الصفحات

الجمعة، 28 يوليو 2023

أنزل الله قرآنًا في قبول صدقته يوم تبوك.. فمن هو ؟

أنزل الله قرآنًا في قبول صدقته يوم تبوك.
لحق بالنبي ﷺ في غزوة تبوك فقال ﷺ: «كُنْ أَبَا...».
عُمِّرَ بعد رسول الله ﷺ إلى أن تُوفِّيَ في زمن يزيد بن معاوية.
مَن هو؟ وماذا تعرف عنه؟
هو🔸 أَبُو خَيْثَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ -رضي الله عنه- 🔸

🟡 اسْمُه وَنَسَبُه:

هو مَالِك بن قَيْس بن ثَعْلَبة بن العَجْلان، الخزرجيُّ، الأنصاريُّ.
مشهور بكنيته "أَبُو خَيْثَمَةَ ". أسد الغابة (٤١/٥) والاستيعاب (١٦٤١/٤).

🟡 غَضَبُهُ لرسول الله ﷺ:

لمَّا كانت زينب بنت رسول الله ﷺ في طريق هجرتها من مكة إلى المدينة بعد غزوة بدر، تعرَّض لها جماعة من قريش فرَوَّعوها وكانت حاملًا فسقط حملها من خوفها، ثم نجَّاها الله -تعالى- منهم، ووصلت إلى أبيها ﷺ. أسد الغابة (٤١/٥) والإصابة (٥٥٣/٥).
فغضب النبيُّ ﷺ لِمَا حدث لها، وغضب الصحابة لغضب رسول الله ﷺ، ومن بين هؤلاء الغاضبين لله ورسوله أبو خيثمة الأنصاري -رضي الله عنه- الذي أخرج غضبه في صورة أبيات شعريَّة تناقلها الناس عنه، فقد قال -رضي الله عنه-:
أَتَانِي الَّذِي لَا يَقْدُرُ النَّاسُ قَدْرَهُ
لِزَيْنَبَ فِيهِمْ مِنْ عُقُوقٍ وَمَأْثَمِ

وَإِخْرَاجُهَا لَمْ يُخْزَ فِيهَا مُحَمَّدٌ
عَلَى مَأْقِطٍ وَبَيْنَنَا عِطْرُ مَنْشَمِ

وَأَمْسَى أَبُو سُفْيَانَ مِنْ حِلْفِ ضَمْضَمٍ
وَمِنْ حَرْبِنَا فِي رَغْمِ أَنْفٍ وَمَنْدَمٍ

قَرَنَّا ابْنَهُ عَمْرًا وَمَوْلَى يَمِينِهِ
بِذِي حَلَقٍ جَلْدِ الصَّلَاصِلِ مُحْكَمِ

أَقْسَمْتُ لَا تَنْفَكُّ مِنَّا كَتَائِبُ
سُرَاةُ خَمِيسٍ فِي لُهَامٍ مُسَوَّمِ

نَزُوعُ قُرَيْشَ الْكُفْرَ حَتَّى نَعُلَّهَا
بِخَاطِمَةٍ فَوْقَ الْأُنُوفِ بِمِيسَمِ

نُنَزِّلُهُمْ أَكْنَافَ نَجْدٍ وَنَخْلَةٍ
وَإِنْ يُتْهِمُوا بِالْخَيْلِ وَالرَّجْلِ نُتْهِمِ

يَدَ الدَّهْرِ حَتَّى لَا يُعَوَّجَ سِرْبُنَا
وَنُلْحِقُهُمْ آثَارَ عَادٍ وَجُرْهُمِ

وَيَنْدَمَ قَوْمٌ لَمْ يُطِيعُوا مُحَمَّدًا
عَلَى أَمْرِهِمْ وَأَيُّ حِينٍ تَنَدُّمِ

فَأَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ إمَّا لَقِيتُهُ
لَئِنْ أَنْتَ لَمْ تُخْلِصْ سُجُودًا وَتُسْلِمِ

فَأَبْشـِرْ بِخِزْيٍ فِي الْحَيَاةِ مُعَجَّلٍ
وَسِرْبَالِ نَارٍ خَالِدًا فِي جَهَنَّمِ

السيرة النبوية لابن هشام ص (٥٥١)، والسيرة النبوية لابن كثير (٥١٩/٢).

🟡 دَوْرُهُ فِي مَعْرَكَةِ أُحُدٍ:

مع أنَّ معركة أحُد هي أولُ مشاهده مع رسول الله ﷺ إلا أنه كان صاحب بصمة فيها، فإن النبيَّ ﷺ لما عزم على الخروج لملاقاة المشركين عند جبل أحد أمر المسلمين أن يجتمعوا عند المسجد ليلًا، فلمَّا كان وقت السَّحَر استعدَّ النبيُّ ﷺ للتحرُّك بجيش المسلمين، فأراد أن يسلك إلى أحُدٍ طريقًا مختصـرًا وخَفيًّا على أعدائه، فقال ﷺ لأصحابه: مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ بِنَا عَلَى الْقَوْمِ مِنْ كَثَبٍ -أَيْ: مِنْ قُرْبٍ-، مِنْ طَرِيقٍ لَا يَمُرُّ بِنَا عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ الأنصاريُّ -رضي الله عنه-: أَنَا يَا رَسُولَ الله، فَنَفَذَ بِهِ فِي حَرَّةِ بَنِي حَارِثَةَ، وَبَيْنَ أَمْوَالِهِمْ، حَتَّى سَلَكَ فِي مَالٍ لِمِرْبَعِ بْنِ قَيْظِيٍّ، وَكَانَ رَجُلًا مُنَافِقًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ، فَلَمَّا سَمِعَ حِسَّ رَسُولِ الله ﷺ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَامَ يَحْثِي فِي وُجُوهِهِمْ التُّرَابَ، وَيَقُولُ: إنْ كُنْتَ رَسُولَ الله فَإِنِّي لَا أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ حَائِطِي، وأَخَذَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَاَلله لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي لَا أُصِيبُ بِهَا غَيْرَكَ يَا مُحَمَّدُ لَضَرَبْتُ بِهَا وَجْهَكَ، فَابْتَدَرَهُ الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «لَا تَقْتُلُوهُ، فَهَذَا الْأَعْمَى أَعْمَى الْقَلْبِ، أَعْمَى الْبَصَرِ»، وَقَدْ بَدَرَ إلَيْهِ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، قَبْلَ نَهْيِ رَسُولِ الله ﷺ عَنْهُ، فَضَرَبَهُ بِالْقَوْسِ فِي رَأْسِهِ، فَشَجَّهُ. السيرة لابن هشام ص (٦٥٣) ومغازي الواقدي (٢١٧/١).
وبهذا استطاع أبو خيثمة الأنصاريُّ -رضي الله عنه- أن يَمُر بجيش المسلمين من طريق مختصر، وفي نفس الوقت يَخفى على الأعداء، فلربما يصنع الأعداء كمينًا في الطريق الذي يتوقَّعون مرور جيش المسلمين منه إلى المعركة، فتكون في ذلك هلكتهم.
وأبلى أبو خيثمة -رضي الله عنه- يوم أحد بَلَاءً حَسَنًا، ثم شهد مع رسول الله ﷺ بقية مشاهده، فقد شهد معه الخندق، والحديبية، وغزوة خيبر، وفتح مكة، وحنين، وتبوك.

🟡 إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا:

كانت غزوة تبوك لها ظروف خاصَّة تختلف عن أيِّ غزوة مضت، فقد كان عدد المسلمين فيها كبيرًا، ولم يجد النبيُّ ﷺ ما يحملهم عليه، فقد كان الظَهْرُ قليلًا، والمسافة بعيدةً، والْحَرُّ شديدًا، ولم تكن هناك ميزانية لتسليح الجيش، فحثَّ النبيُّ ﷺ المجتمع الإسلامي على الصدقة لتجهيز الجيش المتوجِّه للقاء الروم في تبوك، الذي سمَّاه النبيُّ ﷺ بجيش العُسْرَةِ، ورغَّبهم في ذلك قائلًا: «مَنْ يُجَهِّزُ جَيْشَ الْعُسْرَةِ غَفَرَ اللهُ لَهُ». رواه النسائي في الكبرى (٣٦٠٦).
وفي رواية: «فَلَهُ الْجَنَّةُ».. رواه البخاري (٤٤١٥).
فقام الصحابة يتصدَّقون ويساهمون في تجهيز هذا الجيش كُلٌّ بحسب طاقته وإمكاناته، ولكنهم لم يسلموا من ألسنة المنافقين، (فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ، فَقَالَ المُنَافِقُونَ: مُرَائِي، وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ، فَقَالُوا: إِنَّ الله لَغَنِيٌّ عَنْ صَاعِ هَذَا، فَأنزل الله قوله -تعالى-: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: ٧٩]. البخاري (١٤١٥- ٤٦٦٨).
وكان الذي تصدَّق بصاع فلمزه المنافقون هو أبا خيثمة الأنصاري -رضي الله عنه-، كما صَرَّحَ بذلك كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ -رضي الله عنه- إذ قال: (... فَإِذَا هُوَ أَبُو خَيْثَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ الَّذِي تَصَدَّقَ بِصَاعِ التَّمْرِ حِينَ لَمَزَهُ الْمُنَافِقُونَ). رواه مسلم (٢٧٦٩).
فأنزل الله -تعالى- قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة يدافع فيه عن أوليائه الصالحين، ويُبرئ ساحتهم، ويُخبر بصدق نيتهم.

🟡 كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ:

وخرج (رَسُولُ الله ﷺ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا، وَاسْتَقْبَلَ عَدُوًّا كَثِيرًا، فَجَلَا لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِمِ الَّذِي يُرِيدُ، وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ الله ﷺ كَثِيرٌ، وَلَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابُ حَافِظٍ، فَقَلَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ سَيَخْفَى لَهُ، مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ مِنَ الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وَغَزَا رَسُولُ الله ﷺ تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلَالُ، فَتَجَهَّزَ رَسُولُ الله ﷺ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ) صحيح مسلم (٢٧٦٩).
(ولَمَّا سَارَ رَسُولُ الله ﷺ إِلَى تَبُوكَ جَعَلَ لَا يَزَالُ يَتَخَلَّفُ الرَّجُلُ فَيَقُولُونَ: يَا رَسُولَ الله، تَخَلَّفَ فُــلَانٌ، فَيَقُولُ ﷺ: «دعُــوهُ، إِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللهُ بِكُمْ، وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمُ اللهُ مِنْهُ». رواه البيهقي في الدلائل (١٩٧٠) والحاكم في المستدرك (٤٣٧٣) وصححه عن ابن مسعود، وحسنه ابن كثير في البداية والنهاية (٥٠/٣).

وتباطأ أبو خيثمة -رضي الله عنه-، وأوقعه الشيطانُ في فخِّ التسويف، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِه حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ، حتى إذا سار رسول الله ﷺ أَيَّامًا رجع أبو خَيْثَمَةَ إِلَى أَهْلِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ، فَوَجَدَ امْرَأَتَيْه فِي عَرِيشَيْنِ لهما في حائط، قَدْ رَشَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا، وَبَرَّدَتْ لَهُ فِيهِ مَاءً، وَهَيَّأَتْ لَهُ فِيهِ طَعَامًا، فَلَمَّا دَخَلَ قَامَ عَلَى بَابِ الْعَرِيشَيْنِ فَنَظَرَ إِلَى امْرَأَتَيْهِ وَمَا صَنَعَتَا لَهُ، فَقَالَ: رَسُولُ الله ﷺ فِي الضِّحِّ وَالرِّيحِ وَالْحَرِّ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ فِي ظِلٍّ بَارِدٍ وَمَاءٍ بَارِدٍ وَطَعَامٍ مُهَيَّأٍ وَامْرَأَةٍ حَسْنَاءَ فِي مَالِهِ مُقِيمٌ؟! مَا هَذَا بِالنَّصَفِ، ثُمَّ قَالَ: لَا وَاللهِ لَا أُدْخُلُ عَرِيشَ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَتَّى أَلْحَقَ بِرَسُولِ الله ﷺ، فَهَيِّئَا لِي زَادًا، فَفَعَلَتَا، ثُمَّ قَدَّمَ نَاضِحَهُ فَارْتَحَلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ فِي طَلَبِ رَسُولِ الله ﷺ حَتَّى أَدْرَكَهُ بِتَبُوكَ حِينَ نَزَلَهَا، وَقَدْ كَانَ أَدْرَكَ أَبَا خَيْثَمَةَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ فِي الطَّرِيقِ يَطْلُبُ رَسُولَ الله ﷺ فَتَرَافَقَا حَتَّى إِذَا دَنَوَا مِنْ تَبُوكَ، فقَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ لِعُمَيْرِ بْنِ وَهْبٍ: إِنَّ لِي ذَنْبًا فَلَا عَلَيْكَ أَنْ تَخَلَّفَ عَنِّي حَتَّى آتِيَ رَسُولَ الله ﷺ، فَفَعَلَ، فَسَارَ أبو خيثمة -رضي الله عنه- حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْ رَسُولِ الله ﷺ وَهُوَ نَازِلٌ بِتَبُوكَ، قَالَ النَّاسُ: هَذَا رَاكِبٌ عَلَى الطَّرِيقِ مُقْبِلٌ، فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ رَأَى رسول الله ﷺ رَجُلًا مُبَيِّضًا يَزُولُ بِهِ السَّرَابُ، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله، هُوَ وَالله أَبُو خَيْثَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ، فَلَمَّا أَنَاخَ أَقْبَلَ فَسَلَّمَ عَلَى رسول الله ﷺ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله ﷺ: «أَوْلَى لَكَ أَبَا خَيْثَمَةَ»، فأتاه أبو خيثمة وهو يبكي، فقال له رسولُ الله ﷺ: «ما خَلَّفَكَ يا أبا خيثمة؟»، قال: كدتُ يا نبيَّ الله أنْ أهلِكَ بتخلُّفي عنك، تزينت لي الدنيا، وتزين لي مالي في عيني، وكدتُ أن أختاره على الجهاد، فعزم الله عليَّ بالخروج، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله ﷺ خَيْرًا، واستغفر له، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ. صحيح مسلم (٢٧٦٩) ودلائل النبوة للبيهقي (١٦٧/٥) والسيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصحيحة (١٠٩/٤).
وعلى إثْر هذه الأحداث أنزل الله تعالى قوله: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: ١١٧].
فكأني بها تنزل بَرْدًا وَسَلَامًا على قلب أبي خيثمة -رضي الله عنه-.
وَأنشد أَبُو خَيْثَمَةَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا، فقال -رضي الله عنه-:

لَمَّا رَأَيْتُ النَّاسَ فِي الدِّينِ نَافَقُوا
                أَتَيْتُ الَّتِي كَانَتْ أَعَفَّ وَأَكْرَمَا

وَبَايَعْتُ بِالْيُمْنَى يَدِي لِمُحَمَّدٍ
                فَلَمْ أَكْتَسِبْ إثْمًا وَلَمْ أَغْشَ مَحْرَمًا

تَرَكْتُ خَضِيبًا فِي الْعَرِيشِ وَصِرْمَةً
                صفايا كِرَامًا بُسْـرُهَا قَدْ تَحَمَّمَا

وَكُنْتُ إذَا شَكَّ الْمُنَافِقُ أَسْمَحَتْ
                إلَى الدِّينِ نَفْسِي شَطْرَهُ حَيْثُ يَمَّمَا

السيرة لابن هشام ص (١٠٢٧) والبداية والنهاية (٨/٥).

وهكذا انتصر أبو خيثمة -رضي الله عنه- في معركته على نفسه وشيطانه قبل أن يخرج ليجاهد مع النبيّ ﷺ بالسيف، فإنه لمَّا أرادت نفسه أن تَعْلق بِشِبَاك الغفلة التي نصبها له الشيطان عزم هو أن يسلك سبيل المتقين الذين {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: ٢٠١]. ودفعه حبُّه لرسول الله ﷺ أن يترك الدنيا التي تزينت أمام عينيه، ويخرج وحده على دابَّته يشقُّ الصحراء في صيف مَوْجَةُ حَرِّه تَلْفَحُ الوجوه ليحلق به ﷺ وبجند الله -تعالى- الذين قطعوا هذه المسافة لإعلاء كلمة: لا إله إلا الله، وفي هذا تَذَكَّرْتُ قولَ رسول الله ﷺ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ، فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: تُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ، وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ، فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، فَقَالَ: تُجَاهِدُ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ، فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ، فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، وَيُقْسَمُ الْمَالُ، فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ»، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَى الله -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ قُتِلَ كَانَ حَقًّا عَلَى الله -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ غَــرِقَ كَانَ حَقًّـــا عَلَى الله أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ كَانَ حَقًّا عَلَى الله أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ». رواه أحمد (١٥٩٥٨) والنسائي (٣١٣٤) وصححه الألباني في الصحيحة (٢٩٧٩).
ونلمح في قصة أبي خيثمة -رضي الله عنه- أن العبد المؤمن الصادق ربما يعتريه الفتورُ أحيانًا، وتراوده نفسه عن القعود عن الطاعة، ويُلْقِي عليه شيطانه شِبَاك الغفلة، لكنه سرعان ما ينتبه، ويُفِيق من غفلته، ويَقْوى عزمه، وتنشط نفسه، فيمضـي مع السالكين على صِرَاطٍ مُسْتَقِيم.
ونلمح أيضًا في قول النبيّ ﷺ: «أَوْلَى لَكَ أَبَا خَيْثَمَةَ» عتابًا لطيفًا مِنْ أَرَقِّ وأَلْطَف مُعلِّم عرفته البشرية، عِتَابًا يحمل في طياته الرحمة، ويحفظ المُعاتَبَ مِن النُّفُورِ، ويدفعه بقوة نحو البُعد عن مواطن الهلكة فيما بَعد.
وقد جمع الشاعر قصة أبي خيثمة -رضي الله عنه- في أبيات قائلًا:

لك اللهُ أقبِلْ أبا خيثمة
                فللَّه صُنْعُكَ ما أكرمَه

قعدتَ فلمَّا كرهتَ القُعودَ
                نَفرتَ حَثِيثًا إلى المَلحَمَة

دخلتَ العريشَ على زوجتيكَ
                فسُبْحَانَ رَبِّكَ ما أعظمَه

نعيمٌ يَرُوقُ، وظِلٌّ يشوقُ
                وَعَيْشٌ يَسُـرُّكَ أن تغنمَه

فذكَّرَك اللهُ حَرَّ الجهادِ
                وأَلْهَمَ قلبك ما أَلْهَمَه

فقلتَ أيمضـي الرَّسُولُ الكريمُ
                يُكابد في الله ما جَشَّمَه؟

وَأَبْقَى هنا في هَوَىَ زوجتَيَّ
                وحُبِّ العريش كذي المَلأَمَةِ؟

وَسِرْتَ فأدركتَه في تبوك
                وللجيش من حَوله هَمْهَمَة

يقولون مَنْ ذا؟ وما خَطْبُه؟
                أَلَا إنَّه أبو خَيثمة

ألم يكُ في مَعشـر القاعدينَ؟
                فماذا عَراهُ؟ وما أقدمَه؟

هو اللهُ يهدي نفوسَ العبادِ
                ويرزقها الْبِرَّ والمَرحمة.


🟡 وحَانَ وَقتُ الرَّحيل:

وقد عُمِّرَ أبو خيثمة -رضي الله عنه- بعد رسول الله ﷺ إلى زمن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وبعد حياة طويلة في سبيل الله يحين وقت رحيله من الدنيا إلى أول منازل الآخرة، فينام أبو خيثمة على فراش الموت، وتخرج روحه لتلحق إن شاء الله بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، في جنات النعيم، وحسن أولئك رفيقًا. تاريخ الإسلام للذهبي (٦٥٧/٢) والإصابة لابن حجر (٩٣/٧).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..