنْدِ الْحِصْنِ، وَمَا نَدْرِي أَيْنَ سَلَكَ، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «وَقَدْ حَدَثَ لِأَبِي لُبَابَةَ أَمْرٌ، مَا كَانَ عَلَيْهِ؟» فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، قَدْ رَأَيْتُ أَبَا لُبَابَةَ ارْتَبَطَ بِحَبْلٍ إِلَى جِذْعٍ مِنْ جُذُوعِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «لَقَدْ أَصَابَتْهُ بَعْدِي فِتْنَةٌ، وَلَوْ جَاءَنِي لَاسْتَغْفَرْتُ لَهُ، فَإِذْ فَعَلَ هَذَا فَلَنْ أُحَرِّكَهُ مِنْ مَكَانِهِ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ فِيهِ مَا يَشَاءُ». الدلائل للبيهقي (١٣٧٠-١ ٣٧٢)، والسيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصحيحة (٩٤/٣).
وظلَّ أبو لبابة -رضي الله عنه- مَرْبُوطًا في المسجد أَيَّامًا، وكانت ابنته تحلُّه إذا حضرت الصَّلاة، أو إذا أراد أن يذهب لقضاء حاجته. الاستيعاب لابن عبد البر (١٧٤٠/٤).

وبقي -رضي الله عنه- على حاله هذا نَادِمًا، مع أنَّه تصرَّف مع بني قريظة بحُسْنِ نيَّة، ولم ينتبه إلى أنَّه بذلك قد أفشى سِرًّا عسكريًّا لأعداء الإسلام، وما كان ينبغي له هذا، ومع أنَّه لو رجع إلى النبيِّ ﷺ لعذره واستغفر له؛ لِمَا له من رصيدٍ طيِّبٍ عنده ﷺ، فهو من أصحاب العقبة وبدر وأُحُد والخندق، وكان النبيُّ ﷺ يستخلفه مكانه على المدينة، إلَّا أنَّ التَّوبة الصَّادقة التي ظهرت عليه في صورة ندم عجيب جعله يربط نفسه في المسجد أَيَّامًا ولا يبالي؛ أَنْسَتْه كلَّ ما قدَّم من خير، وحَوَّلَتْ إشارته بيده لبني قريظة إلى شَبَحٍ مُخِيفٍ يَتَرَاءَى له أمام عينيه، حتى أنزل الله تعالى توبته عَلَى رَسُولِه ﷺ وهو في بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها-، وها هي تُحدِّثنا عن ذلك، فتقول: (سَمِعْتُ رَسُولَ الله ﷺ مِنَ السَّحَرِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ؟ أَضْحَكَ اللهُ سِنَّكَ، فَقَالَ: «تِيبَ عَلَى أَبِي لُبَابَةَ»، فَقُلْتُ: أَلَا أُبَشِّـرُهُ يَا رَسُولَ الله بِذَاكَ؟ فَقَالَ: «بَلَى، إِنْ شِئْتِ»، فَقُمْتُ عَلَى بَابِ حُجْرَتِي، فَقُلْتُ -وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْنَا الْحِجَابُ-: يَا أَبَا لُبَابَةَ، أَبْشِرْ، فَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَيْكَ، فَثَارَ النَّاسُ إِلَيْهِ لِيُطْلِقُوهُ، فَقَالَ: لَا وَالله حَتَّى يَكُونَ رَسُولُ الله ﷺ هُوَ الَّذِي يُطْلِقُنِي بِيَدِهِ، فَلَمَّا مَرَّ عَلَيْهِ ﷺ خَارِجًا إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ أَطْلَقَهُ). دلائل النبوة للبيهقي (١٣٧٣) والسنن الكبرى للبيهقي (١٣٥٢٩).
فقَالَ -رضي الله عنه-: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَهْجُرَ دَارَ قَوْمِي الَّتِي أَصَبْتُ فِيهَا الذَّنْبَ وَأُسَاكِنَكَ، وَإِنِّي أَنْخَلِعُ مِنْ مَالِي كُلِّهِ صَدَقَةً لله وَلِرَسُولِهِ، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «يَا أَبَا لُبَابَةَ، يُجْزِئُ عَنْكَ الثُّلُثُ»، قَالَ -رضي الله عنه-: فَتَصَدَّقْتُ بِالثُّلُثِ. أحمد (١٥٧٥٠) والحاكم (٦٦٥٨) وسنن أبي داود (٣٣١٩).
وقد قيل: إنَّ الله أنزل في حادثة أبي لبابة -رضي الله عنه- مع قريظة قرآنًا تتعلَّم منه الأُمَّة إلى يـوم القيامة، وذلك في قــوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: ٢٧]. أسباب النزول للسيوطي ص (١٧٢) وأسباب النزول للواحدي (١٨٤) وعليه أكثر المفسرين.



🟡 مِنْ آيات النُّبوة في حياة أبي لُبَابَةَ:

لما ولدت لُبَابَةُ بِنْتُ أبي لبابة عبدَ الرحمن بنَ زيد بن الخطاب -رضي الله عنهم- كاد أبو لبابة أن يطير فرحًا بحفيده، وأخذه في كَنَفِه، وقد لَفتَ صِغَرُ حَجمِ المولود انتباهَ أبي لبابة -رضي الله عنه-، فذهب به إلى النبيِّ ﷺ، فلمَّا رآه رسولُ الله ﷺ قال: «ما هذا معك يا أبا لبابة؟» فقال: ابنُ ابنتي يا رسول الله، ما رأيتُ مولودًا قطُّ أصغرَ خِلْقَةً منه، فحنَّكه رسولُ الله ﷺ، ومسح على رأسه، ودعـا فيه بالبركة، فما رُئيَ عبـدَ الرحمن بنَ زيد مع قوم في صفٍّ إلَّا برعهم طولًا. تاريخ دمشق (٢٥٨/١٤) وتهذيب الأسماء (١٨٠/٦).



🟡 وحان وقت الرَّحيل:

وبعد حياة طويلة عاشها أَبُو لُبَابَةَ -رضي الله عنه- في صُحبة رسول الله ﷺ وخلفائه -رضي الله عنهم- يقف به قطار العمر في محطَّته الأخيرة، فينام على فراش الموت، ثم يرتحل من الدُّنيا إلى أول منازل الآخرة، ليلحق بمَن سبقه من الأنصار والمهاجرة.
وكانت وفاته في خلافة عثمان، وقيل: في خلافة عليٍّ، وقيل: في زمن معاوية -رضي الله عنهم جميعًا-. الإصابة (٢٨٩/٧) وتاريخ الإسلام للذهبي (١٩٦/٢).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..