الصفحات

الثلاثاء، 1 أبريل 2014

الشيخ : محمد عبده /سيرة

        لئن كان السيد جمال الدين الأفغاني هو المؤسس لهذه المدرسة فإن محمد عبده هو الذي أقام صروحها ودعا إليها ونشرها بين الناس فكان بحق هو صاحبها وهو أستاذها وأمامها الأول فكان له من الأثر
فيها ما لم يكن لأستاذه السيد جمال الدين ولعل شهرة محمد عبده توجب علينا الاقتصار في ترجمته على بعض معالم حياته التي نستشف من ورائها اتجاهه الفكري ليس إلا.
اسمه ونسبه:  هو محمد بن عبده بن حسن بن خير الله.
حدث عن نفسه فقال "كنت أسمع المزاحين من أهل بلدتنا يلقبون بيتنا ببيت التركمان فسألت والدي عن ذلك فأخبرني أن نسبنا ينتهي على جد تركماني جاء من بلاد التركمان" (1) وقال "أما بيت والدتي فيقال أنه عربي قرشي وأنه يتصل في النسب بعمر بن الخطاب رضي الله عنه ولكن ذلك كله روايات متوارثة لا يمكن إقام الدليل عليها" (2) .
مولده ونشأته:
ولد في حصة شبشير من قرى إقليم الغربية ونشأ في قرية "محلة نصر" تبعد عن دمنهور نحو خمسة عشر كيلومتراً.
ولد في أواخر سنة 1265 هـ وتعلم القراءة في منزل والده بعد أن جاوز العاشرة ثم حفظ القرآن في سنتين انتقل بعدها إلى المسجد الأحمدي بطنطا ليتعلم التجويد ومكث سنة ونصفاً ولم يفهم فيها شيئاً لرداءة طريقة التعليم فيها حسب قوله (3) عاد بعدها إلى محلة نصر وتزوج سنة 1282هـ ثم ألزمه والده الذهاب إلى طنطا للتعلم فاستطاع الهرب في الطريق إلى بلدة "كنيسة أورين" ولجأ إلى أحد أخوال أبيه واسمه الشيخ درويش الذي حبب إليه العلم وطلبه بسبب طريقته في التدريس حتى صار طلب العلم وتحصيله أحب شيء إلى نفسه. أقام عند الشيخ درويش 15 يوماً انتقل بعدها إلى طنطا خوفاً من والده الذي وجهه إليها للدراسة ثم انتقل إلى الأزهر في منتصف شوال 1282هـ فداوم على طلب العلم على شيخه ويعود إلى محلة نصر في آخر كل سنة ليتلقى الدروس من الشيخ درويش الذي يسأله ما درست المنطق؟ ما درست الحساب؟ ما درست شيئاً من مبادئ الهندسة؟ وكان الأستاذ الإمام يلتمس عند عودته إلى القاهرة هذه العلوم عند من يعرفها إلى أن جاء السيد جمال الدين الأفغاني في شهر المحرم 1287 فتلقى عنه بعض العلوم الرياضية والفلسفية والكلامية ويدعو الناس إلى التلقي عنه فقرأ على السيد الزوراء للدواني في التصوف و(شرح القطب على الشمسية) و(المطالع) و(سلم العلوم في المنطق والهداية) و(الإشارات) و(حكمة العين) و(حكمة الإشراق في الفلسفة) و(عقائد الجلال الدواني في التوحيد) و(التوضيح مع التلويح في الأصول الوجغميني) و(تذكرة الطوسي في الهيئة القديمة) وكتاباً آخر في (الهيئة الجديدة)... (4)
وظهر تأثير السيد على الأستاذ سريعاً فبدأ في الكتابة والتأليف واتفق مع بعض الطلاب على أن يقرأ لهم بعض الكتب في المنطق وعلم الكلام مما لم يكن يقرأ مثلها في الأزهر فكثر سواد المجتمعين عليه. حتى اشتهر أمره مما أحفظ عليه قلب الشيخ محمد عليش الذي بلغه أن محمد عبده يقرأ كتب المعتزلة والمتكلمين في الأزهر ويرجح مذهبهم وإن الشيخ عليش – كما يقول العقاد – رجلا صالحا عفيفاً عن المطامع الدنيوية التي كانت تستهوي طلاب المظاهر من علماء عصره وكان مخلصاً صادق النية في كراهة البدع التي يخشى منها على الدين (5) وكبر عليه رحمه الله أن يقرأ أحد مثل تلك الكتب في الأزهر فأرسل إلى محمد عبده وناقشه نقاشاً أفضى إلى نزاع وخصومه قيل أنه ترك التدريس على إثرها في الأزهر وقيل أنه لم يتركه وأنه كان يضع بجانبه عصاً وقال إذا جاء الشيخ بعكازه فله هذه العصا.
وعرض نفسه على لجنة الامتحان في الأزهر لنيل شهادة العالمية في سنة 1294هـ فحصل عليها ولم يكن نيله لها بالمانع له من الاستمرار في طلب العلم فكان له في طلبه ثلاث مراحل (6) :
الأولى: الطلب على طريقة الأزهر المعروفة من مناقشة في عبارات المتون والشروح والحواشي والتقارير.
الثانية: ثم تحول عن تلك الطريقة إلى طريقة السيد الأفغاني الذي أطلقه من التقيد بعبارات المؤلفين وتعويده الحكم باليقين مع تطبيقه على حال المسلمين الحاضرة.
الثالثة: ثم أضاف إلى هذا النظر في علوم الإفرنج فقرأ مما ترجم من الكتب ثم تعلم الفرنسية وصار يقرأ بها.
المصلح المعلم:
عين بعد نيله الشهادة العالية مدرساً من دار العلوم للتاريخ وفي مدرسة الألسن الخديوية للعربية في أواخر سنة 1295هـ مع مداومته على التدريس في الجامع الأزهر فدرس في دار العلوم مقدمة ابن خلدون وكان غرضه من ذلك بث أفكاره الإصلاحية في السياسة وفي المجتمع وفي التعليم عبر ذلك الدرس الذي يفتح له المصارع في الحديث عن تلك الأمور من أوسع الأبواب وكان يكلف تلاميذه بكتابة المقالات ليعودهم الإحساس بمشاركته في الإصلاح والنقد فتكون آرائه لديهم أكثر قبولا وتأثيراً إلا أنه لم يلبث طويلاً حتى عزل لصلته بالسيد جمال الدين الأفغاني الذي صدر الأمر بنفيه. عزل عن التدريس وأمر بالمقام في بلده لا يبرحه حتى صدر الأمر بالعفو عنه سنة 1287هـ وعين رئيسا لتحرير الجريدة الرسمية (الوقائع المصرية) مما سنعرض له بعد وفي سنة 1300هـ 1882م حكم عليه بالنفي لاشتراكه في الثورة العرابية وتوجه إلى الشام حيث مكث فيه مدة نفيه إلا عشرة أشهر أقامها في باريس أصدر خلالها مع الأفغاني جريدة العروة الوثقى عاد بعد توقفها إلى الشام فبدأ درسه في منزله في بيروت في السيرة النبوية وقرأ في الجامع الكبير التفسير لا يلتزم كتاباً وإنما يقرأ في المصحف ويفسر (7) ودعي في سنة 1303هـ إلى التدريس في المدرسة السلطانية فلبى وكان له فيها إصلاحات متعددة فزاد في العلوم التوحيد ومعاملات الفقه والتاريخ والمنطق والمعاني والإنشاء ووجد أن المختصرات في التوحيد لا تأتي على الغرض من إفادة التلامذة والمطولات تعلو على أفهامهم والمتوسطات ألفت لغير زمانهم فأملى عليهم ما هو أمس بحالهم فكانت (رسالة التوحيد) (8) ونقل إلى العربية رسالة (الرد على الدهريين) لأستاذه الأفغاني وشرح كتاب (نهج البلاغة) و(مقامات بديع الزمان الهمذاني) (9) .
كان هذا جزءاً من مساهمته في الحركة العلمية أما أهم أهدافه في الإصلاح التعليمي فتلخصها لنا اللائحتان اللتان قدمهما إحداهما إلى الآستانة لإصلاح التعليم في سوريا والثانية إلى اللورد كرومر لإصلاح التعليم في القاهرة بعد عودته من منفاه.
أما الأولى فقدمت في سنة 1304هـ إلى شيخ الإسلام في الآستانة قسم الناس فيها إلى طبقات ثلاث وعين لكل واحدة منها حدا من هذه الفنون فالطبقة الأولى العامة من أهل الصناعة والتجارة والزراعة ومن يتبعهم ينبغي أن توضع لهم كتب التعليم الديني على الوجه الآتي:
أولاً: كتاب مختصر في العقائد الإسلامية المتفق عليها عند أهل السنة مع الإلمام بشيء من الخلاف بيننا وبين النصارى وبيان شبههم في معتقداتهم.
ثانياً: كتاب مختصر في الحلال والحرام والتنبيه على البدع المستحدثة.
ثالثاً: كتاب في التاريخ مختصر يحتوي على مجمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وخلفائه ثم يتبع ذلك بتاريخ الخلفاء العثمانيين.
أما الطبقة الثانية: فهم طبقة الساسة ممن يتعاطى العمل للدولة في تدبير أمر الرعية وحماتها من العسكريين وأعضاء المحاكم ورؤسائها ومأموري الإدارة على اختلاف مراتبهم فتوضع لهم الدروس كالآتي:
أولاً: كتاب يكون مقدمة للعلوم يحتوي على المهم في فن المنطق وأصول النظر وشيء من آداب الجدل.
ثانياً: كتاب في العقائد يوضع على قواعد البرهان العقلي والدليل القطعي مع التزام التوسط.
ثالثاً: كتاب يفصل فيه الحلال والحرام وأبواب الفضائل والرذائل ببيان أكمل مما في البداية.
رابعاً: تاريخ ديني يحتوي على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والفتوحات الإسلامية والعثمانية.
أما الطبقة الثالثة فهي طبقة العلماء من أهل الإرشاد والتربية واقتصر هنا على ذكر الفنون دون التعرض لأعيان الكتب إلا قليلاً على هذا الوجه:
أولاً: فن تفسير القرآن الكريم كتفسير الكشاف وتفسير القمي والنيسابوري ومن أخذ طريقهما.
ثانياً: فنون اللغة العربية.
ثالثا: فن الحديث مع التوفيق بينه وبين القرآن بإطراح الضعيف والتوفيق بينه وبين ما يوهم المخالفة من الصحيح.
رابعاً: فن الأخلاق والآداب الدينية بتفصيل تام على نحو ما سلك الغزالي في الأحياء.
خامساً: فن أصول الفقه ونرى أفضل كتاب لهذا المقصد الموافقات للشاطبي.
سادساً: فن التاريخ القديم والحديث.
سابعاً: فن الإقناع والخطابة.
ثامناً: فن الكلام والنظر في العقائد.
وهذه الطبقة الأخيرة ينبغي أن تكون تحت نظر شيخ الإسلام وتكون إدارتها تحت عنايته في سلك خاص ويدعى لها بالمدرسين المتبصرين ولا يعطى الطالب منها شهادة عالية إلا بعد امتحان شديد في العلوم المتقدمة والبحث الكامل عن سيرته في أحواله وأعماله والتحقق من تقدمه في الفضيلتين العلم والعمل (10) .
أما إصلاح التعليم في مصر فقد تمثل في اللائحة التي قدمها إلى اللورد كرومر ممثل الاحتلال البريطاني وبدأ تلك اللائحة ببيان أهمية الإصلاح وأن حاجة الحاكم إلى صلاح الناس ليست بأخف من حاجتهم إلى صلاحه ويشبه الحاكم بالصانع والمحكومين بالآلة فهو كاتب مثلا وهم قلمه فلا يكتب القلم بلا كاتب ولا يكتب الكاتب بلا قلم ثم يحث المستعمر على إصلاح التعليم ويسهل له الأمر مبينا أن أهل مصر قوم سريعو التقليد أذكياء الأذهان أقوياء الاستعداد للمدنية بأصل الفطرة فحاكمهم إذا كان رأسا فهم بدنه وإذا كان عاملا فهم آلته فلابد من استصلاحهم حتى يستقر سلطانه عليهم زمناً مديداً ثم يبين أن الإصلاح في المدارس التي ليس عليها رقيب سوى أهل السلطة السياسية لا غير فلهم أن يأخذوا من الدين أصوله ويغرسوها في المدارس ويحملوا نفوس طلاب العلم عليها ولا يستعرضون لما زاد عنها ثم بين أنهم لن يجدوا من يعارض من أهل الدين لأنهم لا يهتمون بما لا يقع تحت نظرهم مباشرة.
المدارس الأميرية:
ثم تكلم عن المدارس الأميرية وأنه ليس فيها شيء من المعارف الحقيقية ولا التربية الصحيحة ثم بين رغبة الناس فيها زمن إسماعيل ليستريحوا من نفقة أبنائهم وأن يتعلموا ما يؤهلهم للقيام بعمل من أعمال الحكومة. أما تكوينه بالتعليم والتربية رجلا صالحا في نفسه يحسن القيام بالأعمال التي تسند إليه فلم يخطر ببال المسلمين ولا من ولاهم أمر التعليم.
المدارس الأجنبية:
أما المدارس الأجنبية على تنوعها فاختلاف مذاهب المعلمين والمتعلمين يضعف تلك المدارس من التربية العمومية فقليل من المصريين من يرغب في تعليم أولاده فيها مع مداومتهم على نصيحة أولادهم بعدم الالتفات إلى ما يقوله المعلمون فيها حفظاً لاعتقادهم... مما يحدث الاضطراب في طبيعة الفكر والتزلزل في الأخلاق وقد أحدثت هذه المدارس النفرة في قلوب المسلمين.
الجامع الأزهر:
هو مدرسة دينية عامة يأتي الناس إليها إما رغبة في تعلم العلوم الدينية رجاء ثواب الآخرة وإما طمعا في امتيازات لطلاب العلم فيه ومما يؤسف عليه أنه لا نظام لها في دروسها ولا يبالي الأساتذة بحضور الطلاب أو غيابهم وفهمهم أو عدمه وصلاح أخلاقهم أم فسادها ويتعلمون طرقا من العقائد على منهج يبعد عن حقيقته أكثر مما يقرب منها ثم يتكلم عن إصلاح الأزهر وأنه لابد أن يكون بالتدريج في تغير نظام الدروس وجعلها في البدء تحت قواعد ساذجة قريبة من الحالة الحاضرة فيها بوجوب الحضور للطلبة وإلا حرم من الامتيازات وكل أستاذ يسأل عن طلبته وتغير برنامج الدروس وزيادة أصناف من الكتب وتعديل نظام الامتحان النهائي وشروطه.
ثم تكلم عن الكتاتيب الأهلية وأن إصلاحها بالتدرج في إصلاح الفقهاء المدرسين فيها ثم تكلم عن المكاتب الرسمية الابتدائية والمدارس التجهيزية والمدارس العالية بوجوب غرس مبدأ الصلاح في نفوس التلاميذ ليحسنوا استعمال ما تعلموا ثم يتحدث عن المعلمين والمربين ومدرسة دار العلوم وشروط الانتساب إليها وغاية إنشائها وهي إعداد خريج الأزهر لتدريس العلوم العربية والدينية ويستغرب أمر نظار دار العلوم وجهلهم بالدين والعربية ويرى إمكانية حلول دار العلوم هذه عن الجامع الأزهر ولكن يلزم لذلك أمور اثنا عشر ذهب يعددها كإصلاح البرنامج وحذف بعض العلوم وتغير طريقة تفسير القرآن واختيار المعلمين الصالحين وناظر للمدرسة وتحديد الدراسة فيها سنة للتدريب على التعليم ونحو ذلك. ثم أنه يلزم كتب تؤلف جديداً ولوائح تنظم للعمل على مقتضاها كان ذلك إيجازا لتلك اللائحة التي نبذها من كتبت له وراء ظهره ولم يوافق الخديو توفيق على تعيين صاحبها بعد عودته من سوريا مدرساً في دار العلوم بل أمر بإقصائه عن التعليم فعين قاضياً في الريف (11) .
واستمر بعد هذا في إصلاحه للأزهر الذي كان يسميه بـ "الإصطبل" و"المارستان" و "المخروب" (12) ولم تتح له الفرصة للإصلاح إلا بعد أن تولى عباس الثاني الخديوية سنة 1892م الذي أراد مناهضة الاحتلال الذي استأثر بالحكم فقرب الزعماء والعلماء المصريين وكان من بينهم الأستاذ الإمام محمد عبده فذكر له أنهم تركوا له الأزهر والأوقاف الإسلامية والمحاكم الشرعية وبصلاحها صلاح للبلاد وهي أقرب وسيلة للقضاء على الاحتلال (13) فاقتنع عباس بهذا وأصدر مرسوماً يقضي بإنشاء مجلس لإدارة الأزهر من أعضائه محمد عبده سنة 1312هـ وأمر بتعيين الشيخ حسونة شيخا للأزهر سنة 1313هـ بعد استقالة الشيخ الأنبابي الذي يعارض هذا الاتجاه فبدأ في الإصلاح الحسي والمعنوي فأنار المسجد وعين طبيباً وفتح صيدلية للأزهر وأنشأ الميضأة الصحية وتجديد مبان صحية في الأروقة وحددت مدة الدراسة وامتحان سنوي لمن يغب مع مكافأة مالية للناجحين واستبدال الكتب النافعة بالكتب الضارة – حسب قولهم – وجعل مدة دراسة المقاصد كالفقه والتفسير أطول من مدة الوسائل كالنحو والصرف وبزيادة علم الأخلاق والتاريخ وتقويم البلدان والرياضيات وغير ذلك كثير من الإصلاحات التي نفذ القليل منها وترك الكثير إذ لم يلبث أن تغير ظن عباس باشا بالأستاذ الإمام أدى إلى خلاف فاستقال محمد عبده في محرم سنة 1323هـ وكان هذا آخر جهوده في إصلاح التعليم. فمات بعد ذلك بفترة قصيرة.
ومن الملاحظ أني استطردت في هذا الموضوع إذ هو المراد الأكبر الذي وجه إليه الأستاذ الإمام همه وفكره إذ كان يرى أن النهضة الإسلامية لن تكون إلا بإصلاح التعليم وخالف أستاذه الأفغاني الذي يرى أن السبيل إلى ذلك "الثورة السياسية" فكانت دعوة الأول علمية والثاني سياسية.
وقد كان للإمام نشاط سياسي أيضاً نشير إليه.
المصلح السياسي:
كان من أهداف الإمام الإصلاح السياسي للبلاد حيث يقول "وهناك أمر آخر كنت من دعاته والناس جميعاً في عمى عنه وبعد عن تعقله ولكنه هو الركن الذي تقوم عليه حياتهم الاجتماعية" (14) ثم يبين دعوته بقوله "ذلك هو التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب وما للشعب من حق العدالة على الحكومة" (15) ثم يبين حالها "وجهرنا بهذا القول" (16) وحال الدولة "والاستبداد في عنفوانه والظلم قابض على صولجانه" (17) وحال الداعي "نعم أنني لم أكن الإمام المتبع ولا الرئيس المطاع غير أني كنت روح الدعوة" (18) وزاد هذه الدعوة اشتعالا اتصال صاحبها بالأفغاني الذي زادها اتساعاً وعمقاً ولم يلبث الأفغاني أن نفي من البلاد لهذا النشاط وعزل الإمام عن عمله وأجبر على الإقامة في بلده وبعد العفو عنه وعودته إلى العمل كانت في البلاد حركة ضد الاحتلال يقودها عرابي كان من أسبابها نشاط الأفغاني السابق نفي الإمام أن يكون له بها صلة بل إنه كان يحذرهم من هذا الأسلوب ويندد بزعمائها حتى أرسل إليه عرابي (19) من يتهدده ويعلل رشيد رضا رفض الإمام للحركة مع دعوته للإصلاح السياسي أنه كان يحاول ذلك برضا الأمير وحكومته لا بالخروج عليه (20) ولما استفحلت الحركة العرابية وضرب الأسطول الإنجليزي الإسكندرية انضم الشيخ محمد عبده إلى العرابيين وبعد القضاء على الثورة العرابية حكم على الإمام بالنفي ثلاث سنوات فاتجه إلى الشام ثم غادرها بعد ذلك إلى باريس حيث التقى هناك بالأفغاني وأنشئا جريدة (العروة الوثقى) التي كانت حربا على الاستعمار الإنجليزي وكانت الأفكار للأفغاني والعبارة للإمام (21) ثم توقفت الجريدة بعد فترة قصيرة واهتزت العلاقة بين الأستاذ وتلميذه فقد كان الأستاذ يرى الاستمرار في الإصلاح عن طريق الثورة السياسية واكتفى محمد عبده بما حصل له من السياسة ورأى التحول إلى أسلوب التربية والتعليم قائلاً لأستاذه "أرى أن نترك السياسة ونذهب إلى مجهل من مجاهل الأرض لا يعرفنا فيه أحد نختار من أهله عشرة غلمان أو أكثر من الأذكياء السليمي الفطرة فنربيهم على منهجنا ونوجه وجوههم إلى مقصدنا فإذا أتيح لكل واحد منهم تربية عشرة آخرين لا تمضي بضع سنين آخرى إلا ولدينا مئة قائد من قواد الجهاد في سبيل الإصلاح ومن أمثال هؤلاء يرجى الفلاح "فقال له السيد إنما أنت مثبط نحن قد شرعنا في العمل ولابد من المضي فيه ما دمنا نرى له منفذاً (22) فكان الفراق. وعاد الإمام إلى الشام وازدادت العلاقة سوءاً بين الأستاذ وتلميذه حينما كتب الثاني إلى الأول بعد استقراره في الآستانة كتاباً غفلاً من التوقيع وتلميحاً لبعض الأشخاص من غير ذكر أسمائهم فغضب السيد وكتب إليه يقول بعد الدعاء له بتثبيت الجأش "تكتب ولا تمضي وتعقد الألغاز.. إنك في آفاق مكفهرة.. وأمامك الموت.. لا ينفعك الحذر من الأول ولا ينجيك الخوف من الثاني فلا تضيق على نفسك فكن فيلسوفاً يرى العالم ألعوبة ولا تكن صبياً هلوعاً.. قوى الله قلبك" (23) .
ولعل هذا آخر ما كان بينهما من تواصل (24) بل ويوضح لنا انقطاع الصلة بينهما أنا لا نرى للإمام كلمة في رثاء أستاذه" (25) .
ونهج الأستاذ الإمام بعد عودته سبيل الإصلاح التعليمي وازداد كراهته للسياسة شدة وغمز في طريقة أستاذه بتخطئته أذكياء المسلمين الذين يريدون خدمة الإسلام من طريق السياسة (26) وبلغ كرهه للسياسة أوجه حين قال "أعوذ بالله من السياسة ومن لفظ السياسة ومن معنى السياسة ومن كل حرف يلفظ من كلمة السياسة ومن كل خيال ببالي من السياسة ومن كل أرض تذكر فيها السياسة ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم أو يجن أو يعقل في السياسة ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس" (27) وليس بعد هذا كره للسياسة.
بقي أن نقول هنا أنه ترك السياسة ولم تتركه بل استغلته واتخذته مطية لها وخداماً للإنجليز من حيث يدري أو من حيث لا يدري حيث يقول اللورد كرومر: "أن أهميته السياسية ترجع إلى أنه يقوم بتقريب الهوة التي تفصل بين الغرب وبين المسلمين وأنه هو وتلاميذ مدرسته خليقون بأن يقدم لهم كل ما يمكن من العون والتشجيع فهم الحلفاء الطبيعيون للمصلح الأوروبي" (28) .
المصلح الصحفي:
شارك الإمام محمد عبده في الصحافة فبدأ الكتابة في (الأهرام) ثم كتب في (التجارة) وفي مصر بإيماء من أستاذه الأفغاني (29) الذي ساهم في إنشائهما وكانتا مع غيرهما من المجلات كـ (مرآة الشرق) طوع إشارة الأفغاني (30) ثم وبعد نفي السيد والعفو عن الإمام بعد عزله عن التدريس أسند إليه منصب التحرير لجريدة (الوقائع المصرية) وهي الجريدة الرسمية وقد أرادوا بهذا عزله عن الإصلاح والتعليم ولكنه قلب الموازين والمقاييس فجعلها منبراً لبث أفكاره وآرائه بعد أن عين رئيساً للتحرير فاختار لها محررين مهرة ووضع لها لائحة أنفذها رياض باشا وكان من أحكامها أن جميع الإدارات الحكومية مكلفة أن تكتب للجريدة بما عملت فأتمت وما شرعت فيه ولم تتمه وكذلك المحاكم وأن للجريدة الحق في نقد الأعمال والمكتوبات الرسمية والمراقبة على الجرائد العامة والتحقيق فيما تنشره من نقد فإن كان حقاً وجب عقاب المذنب وإن كان كذباً أنذر مدير الجريدة فإن تكرر ثلاثاً فلها منع إصدارها البتة أو إلى أجل ومن حقها أن يجعل فيها قسم غير رسمي ينشر فيه ما يرى نافعاً من المقالات الأدبية (31) فكان لها مكانة كبيرة في بث أفكاره ووقعت الثورة العرابية ونفي الشيخ، وأنشأ مع الأفغاني (العروة الوثقى) وكانت العبارة فيها كما قلنا سابقاً عبارته والفكرة فكرة الأفغاني وكانت لها مكانة في الكفاح ضد الاستعمار الإنجليزي.
وعاد إلى سوريا وكان له مشاركة في الصحف السورية كجريدة (ثمرات الفنون البيروتية) وبعد عودته إلى مصر استشاره تلميذه السيد رشيد رضا في إصدار مجلة فأذن له وشارك في إنشائها واختار لها اسم (المنار) ووجه صاحبها إلى بعض الأمور وكانت تنشر دروسه وأخباره وتفسيره للقرآن الكريم.
المصلح والتقريب بين الأديان:
لا شك أن اليهودية العالمية "الصهيونية" لا تألوا جهدا في سبيل تثبيت أركانها وتوطيد قوائمها ولا تترك سبيلاً لتحقيق ذلك إلا انتهجته.
ومهما كان من تناقض بين هذه المبادئ والمناهج فإنها تلتقي في النهاية عند خدمة الصهيونية العالمية.
فليست الرأسمالية إلا وليدة الصهيونية العالمية وليست نقيضتها الشيوعية إلا وليدة أفكارها ومبادئها وهما تلتقيان على خدمتها وترسيخ نفوذها مهما كان التناقض بينها ظاهراً.
سعت الصهيونية إلى القضاء على الأديان كافة فأنشأت الماسونية وكانت لها محافل إنجليزية وفرنسية وغيرها وكلها قد يبدو ظاهرها أنها لا تخدم إلا من تنتسب إليه أما الإنجليز أو الفرنسيين مثلاً ولكنها في الحقيقة فوق هذا وذاك هي في خدمة الصهيونية العالمية.
أرادت الصهيونية أن تفتح طريقاً جديداً لتحقيق أهدافها حين أدركت أن بعض القوم قد أدركوا حقيقة الماسونية وسعيها للقضاء على الأديان فأرادت وحتى تكون أكثر قرباً للمتدينين أن يكون هذا الطريق طريقاً دينياً بحتاً فأمرت أتباعها ببث فكرة التقريب بين الأديان والقضاء على الفوارق الدينية حتى يكون الناس كلهم أمة واحدة.
وما تلكم الدعوة في حقيقتها إلا تذويب للأديان وامتصاص لعداوتها لليهودية وحينما يتم التقريب بين الأديان فإن العلمانية – حتما – هي النتيجة وحينئذ يسهل القضاء عليها لتزول الأديان كلها وتتحقق أهداف الماسونية من طريق جديد – بل أهداف الصهيونية.
غابت تلك الحقيقة عن أذهان كثير من المخدوعين بما ينتجه الغرب والمشدوهين بما يصدر منه من أفكار ومبادئ، أعماهم الإعجاب بالغرب عن التأمل فيما يبثه من أفكاره واكتفوا منه بصبغته الظاهرة للعيان.
وكان من أولئك القوم المخدوعين رجال المدرسة العقلية الحديثة بزعامة أستاذهم وإمامهم محمد عبده فبعد أن توقفت (العروة الوثقى) وعاد الإمام إلى بيروت أنشأ فيها جمعية سياسية دينية سرية هدفها التقريب بين الأديان الثلاثة "الإسلام والمسيحية واليهودية" واشترك معه في تأسيسها ميرزا باقر، وبيرزداه، وعارف أبي تراب، وجمال بك نجل رامز بك التركي قاضي بيروت، ثم انضم إليها مؤيد الملك أحد وزراء إيران، وحسن خان مستشار السفارة الإيرانية بالآستانة، والقس إسحاق طيلر، وجي دبليو لينتر، وشمعون مويال، وبعض الانكليز واليهود وكان الإمام صاحب الرأي الأول في موضوعها ونظامها وميرزا باقر هو الناموس "السكرتير" العام لها (32) وهو إيراني تنصر وصار مبشراً نصرانياً وتسمى بميرزا يوحنا ثم عاد إلى الإسلام.
ودعا أعضاؤها إلى فكرتهم في صحفهم ورسائلهم، وهذا الشيخ محمد عبده يكتب رسالة إلى القس إسحاق طيلر يقول فيها "كتابي إلى الملهم بالحق الناطق بالصدق حضرة القس المحترم إسحاق طيلر أيده الله في مقصده ووفاه المذخور من موعده" "إلى أن قال ".. ونستبشر بقرب الوقت الذي يسطع فيه نور العرفان الكامل فتهزم له ظلمات الغفلة فتصبح الملتان العظمتان المسيحية والإسلام وقد تعرفت كل منهما إلى الأخرى وتصافحتا مصافحة الوداد وتعانقتا معانقة الألفة، فتغمد عند ذلك سيوف الحرب التي طالما انزعجت لها أرواح الملتين (33) "ويقول:- "وإنا نرى التوراة والإنجيل والقرآن ستصبح كتباً متوافقة، وصحفا متصادقة يدرسها أبناء الملتين ويوقرها أرباب الدينين فيتم نور الله في أرضه ويظهر دينه الحق على الدين كله" (34) ؟!!
بينما يردد الشيخ محمد عبده هذا القول وأمثاله ينشر جي دبليولينتر مقال (الإسلام والمدارس المحمدية) في الديلي تلغراف اللندنية جاء فيه "وإحسان المسلمين لمواليهم وإشفاقهم على البهائم التي ترجع أيضاً إلى الرب وإنفاقهم في سبيل الخير والسذاجة التي هي من خصال المؤمنين الصادقين أحرى بأن تميلنا إليهم من أن نصيح على النبي الكاذب" (35) وقال أيضاً "وإن كنا نريد أن نلصق المسلمين بالدولة الإنكليزية فيجب علينا أن نهب لهم الدين والدنيا" (36) وقال "ومن جملة المساعي التي أؤكد الشروع فيها إدخال الشبان المسلمين... في مدارسنا الحربية" (37) . ويقول إسحاق طيلر "إن المسلمين قد آمنوا بالمسيح عليه السلام.. فهم عندنا مسيحيون نصلي لهم كل يوم أحد ونسأل الله أن يهديهم وإيانا إلى الحق وإلى طريق مستقيم" (38) .
أي تقريب هذا؟! الأول يضع نصب عينيه خدمة دولته الانكليزية فيصور حالة المسلمين كما فهمها ويرشدها إلى ألطف المداخل لإلصاق المسلمين بها وينصحها بالمزاوجة بين الدين والدنيا في حكمها ويشير عليها بتدريب الشبان المسلمين في مدارسها الحربية ليكونوا أعوانا لهم في تحقيق مساعيهم.
أين التوفيق والتقريب؟!! اللهم إلا أن يكون إخضاع المسلمين للإنكليز وإيقاعهم في حبائلهم يعني توفيقاً" (39) .
أما الثاني فيكشف عن مراده بالمسلمين "فهم عندنا مسيحيون" ويصلي لهم كل يوم أحد ويسأل الله لهم الهداية.
ولعل أول ثمرة يجنيها أولئك القوم في سعيهم إلى التقريب بين الأديان القضاء على فكرة الجهاد في الإسلام فما دامت الأديان الثلاثة كلها حق وليس بينها من فرق فليس هناك من داع لحمل السيف وإعلان الجهاد ضد النصارى مثلاً، وهو الأمر الذي أقلق بريطانيا كثيراً وهي دولة نصرانية فسعت بشتى السبل للقضاء على هذه العقيدة الإسلامية فأنشأت القاديانية التي حرمت قتال الإنجليز والبهائية كذلك، وأيدت حركة أحمد خان الذي أعلن أن قتال الإنجليز كفر وأن مساعدتهم واجبة.
ومن أثر هذه الدعوة ما نراه بارزاً في حديث رجال المدرسة العقلية الحديثة من تقليل شأن الجهاد في نشر الإسلام وأنه قام على الدعوة باللسان "وعللوا كل حركة من حركاته بأنها للدفاع بمعناه الاصطلاحي الحاضر الضيق" (40) فلقد زعم السيد رشيد رضا "أن حروب النبي صلى الله عليه وسلم للكفار كانت كلها دفاعاً" (41) .
لذلك فلا عجب أن تؤيد انجلترا تلك الجمعية وذلك الاتجاه ما دام فيه تحقيق لهدف طال ما سعت إليه وبذلت فيه الغالي والنفيس وهو إبطال الجهاد.
لن نحاسب رجال المدرسة العقلية بزعامة أستاذهم بحقيقة عصرنا التي كشفت زيف هذه الدعوات في توحيد الأديان ففي الوقت الذي يدعو فيه بعض المسلمين إلى التقريب بين الإسلام والنصرانية ويتنقلون بين باريس والفاتيكان تقوم بعض الدول النصرانية بإشعال نار الحرب الصليبية العاشرة في لبنان، لا للتقريب بين المسلمين والنصارى فيه بل لطرد المسلمين وانفراد النصارى به وإقامة دولة نصرانية في لبنان كالدولة اليهودية في فلسطين، ولا غرو أن تقوم الدولة اليهودية "إسرائيل" بمساعدة النصارى في ذلك وتمكينهم من قيام دولة لهم بجوارهم ففي ذلك تبرير لقيام إسرائيل اليهودية أولاً وحرب للإسلام ثانياً وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى [البقرة: 120].
ومع هذا تأبى طائفة منا أن تصدق بهذا وتحاول أن تخدع نفسها بتسميتها بحرب أهلية وما هي بأهلية ولكنها صليبية وليرحمك الله يا صلاح الدين..
لن نحاسب الإمام بهذه الحقيقة وحقائق غيرها كثيرة ولكننا نحاسبه بحقيقة الإسلام التي لا تخفى على مثله وعلى أمثال تلاميذه.
جاور الرسول صلى الله عليه وسلم يهود المدينة سنوات دعاهم فيها إلى الإسلام ولم يدعهم إلى التوفيق أو التقريب.
وحاج وفد من نجران الرسول صلى الله عليه وسلم فدعاهم إلى الإسلام ولم يدعهم إلى التوفيق أو التقريب، ولو علم خيراً أو بعض خير في ذلك لفعله (42) .
وكتب إلى هرقل عظيم الروم "أما بعد.. فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسين قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 64] (43) .
وليست تلك الطريقة خاصة به صلى الله عليه وسلم بل هي "دعاية الإسلام" ولم يدعه إلى التقريب والتوفيق بل إلى "أسلم تسلم" كان الأحرى بمحمد عبده ومن نحا نحوه أن يدعوهم إلى الكلمة السواء امتثالاً لأمر القرآن – الذي حفظه في صغره – واقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم وكان الأحرى بالنصارى حاملي هذه الفكرة كشف الحقيقة الإسلامية لقومهم بدلاً من تزييفها وطمسها عنهم وبدلاً من استغلال أحوال المسلمين لتنصيرهم وإفساد شبابهم.
نحاسبهم بقول محمد رشيد رضا الذي يرثي في جريدته (المنار) "خريستو غورس جباره" الذي وصل في الكنيسة الأرثوذكسية إلى رتبة الأرشمندريت بقوله "كان الفقيد موحداً يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر والقرآن ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم ويخالف المسلمين في مسألة الصلب" يؤمن بالقرآن ويعتقد بالصلب!! ويؤمن بمحمد ولا يتبعه!! ويؤمن بالقرآن ولا يمتثل أوامره!! ثم يفوض السيد رشيد أمره في الآخرة إلى العليم الرحيم إلا أنه يندم على هذا فيستدرك في تاريخ الأستاذ الإمام ويقول "وأنا أعتقد أنه مؤمن ناج عند الله إذا كان قد مات على ما عرفته منه وهو في مسألة الصلب متأول معذور"!! (44) .
المصلح القاضي:
وكان من إصلاحات الإمام إصلاح المحاكم الشرعية بعد أن عهدت إليه الحكومة بعد تقليده الإفتاء بتفتيشها وبيان رأيه في إصلاحها فكتب تقريراً في 83 صفحة كان من أهم الاقتراحات توسيع دائرة اختصاصها وعدم حصر منصب القضاء في الحنفيين وتأليف لجنة من العلماء لاستخراج كتاب في أحكام المعاملات الشرعية ينطبق على المصالح في هذا العصر (45) وإصلاح المحاكم وأثاثها وزيادة الرواتب والاستقلال بالرأي والعناية بتنفيذ أحكامها.
المصلح الاجتماعي:
أسس محمد عبده مع نفر من أصدقائه "الجمعية الخيرية الإسلامية وكان هو الواضع لمشروع نظامها وهدفها تربية أولاد الفقراء تربية يحافظون فيها على عقائدهم وآداب دينهم وأخلاقه وأعماله ويستعينون بها على معايشهم وتحصيل أرزاقهم (46) وقد فسر محمد عبده جزء عم لطلابها وكان في نيته أن يتبعه بتفسير جزء تبارك (47) وأدركته المنية قبل ذلك وقد اتسع نشاط هذه الجمعية وكثرت مدارسها وعم نفعها.
وكان له من النشاط الإسلامي أيضاً جمعية إحياء الكتب العربية التي قامت بطبع بعض الكتب الدينية والعربية.
وكتب لائحة في إصلاح المساجد وأوضاع القائمين بها من أئمة ومؤذنين وخدم وملاحظين وقراء، عمل ببعضها وترك الباقي.
تفسيره:
كان من أهداف محمد عبده تنقية تفسير القرآن مما علق به من الإسرائيليات والأحاديث الموضوعة والخرافات والاستطرادات النحوية ونكت المعاني ومصطلحات البيان وجدل المتكلمين وتخريجات الأصوليين واستنباطات الفقهاء المقلدين وتأويلات المتصوفين وتعصب الفرق وكثرة الروايات والعلوم الرياضية والطبيعية (48) .
ولم يكن تطهير التفاسير القديمة من هذا أمراً ميسوراً فهو تراث ضخم يحتاج تجريده منها إلى إمكانات واسعة من أموال وعلماء وزمن وذلك عسير فلهذا رأى أن يبقى على هذا التراث كما هو لما فيه من نفائس وأن يضع نموذجاً للتفسير يحتذيه معاصروه ومن بعدهم (49) فاقترح عليه تلميذه محمد رشيد رضا أن يقرأ درساً في تفسير القرآن فاستجاب له وبدأ التفسير في الأزهر في غرة المحرم 1317هـ وانتهى في سنة 1323هـ عند تفسيره قوله تعالى وَكَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا من الآية 126 من سورة النساء وكان تفسيره الخمسة مجلدات الأولى من (تفسير المنار) وتوفي بعد ذلك.
وقد كانت طريقته في الدرس التوسع فيما أغفله أو قصر فيه المفسرون واختصار ما برزوا فيه. والروايات التي لا تدل عليها ولا تتوقف على فهمها الآيات ويتوكأ في ذلك على عبارة (تفسير الجلالين) فكان يقرأ عبارته فينقدها أو يقرها ثم يتكلم بما يفتح الله عليه (50) .
وقد سبق له التفسير قبل هذا القاء وكتابه فألف (تفسير جزء عم) لطلبة الجمعية الخيرية الإسلامية كما سبق وألف (تفسيراً لسورة العصر) ألقاه في الجزائر ثم نشره في (المنار) وطبع بعد ذلك مستقلاً وهو غير تفسيرها في جزء عم. وكان يشرح بعض الآيات التي يثار حولها بعض الشبهات كالآيات 52-53-54 من سورة الحج وهي قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ إلى قوله سبحانه أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ فند فيها قصة الغرانيق وكقوله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ 37 من سورة الأحزاب ويفند الشبهات في مسألة زيد وزينب.
ولن نعرض لمنهجه في التفسير إذ هو أصل منهج المدرسة الذي سنعرض له في محله إلا أنه ينبغي لنا أن نذكر هنا بيتا قاله في مرض موته ضمن أبيات:
وخرج وحي الله للناس عاريا عن الرأي والتأويل يهدي ويلهم

وعلق عليه تلميذه رشيد رضا بأنه "آخر نص صريح من الأستاذ الإمام في اتباع مذهب السلف في تفسير القرآن.. ومراده بالرأي الذي ينهى عنه أتباع الهوى.. وبالتأويل الخروج في تفسيره عن مدلول النظم العربي البليغ وما يخالف المحكم الذي هو أم الكتاب أو ما أجمع عليه أهل الصدر الأول" (51) فهل هو رجوع منه إلى منهج السلف عند وفاته.
مؤلفاته:
لم يكن الإمام يميل إلى التأليف بل كان يرى أن الكلام المسموع يؤثر في النفس أكثر مما يؤثر الكلام المقروء "ويعلل هذا "بأن نظر المتكلم وحركاته وإشارته ولهجته في الكلام كل ذلك يساعد على فهم مراده من كلامه" وأنه "يمكن السامع أن يسأل المتكلم عما يخفى عليه من كلامه فإذا كان مكتوباً فمن يسأل؟ وأن السامع يفهم 80% من مراد المتكلم والقارئ لكلامه يفهم منه 20% على ما أراد الكاتب" (52) .
كانت تلك نظرة الإمام ولعلها أثر من آثار أستاذه فيه ولكنه مع هذا خلف مؤلفات غير قليلة وكتب الكثير في الصحف فمن مؤلفاته غير ما سبق ذكره في تفسيره.
1- (الواردات): أول تأليفه في الكلام أو التوحيد على الطريقة الصوفية وأسلوبهم.
2- (رسالة في وحدة الوجود).
3- (تاريخ إسماعيل باشا).
4- (فلسفة الاجتماع والتاريخ) ألفه حينما كان مدرساً في دار العلوم وهي مفقودة.
5- (حاشية عقائد الجلال الدواني في علم الكلام) ونشرتها دار إحياء الكتب العربية بتحقيق سليمان دنيا في مجلدين تحت عنوان (الشيخ محمد عبده بين الفلاسفة والكلاميين) سنة 1377هـ.
6- (شرح نهج البلاغة) وهو الكتاب المنسوب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وطبع مراراً.
7- (شرح مقامات بديع الزمان الهمذاني) وهو مطبوع.
8- (شرح البصائر النصيرية في المنطق).
9-( نظام التربية والتعليم بمصر).
10- (رسالة التوحيد) وهي أهم مؤلفاته وأشهرها على الإطلاق وطبعت مراراً وحازت على قبول كثير من النصارى فاقترح بعضهم تدريسها في مدارسهم بعد حذف مبحث نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم وتبرع آخر بتوزيع بعض نسخها وقرظها بعضهم بإعجاب شديد ولم يسمح المؤلف لأحد أن يشرح هذه الرسالة ولا أن يضع لها حاشية وعلل هذا تلميذه رشيد رضا بأنه تعمد الإبهام في بعض المباحث (53) .
11- (تقرير المحاكم الشرعية).
12- (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) وطبع مراراً.
وقد سبق لنا القول في مؤلفات الأفغاني أنه قد وقع الخلط في بعض الرسائل المطبوعة بين ما للأفغاني وما لمحمد عبده كبحث (التعصب) مثلاً و(القضاء والقدر) و(الوحدة الإسلامية) وهي مقالات نشرت في (العروة الوثقى).
أهدافه وآراؤه:
يلخص لنا محمد عبده ما نادى به وارتفع صوته بالدعوة إليه بما نقتبس منه:
الأول: تحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف واعتباره من ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه وتقلل من خلطه وأنه على هذا الوجه يعد صديقاً للعلم.
الثاني: إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير.
الثالث: وهنا أمر آخر كنت من دعاته والناس جميعاً في عمى عنه وبعد عن تعقله ذلك هو "التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب وما للشعب من حق العدالة على الحكومة" (54) .
ثم يعلن النتيجة "إنني في كل ذلك لم أكن الإمام المتبع ولا الرئيس المطاع غير أني كنت روح الدعوة وهي لا تزال بي في كثير مما ذكرت قائمة ولا أبرح أدعو إلى عقيدتي في الدين.
وأطالب بإتمام الإصلاح في اللغة وقد قارب.
أما أمر الحكومة والمحكوم فتركته للقدر يقدره ولِيَدِ الله بعد ذلك تدبره" (55) .
وصلة العقل عند الإمام بالدين وثيقة "أن العقل وحده لا يستقل بالوصول إلى ما فيه سعادة الأمم بدون مرشد إلهي" (56) وقد أكرم الإسلام العقل "ورفع القرآن من شأن العقل ووضعه في مكانه بحيث ينتهي إليه أمر السعادة والتمييز بين الحق والباطل والضار والنافع" (57) بل إن الإسلام عنده يعتمد على الدليل العقلي ويحتج به لا بالمعجزات:- "فالإسلام في هذه الدعوة والمطالبة بالإيمان بالله ووحدانيته لا يعتمد على شيء سوى الدليل العقلي والفكر الإنساني الذي يجري على نظامه الفطري فلا يدهشك بخارق للعادة ولا يغشى بصرك بأطوار غير معتادة ولا يخرس لسانك بقارعة سماوية ولا يقطع حركة فكرك بصيحة إلهية" (58) .
ليس هذا فحسب بل يعتمد الإمام أن الإيمان بالله لا يؤخذ من الرسول ولا من الكتاب ولا يصح أخذه منهما بل من العقل "وقد اتفق المسلمون إلا قليلاً ممن لا يعتد برأيه فيهم – على أن الاعتقاد بالله مقدم على الاعتقاد بالنبوات وأنه لا يمكن الإيمان بالرسل إلا بعد الإيمان بالله فلا يصح أن يؤخذ الإيمان بالله من كلام الرسل ولا من الكتب المنزلة فإنه لا يعقل أن تؤمن بكتاب أنزله الله إلا إذا صدقت قبل ذلك بوجود الله وبأنه يجوز أن ينزل كتاباً ويرسل رسولاً" (59) .
أما إذا تعارض العقل والنقل عنده فقد "اتفق أهل الملة الإسلامية إلا قليلاً ممن لا ينظر إليه على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل" (60) .
وتولد من رأيه هذا في صلة العقل بالدين أن دعا إلى الاجتهاد ونبذ التقليد وإطراحه فقد "أنحى الإسلام على التقليد وحمل عليه حملة لم يردها عنه القدر فبددت فيالقه المتغلبة على النفوس" (61) و"علا صوت الإسلام على وساوس الطغام وجهر بأن الإنسان لم يخلق ليقاد بالزمام ولكنه فطر على أن يهتدي بالعلم والإعلام – أعلام الكون ودلائل الحوادث – وإنما المعلمون منبهون ومرشدون وإلى طريق البحث هادون" (62) وأن الإسلام "صرف القلوب عن التعلق بما كان عليه الآباء وما توارثه عنهم الأبناء وسجل الحمق والسفاهة على الآخذ بأقوال السابقين" (63) .
وقد كان لهذا المنهج أثره في حياة السيد الإمام في أعماله وأقواله فلم يقبل بالحالة التي كان عليها الأزهر لأنها قائمة على التقليد فدعا إلى الإصلاح والتجديد ورأى الجفوة بين العالمين الإسلامي وغير الإسلامي فدعا إلى التقريب وساءته حال التربية والتعليم فدعا إلى التهذيب ونظر نظرة في السياسة أبدى فيها رأيه ولا نريد الإطالة فقد تقدم البيان.
ما يؤخذ عليه:
ليس من السهل ذكر أكثر المآخذ على الشيخ محمد عبده فضلاً عن ذكرها جميعاً، وتقدم ذكر بعضها بما يغني عن إعادته ونذكر هنا منها.
اشتراكه مع أستاذه الأفغاني في المحافل الماسونية ونشاطه فيها وتعاونه مع أستاذه في نشر مبادئها.
ويرد على من يدافع عن انتمائه إلى الماسونية بمثل ما رددنا به على من يدافع عن الأفغاني بل هو في محمد عبده أكثر قوة ووضوحاً لتأخر وفاة الشيخ عبده عن الأفغاني وقد كان الشيخ عبده يحتفظ ببعض كتب الماسونية في منزله بخط الأفغاني وقد صودرت أثناء سجنه بمصر.
وقد صدرت منه عبارات كعبارات أستاذه الأفغاني تفوح منها رائحة تجاهل الإسلام والدعوة إلى الفرعونية المصرية فمن ذلك قوله "كنت فيمن دعا الأمة المصرية إلى معرفة حقها على حاكمها وهي هذه الأمة لم يخطر لها هذا الخاطر على بال من مدة تزيد على عشرين قرناً" (64) قال هذا القول وهو في القرن الرابع عشر الهجري أو العشرين الميلادي وعلى كلا الأمرين يكون قفز بقوله الحكم الإسلامي بأكمله! فمتى عرفت هذه الأمة ذلك إذا لم تكن عرفته في الإسلام؟!
لا شك أن الدعوة إلى القومية الوطنية إنما هي أيضاً وليدة الماسونية التي تسعى إلى القضاء على الأديان، ولذلك يلاحظ كل من ينظر في سيرة هذا الرجل مظاهر دعوته إلى القومية العربية في سمتين بارزتين:
الأولى – أن الشيخ محمد عبده هو الذي صاغ برنامج الحزب الوطني المصري وجاء فيه في المادة الخامسة منه "الحزب الوطني حزب سياسي لا ديني فإنه مؤلف من رجال مختلفي العقيدة والمذهب، وجميع النصارى واليهود وكل من يحرث أرض مصر ويتكلم لغتها منضم إليها" (65) .
وفي سنة 1888م ثارت في مصر مناقشات صحفية حول تعصب الأقباط في مصر ضد المسلمين فكتب الشيخ محمد عبده مدافعاً عن الأقباط "ليس من اللائق بأصحاب الجرائد أن يعمدوا إلى أحدى الطوائف المتوطنة في أرض واحدة فيشملوها بشيء من الطعن أو ينسبوها إلى شائن من العلم تعللا بأن رجلا أو رجالاً منها قد استهدفوا لذلك..." (66) .
ومن أقواله "أن خير أوجه الوحدة الوطن لامتناع الخلاف والنزاع فيه" (67) وغاب عن ذهنه أن خير أوجه الوحدة الدين.
السمة الثانية: مطالبته باستقلال العرب عن الأتراك:-
فقد أرسل لويس صابونجي برقية على مستر بلنت أوردها الأخير في تأريخه السري لاحتلال إنجلترا مصر جاء فيها أن "نديم وعرابي وعبده يتحدون الباب العالي علنا" (68) ويقول بلنت أيضاً في تأريخه هذا "وقد سمعت سامي وعبده ونديما يلعنون السلاطين والأمم التركية من عهد جنكيز خان وهولاكو إلى عبد الحميد وقد ألف حزب كبير يستعد لإعلان الاستقلال عن تركيا إذا تدخل الأتراك في مصر تدخلاً حربياً..." (69) وهذا الموقف هو الذي يفسر لنا معنى تلك البرقية التي أرسلها الخديو توفيق إلى السلطان العثماني في نوفمبر سنة 1881 يقول له فيها "أن مصر في حالة ثورة وأن هناك اقتراحا لإنشاء إمبراطورية عربية" (70) .
وهو مع عداوته للأتراك وللخلافة الإسلامية قد يعلن تأييده للخلافة الإسلامية والدولة العثمانية ولكنه إعلان نفاق وتزلف لأنه إنما يعلن هذا حينما يكون في نطاق النفوذ المباشر للسلطان العثماني والسلطة العثمانية فإذا خرج من ذلك عاد إلى رأيه القديم في هذه الدولة وهذا السلطان (71) فهو يقول في تأييد الخلافة "وإني على ضعفي – والحمد لله – مسلم العقيدة عثماني المشرب وإن كنت عربي اللسان ولا أجد في فرائض الله بعد الإيمان بشرعه والعمل على أصوله فرضاً أعظم من احترام مقام الخلافة والاستمساك بعصمته والخضوع لجلالته وشحذ الهمة لنصرته بالفكر والقول والعمل ما استطعت إلى ذلك سبيلاً وعندي أني إن لم أقم على هذه الطريق فلا اعتداد عند الله بإيماني فإنما الخلافة حفاظ الإسلام ودعامة الإيمان فخاذلها محاد الله ورسوله ومن حاد الله ورسوله فأولئك هم الظالمون" (72) .
ومن أثر هذا الاتجاه أيضاً اتجاهه إلى إنشاء جمعية "سرية" للتقريب بين الأديان ودفاعه القوي عنها وعن أعضائها حتى في وجه الخلافة الإسلامية، كتب مدافعاً عن إسحاق طيلر قائلاً "إن السر في غضب السلطان عبدالحميد من نشاط القس الإنجليزي إسحاق تيلور في الدعوة لتوحيد الأديان وموافقتي وميرزا باقر وعلماء دمشق له ومراسلتنا إياه أنه خشي أن يعتنق الإنجليز الإسلام، ثم يطلبوا أن يكونوا أصحاب الدولة في الإسلام وتكون الملكة فيكتوريا ملكة المسلمين.. ويذهب السلطان من السلطان.. وسبحان مدبر العقول" (73) .
فانظر إلى أي مدى وصل دفاعه عن قس إنجليزي يقول "إن المسلمين قد آمنوا بالمسيح عليه السلام.. فهم عندنا مسيحيون نصلي لهم كل يوم أحد نسأل الله أن يهديهم وإيانا إلى الحق وإلى طريق مستقيم" (74) .
ثم انظر إلى هذا الاتهام السخيف من عبده إلى السلطان عبد الحميد؟! ولا ندري هل قال الشيخ عبده هذا عن اعتقاد صحيح أو خداع للقارئ.
أما عن نشاطه في هذه الجمعية فقد تقدم بيانه.
ومن أهم المآخذ عليه علاقته المريبة بالإنجليز كأستاذه الأفغاني فقد كان الإمام محمد عبده يبذل لهم النصيحة خالصة ويرشدهم إلى ما يوطد دعائم احتلالهم ويحذرهم من الأخطاء التي يكادون أن يقعوا فيها وتضرهم في مصالحهم، نذكر لذلك مثلا بعزيمة اللورد كرومر على إلغاء النيابة العامة وإحالة أعمالها إلى القضاء، فحذره محمد عبده بأن هذا خطأ لا يحتمل الصواب وعلل ذلك بأن رجال النيابة من أرقى رجال البلاد علما وعقلاً ولسانا وقلما وستتوجه همة كل من تلغى وظيفته إلى الاشتغال بالسياسة فيتعبون البلاد والمسؤولين عن النظام تعباً كبيراً" (75) فأبطل اللورد المشروع فوراً.
بل ويدل على ما قدمه لهم من خدمات دفاعهم عنه والوقوف بجانبه فقد صرح اللورد كرومر بأن الشيخ محمد عبده يظل مفتياً في مصر ما ظلت بريطانيا العظمى محتلة لها" (76) وكان الاحتلال الإنجليزي عاملاً أساسياً من عوامل عودة محمد عبده إلى مصر وقد صرح اللورد كرومر بذلك في كتابه (مصر الحديثة) فقال: إن العفو صدر عن محمد عبده بسبب الضغط البريطاني" (77) .
وقدم له الإنجليز الحماية في الآستانة حين كثرت الدسائس ضده يقول تلميذه السيد رشيد رضا "كان المراد من الدسائس... أن يحبس الأستاذ الإمام أو يهان وهم لا يجهلون أن السفارة البريطانية كانت بالمرصاد وأنها لا تسكت للحكومة الحميدية على ذلك لو أقدمت عليه والسلطان ورجاله لا يجهلون هذا أيضا" (78) . ويكتب الشيخ عبده نفسه إلى السيد رشيد قائلاً "إن السلطان لا يستطيع حبسي لو أراده وهو يعلم عجزه عن ذلك حق العلم ولذلك أسباب لا أحب ذكرها الآن" (79) .
فأي علاقة تربطه بالإنجليز حتى يوفروا له كل هذه الحماية؟! وأي أسباب لا يحب الشيخ محمد عبده ذكرها؟!
ثم لا ندري كيف تستقيم عقيدة الرجل وقد كلت أبصارنا من قراءة عبارات له خطيرة يبدو الانحراف ظاهراً في عقيدة قائلها.
فمن ذلك ما ورد في كتابه الذي أرسله من السجن إلى أحد مريديه"... ودارت الأفلاك دورة العكس ذاهبة بنيراتها إلى عوالم غير عالمنا هذا فولى معها آلهة الخير أجمعين وتمخضت السلطة لآلهة الشر" (80) .
ولا يصح تخريج تلميذه رشيد لهذا بأنه على الحكاية لخرافات اليونانيين وهو إن كان قال هذا عن اعتقاد فلا شك في كفره إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ [الصافات: 4].
ومن ذلك ما كتبه إلى أستاذه الأفغاني قائلاً:
"ليتني كنت أعلم ماذا أكتب إليك، وأنت تعلم ما في نفسي كما تعلم ما في نفسك، صنعتنا بيديك وأفضت على موادنا صورها الكمالية وأنشأتنا في أحسن تقويم فيك عرفنا أنفسنا وبك عرفناك وبك عرفنا العالم أجمعين فعلمك بنا كما لا يخفاك علم من طريق الموجب وهو علمك بذاتك وثقتك بقدرتك وإرادتك، فعنك صدرنا وإليك إليك المآب.
أوتيت من لدنك حكمة أقلب بها القلوب وأعقل العقول، وأتصرف بها في خواطر النفوس ومنحت منك عزمة أتعتع بها الثوابت وأذل بها شوامخ الصعاب وأصدع بها حل المشاكل وأثبت بها في الحق للحق حتى يرضى الحق، وكنت أظن قدرتي بقدرتك غير محدودة ومكنتي لا مبتوتة ولا مقدورة فإذا أنا من الأيام كل يوم في شأن جديد" ويقول "فصورتك الظاهرة تجلت في قوتي الخيالية وأمتد سلطانها على حسي المشرك وهي رسم الشهامة وشبح الحكمة وهيكل الكمال فإليها ردت جميع محسوساتي وفيها فنيت مجامع مشهوداتي وروح حكمتك التي أحييت بها مواتنا وأنرت بها عقولنا ولطفت بها نفوسنا التي بطنت بها فينا فظهرت في أشخاصنا فكنا أعدادك وأنت الواحد وغيبك وأنت الشاهد ورسمك الفوتوغرافي الذي أقمته في قبلة صلاتي رقيباً على ما أقدم من أعمالي ومسيطراً عليّ ولا انثنيت عن نهاية حتى تطابق في عملي أحكام أرواحك وهي ثلاثة فمضيت على حكمها سعياً في الخير وإعلاء لكلمة الحق وتأييداً لشوكة الحكمة وسلطان الفضيلة ولست في ذلك إلا آله لتنفيذ الرأي المثلث ومالي من ذاتي إرادة حتى ينقلب مربعاً غير أن قواي العالية تخلت عني في مكاتبتي إليك وخلت بيني وبين نفسي التزاماً لحكم أن المعلول لا يعود على علته بالتأثير على أن ما يكون إلى الموالى من رقائم عبده ليس إلا نوعا من التضرع والابتهال لا أحسب فيه ما يكشف خفاء أو يزيد جلاء ومع ذلك فإني لا أتوسل إليك في العفو عما تجده من قلق العبارة وما تراه مما يخالف سنن البلاغة بشفيع أقوى من عجز العقل عن أحداق نظره إليك وإطراق الفكر خشية منك بين يديك، وأي شفيع أقوى من رحمتك بالضعفاء وحنوك لمغلوبي الصديقين"، ويقول أيضاً "أما ما يتعلق بنا فإني على بينة من أمر مولاي وإن كان في قوة بيانه ما يشكك الملائكة في معبودهم والأنبياء في وحيهم ولكن ليس في استطاعته أن يشك نفسه في نفسه ولا أن يقنع عقله إلا على بالمحالات وإن كان في طوعه أن يقنع بها من أراد من الشرقيين والغربيين.
هذا بعض ما ورد في خطاب محمد عبده إلى أستاذه الأفغاني بتاريخ 5 جمادى الأولى سنة 1300هـ وهي عبارات ولا شك خطيرة توجب إعادة النظر في عقيدة الرجل عند من لا تخدعه الأسماء وقد استغرب السيد رشيد رضا نفسه هذه الرسالة من أستاذه حيث قال عند سياقه لها:-
"ومن كتاب له إلى السيد جمال الدين عقب النفي من مصر إلى بيروت وهو أغرب كتبه بل هو الشاذ فيما يصف به أستاذه السيد مما يشبه كلام صوفية الحقائق والقائلين بوحدة الوجود التي كان ينكرها عليهم بالمعنى المشهور عنهم، وفيه من الإغراق والغلو في السيد ما يستغرب صدوره عنه وإن كان من قبيل الشعريات وكذا ما يصف به نفسه بالتبع لأستاذه من الدعوى التي لم تعهد منه البتة" (81) ثم ساق نص الخطاب، ولم يلتزم السيد رشيد رضا الدقة كلها في نقل الرسالة فنراه يحذف بعض العبارات الخطيرة ويضع نقطاً وأحياناً لا يضع حتى النقط ويحاول حيناً أن يلطف من شدة انحراف بعض العبارات بتأويلات متكلفة، أما حذفه بعض العبارات فلعله وضع لنفسه مبرراً لذلك فقال في تقديم الخطاب "ومن كتاب له إلى السيد جمال الدين".
هذه عبارات ولا شك خطيرة ولكن ما هو أخطر وأشد ضلالا ما ورد في خطاب آخر منه إلى السيد الأفغاني بتاريخ 8 شعبان سنة 1300هـ وإني لأدعو القارئ أن يمعن النظر في كل حرف أنقله من الرسالة: "أما الآن قد حبسني الجناب العالي نتيجة لأعماله فإني أصدع بأفكاري قواعد الملكوت وأزعزع بهمتي أركان سطوة الجبروت وأدعو إلى الحق دعوة الحكيم... "ثم يقول" بلغنا قبل وصول كتابكم الكريم ما نشر في "الدبا" من دفاعكم عن الدين الإسلامي "يا لها من مدافعة" ردا على مسيو رينان فظنناها من المداعبات الدينية تحل عند المؤمنين محل القبول فحثنا بعض الدينيين على ترجمتها لكن حمدنا الله تعالى إذ لم يتيسر له وجود إعداد "الدبا"  حتى ورد كتابكم وأطلعنا على العددين ترجمهما لنا حضرة الفاضل حسن أفندي بيهم فصرفنا ذهن صاحبنا الأول عن ترجمتها وتوسلنا في ذلك بأن وعدناه أن الأصل العربي سيحضر فإن حضر نشر ولا لزوم للترجمة فاندفع المكروه والحمد لله".
ثم قال في عبارة أشد انحرافاً وأدعى إلى تقييم عقيدته "نحن الآن على سنتك القويمة لا تقطع رأس الدين إلا بسيف الدين ولهذا لو رأيتنا لرأيت زهاداً عباداً ركعا سجداً لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.
عجباً!! نحن الآن على سنتك القويمة: لا تقطع رأس الدين إلا بسيف الدين – ولهذا لو رأيتنا لرأيت زهاداً عباداً.. ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل؟!
هل هي دعوة باطنية يخفيها الرجلان ويسعيان تحت ستارة الدين و "بسيف الدين" لقطع "رأس الدين"؟! وقيامهم بالصلاة أمام الناس هل هو سعي إلى القبض على سيف الدين؟! ثم تركها للصلاة بعض الأحيان هل هو تنفيس "لضيق العيش" وعودتهم إليها حينا لأجل "فسحة الأمل".
عاتب الشيخ يوسف النبهاني السيد رشيد رضا على صحبته لمحمد عبده وتسميته له بالأستاذ الإمام مع تركه للحج ولفروض الصلاة ولاشتراكه في الماسونية فقال نظماً:
وذاكرته في شيخه وهو عبده تملكه للشيطان عن قومه قسرا
فقلت له لو كابن سينا زعمتم وعالم فاراب وأرفعهم قدرا
لقلنا لكم حقا وإن كان باطلاً ولم نر من هذا على ديننا ضرا
ولكنكم مع تركه الحج مرة وحج لباريز ولندره عشرا
ومع تركه فرض الصلاة ولم يكن يسر بذا بل كان يتركها جهرا
ومع كونه شيخ المسون مجاهراً بذلك، لا يخفى أخوتهم سرا
ومع غي هذا من ضلالاته التي بها سار مثل السهم للجهة الأخرى
تقولون أستاذ إمام لديننا فما أكذب الدعوى وما أقبح الأمرا
ونحن نراه عندنا شر فاسق فيقتل فسقاً بالشريعة أو كفراً (82)

أما عن الشيخ الأفغاني فيقول الشيخ يوسف النبهاني "أنه اجتمع به سنة 1297هـ في مصر حين كان مجاوراً بالأزهر ولازمه من قبل الغروب على قرب العشاء فلم يصل المغرب" (83) .
ومن أقوال الشيخ محمد عبده التي نؤاخذه عليها وصفه للأزهر بالإسطبل والمارستان والمخروب (84) وقوله لتلميذه رشيد "أن من تطول مدة طلبه للعلم في الأزهر وأمثاله فإنه يفقد الاستعداد للعلم" (85) .
نشر محمد أحمد خلف الله كتابه (الفن القصصي في القرآن الكريم) زعم فيه أن ورود الخبر في القرآن لا يقتضي وقوعه وأنه يذكر أشياء وهي لم تقع ويخشى القرآن (!!) من مقارنة أخباره بحقائق التاريخ وقال "إنا لا نتحرج من القول بأن القرآن أساطير" (86) . وعندما رفضت جامعة فؤاد هذه الرسالة دافع عنها أمين الخولي المشرف على الرسالة قائلاً "إنها ترفض اليوم ما كان يقرره الشيخ محمد عبده بين جدران الأزهر منذ اثنين وأربعين عاماً" (87) .
ونشر قاسم أمين كتابه (تحرير المرأة) وفيه دعوة إلى نبذ الحجاب وإطراحه وإلى خروج المرأة إلى العمل في كل المجالات ودراسة كل العلوم وزعموا أن هذا تحرير المرأة وهو في الحقيقة تخريب للمرأة وتحرير لها من الكرامة التي صانها لها الإسلام.
وقصة الكتاب تبدأ حينما نشر أحد الكتاب الفرنسيين مقالا هاجم فيه حجاب المرأة المصرية فكتب قاسم أمين دفاعاً عن الحجاب أغضب اللورد كرومر الذي جاء إلى مصر كما قال ليمحو ثلاثاً القرآن والكعبة والأزهر (88) فأمر بوضع كتاب (تحرير المرأة) وقيل أن الذي أمر بوضعه الأميرة نازلي حفيدة إبراهيم باشا لأنها غضبت من دفاع قاسم أمين عن الحجاب "والذين نسبوا الأمر إلى اللورد كرومر والذين نسبوه إلى "نازلي" يتفقون أن الأمر قد صدر إلى الشيخ محمد عبده، وأنه قد قام بدور كبير في تأليف الكتاب.. بل يرى بعضهم أنه هو الذي ألفه، ثم وضع على غلافه اسم قاسم أمين تجنباً للحرج والعاصفة التي كانت ستهب عليه مباشرة إذا ما وضع اسمه عليه، وهو الشيخ الأزهري ذو المناصب الدينية الكبرى، ومنها منصب مفتي الديار المصرية" (89) .
ولذلك فلا عجب أن يقول الأستاذ محمد عمارة الذي جمع مؤلفات ومقالات محمد عبده في كتاب (الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده) في ستة مجلدات بعد تحقيق دقيق لنسبتها إلى محمد عبده لا عجب أن يقول "والرأي الذي أؤمن به والذي نبع من الدراسة لهذه القضية هو أن هذا الكتاب إنما جاء ثمرة لعمل مشترك بين كل من الشيخ محمد عبده وقاسم أمين.. وأن في هذا الكتاب عدة فصول قد كتبها الأستاذ الإمام وحده، وعدة فصول أخرى كتبها قاسم أمين ثم صاغ الأستاذ الإمام الكتاب صياغته النهائية، بحيث جاء أسلوبه على نمط واحد هو أقرب إلى أسلوب محمد عبده منه إلى أسلوب قاسم أمين" (90) ثم ذكر بعد هذا مجموعة كبيرة من الأدلة على ذلك قدم بين يديها عددا من القرائن.
منها موقف الأستاذ الإمام من الكتاب بعد صدوره فلقد أيده ودافع عنه بطريقة غير مباشرة وامتنع عن التعليق عليه أو المشاركة بشكل مباشر في المعارك التي دارت من حوله وبالذات عندما أراد خصومه إحراجه وطلبوا منه أن يفتي – منصبه الرسمي – في الموضوع.
أما دفاعه غير المباشر فيتمثل في وقوع الشيخ رشيد رضا ومجلة (المنار) إلى جانب الكتاب فلقد تناولت (المنار) الكتاب بالمدح والتقريظ في أكثر من مرة واعتبرته مع (رسالة التوحيد) للأستاذ الإمام و(سر تقدم الإنجليز السكسونيين) الذي ترجمه فتحي زغلول أهم الأعمال الفكرية في ذلك العصر "المناصر 1 يوليو 1899م" كما تناولته بالثناء في عددي 15 يوليو 26 أغسطس من العام نفسه" (91) .
ووصف السيد رشيد رضا قاسم أمين بأنه العالم البارع في علوم الأخلاق والاجتماع (92) .
وحينما أراد خصوم الشيخ إحراجه طبعوا سؤالاً موجهاً إليه هو: "هل رفع الحجاب عن المرأة وإطلاقها في سبيل حريتها بالطريقة التي يريدها صاحب كتاب (المرأة الجديدة) يسمح به الشرع الشريف أم لا؟ "ووزعوا هذا السؤال على الجمهور في صورة كتاب مفتوح إلى المفتي محمد عبده. عندما فعلوا هذا لزم الشيخ محمد عبده الصمت ودافعت (المنار) عن هذا الصمت قائله:
1- إن الاستفتاء جاء على خلاف المعهود بأن وزع على الجمهور.
2- أن الجواب عليه يستلزم قراءة الكتاب في حين أن المفتي مثقل بالأعمال (!!).
3- أن من اطلع على الفتوى يحتاج إلى أن يقرأ الكتاب أولاً فإذا كان ضاراً تكون الفتوى سبباً في إذاعة الضرر (!!).
4- أن فتوى الإمام ستكون على المذهب الحنفي الذي عينته الحكومة ليفتي على أساسه في حين أن بعض المذاهب قد أباحت كشف المرأة لوجهها ويديها (93) .
أما الفصول التي أثبت الأستاذ محمد عمارة أنها للشيخ محمد عبده فهي "الحجاب الشرعي" و" الزواج" و"تعدد الزوجات" و"الطلاق" ثم قال عنها "إنما هي فكر خالص وصياغة خالصة للأستاذ الإمام" (94) وأقول أن هذه الفصول هي أهم ما في الكتاب.
ومن هنا ندرك أن الشيخ محمد عبده يقف خلف هذه الدعوة ولذلك نرى الشيخ مصطفى صبري يكتب تحت عنوان (الأستاذ الإمام وكتاب الله في كفي الميزان) فيقول:- "وإني أرى الرسالة المستنكرة – يعني (رسالة الفن القصصي في القرآن الكريم) – وما سبقها في مصر من الأحداث والفتن المماثلة الماسة بدين الإسلام وعقائده والمحفوظة إلى عصر الشيخ محمد عبده كلها ناشئة عن الأسس التي ابتدعها هذا الشيخ الملقب بالأستاذ الإمام... فلا مناص إذن للقضاء على تيار الفتنة من مصدرها من أن تفصل الدعوى مع الإمام دون المؤتمين" (95) . (97)
ومن رواد هذه المدرسة وتلاميذ الشيخ محمد عبده:
- محمد رشيد رضا الذي بدأ يتحول تدريجيا من منهج المدرسة العقلية إلى منهج السلف ولعل بداية التحول, أعقبت وفاة أستاذه محمد عبده, فقد صار يهتم بطبع كتب السلف في مطبعة المنار, مثل كتب ابن تيمية وابن القيم وابن عبد الوهاب ونحوهم.
- ومن أعلام هذه المدرسة, الشيخ محمد مصطفى المراغي, شيخ الجامع الأزهر, وكان من أكبر تلاميذ الإمام محمد عبده.
- ومنهم: الشيخ محمود شلتوت, وأحمد المراغي, وعبد العزيز جاويش, ومحمد فريد وجدي وغيرهم.
هذا وإن اجتهادات الشيخ وكبار تلاميذه, مما خالفوا فيه الجمهور مع فتح باب الاجتهاد العصراني, أدت إلى ظهور طبقة من تلامذة الشيخ, كان لها انحرافات حادة في مجال الأسرة: مثل قاسم أمين في كتابه (المرأة الجديدة) و(تحرير المرأة). وعلي عبد الرزاق في السياسة الشرعية, إذ دعا إلى فصل الدين عن الدولة على غرار النصارى (96) , وفي أمور أخرى. (98)


....
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ماذا قال نائب وزير الشؤون الإسلامية السعودي عن البنا؟

الأفغاني وعبده .. مائة عام من الغيبوبة

جمال الدين  الأفغاني  /  سيرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..