مِنَ الْأَبْيَاتِ الشِّعْرِيَّةِ الَّتِي أَثَارَتْ نِقَاشَاتٍ مُسْتَفِيضَةً، وَحِوَارَاتٍ مُمْتَدَّةً، وَآرَاءً مُتَبَايِنَةً، قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَكُلُّ أُنَاسٍ سَوْفَ تَدْخُلُ بَيْنَهُمْ دُوَيْهِيَةٌ تَصْفَرُّ مِنْهَا الْأَنَامِلُ
وَالْبَيْتُ لِلَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ الْعَامِرِيِّ، الصَّحَابِيِّ الْمُخَضْرَمِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مِنْ قَصِيدَةٍ يَرْثِي بِهَا النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ. وَلَهُ بَيتٌ آخَرُ ذكرَ فِيهِ النَّاسَ وَهوَ قَولُهُ:
وَلَقَدْ سَئِمْتُ مِنَ الحَيَاةِ وَطُولِهَا وَسُؤَالِ هَذَا النَّاسِ كَيْفَ لَبِيدُ
وَالمُرَادُ بِقَولِ الشَّاعِرِ (أُنَاسٌ): أَي النَّاس، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، مِثْلَ: قَوْمٍ، وَرَهْطٍ.
وقيل فِي اشْتقَاقِ (النَّاسِ)، ثَلَاثةُ أقْوَالٍ، هِيَ:
1- مِن الأُنْس، لأَنَّهُ أَنِسَ بـ(حَوَّاء)، وقيلَ: بَل أَنِسَ بـ(رَبِّهِ)، ومنه قَولُ ذِيْ جَدَنٍ الحِمْيَرِيّ:
إِنَّ المَنَايَا يَطَّلِعْـ ـنَ عَلَى الأُنَاسِ الآمِنِينَا
2- أنَّ أصْلَهُ «نَوَسَ»، وَهُوَ الحَرَكَةُ.
3- أنَّ أَصْلَهُ «نَسِيَ»، وَمِنهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَإِنْ نَسِيْتَ عُهُوداً مِنْكَ سَالِفَةً فَاغْفِرْ فَأَوَّلُ نَاسٍ أَوَّلُ النَّاسِ
وَ«سَوْفَ» فِي بَيتِ القَصِيْدِ لِلتَّحْقِيقِ وَالتَّأْكِيدِ.
وَ«دُوَيْهِيَةٌ» تَصْغِيرُ دَاهِيَةٍ، وَهِيَ الْمُصِيبَةُ، يَعْنِي بِهَا هُنَا الْمَوْتَ. وَالدَّاهِيَةُ تُقَالُ لِلمُذَّكَرِ والمُؤَّنَثِ، وَيُسَمَّى بِهَا الخَيرُ والشَّرُ جَمِيْعاً.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: «فَصَغَّرَ الدَّاهِيَةَ مُعَظِّماً لَهَا لَا مُحَقِّراً لِشَأْنِهَا».
وَأَرَادَ بـِ«الأَنَامِل»: الْأَظْفَار، فَإِنَّ صُفْرَتَهَا لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْمَوْتِ.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ فِي «كِتَابِ الشِّعْرِ»: «فَاصْفِرَارُ الْأَنَامِلِ يَكُونُ مِنْ أَكْبَرِ الدَّوَاهِي؛ لِأَنَّهُ يَحْدُثُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّحْقِيرَ قَدْ يُعْنَى بِهِ تَعْظِيمُ الْأَمْرِ».
وَخِلَافاً لِمَا سَبَقَ، قَالَ أَبُو الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيُّ: «وَالْبَصْرِيُّونَ الْمُتَقَدِّمُونَ لَا يَرَوْنَ تَصْغِيرَ الشَّيْءِ عَلَى مَعْنَى التَّعْظِيمِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ قَوْلَ لَبِيدٍ: (دُوَيْهِيَةٌ)، وَهُوَ يُرِيدُ الْمَوْتَ، فَصَغَّرَهَا؛ إِذْ كَانَ الْمَوْتُ لَا يُرَى، فَكَأَنَّهُ خَفِيَ إِذْ كَانَ الْعَيَانُ لَا يُدْرِكُهُ».
وَلِذَلِكَ يَقُولُ ابْنُ يَعِيشَ: «فَالْمُرَادُ أَنَّ أَصْغَرَ الْأَشْيَاءِ قَدْ يُفْسِدُ الْأُصُولَ الْعِظَامَ».
وَذَهَبَ مَنْ لَمْ يَقْبَلِ الْقَوْلَ بِأَنَّ تَصْغِيرَ «دُوَيْهِيَةٍ» لِلتَّعْظِيمِ، إِلَى أَنَّ تَصْغِيرَهَا لِلتَّحْقِيْرِ، عَلَى حَسَبِ احْتِقَارِ النَّاسِ لَهَا، وَتَهَاوُنِهِمْ بِهَا، أَيْ يَجِيئُهُمْ مَا يَحْتَقِرُونَهُ مَعَ أَنَّهُ عَظِيمٌ فِي نَفْسِهِ، تَصْفَرُّ مِنْهُ الْأَنَامِلُ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ:
فُوَيْقَ جُبَيْلٍ سَامِقِ الرَّأْسِ لَمْ تَكُنْ لِتَبْلُغَهُ حَتَّى تَكِلَّ وَتَعْمَلَا
«وَرُدَّ بِتَجْوِيزِ كَوْنِ الْمُرَادِ دَقَّةَ الْجَبَلِ وَإِنْ كَانَ طَوِيلاً، وَإِذَا كَانَ كَذَا فَهُوَ أَشَدُّ لِصَعُودِهِ».
قَالَ ابْنُ سِنَانَ الْخَفَاجِيُّ فِي «سِرّ الفَصَاحَة»: «حُكِيَ أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدَ كَانَ يُنْكِرُهُ، وَيَزْعُمُ أَنَّ التَّصْغِيرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لَمْ يَدْخُلْ إِلَّا لِنَفْيِ التَّعْظِيمِ، وَيَتَأَوَّلُ (دُوَيْهِيَة) بِأَنَّهُ أَرَادَ خَفَاءَهَا فِي الدُّخُولِ، وَهُوَ ضِدُّ التَّعْظِيمِ الْمَذْكُورِ».
وبَيْتُ لَبِيدٍ هذَا قَبْله بَيْتٌ أَثْنَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِقَوْلِهِ: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ، كَلِمَةُ لَبِيدٍ: (أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلٌ...)»، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وفي رواية مسلم: «أَشْعَرُ كَلِمَةٍ تَكَلَمَت بِهَا العَرَبُ، كَلِمَةُ لَبِيْدٍ: ...».
والبيتُ كاملاً:
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلٌ وَكُلُّ نَعِيْمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ
يَظَلُّ بَيْتُ لَبِيدٍ دَلِيْلَ عَبْقَرِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، حَيْثُ يَتَحَوَّلُ التَّصْغِيرُ إِلَى تَعْظِيمٍ، فَالْجَمْعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ: تَصْغِيرٌ وَتَعْظِيمٌ، فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، إِبْدَاعٌ، وَإِمْتَاعٌ، لُغَوِيٌّ، عَرَبِيٌّ.
وَلَوْ رَفَضَ الْبَصْرِيُّونَ الْقَوْلَ بِالتَّصْغِيرِ تَعْظِيماً، فَإِنَّ دَلَالَتُهُ تَتَأَكَدُّ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَرْجِسٍ الْمُزَنِيِّ، حِيْنَ قَالَ: «رَأَيْتُ الْأُصَيْلِعَ عُمَرَ يُقَبِّلُ الْحَجَرَ، وَيَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ»، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، وَتَصْغِيرُ وَصْفِ عُمَرَ بِالْأُصَيْلِعِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا تَعْظِيماً لِلْفَارُوقِ.
--
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..