الثلاثاء، 1 أبريل 2014

جمال الدين الأفغاني / سيرة

اسمه: جمال الدين بن صفدر الحسيني الأفغاني،
وصفدر لفظ
فارسي من ألقاب الإمام علي رضي الله عنه عند الشيعة ومعناه مقتحم الصف وقد حرف هذا الاسم من كتبوا ترجمته بالعربية فقالوا: - "صفتر" (1) .
زعم تلميذه الشيخ محمد عبده أن نسبه ينتمي إلى السيد علي الترمذي المحدث المشهور ويرتقي إلى سيدنا الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه (2) وقال بهذا الزعم أيضاً مصطفى عبدالرازق (3) ومن سمى نفسه بالمؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعي (4) وقال به أيضاً تلميذه محمد المخزومي (5) وغيرهم.
ولم أجد في كتب الحديث وعلومه من يسمى بـ "علي الترمذي" وينمي نسبه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب سواء كان هذا المحدث مشهوراً أو مغموراً.
ثم أي علاقة بين "الترمذي" وهو من خراسان وبين الحسين بن علي ابن أبي طالب رضي الله عنهما وهو قرشي من مكة؟!
لذلك فلا عجب أن يكتب أبو الهدى الصيادي من الآستانة إلى السيد رشيد رضا قائلاً:-
"أني أرى جريدتك طافحة بشقاشق المتأفغن جمال الدين الملفقة وقد تدرجت به إلى الحسينية التي كان يزعمها زورا، وقد ثبت في دوائر الدولة رسميا أنه ما زندارني من أجلاف الشيعة.... " (6) .
ثم نقول بعد هذا أي فضل للرجل بهذا النسب عند من دينه إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13] وخوطب نبيه بقوله تعالى: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214].
مولده:
ولد سنة 1254 هـ - 1838م وأول ما يصادف المؤرخ لحياة هذا الرجل من غموض الخلاف في مكان مولده هل ولد في أسعد آباد قرية من قرى كير من أعمال كابل في أفغانستان أو في أسد آباد قرب همدان أحدى مقاطعات إيران فيكون إيرانياً لا أفغانياً وإنما آثر أن ينسب نفسه – كما قال بروكلمان – إلى أفغانستان لأسباب سياسية (7) أو أن والده ضابط إيراني أوفدته حكومته إلى بلاد أفغان فتزوج هناك (8) .
ولا أحسب أن للبحث عن أصل الرجل أي رجل أهمية إذا ما حسنت عقيدته وصفت سريرته واستقامت سيرته، ولكن قد يلزم البحث عن هذا إذا كان ذلك الرجل هو الذي أراد تعمية أصله ونسبة نفسه إلى غيره مع غموض في اتصالاته وعلاقته وأنشطته فيجب على الباحث تحري هذه المعرفة السبب الدافع له إلى هذه التعمية فقد يكون وراء الأكمة ما وراءها.
إذن فهناك أمور ثلاثة نراها بارزة في نسبة الرجل وأصله:-
أولها: أن اسم والده "صفدر" وهو لفظ فارسي من ألقاب الإمام علي رضي الله عنه عند الشيعة ولا يوجد إلا بين الشيعة (9) .
ثانيها: أنه لا صحة لانتسابه إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما من طريق "علي الترمذي" وإنما انتحل هذا لإضفاء قداسة باطلة على شخصه.
ثالثها: أنه إيراني لا أفغاني كما ينسب نفسه وسيتضح لنا هذا فيما بعد – إن شاء الله – وإنما نسب نفسه إلى أفغانستان لأسباب غير ظاهرة.
جمال الدين في أفغانستان:
ولا نعرف مصدراً لتاريخ نشأة الرجل – هذا – إلا ما تحدث به عن نفسه إلى تلاميذه فقالوا أنه لما بلغ الثامنة من عمره أجلسه والده لطلب العلم وعني بتربيته فأيد العناية به إشراق في قريحته وذكاء في مدركته فتلقى علوماً جمة برع في جميعها فمنها العلوم العربية وعلوم الشريعة وعلوم عقلية من منطق وفلسفة وعلوم رياضية ونظريات الطب والتشريح (10) .
واستكمل الغاية من دروسه في الثامنة عشرة من عمره ثم سافر إلى الهند فأقام بها سنة تعلم في خلالها شيئاً من العلوم الأوروبية وأساليبها (11) .
وعرض له وهو في الهند أن يؤدي فريضة الحج فاتجه إلى مكة المكرمة وقضى نحو سنة يتنقل في البلاد ويتعرف أحوالها وعادات أهلها حتى وافى إلى مكة المكرمة سنة 1273هـ 1857م وأدى الفريضة (12) ثم عاد إلى بلاده ودخل في سلك رجال الحكومة على عهد الأمير دوست محمد خان وبعد وفاته تنازل أولاده في الإمارة فانضم جمال الدين إلى محمد أعظم الذي أحله محل الوزير الأول ولكن النصر كان في النهاية حليف شير علي. لتأييد الإنكليز له فهرب محمد أعظم إلى إيران وبقي جمال الدين في أفغانستان لم يمسسه الأمير بسوء إلا أنه خشي الانتقام منه فاستأذن للحج فأذن له فرحل إلى الهند سنة 1285هـ 1869م (13) .
رحلاته:
في الهند:
كان يريد من رحلته إلى الهند الإقامة بها من غير ظهور وبكل بساطة وقد كانت الهند تحت الاستعمار البريطاني فكانت دهشته عظيمة عندما رأى الحكومية الهندية تستقبله على الحدود استقبالا رسمياً ليس له مبرر (14) ولكنهم لم يسمحوا له بالإقامة الطويلة في الهند فمكث فيها نحو شهر ثم سيرته على حسابها في أحد مراكبها إلى السويس 1286هـ - 1870م.
في مصر:
كانت تلك أول زيارة له إلى مصر فأقام بها أربعين يوماً تردد فيها على الأزهر واتصل به بعض طلبة العلم السوريين فقرأ لهم شرح كتاب الأظهار ثم سافر إلى الأستانة سنة 1287هـ 1870م.
في الآستانة:
لما وصل إلى الآستانة أقام بها مجهول المكان حتى أهدى إليه بعض أكابر الوزراء فعينه عضوا في مجلس المعارف (15) وفي رمضان سنة 1287هـ ألقى خطاباً في دار الفنون في الحث على الصناعات شبه فيه المعيشة الإنسانية ببدن حي وأن كل صناعة بمنزلة عضو منه فشبه الملك بالمخ والحدادة بالعضد والزراعة بالكبد والملاحة بالرجلين وغير ذلك ثم قال: "ولا حياة لجسم إلا بروح وروح هذا الجسم إما النبوة وإما الحكمة" (16) مما أهاج عليه شيخ الإسلام حسن فهمي أفندي وعدداً من العلماء والوعاظ في المساجد محتجين على جمال الدين بأنه جعل النبوة صنعة وانتهى الأمر بأن أشير على جمال الدين بالجلاء عن الآستانة ريثما تسكن الخواطر فسافر إلى مصر في أول سنة 1288هـ 1871.
في مصر:
وصل إلى مصر فرحبت به الحكومة المصرية وأجرت له راتباً شهرياً بلا عمل. وكانت إقامته في مصر هذه المرة حافلة بالأنشطة العلمية والسياسية فألقى كثيراً من الدروس في الأدب والمنطق والتوحيد والفلسفة وعلم التصوف وأصول الفقه والفلك (17) حتى ذاع صيته واتصل بكبار القوم وانخرط في الماسونية وكان له تأثير في سياسة البلاد وكتب في الصحف التي ساهم في إنشائها تارة تحت اسم "مظهر بن وضاح؟ وباسمه الصريح تارة أخرى.
كانت سياسة البلاد الحالية آنذاك تحت الإدارة البريطانية فكانت كتابات السيد قد أوغرت عليه صدر مستر فيفيان قنصل إنجلترا وأوغرت صدر توفيق باشا لاعتقاده أن كتابات السيد تؤدي على زعزعة حكمه وبالإضافة إلى هذا فقد كان السيد منبوذاً من علماء الأزهر الذين رأوا في تعليمه الفلسفة وبعض آرائه فسقا فصدر الأمر بنفيه وجاء في القرار: "أنه رئيس جمعية سرية من الشبان ذوي الطيش مجتمعة على فساد الدين والدنيا" (18) وعند نزوله إلى الباخرة أتاه قنصل إيران فعرض عليه بعض المال فرفضه ثم أبحر إلى الهند وأقام بحيدر آباد سنة 1296-1879م.
في الهند:
أقام في حيدر آباد عاما ألَّف خلاله رسالة في (الرد على الدهريين) بالفارسية ولما قامت الثورة العرابية في مصر نقل من حيدر آباد إلى كلكتا لاعتقاد الحكومة الإنجليزية أن له فيها يدا ثم أبيح له أن يسافر إلى حيث شاء فسافر إلى لوندرا "لندن" فأقام بها أياماً ثم سافر إلى باريز سنة "1300هـ - 1883م.
في باريس:
أقام في باريس ما يزيد عن ثلاث سنوات عهدت جمعية العروة الوثقى له فيها أن ينشئ جريدة (العروة الوثقى) فاستدعى الإمام محمد عبده الذي كان منفياً في سوريا فأصدرا الجريدة وكان جمال الدين مديراً لسياستها ومحمد عبده رئيسا لتحريرها سنة 1301هـ - 1884م ولكن الجريدة لم تلبث إلا سبعة أشهر وأيام لمحاربة الاستعمار البريطاني لها ثم توقفت وعاد محمد عبده إلى سوريا ثم إلى مصر معتزلاً السياسة ومكث السيد في باريس متردداً بينها وبين لندن والتقى في باريس بالفيلسوف الأوربي رينان ثم دعاه ناصر الدين شاه إيران إلى طهران فاتجه إليها سنة 1304هـ - 1887م.
في إيران:
وفوض إليه الشاة نظارة الحربية، وتزاحم حوله الأمراء والمجتهدون والكبراء وتمكن من نظم كثير منهم في سلك الماسونية (19) . لكن الشاه ناصر الدين أوجس منه خيفة وداخله ريب من حركاته ونشاطه فأدرك السيد ما في نفسه فاستأذن في السفر إلى روسيا فأذن له سنة 1887م.
في روسيا:
كان له في روسيا نشاط صحفي نشر كثيراً من المقالات عبر الصحف الروسية واجتمع في بطرسبرج "لنجراد" بكبار العلماء والسياسيين وقد مكن له نقده لسياسة الإنجليز مكانة في روسيا حتى أن القيصر دعاه إلى قصره وتحادث معه طويلاً فرابه منه ما راب ناصر الدين شاه فأوعز إلى موظفيه بطرده فاتجه إلى باريس سنة 1306هـ - 1889م.
في ميونخ:
وفي طريقه إلى باريس التقى في ميونخ عاصمة بافاريا "ألمانيا" بالشاه ناصر الدين الذي طلب منه العودة إلى إيران فاعتذر بذهابه إلى معرض باريس فألح عليه الشاة فذهب معه (20) سنة 1306هـ - 1889م.
في إيران:
لما وصل إلى إيران عاد الناس إلى الاجتماع به وتلقي مبادئه وأفكاره وعهد إليه الشاه أن يسن ما يراه موافقاً لروح العصر من القوانين فلما أطلع عليها الشاه  بعد ذلك رأى أن حكمه سيكون مقيداً (21) فعاودته الشكوك والظنون في جمال الدين الذي شعر بهذا فاستأذن بالذهاب إلى شاه عبدالعظيم قرب طهران فأذن له فتبعه جم غفير من العلماء والوجهاء فخاف الشاه عاقبة ذلك فنافه إلى خارج الحدود إلى البصرة سنة 1308هـ - 1891م.
في البصرة:
أقام فيها سبعة أشهر والى الكتابة فيها إلى أنصاره في فارس وآثار فيهم الحمية لخلع الشاه ناصر الدين غادر بعدها البصرة إلى لندره "لندن" سنة 1309هـ - 1892م.
في لندن:
أقام فيها ثمانية أشهر موجهاً همته إلى محاربة الشاه ناصر الدين. وكان من المؤسسين لمجلة (ضياء الخافقين) وسلمه سفير تركيا في لوندرا كتابا من السلطان عبدالحميد يدعوه إلى الآستانة فسافر إليها سنة 1310هـ - 1892م.
إلى الآستانة:
وكانت المحطة الأخيرة في رحلاته هي الآستانة ولقي فيها كل ترحيب وتكريم إلا أنه منع من مغادرتها وأجرى له فيها السلطان راتباً شهرياً إلى أن توفي سنة 1314هـ-1897م.
نشاطه العلمي:
يعد من المميزات للسيد جمال الدين الأفغاني أنه أحدث نهضتين اجتماعيتين:
نهضة اجتماعية علمية ونهضة سياسية (22) . وكان الغالب على نشاطه الثانية منهما ولم يقم أحد من تلاميذه من بعده بالأمرين. بل انشطروا إلى شطرين ذهبت طائفة إلى الأخذ بالنهضة العلمية ويقف على قمة هذا الفريق الإمام محمد عبده. وذهبت طائفة أخرى إلى الأخذ بأرائه السياسة وعلى رأسهم مصطفى كامل وفريد ثم سعد زغلول (23) وغيرهم.
وبدأ السيد نشاطه العلمي في أفغانستان وواصل دراسته في الهند. هذا من ناحية التلقي أما من ناحية التعليم فقد بدأ أول ما بدأ في الهند عند خروجه في المرة الثانية حيث ألقى بعض الدروس ولم تكن تلك الفترة من الكفاية بحيث يظهر أثرها واضحا إذ لم يلبث سوى شهر واحد غادر بعدها إلى مصر حيث وفد عليه بعض طلبة العلم في الأزهر من السوريين فشرح لهم كتاب (الإظهار) وهو كتاب في النحو وكانت تلك الفترة كسابقتها حيث غادر إلى الآستانة ثم عاد إلى مصر مرة ثانية حيث ازداد نشاطه العلمي وبلغ أوجه فبدأ التدريس في الأزهر وقد كان يلقي فيه من الدروس ما أحفظ عليه بعض علماء الأزهر فناظره أحدهم مناظرة أفضت إلى المنافرة فترك الأزهر وانقطع للتدريس في منزله (24) فقرأ من الكتب العالية في فنون الكلام الأعلى والحكمة النظرية طبيعية وعقلية وفي علم الهيئة الفلكية وعلم التصوف وعلم أصول الفقه الإسلامي (25) وقد وصف الإمام محمد عبده منزلة جمال الدين من العلم فقال:
"أما منزلته من العلم وغزارة المعارف فليس يحدها قلمي إلا بنوع من الإشارة إليها لهذا الرجل سلطة على دقائق المعاني وتحديها وإبرازها في صورها اللائقة بها كأن كل معنى قد خلق له وله قوة في حل ما يعضل منها كأنه سلطان شديد البطش فنظرة منه تفكك عقدها..." ثم يقول:-
"وله لسان في الجدل وحذق في صناعة الحجة لا يلحقه فيها أحد" (26) .
ثم سافر بعد مصر على الهند وكان له فيها حلقة للتدريس لكنها لا تماثل حلقته في مصر واشتغل فيها بالتأليف عن التدريس.
مؤلفاته:
لم يكن للسيد اهتمام كبير في التأليف بل كان همه أن يلقي كلماته وخطبه على تلاميذه القاءً فيبادر بعضهم إلى تسجيلها وتدوينها بل ذكر بعض تلاميذه أنه:- قضى ولم يدون إلا رسالة في إبطال مذهب الدهريين" (27) وقال عنه أديب بك إسحاق "ولكنه لم يتم عملا ولا ألف كتابا غير تلك الرسالة" (28) والحقيقة أنه دون غير رسالته (الرد على الدهريين) التي ألفها بالفارسية في حيدر آباد. فقد دون رسالة صغيرة له أسماها (تتمة البيان في تاريخ الأفغان) وقد طبعت في مصر وما عدا هاتين الرسالتين فمقالات نشرها في الصحف والمجلات طبع بعضها مستقلاً وكان لاشتراك الإمام محمد عبده معه في مجلة (العروة الوثقى) وعدم تسمية صاحب كل مقال فيها كان له أثر كبير في الخلط في نسبته إلى صاحبه فبحث (التعصب) نشر باسم الإمام مع أنه من إنشاء جمال الدين وهناك كتاب أكثر شهرة أعنى (الإسلام دين العلم والمدنية) من بين فصوله "الإسلام والنصرانية" وهو من تأليف الأفغاني (29) خاطرات جمال الدين الأفغاني محمد المخزومي ص 43. وقد ضم المخزومي في الخاطرات هذين المقالين على خاطرات جمال الدين الذي دون فيه المخزومي آراء وأفكار الأفغاني وقد طبع طباعة مستقلة بعض مقالاته مثل (الوحدة الإسلامية) و(القضاء والقدر) أما إذا رمت الإطلاع على معظم ما كتبه فعليك بـ (خاطرات جمال الدين الأفغاني) لتلميذه محمد المخزومي و (الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني) لمحمد عمارة و (العروة الوثقى) وإنما قلت معظم ما كتبه لأن هناك من كتاباته في بعض المجلات ما لم يدون أذكر مثالاً لذلك ما كتبه في الصحف الروسية.
تفسيره:
قلنا أن الغالب على نشاط السيد الأفغاني هو النشاط السياسي وأنه إنما يتناول ما يتناول من العلم في دروسه ما يدفع به عجلة السياسة خطوة نحو أغراضه وأهدافه وقد تعرض له في أثناء حديثه آية قرآنية يستشهد بها لتقوية رأيه ثم يذهب في تفسيرها تفسيراً يقتصر فيه على الجانب الذي يتكلم فيه من غير استقصاء لمعانيها.
ومن ثم فلم يكن له تفسير مستقل وإنما كان تفسيره آية هنا وآية هناك بين ثنايا مقالاته.
ويقلل السيد جمال الدين من شأن ما تراكم على القرآن الكريم وتجمع حوله من آراء المفسرين وما استنبطوه من أحكام فيقول "القرآن وحده سبب الهداية والعمدة في الدعاية أما ما تراكم عليه وتجمع حوله من آراء الرجال واستنباطهم ونظرياتهم فينبغي أن لا نعول عليه كوحي وإنما نستأنس به كرأي..." ويحذر من إضاعة الوقت في عرض ذلك فيقول "ولا نحمله على أكفنا مع القرآن في الدعوة إليه وإرشاد الأمم إلى تعاليمه لصعوبة ذلك وتعسره وإضاعة الوقت في عرضه" (30) .
وهو لا يعني بهذا السنة المتواترة أو ما أجمع عليه العلماء حيث يقول "فالتواتر والإجماع وأعمال النبي المتواترة إلى اليوم هي السنة الصحيحة التي تدخل في مفهوم القرآن وحده والدعوة إلى القرآن وحده" (31) .
وهو يدعو إلى دراسة القرآن والكشف عن كنوزه المدفونة فيقول:-
"القرآن القرآن وإني لآسف إذ دفن المسلمون بين دفتيه الكنوز وطفقوا في فيافي الجهل يفتشون على الفقر المدقع" (32) ولكنه يتأسف على التعمق في تفسير باء البسملة ومخرج صاد الصراط "وكيف لا أقول وا أسفاه! وإذا نهض أحد لتفسير القرآن فلا أراده إلا يهيم بباء البسملة ويغوص! ولا يخرج من مخرج حرف صاد الصراط حتى يهوي هو ومن يقرأ ذلك التفسير في هوة عدم الانتفاع بما اشتمل عليه القرآن من المنافع الدنيوية والأخروية مع استكماله الأمرين على أتم وجوههما" (33) ويرى أن القرآن بريء من مخالفة الحقائق العلمية الثابتة "فإذا لم نر في القرآن ما يوافق صريح العلم والكليات اكتفينا بما جاء فيه من الإشارة ورجعنا إلى التأويل" (34) .
وهو مع حثه على التفسير ودعوته إلى تنقيحه مما علق به مقل فيه فلا يتناول من الآي إلا ما قل ولا يفسره إلا من جانب ما يؤيد به قوله من غير بيان للجوانب الأخرى.
وقد صدر السيد جمال الدين سبع عشرة مقالة من خمس وعشرين مقالة في (العروة الوثقى) بآية أو آيتين من القرآن الكريم اعتقدها بعضهم شرحاً وتفسيراً وليس كذلك فقل أن يعرض في المقالة للآية المصدرة.
أما الآيات التي تناولها بنوع من التفسير فقليل جداً كما ذكرنا توجد بين ثنايا بعض مقالاته فمن ذلك قوله:
"قرأت في القرآن أمراً تغلغلت في فهمه روحي وتنبهت إليه بكليتي وهو وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30] فاندهشت الملائكة لهذا النبأ ولهذه المشيئة الربانية إذ علمت أن ذلك الخليفة سيكون الإنسان وأن ذلك الإنسان – الخليفة – سيصدر منه موبقات وسيئات أعظمها وأهمها أنه "يسفك الدماء "فقالت بملء الحرية المتناسبة مع الملأ الأعلى وعالم الأنوار والأرواح الذي لا يصح أن يكون هناك شيء من رياء ونفاق أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء [البقرة: 30] ووقفت الملائكة عند هذا الحد من الطعن في الإنسان ولم تذكر باقي السيئات من أعماله إذ رأتها لغوا بالنسبة لهذين الوصمين الفساد وسفك الدماء" ثم يمضي في التفسير على هذا المنوال إلى أن يقول "وبأبسط المعاني أن الله تعالى أفهم الملائكة أنكم علمتم ما في خليفتي في الأرض وهو الإنسان من الاستعداد لعمل الفساد وسفك الدماء وجهلتم ما أعددته لصونه وصرفه عن الإتيان بالنقيصتين المذكورتين ألا وهو العلم فقال وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة: 31]" (35) .
ويفسر آيات أخرى فيقول "غضب سليمان عليه السلام على الهدهد إذ تفقده ولم يجده فلما حضر قال وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النمل: 22] – غير ملفق ولا مشوب بكذب كما تفعل أكثر الجواسيس مع الملوك والحكام إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل: 23] دينهم ومعتقدهم وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ [النمل: 24]" ثم يقول بعد ذلك "فلما جاء الكتاب إلى ملكة سبأ جمعت فوراً مجلس الأمة قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ [النمل: 32] وبعد أن تداول مجلس الأمة – الوزراء اليوم مثلا – واستخرجوا إحصاءً من سجلاتهم بما عندهم من المعدات الحربية أعلنوا الملكة وأنبؤوها أنه من إمكانهم محاربة سليمان بما توفر لديهم من القوة إذا هي وافقت على إعلان الحرب قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ [النمل: 33]، ثم يمضي بعد فيقول "فرد سليمان الهدية وتحفز لإخراج الملكة وقومها أذلة بالحرب وأراد أن يريها ما لديه من القوى وما تسخر له من رياح يمتطيها وتجري بأمره – طيارات مثلاً – وسرعة نقل الأخبار والأشياء بأسرع من البرق – التلغراف اللاسلكي مثلاً" (36) .
وكان يشطح في تفسيره فيفسر الربا المحرم في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً [آل عمران: 130] بـ "جواز الربا المعقول الذي لا يثقل كاهل المديون ولا يتجاوز في برهة من الزمن رأس المال ويصير أضعافاً مضاعفة" (37) .
ويفسر "جد" في قوله تعالى وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا [الجن: 3] أن جد معرب "كد" ومعناه العرش بالفارسية أو الهندية" (38) .
ويفسر فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً [النساء: 3] بأنه "قيد من خاف أن لا يعدل "بالمرأة الواحدة" وترك لمن يخشى أن لا يعدل – حتى مع الواحدة – عدم الزواج وهذا ما يستنتجه العقل ما دام يحمله العاقل ويقول به الحق والعدل" (39) .
ويفسر الأمور الغيبية من غير نص فيقول وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً [الكهف: 47] "أي خارجة عن محورها غير راضخة للنظام الشمسي وإذا ما حصل ذلك فلا شك يختلف ما عرف من الجهات اليوم فيصير الغرب شرقاً والجنوب شمالاً وبذلك الخروج عن النظام الشمسي وما يحدثه من الزلزال العظيم – لا شك تتبعثر أجزاء الأرض لبعدها عن المركز وتنسف الجبال نسفاً وتتحول براكين هائله وبالنتيجة تخرب الكرة الأرضية ويعمها الفناء بما فيها من حيوان وتقوم القيامة والله أعلم" (40) .
وقد وجدت من تفسيره غير ما ذكرت.
تفسيره لقوله تعالى وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ [الأنفال: 41] الآية في (الخاطرات) ص122.
وتفسيره لقوله تعالى: وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ [الأنفال: 60] في (العروة الوثقى) ص129.
وتفسيره لقوله تعالى إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: 11] في (العروة الوثقى) في مقالته (سنن الله في الأمم).
وإنما أطلت في بيان تفسيره لأنه مرادنا منه ولأني لم أجد أحداً ممن أرخوا له أو كتبوا عنه أشار إلى تفسيره فضلاً عن جمعه وترتيبه له.
ونشاطه السياسي:
قلنا أن هذا النشاط هو الغالب على أعمال السيد الأفغاني وقد كان مقصده السياسي الذي وجه إليه أفكاره وأخذ على نفسه السعي إليه مدة حياته هو إنهاض دولة إسلامية من ضعفها وتنبيهها للقيام على شؤونها حتى تلحق الأمة بالأمم العزيزة والدولة بالدول القوية فيعود للإسلام شأنه" (41) وقد كانت الوسيلة لتحقيق غاياته "الثورة السياسية لاتفاقها مع مزاجه وقد ظن أنها أسرع الطرق للوصول على ما يبتغيه" (42) .
وقد خالفه في الأسلوب – هذا تلميذه محمد عبده الذي يرى أن الوسيلة هي إصلاح التعليم لا الثورة السياسية.
ومن أهم الآراء التي تنسب إلى الأفغاني وكان يدعو إليها: الدعوة إلى الوحدة الإسلامية وإقامة جامعة إسلامية تنضوي تحت لوائها دول العالم الإسلامي توحد كلمتها وأهدافها:
وإنما قلت تنسب إليه لأني أرى في مقالاته ومقالات تلاميذه ما يدل على أنه لا يريد الجامعة الإسلامية بل الجامعة الشرقية التي تجمع دول الشرق مسلمة وغير مسلمة ضد الاستعمار فهذا السيد رشيد رضا يعلق على كلمة لجمال الدين قائلا "هذا تنبيه لوجوب تأليف جامعة شرقية لمقاومة الاستعمار الغربي ولم يفكر فيه أحد قبله" (43) ويقول في موضع آخر "وقد اشتبه على بعض الناس أمر اللهجة الإسلامية في جريدة (العروة الوثقى) وظنوا أن خدمتها خاصة بالمسلمين فأزالا هذه الشبهة – يعني الأفغاني ومحمد عبده – بعبارة نشرت في العدد الثامن (44) " من (العروة الوثقى) ويقول عثمان أمين "أن الجامعة التي كان ينشدها الأفغاني ومحمد عبده في أواخر القرن الماضي ليست هي الجامعة الإسلامية كما توهم بعض الكتاب الغربيين وإنما هي في صميمها "الجامعة الشرقية" (45) ".
وقد بدأ السيد الأفغاني نشاطه السياسي في أفغانستان حيث انضم على محمد أعظم ضد شير علي، على ما أشرنا إليه في أول الترجمة.
أما في مصر فقد وصلها الأفغاني في عهد الخديوي إسماعيل سنة 1871م وكان الحكم حينئذ – كما يقول المؤرخ عبدالرحمن الرافعي – حكما استبدادياً لا مجال فيه للحرية. حقاً إن إسماعيل أنشأ سنة 1866م مجلساً سمي مجلس شورى النواب ولكنه مجلس استشاري لا يملك سلطة" (46) .
فبدأ الأفغاني أول ما بدأ ببث الوعي السياسي بين طلابه وكانوا يتناقلون ما يقول بينهم فاستيقظت مشاعر وانتبهت عقول وخف حجاب الغفلة في أطراف متعددة من البلاد وسرى هذا الشعور إلى بعض الجرائد واستحدثت أخرى فتنافس الكتاب وكثر أرباب الأقلام (47) .
ومنذ ذلك الحين طارت الشرارة الأولى من شرارات الثورة العرابية (48) وقد بذل السيد جمال الدين كل ما في وسعه للقضاء على الخديوي إسماعيل لاتفاقه مع ولي عهده توفيق باشا على الإصلاح إذا صار الأمر إليه بل ووصل الأمر إلى تدبير خطة لاغتياله لم تنفذ – كما يقول محمد عبده – لعدم وجود الشخص الذي يتكفل بذلك "وأشار إلى هذا بلنت في تاريخه السري لاحتلال انجلترا (49) مصر (50) واعتراف بهذا الإمام نفسه.
وانتهى نشاط الأفغاني السياسي في مصر بعد أن تنازل الخديوي إسماعيل لتوفيق باشا الذي تنكر لجمال الدين وأمر بنفيه.
ثم ظهر نشاطه السياسي مرة أخرى في باريس التي أنشأ فيها مجلة (العروة الوثقى) فجعلها منبراً لمحاربة الاستعمار البريطاني بحماس شديد.
وفي الحقيقة أنه لم يتضح لي مع هذا حقيقة علاقته بالإنجليز فبينما كان يؤلب عليهم الناس في مصر حتى يقوموا بالثورة العرابية.. ويحرض مفتي إيران على تحريم الدخان لإبطال احتكار الإنجليز له في إيران تمهيداً لاحتلالها ويكتب في صحف روسيا وينشئ (العروة الوثقى) التي تحارب الإنجليز أينما حلوا وتشنع عليهم وهو مع هذا يسرح في بلادهم ويمرح ويتردد بين لندره وباريز بل وينشئ في لندن مجلة (ضياء الخافقين) بالعربية والإنكليزية فيحارب الإنجليز في بلادهم وبلغتهم ومع هذا يسكت عنه الإنجليز!! صحيح أنهم أدوا إلى تعطيل (العروة الوثقى) لكن صاحبها لا يجد مانعا من اللجوء إلى سفير بريطانيا في الآستانة ليساعده على الخروج منها (51) ولا تجد انجلترا مانعا قبل ذلك من عرضها له لتوليه السلطة في السودان (52) ويتساءل الدكتور محمد محمد حسين لماذا كانت عداوته الشديدة للاستعمار الإنجليزي دون الفرنسي والهولندي فلم ترد في صحيفة (العروة الوثقى) إشارة للاستعمار الفرنسي للجزائر كما لم ترد فيها إشارة للاحتلال الهولندي لإندونيسيا ولم تشر إلا إشارة عابرة لاحتلال الهند الصينية (53) .
أما نشاطه السياسي في إيران فقد أشرنا في رحلاته إلى بعضه ونذكر هنا مظاهر ثورته السياسية على نصر الدين شاه بعد أن رفض قانونه ونفاه من إيران إلى البصرة وقد تمثلت هذه المظاهر بـ:
أ) كتابته إلى مفتي إيران كتابا يثير فيه مشاعره ضد ناصر الدين شاه ويطلب منه بصفته مفتي البلاد أن يصدر تحريماً للدخان بسبب تعاقد الشاه مع انجلترا لاحتكاره فتحظى هذه الخطوة بالنجاح وتلغى الاتفاقية.
ب) ثم يكتب الأفغاني بعد هذا إلى علماء إيران مطالباً بخلع ناصر الدين شاه ولما لم ينجح بهذا.
ج) نسب إليه بأدلة قوية تدبيره قتل ناصر الدين شاه.
نشاطه الصحفي:
كان السيد جمال الدين يكره الكتابة ويتثاقلها فلم يكن له عناية بالتأليف ووجه عنايته فيما يريد تدوينه إلى الصحف فكانت معظم كتاباته في الصحف والمجلات فإذا رام إنشاء مقالة ألقى على كاتب مثل إبراهيم اللقاني إلقاء قل ما يراجعه ويصلحه (54) .
وقد كان للسيد جمال الدين نشاط كبير في إنشاء عدد من الصحف في مصر وغيرها فكان أول عهد بالصحافة في مصر حيث كان له اليد الطولى في إنشاء صحيفة (مصر) الأسبوعية التي ظهرت سنة 1877م وعهد بإدارتها إلى أديب إسحاق ثم أوعز إلى أديب بنقلها من القاهرة إلى الإسكندرية لتكون أقرب لاصطياد الأخبار ثم أوعز لأديب إسحاق وسليم نقاش بإنشاء جريدة (التجارة) سنة 1878م وساهم الأفغاني بالكتابة في هاتين الصحيفتين باسمه الصريح تارة وباسم مظهر بن وضاح تارة أخرى وأمر تلاميذه بخدمة هاتين الصحيفتين قلماً وسعياً (55) .
ثم ساهم في إنشاء صحيفة (مرآة الشرق) وقد تولاها سليم العنجوري فكانت هذه الصحف طوع إشارة الأفغاني ولعل سليم العنجوري أراد أن يتخلص من هذا الأسار فعزله الأفغاني وأسندها إلى إبراهيم اللقاني الذي أصدرها طوع إشارة الأفغاني (56) .
ثم انتقل نشاطه بعد نفيه من مصر إلى فرنسا حيث أنشأ هناك (العروة الوثقى) بتكليف من جمعية بهذا الاسم وهي جمعية ذات فروع في مصر والهند وغيرهما من أقطار الشرق (57) وتولى إدارة سياستها وأسند تحريرها إلى تلميذه محمد عبده وصدر أول عدد منها في يوم الخميس 15 جمادي الأول سنة 1301هـ الموافق 13 مارس 1884م وتوقفت بعد صدورها بسبعة أشهر فصدر آخر أعدادها العدد الثامن عشر في 26 ذي الحجة 1301هـ الموافق 26 أكتوبر 1884م بسبب محاصرة انجلترا لها ومنعها من دخول مصر والهند فنضبت مواردها فتوقفت.
وكانت له كتابات صحفية في جرائد موسكو تحتفظ مكتبة الدولة بالاتحاد السوفيتي المسماة "مكتبة لينين" بالصحف والمجلات التي صدرت ما بين سنة 1905م و 1917م ونشرت المقالات والمذكرات والأبحاث عن إقامة الأفغاني في روسيا (58) .
وبعد سفره إلى لوندره "لندن" سنة 1309هـ - 1892م ساهم في إنشاء صحيفة (ضياء الخافقين) وهي شهرية جعلها منبراً لحرب ناصر الدين شاه إيران.
نشاطه الماسوني:
ومن منا لا يعرف الماسونية صنيعة الصهيونية العالمية التي تسعى إلى القضاء على الأديان تحت شعارات براقة "حرية، مساواة، إخاء".
جاء في البروتوكول الثالث من (بروتوكولات حكماء صهيون): "ونحن على الدوام نتبنى الشيوعية ونحتضنها متظاهرين بأننا نساعد العمال طوعاً لمبدأ الأخوة والمصلحة العامة للإنسانية، وهذا ما تبشر به الماسونية الاجتماعية" (59) .
وفي البروتوكول الرابع "أن المحفل الماسوني المنتشر في ظل أنحاء العالم ليعمل في غفلة كقناع لأغراضنا. ولكن الفائدة التي نحن دائبون على تحقيقها من هذه القوة في خطة علمنا وفي مركز قيادتنا – ما تزال على الدوام غير معروفة للعالم كثيراً" (60) .
وفي البروتوكول التاسع "أن الكلمات التحريرية لشعارنا الماسوني هي الحرية والمساواة والإخاء وسوف لا نبدل كلمات شعارنا، بل نصوغها معبرة ببساطة عن فكره، وسوف نقول "حق الحرية، وواجب المساواة، وفكرة الإخاء" وبها سنمسك الثور من قرنيه وحينئذ نكون قد دمرنا في حقيقة الأمر كل القوى الحاكمة إلا قوتنا، وإن تكن هذه القوى الحاكمة نظريا  ما تزال قائمة" (61) .
وفي البروتوكول الخامس عشر "وإلى أن يأتي الوقت الذي نصل فيه إلى السلطة، سنحاول أن ننشئ ونضاعف خلايا الماسونيين الأحرار في جميع أنحاء العالم، وسنجذب إليها كل من يصير أو من يكون معروفاً بأنه ذو روح عامة وهذه الخلايا ستكون الأماكن الرئيسية التي سنحصل منها على ما نريد من أخبار كما أنها ستكون أفضل مراكز الدعاية" (62) .
وإذا كانت الماسونية صنيعة الصهيونية العالمية فإن أهداف الصهيونية – ولا أخالها تخفى – هدم الأديان والسيطرة على العالم بأكمله والتحكم في سياسته واقتصاده وشعوبه وفق مصالح اليهودية العالمية وتسخير كل القوى وسلوك كل الطرق مهما كانت ملتوية.
ولا شك أن الماسونية إحدى تلك السبل التي سلكوها إلى هذا الهدف وجعلوها ذراً للرماد في العيون تحت شعار "حرية، مساواة، إخاء" وهي في الحقيقة "قيدية، طبقية، عداء".
خدع كثير من الناس بهذا الشعار فدخلوها وما لبثوا أن أدركوا الغموض الذي يحيط بها فغادروها مسرعين.
إلا أن السيد الأفغاني قدم في 22 ربيع الثاني 1292هـ طلباً للانضمام إلى المحفل الماسوني هذا نصه:
يقول مدرس العلوم الفلسفية بمصر المحروسة جمال الدين الكابلي الذي مضى من عمره سبعة وثلاثون سنة بأني أرجو من إخوان الصفا وأستدعي من خلان الوفاء أعني أرباب المجمع المقدس الماسوني الذي هو عن الخلل والزلل مصون أن يمنوا علي ويتفضلوا علي بقبولي في ذلك المجمع المطهر وبإدخالي في سلك المنخرطين في ذلك المنتدى المفتخر ولكم الفضل.
ربيع الثاني يوم الخميس
22 سنة 1292هـ
التوقيع
ولم ينسحب من المحفل بل كان من الأعضاء البارزين ذوي النشاط فيه ولذا تم اختياره بعد سنوات ثلاث رئيسا للوج كوكب الشرق بتاريخ 7 مايو 1878م بأغلبية الآراء ووجهت له دعوة بهذا التاريخ لاستلام القادوم بعد إتمام ما يجب من التكريز الاعتيادي والحضور بالزي الرسمي الماسوني الأسود ورباط الرقبة والكفوف بيضاء.
ولم يكتف السيد الأفغاني بل ازداد نشاطه في ميدان الماسونية فاعتزل هذا المحفل الاسكتلندي وأنشأ محفلاً وطنياً تابعاً للشرف الفرنساوي وفي برهة وجيزة بلغ عدد أعضائه العاملين أكثر من ثلاثمائة" (63) .
ولم يزل يبذل جهوده في هذا الميدان حتى صدر الأمر بنفيه في 6 رمضان سنة 1296هـ 24 أغسطس 1879م وجاء في القرار "أنه رئيس جمعية سرية من الشبان ذوي الطيش مجتمعة على فساد الدين والدنيا" (64) . وكتب إلى بعض الشخصيات من غير أن يذكر اسما يستنجد بها مما حل به ويزعم أنه مظلوم فيما نسب إليه.
ونفي من بعده تلميذه وأحد أعضاء محفله الشيخ محمد عبده ووجد في منزله كتاب (الماسون) بخط السيد الأفغاني كما اعترف بهذا الشيخ نفسه في خطاب منه إلى أستاذه الأفغاني.
ولم ينقطع نشاط السيد الأفغاني الماسوني بعد نفيه من مصر فإن التاريخ يحدثنا أنه في "جمادى الأولى سنة 1303هـ سافر السيد إلى البلاد الإيرانية بدعوة من الشاه ناصر الدين فنال مكانة سامية وتزاحم حوله الأمراء والمجتهدون والكبراء وتمكن من نظم كثير منهم في سلك الماسونية".
وكان له نشاط ماسوني في فرنسا أيضاً حيث قدم طلباً للعضوية في اللوج باريس وتم قبوله.
وإذا ثبت بما لا يقبل الشك انتماء السيد الأفغاني للماسونية، وثبت أن الماسونية وليدة الصهيونية العالمية وسبيل من سبلها لتحقيق أهدافها في هدم الأديان والسيطرة على العالم فإن الواجب تقصي الحقائق في سيرة الرجل الأفغاني والبحث عن حقيقة أهدافه.
أما الزعم بأن الأفغاني كان مخدوعاً بمبادئ الماسونية "الحرية، المساواة، الإخاء" ولم يعرف حقيقتها وصلتها بالصهيونية لأن بروتوكولات  حكماء صهيون لم تنشر إلا بعد وفاته فإنه زعم باطل.
ذلكم أن من الصحف من قامت بكشف حقيقة الماسونية آنذاك فقد تصدت جريدة (البشير الجزويتية) الصادرة في بيروت للماسونية ولم تغفل عن مهاجمتها وكشف أسرارها دواماً" (65) .
وقد تصدت لهذه الجريدة صحف مصرية ماسونية مثل (اللطائف) و(المقتطف) و(البيان) و(الفلاح) و(النصوح) و(المقطم) بردود كثيرة ودفاع عن الماسونية ومبادئها (66) مما ثبت وقوع مناقشات حادة في الصحف عن الماسونية وهذا يدعو إلى التأكد من صحة أهدافها قبل الانضمام إليها من كل شخص فكيف بمن يريد الإصلاح وينتسب إليه.
فإن زعموا أن السيد لم يقرأ هذه الصحف أو لم تصل إليه أعدادها سلمنا – جدلا – وقلنا صدر من الكتب سنة 1891م أي قبل وفاة الأفغاني بست سنوات كتاب (الحقيقة الإسرائيلية) وجاء فيه "الروح الماسونية هي نفسها الروح اليهودية لا اختلاف في معتقداتها الأساسية فآراؤها متماثلة" (67) وقبل وفاة الأفغاني بإحدى وثلاثين سنة أي في سنة 1866م صدر كتاب (السر المكنون في شيعة الفرماسون) أو (ماهية الفرماسونية على ما يشهد به أهلها وتدل عليه قوانينها وتنبئ به أعمالها) صدر في بيروت وطبع كتاب مثله بالفرنسية في السنة ذاتها وهي لغة يجيدها الأفغاني، وفي سنة 1885م طبع كتاب (شيعة الماسونيين) بمطبعة الآباء المرسلين اليسوعيين وفي سنتي 1884-1885م نشر كتاب (الأدلة القاطعة على شرف الرهبانية اليسوعية وبيان كنه الشيعة الماسونية) في جزءين بمطبعة الآباء اليسوعيين (68) وفي سنة 1885م صدر كتاب (شيعة المسونيين) بلا ألف بعد الميم هو مجموع المقالات التي نشرتها البشير عن الماسونية (69) .
فإن زعموا أنه لم يقرأ هذا ولا ذاك سلمنا – جدلا – وقلنا ليس في وجود أعضاء في الماسونية يسعون لهدم أركان الدين وتشتيت الفضيلة ما يثير شكوكه في أهداف الماسونية فيحذرها فقد اعترف أحد الماسونيين وهو جورجي زيدان بوجود هؤلاء الأعضاء في المحافل الماسونية حيث يقول "فقد اتهم رجال الدين الماسونية بالكفر وأنها إنما تسعى لهدم أركان الدين وتشتيت الفضيلة، أما نحن فمع إجلالنا لهذه الجمعية عن هذه التهمة ومع يقيننا أنها براء منها لا يسعنا الإنكار أن بين أعضائها أفرادا قليلين ربما تصح عليها تلك التهمة" (70) .
فإن زعموا أن هذا كله لا تقوم به حجة ولا يستقيم به برهان – سلمنا جدلا – وقلنا خذوا القاضية القاصمة.
أي شيء أراد الأستاذ محمد المخزومي تلميذ الأفغاني أن يخفيه عنه حين قال" أما انخراط جمال الدين في الماسونية.. فنختصره على قدر ما تسمح به الطريقة الماسونية" (71) .
ثم إن أردتم أن نسير على منهج "من فمك أدينك" فإنا فاعلون.
بعد دخول الأفغاني إلى المحفل الماسوني تغيرت ثم لهجته في أحاديثه وأخذ يقرب منه العوام (72) لأي شيء يفعل هذا؟ أتظنون أنه فعل ذلك ليوضح لهم ما يجهلونه من أمور دينهم ولينزع الخرافات والمعتقدات الزائفة من أذهانهم والبدع والمنكرات من أفعالهم؟ كلا، إنه يقربهم ليقول لهم "إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد وربيتم بحجر الاستبداد وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك والرعاة حتى اليوم وأنتم تحملون عبء نير الفاتحين وتعانون لوطأة الغزاة الظالمين" (73) إلى أن قال "تناوبتكم أيدي الرعاة ثم اليونان والرومان والفرس ثم العرب والأكراد والمماليك ثم الفرنسيس والمماليك والعلويين وكلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه ويهيض عظامكم بأداة عسفة، وأنتم كالصخرة الملقاة في الفلاة لا حس لكم ولا صوت" (74) .
فعد السيد الأفغاني الفتح الإسلامي لمصر دخول العرب، وعد دخول العرب على حد تعبيره استعباداً واستبداداً وقرنه باستعباد اليونان والرومان والفرس والفرنسيس واستبدادهم ثم يسترسل في حديثه فيقول "انظروا أهرام مصر وهياكل منفيس وآثار تيبه ومشاهد سيوه وحصون دمياط شاهدة بمنعة آبائكم وعزة أجدادكم.
وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالرشيد فلاح (75)

أذاً فهو لا يدعو عوام المسلمين الذين قربهم إليه بعد انضمامه إلى الماسونية لا يدعوهم إلى الدين الإسلامي إذ هو يشق جلودهم بمبضع نهمه ويهيض عظامهم بأداة عسفه كاليونان والرومان والفرس والفرنسيس، لا يدعوهم إلى الدين الإسلامي وإنما إلى النظر إلى أهرام مصر وهياكل منفيس... الخ وكلها آثار فرعونية شاهدة على جاهلية تعبد الأشخاص والكواكب من دون الله، ولا شك أن دعوته إلى النظر فيها دعوة إلى الاقتداء بأصحابها.
وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم.. إن التشبه بالرشيد فلاح.
إذاً فهي دعوة إلى نبذ الدين الإسلامي – كما أفهمها – وهي جزء من أهداف الماسونية التي تحارب الأديان.
ثم ومما يزيد الأمر وضوحاً ذكر آثارا ميتة وجيفا منتنة ولم يذكر مصنع الرجال لكونه مأثرة إسلامية. أعني الجامع الأزهر ما الداعي إلى هذا التحامل ضد الإسلام ومآثره؟ وهل لهذا أيضاً صلة بانتمائه إلى الماسونية؟!
وبعد.. فلعلي أطلت الحديث هنا في هذا الموضوع لأنه الميزان الدقيق الذي نزن به الرجل هنا، ولأنه يكفي في بيان حقيقة الرجل أي رجل إبات انتمائه إلى الماسونية..
فإن كان فيما ذكرنا من أدلة ما يثبت انتماء الأفغاني إلى الماسونية وظهور أثرها في أحاديثه وأقواله فقد انجلت الحقيقة.. حقيقة الرجل. وإن كانت لا تكفي لإثبات ذلك فإنها ولا شك أصابع تشير إلى الأفغاني بالاتهام.
وفاته:
مكث جمال الدين في الآستانة زهاء أربعة أعوام حتى داهمه السرطان في فكه الأسفل وعملت له ثلاث عمليات جراحية بيد أشهر الأطباء ولم تنجح فمات في 7 شوال 1314هـ الموافق 9 مارس 1897م ودفن في نشان طاش في مقبرة "شيخلر مزارلغي" أي مقبرة المشائخ (76) وقال طبيبه الخاص إن شدة ولع جمال الدين بالسيجار الأفرنجي وكثرة شربه للشاي وتناوله الطعام مالحا كان من مسببات السرطان" (77) حتى قال بعض تلاميذه.
الملح والشاي والدخان أودت بروح شيخنا الأفغاني (78)

ومن المؤسف أن يتحامل بعض المؤرخين وينسب قتله إلى الخليفة المسلم السلطان عبدالحميد ويصف السلطان بأنه أكبر طغاة الملوك في عهده مما لا مجال للرد عليه هنا ونكتفي بنقل كلمة لمستشرق فرنسي حيدر بامات حيث يقول "ولكن من القحمة كما يظهر أن يذهب كما صنع بعض مترجميه إلى أنه سم بأمر من السلطان فالرواية التي تعزو موته المفاجئ سنة 1897م إلى سرطان ظهر في الشفة السفلى فاستولى على جميع وجهه بالتدريج أقرب إلى الحق كما يقوم وقد نقل جلود زيهر هذه الرواية فوكدها لنا الأمير شكيب أرسلان الذي كان من تلاميذ جمال الدين وعاشره في السنين الأخيرة من حياته" (79) .
بل إن ابن أخت جمال الدين يعترف ويقول "فلما رفضت الدولة العثمانية تسليم السيد يعني لإيران لاتهامه بالاشتراك في قتل ناصر الدين شاه – اتفق سفير إيران ومندوبها فوق العادة الذي كان قد أوفد من إيران لهذه الغاية في سنة 1314هـ على أن يسموا ذلك السيد.. وقد حدث ذلك واستشهد جمال الدين" (80) .
ونزيد – أيضاً – لو كان للسلطان نية في قتله لسلمه لحكومة إيران التي اتهمته بالاشتراك في قتل ناصر الدين شاه فطلبته من تركيا مع اثنين من شركائه سلمتهما تركيا فأعدما ورفضت تسليم الأفغاني.
حقيقته والمآخذ عليه:
مما لا شك فيه أن حياة هذا الرجل مليئة بالأسرار ويحيطها الغموض (81) وتلتبس فيها الحقائق بالأكاذيب ومما يزيد الأمر سوءاً أنه لم يؤرخ للرجل مؤرخ معتدل فأغلب من أرخ له إما معجب به بالغ الإعجاب مبالغاً في الثناء عليه متجاوزاً عن كثير من أخطائه، تكل عينه من كل عيب فيه أعمته عين الرضا عن الحقيقة وإما رجل حاقد كاره بالغ في قدحه وذمه يحمل منه كل شاردة ووارده ما لا تحتمله أعمته عين السخط عن الحقيقة.
وزاد بعض تلاميذه الأمر سوءاً فأخفى بعض أعماله زاعما أن الطريقة الماسونية لا تسمح بذكره (82) .
ويزيد الأمر حينما نعلم أن أكثر نشاطه كان سرياً (83) . ولكن مع هذا الغموض فإنا نجد في بعض أفعاله وأقواله مآخذ لا نراها إلا خطيرة توجب إعادة النظر في تقويم بعض الرجال كما قال الدكتور محمد محمد حسين ونحن حين ندعو إلى ذلك لا نريد أن ننقص من قدر أحد ولكننا لا نريد أن تقوم في مجتمعنا أصنام جديدة معبودة لأناس يزعمون أنهم معصومون من كل خطأ" (84) .
وقد سبق لنا أن ذكرنا بعض هذه المآخذ في نشاطه الماسوني وفي تفسيره وفي الجامعة التي يدعو إليها وغير ذلك مما لا داعي لإعادته هنا.
وأول ما يصادفنا في حياته من غموض الاختلاف في أصله أهو إيراني أم أفغاني وهو يذكر أنه أفغاني في كثير من أقواله ورسائله وأحياناً يسمي نفسه "الكابلي" أو "الحسيني" وكلها ألقاب يعرف بها الرجل ويشك في صحة هذا كثير من المؤرخين ويزيد الأمر شكا أن التاريخ لا يحدثنا عن عودته أو محاولته الاتصال بأهله وعشيرته في أفغانستان بعد خروجه منها بينما يذكر عودته المتكررة إلى إيران ويذكر أن معظم من يتصل به في تركيا إيرانيون وقنصل إيران قدم له العون عند نفيه من مصر والذي يقوم بدور الترجمة له في العروة الوثقى إيراني. ونحن لا يهمنا معرفة أصله أإيراني هو أم أفغاني بقدر ما يهمنا معرفة الدافع له إلى التنكر ولا يقنعنا وحدة القول بأنه إنما تنكر حتى يستطيع الخلاص من رقابة الحكومة الإيرانية لرعاياها في الخارج.
ومع أنه كان يدعو إلى تنقية الدين الإسلامي مما علق به من الخرافات كتقديس الأموات والتبرك بهم ونحو ذلك إلا أنا نراه يستغل هذه النقطة أبشع استغلال فيلجأ إلى مقام عبدالعظيم خوفاً من ناصر الدين شاه ويثير فيهم الحمية لهذا المعتقد الباطل بالانتقام من ناصر الدين شاه فيقول "وأما قصتي وما فعله هذا الكنود الظلوم معي فمما يفتت أكباد أهل الإيمان ويقطع قلوب ذوي الإيقان ويقضي بالدهشة على أهل الكفر وعباد الأوثان إن ذلك اللئيم أمر بسجني وأنا متحصن بحضرة عبدالعظيم عبدالسلام" (85) ويصف هذا المقام بأنه "حرم من دخله كان آمنا" (86) .
بل ويحاول أن يظهر بالقداسة أمام العوام ولو كان بالكذب والخداع حكى عنه سعد زغلول أنه ذكر لهم أنه كان في سفينة خيف عليها الغرق فرأى في الركاب خوفاً فأكد لهم أن السفينة لن تغرق ثم قال "لو غرقت السفينة لم أجد منهم أحدا يكذبني وإن سلمت ظهرت بالقداسة من أقرب سبيل" (87) .
ومن المآخذ عليه اتخاذه الاغتيال سبيلاً لتحقيق مآربه فقد قال مره في حديث له مع الأستاذ براون لا أمل في الإصلاح قبل قطع ستة أو سبعة رؤوس وسمي بالاسم شاه العجم وكبير وزرائه وكلاهما قتل بعد ذلك (88) وحينما طلب من السيد أن يكف عن مقاومة الشاه مقابل ما يشاء ويتمنى أجاب "لا أتمنى إلا أن تزهق روح الشاه ويشق بطنه ويوضع في القبور" قال عبدالقادر المغربي كل هذا سمعته من فم شيخنا الأفغاني الذي كان يرويه بطلاقة لسان وتوقد جنان" (89) وقد أمر فعلا بالقتل حينما قال رضا آقاخان يوما أنه حاضر أن يفدي نفسه لتخليص أمته فقال له جمال الدين "أن كان كذلك فاذهب وافعل" (90) وأمر السيد رجاله الأفغانيين أنهم إذا رأوا ميرزا في حيهم يقتلونه (91) ، وهذا ميرزا حسين خان دانش يصف زيارته لجمال الدين فيقول "وما أن قربت منه حتى وجدته محدقاً بنظره إلى الأرض يزرع البهو من أقصاه إلى أقصاه يروح وغدو غاضباً رافعاً صوته كالمجانين وهو يقول "لا نجاة إلا في القتل لا خلاص إلا في القتل لا سلامة إلا في القتل".. فاشتد عجبي لهذه الحالة الجنونية التي وجدته عليها.. وعدت من حيث أتيت وتركته وشأنه وبعد انقضاء 25 يوماً أو شهر على ذلك وردت الأخبار من طهران باغتيال "ناصر الدين شاه" بمسدس "ميرزا رضا الكرماني" (92) بل إن قاتل ناصر الدين شاه قال عندما أنفذ فيه خنجره:- خذها من يد جمال الدين (93) ولما بلغ الأفغاني ذلك قال كلمات تدل على الإعجاب بالقاتل (94) وذكر محمد عبده أن الأفغاني أمره بقتل الخديوي إسماعيل (95) .
وعاب أحمد أمين على الأفغاني هجاءه لناصر الدين شاه فقال "هذه زلة كبيرة من السيد دعاه إليها حدته وحبه للانتقام إذ كيف أجاز لنفسه التشهير بحكومة شرقية إسلامية في بلاد أجنبيه تتخذ من أقواله حجة للتدخل الذي طالما حاربه في العروة الوثقى وكيف استباح أن يفضح هذه العيوب ثم قارن بينه وبين مدحت باشا الذي نفاه عبدالحميد بلا مال ولا ثياب ولا أهل فلم ينطق بكلمة في ذم عبدالحميد بل تكلم الكلام الكثير في فضل الأتراك على أوروبة ثم قال الحق أنها غلطة من غلطات السيد دعا إليها حدة مزاجه (96) .
وقد نسب إليه بعضهم القول بنظرية داروين والحق أنه لم يقل بذلك بل رد عليها بما يبطلها (97) مع تعاطفه على من أيدها وحمده لهم الجهر بمعتقدهم ولو خالف الجمهور (98) .
ومما يؤخذ عليه كثرة لحنه، ولا نعيب عليه اللحن بقدر ما نعيب عليه إباحته ذلك فقد قال في هجاء رجال "هذا رجل من نسل البقروت" فعابوا عليه استعمال بقروت فقالوا: إن بقروت لم ترد في كلام العرب فقال وهل تريدون مني أن أنكر نفسي (99) .
ومن أحسن الردود على هذا قول الأب انستاس الكرملي "أجل إننا لا نريد أن نسير برأي أهل البادية في لغتنا لكننا نريد أن نسير على المناحي والمنازع التي تلقيناها من السلف جيلا بعد جيل وأصلهم من البادية ولا نقبل أن ندخل في لغتنا مثل البقروت بحجة أن جمال الدين نطق بها" (100) وقد عرف من رأي السيد أنه يجوز استعمال الدخيل واللفظ الأعجمي ويقول إذا أردتم استعمال كلمة غير عربية فما عليكم إلا أن تلبسوها كوفية وعقالا فتصبح عربية وقد كنى بالكوفية والعقال عن التعريب" (101) وكان يقول "كان المقصود في النحو أن يكون آلة فصيره جمود النحاة غاية" (102) .
ومما يثير الريبة والشكوك في الأفغاني هذا الخليط من اليهود والنصارى الذي يحيط به، سليم نقاش من نصارى الشام وهو ماسوني ووضع كتابا تبدو فيه أهداف الماسونية بارزة في عنوانه (مصر للمصريين) وهو يذكرنا بدعوة الأفغاني للمصريين بالنظر ليس إلى الآثار الإسلامية بل إلى الآثار الفرعونية المصرية، وفي هذا فصل لمصر عن المسلمين والإسلام.
وأديب إسحاق من أكثر الدعاة إلى الماسونية حماسا وقف نشاطه الصحفي على هذا وهو أيضاً من نصارى الشام انتظم في سلك الماسونية سنة 1873م في محفل أنشأه الماسون في بيروت ذلك العام ثم وقف نشاطه على الدعوة إلى الماسونية في بعض الصحف ولم يكتف بهذا بل قام بطبع مقالاته تلك في كتاب ضخم (103) ومع هذا فقد كان الأفغاني لآخر نسمة من حياته – كما يقول تليمذه المخزومي – عند ذكر أديب بك إسحاق يسترجع يقول: كان طراز العرب وزهرة الأدب، قضى نحبه في شرخ الشبوبة وعنفوان الفتوة وترك لنا قلوباً آسفة وشجوناً فائضة إنا لله وإنا إليه راجعون" (104) .
ومع هذا أيضاً فقد أسند الأفغاني إدارة أول صحيفة أنشأها (مصر) الأسبوعية سنة 1877م إلى أديب إسحاق هذا؟! ثم ساهم في إنشاء جريدة (التجارة) وتولى رئاستها أديب إسحاق وسليم نقاش وكان الأفغاني يساهم بالكتابة فيها ويوصي تلاميذه بخدمة هاتين الصحيفتين قلماً وسعياً (105) .
وهكذا نرى الأفغاني يمكن النصارى من أجهزة الإعلام ويصرف النقود ويفتح المطابع ويحصل على الامتيازات ليسلمها لهم.
وكان من المحيطين به من النصارى جورج كوتجي وطبيبه الخاص هارون يهودي (106) . ولم يحضر وفاته إلا كوتجي النصراني وهارون اليهودي وعند قدومه إلى مصر يسكن في حارة اليهود (107) .
ومن المآخذ عليه صلته بالإنجليز المريبة ورجال الإنجليز، وفي الحقيقة أنه لم تتضح لي حقيقة علاقة الرجل بالإنجليز فهو معهم أحد رجلين لا محالة: إما عدو ساذج مغفل اتخذوه مطية لهم لتحقيق مآربهم، وإما صديق مخلص ذو مكر ودهاء.
وحسب ما نعرف من تاريخ الرجل فإن أول صلة بين وبين الإنجليز حينما انضم إلى محمد أعظم في أفغانستان ضد شير علي وانتصر الثاني لتأييد الإنجليز له ولم يجد الأفغاني بدا من الهرب.
وفي مصر كان يؤلب عليهم الناس حتى يقوموا بالثورة العرابية، وفي إيران يحرض مفتي إيران على تحريم الدخان لإبطال احتكار الإنجليز له في إيران تمهيداً لاحتلالها وفي باريس ينشئ مجلة العروة الوثقى التي تحارب الإنجليز أينما حلوا وتشنع عليهم وهو مع هذا يسرح في بلادهم ويمرح ويتردد بين لندره وباريز ولا يلقى سوى الترحيب.
صحيح أنهم أدوا إلى تعطيل (العروة الوثقى) لكن صاحبها لا يجد مانعا من اللجوء إلى سفير بريطانيا في الآستانة ليساعده على الخروج منها (108) ولا تجد إنجلترا مانعاً قبل ذلك من عرضها له توليه السلطة في السودان (109) وقبل هذا وذاك لا يجد السيد الأفغاني مانعاً من دخول المحفل الماسوني والاسكتلندي ولا يجدون هم أنفسهم مانعا من تعيينه رئيساً للمحفل.
ولا يجد مانعا من التعاون مع الإنجليز! ضد من؟ ضد الخلافة الإسلامية؟!! قال السلطان المهضوم عبدالحميد في مذاكراته التي نشرت مؤخراً "وقعت في يدي خطة أعدها في وزارة الخارجية الإنجليزية كل من مُهرج اسمه جمال الدين الأفغاني وإنجليزي يدعي بلند، قالا فيها بإقصاء الخلافة عن الأتراك واقتراحا على الإنجليز إعلان الشريف حسين أمير مكة خليفة على المسلمين" (110) .
ولهذا فلا عجب أن يصفه السلطان عبدالحميد بقوله "كان رجل الإنجليز ومن المحتمل جدا أن يكون الإنجليز قد أعدوا هذا الرجل لاختباري" (111) .
أما بلنت هذا الذي أشار إليه السلطان عبدالحميد فهو وزوجته من أصدقاء الأفغاني الإنجليز وهو وزوجته ذوي نشاط مريب في بلاد العرب ويكفي نشاطهما ريبة دعوتهما إلى إنشاء دولة عربية حليفة لإنجلترا تصبح مقراً للخلافة الإسلامية ويكتب بلنت في ذلك كتابه المشهور المسمى (مستقبل الإسلام) (112) .
وصلة الأفغاني ببلنت هذا وزوجته أيضاً صلة مريبة فهي التي تفاوض باسمه الحكومة البريطانية وتبدي رأيها له في بعض المسائل وتطلب منه توجيهاته بعد هذا وتسعى لعقد الاجتماعات بينه وبين كبار الشخصيات حتى الإيرانية فتنظم له لقاء مع مالكوم خان سفير إيران لدى جميع الدول الأوروبية وهو نصراني ذو ميول أوربية وتفاوض باسمه بريطانيا في مسألة مصر ومسألة السودان وتكتب إليه بجواب الوزراء الإنجليز.
ومن يقرأ بتمعن تأريخ بلنت وزوجته يدرك أنهما يحاولان الظهور بمظهر التعلاطف مع قضايا "العرب" حتى ضد الإنجليز ولكن حقيقتهما إنهما من رجال الإنجليز وأكبر هذا دعوتهما لفصل العرب عن الخلافة الإسلامية وإنشاء دولة عربية حليفة لانجلترا تصبح مقراً للخلافة الإسلامية وفي هذا وحده ما يكشف حقيقتهما.
فما علاقة الأفغاني بهما وكيف يسمح لنفسه أن يتعاون مع الإنجليز لهدم الإسلام والخلافة الإسلامية وهو يسعى بزعمه وزعم المخدوعين به إلى الوحدة الإسلامية؟!
ومن المآخذ على الأفغاني تلك العبارة الخطيرة والألفاظ المنحرفة وهي وإن كانت غير صادرة منه ولكنها من تلاميذه وموجهة إليه ولو لم يكن بها راضياً لردع تلاميذه عنها ولعرفوا كراهيته لذلك فارتدعوا ولكنه لم يفعل فلم يفعلوا.
فمن ذلك ما كتبه إليه تلميذه إبراهيم اللقاني:-
"لو أذن لي سيدي وأستاذي ورب روحي ومعدل مزاجي ومقوم خلائقي ومحور خلقي ومحرر فطرتي".
ويكتب إليه السيد رشيد رضا مصلياً ومسلماً عليه بعد رسول الله وآله فيقول:- "الحمد لله على أفضاله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وعلى سيدي بل السيد المطلق، ذي القدح المعلى والجواد المصلى الاسبق، سدرة منتهى العرفان، وجنة مأوى المحاسن والإحسان الذي له في كل جو متنفس، ومن كل نار مقتبس، الإمام المفرد والعقل المجرد "إلى أن قال" مهبط الفيض مصعد الكلم الطيب مجلى سر الجمال الأكمل" (113) .
ويكتب إليه الأستاذ الإمام محمد عبده ما هو أشد وأفظع وأخطر على عقيدة المسلم وسنذكره عند الحديث عن محمد عبده – إن شاء الله -.
ومن المآخذ على الأفغاني أن السلطان عبدالحميد استشاره في إرسال بعثة من العلماء لنشر الإسلام في اليابان حسب طلب إمبراطور اليابان فأرجعه عن عزمه وقال له "إن العلماء نفروا المسلمين من الإسلام فأجدر أن ينفروا الكافرين" (114) .
ومنها تعليله عدم زواجه بخشيته عدم العدل، ومنها قسمه الذي يقسم به وعز الحق وسر العدل، ومنها أنه يشرب "قليلاً من الكونياك" (115) .
ويطول بنا الحديث لو أردنا استقصاء ذلك، ولعل فيما ذكرنا إشارة لمؤسس هذه المدرسة العقلية الحديثة والباعث لها وهو وإن كان الغالب على نشاطه السياسة لا الدروس العلمية التي هي مرادنا لكنه هو الذي وجه الإمام محمد عبده وتلاميذه إلى هذه الطريقة وأخذ بيدي حتى سلكته وحمدت له ذلك واعترفت له. (116)
المصدر :



وهنا من مرجع آخر
 من هو جمال الدين الأفغاني؟ وما هي حقيقة دعوته وعـقـيـــدتــه

    ليس كل ما يلمع ذهب


    أئمة أهل البدع والأهواء


    من هو الأفغاني؟ وما هي حقيقة دعوته؟


    الشيخ سليم بن عيد الهلالي






    أولاً- الاختلاف الكبير في اسمه ونسبه:

    اختلف في نسبه اختلافاً كبيراً؛ لأنه كان يَظْهَر في كل أرض باسم جديد، وينتحل شخصيات مختلفة، ويتخذ أسماء شتى، ومنها:

    1- جمال الدين الاستانبولي.

    2- جمال الدين الأسدأباذي.

    3 - جمال الدين الحسيني.

    4- جمال الدين الحسيني عبد الله بن عبدالله.

    5- جمال الدين الاستانبولي عبد الله.

    6- جمال الدين الأفغاني الكابلي.

    7- جمال الدين الحسيني الأفغاني.

    8- جمال الدين الرومي.

    9- جمال الدين الطوسي.

    10- جمال الدين الكابلي.

    قال الوردي:

    «وقد اعتاد الأفغاني أن يغير لقبه كلما انتقل من بلد إلى آخر؛ فقد رأيناه في مصر وتركيا يلقب نفسه بـ (الأفغاني)، بينما هو في إيران يلقب نفسه بـ (الحسيني)(!)

    ويتضح من أوراقه المحفوظة أنه كان يتخذ ألقاباً أخرى؛ مثل:

    (الإستانبولي) و(الكابلي) و(الروسي) و(الطوسي)، و(الأسدأباذي)!

    وكان الأفغاني يغير زيَّه ولباس رأسه مثلما كان يغير لقبه؛ فهو في إيران يلبس العمامة السوداء التي هي شعار الشيعة، فإذا ذهب إلى تركيا ومصر؛ لبس العمامة البيضاء فوق طربوش تارة، وبغير طربوش تارة أخرى، وقد لبس الطربوش مجرداً في أوروبا أحياناً، أما في الحجاز؛ فقد لبس العقال والكوفية، وقيل: إنه في بعض جولاته لبس العمامة الخضراء، ومن يدري؟! فربما لبس القبعة أحياناً»( 1).

    قال مصطفى فوزي غزال:
    «فهذا يدل على أن له مهمة خفية يسعى لتنفيذها، وأنه يوجد وراءه من يخطط له، ويطلب منه التلون بهذه الألوان، والتسمي بتلك الأسماء»( 2).

    ثانياً- شيوخه ومذهبه وعقيدته:
    قال مصطفى فوزي:
    «لو تتبعنا حياته الدراسية من مبدئها إلى منتهاها؛ لبدا لنا أنها كانت شيعية كلها، فقد تنقل من مدرسة إلى أخرى، ومن بلدة إلى أخرى، ومن شيخ إلى آخر، وفي كل ذلك يتقلب من مجالات شيعية بحتة.

    فهو درس في قزوين -وهي مدينة إيرانية-دراسته الابتدائية، ويقال: إنه سجن فيها مع البابي قاتل الشاه ناصر الدين.

    ثم انتقل إلى طهران؛ ليدرس العلوم الشرعية، وتابع دراسته.

    ثم انتقل إلى العراق؛ ليدرس الدراسات العليا في العتبات المقدسة التي إليها يحج طلاب العلم الشيعي من جميع أنحاء العالم..

    وقد أثبت تشيعه علي الوردي في كتابه «لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث»وذلك عندما ذكر سعي جمال الدين في محاولة التقريب بين الشيعة والسنة، فذكر رسائله إلى علماء الشيعة.

    قال الوردي: «وصلت رسائل الأفغاني إلى علماء الشيعة، والظاهر أنه عرف كيف يخاطبهم ويؤثر في عقولهم؛ لأنه كان واحداً منهم في سالف الأيام...

    وحتى مشايخه جميعهم من الشيعة، فقد عدّ المترجمون من مشايخه آغاخان صادق، وهو شيعي، والشيخ مرتضى شيعي.

    ويذكر أبو رية بعضاً من المشايخ في كتابه «جمال الدين الأفغاني»، ويقول: «ولقد سمعت أن السيد تتلمذ على القاضي بشر والحافظ دراز وحبيب الله القندهاري».

    وهؤلاء من الشيعة -أيضاً-.
    فبعد هذا؛ ألا يحق لنا أن نقول بأنه شيعي جعفري اثنا عشري؟!

    ويؤيد هذا الرأي الدكتور عبد المنعم محمد حسنين في كتاب «جمال الدين الأسدأباذي» (ص9) حيث قال: «وكان شيعياً جعفري المذهب».

    ولم يصدر هذا الحكم إلا بعد أن قرأ رسائل الأفغاني التي نشرت بعد وفاته؛ لذا يقول في (ص10-11): «وإن الأدلة التي تثبت أن جمال الدين إيراني شيعي المذهب كثيرة وقاطعة».

    ثم لم يكتف الدكتور عبد المنعم حسنين بإثبات شيعيته، بل يؤكد أنه متعصب لمذهبه في (ص35-36): «بل لقد كان جمال الدين متعصباً لبلاده ومذهبه الشيعي، حتى في اتخاذ من يقوم بخدمته ويعنى بمصالحه الخاصة، فقد اتخذ خادماً له يدعى أبا تراب، وكان هذا الخادم ملازماً له أينما ذهب؛ كما كان أميناً على أسراره الخاصة، واسم أبي تراب من الألقاب الخاصة بعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، ويشبه هذا حرصه على أن يوقع باسم جمال الدين الحسيني؛ فإنه يرجح أنه شيعي إيراني؛ لأن لقب الحسيني له معنى خاص عند الشيعة الإيرانيين؛ لشدة تعلقهم بآل البيت، ولا سيما الحسين بن علي»( 3).

    قال مرزا لطف الله خان -وهو ابن خالة الأفغاني-:
    «وكان كشف حقيقة جمال الدين أمام السلطان عبد الحميد ضربة قاضية وجهها مظفر الدين شاه إلى جمال الدين بوثيقة سلمها علاء الملك سفير إيران في تركيا إلى الحكومة التركية تثبت بالأدلة القاطعة أن جمال الدين إيراني شيعي يختفي في ثياب الأفغاني، ويتخذ المذهب السني ستاراً يحتمي به»(4 ).

    ويظهر أن الأفغاني كان على صلة قوية بالبابية؛ فما هي البابية؟

    قال علي عبد الحليم محمود في تعريف البابية:
    «البابية من المذاهب الخطرة والفلسفات المعادية للإسلام، ولليهود فيها يد طولى.

    وفي مؤتمر برشت (1264هـ/1843م) أعلن البابيون انسلاخهم عن الإسلام، وحاربوا الإسلام واللغة العربية، ودخلوا مع الحكومة في فارس في حروب ومنازعات أدَّت في النهاية إلى إصدار الحكم بإعدام الميرزا (النقطة)، وخبا صوت هذه الفلسفة الضالة حيناً غير طويل من الزمان، ثم أخذ أتباعه يعملون في الخفاء والسرية، ودخل فيه عدد من اليهود.

    وفي عام (1285هـ/1868م) خرجت البابية من عكا باسم جديد هو (البهائية)؛ نسبة إلى زعيمها الجديد: ميرزا حسين علي المازندراني، الذي يلقب (بهاء الله)، ومن المقرر أن البهائية أصبحت وجهاً آخر لليهود»(5 ).

    ولقد أثبت كثير من المحققين انتساب جمال الدين الأفغاني إلى هذه النحلة الباطنية الخبيثة.
    قال مصطفى غزال: «وكان ينسب إلى جمال الدين الأفغاني أنه بابي، وكان أبو الهدى الصيادي يقول عن جمال الدين بأنه مازندراني؛ أي: بابي؛ لما يرى عنده من أفكار متقاربة مع أفكار ومعتقدات البابية . وانظر كتاب «رشيد رضا الإمام المجاهد» لإبراهيم العدوي (ص97)»( 6).

    ويقول الدكتور محمد عمارة: «كتب أبو الهدى الصيادي إلى الشيخ رشيد رضا مهاجماً ترديد المنار لأفكار الأفغاني، وقال: «إني أرى جريدتك طافحة بشقائق المتأفغن جمال الدين الملفقة، وقد ثبت في دوائر الدولة رسمياً أنه مازندراني (أي: بابي) من أجلاف الشيعة، وهو مارق من الدين كما يمرق السهم من الرّمية».

    ومما يؤكد هذا الاتجاه أن قاتل ناصر الدين -شاه إيران- كان بابياً، وكان من أتباع جمال الدين ومحبيه، وكان قد اجتمع معه في سجن واحد يوم كانت الحكومة الإيرانية تكافح وتلاحق عناصر البابية بعد أن ثبت لديها أنهم حاولوا اغتيال الشاه ناصر الدين عام (1268هـ )، وقد ضحى بنفسه من أجل جمال الدين، فقال لناصر الدين -شاه إيران- عندما طعنه: خذها من يد جمال الدين»( 7).

    وكان جمال الدين الأفغاني يرى أن النبوة مكتسبة كالصناعات.
    قال أحمد أمين: «فاتهموه بالإلحاد لهذا، وشنعوا عليه بأنه يقول بأن النبوة صناعة، وشغبوا عليه؛ حتى نصح له بالخروج من الأستانة، فلما جاء إلى مصر؛ اتهمه العلماء كالشيخ عليش وبعض العامة بالإلحاد»( 8).

    وقال سليم عنجوري -أحد طلاب الأفغاني من النصارى-: «ارتجل خطبة في الصناعات، غالى فيها إلى حد أن أدمج النبوة في عداد الصنائع المعنوية، فشغب عليه طلبة العلم، وشددت صحيفة الوقت عليه النكير»( 9).

    وفي «مجلة الزهراء»( 10): «قال شاعر الترك عبد الحق حامد بك في مذكراته: إن السيد قال له: إن سبب متاعبه هو قوله بأن النبوة من الصناعات».

    وكان يدين بوحدة الوجود ونادى باشتراكية الإسلام.
    قال الدكتور موفق بني المرجه: «وقد كتب تلميذه سليم عنجوري في كتابه «سحر هاروت» مدعياً: أن الأفغاني برز في علم الأديان حتى أفضى به إلى الإلحاد والقول بقدم العالم، وأن القول بوجود محرك أول وهم نشأ عن ترقي الإنسان في تعظيم المعبود.

    وكانت تهمة الإلحاد قد علقت بالأفغاني منذ زيارته الأولى لاستانبول حينما قال: إن النبوة صناعة؛ فتعرض لهجوم العلماء فيها، ثم تعرض بعدها لنفس التهمة من قبل علماء الأزهر وعلى رأسهم الشيخ عليش لدى وصوله لمصر، وانتقدوا سيرته الشخصية، وحاشيته التي تضم اليهود والنصارى، ولباسه الأوروبي، وتدخينه للسيجار فضلاً عن اختياره لمركز نشاطه في أحد «البارات»!.

    وحكى عنه الشيخ محمد عبده وبعض خاصته: أنه كان متصوفاً يدين بعقيدة مبهمة وغامضة تنتهي بوحدة الوجود، والتعبير عنها يلتبس إلا على الخاصة مما يؤدي إلى رميه بالإلحاد.

    والأفغاني أول من روج فكرة «اشتراكية الإسلام» وقارن بينها وبين اشتراكية الغرب؛ كما أنه قال: لا مانع عندي من السفور إذا لم يؤد إلى الفجور، ودعا إلى التأويل إذا خالفت النصوص الدينية بعض الحقائق العلمية»(11 ).

    ثالثاً: الماسونية العالمية:
    من الأمور التي لم يختلف فيها المؤرخون المحققون أن الأفغاني كان رأساً كبيراً في الماسونية العالمية، فقد انضم إلى المحفل الماسوني البريطاني، وتركه بعد كلمة ألقاها في المحفل عاب فيها عليهم عدم التدخل في السياسة، وقال فيها: «دعوني أكون عاملاً ماسونياً نزيهاً متجنباً للرذائل، إذا لم يكن حرصاً على شرف شخصي؛ تخوفاً من أن تعاب الماسونية بي، فيتخذني الأغيار سهماً للطعن بها وهي براء منه، وما ذنب الماسونية إلا أنها قبلتني بين أفرادها دون اختيار صحيح، وأبقت عليّ من غير تبصُّر؟!»( 12).

    ثم انتقل بعد ذلك إلى المحفل الماسوني الفرنسي، ووجه إليهم خطاباً يطلب فيه الانضمام إليهم؛ قال فيه: «يقول مدرس العلوم الفلسفية بمصر المحروسة -جمال الدين الكابلي الذي مضى من عمره سبعة وثلاثون سنة-: بأني أرجو من إخوان الصفا وأستدعي من خلال الوفا- أعني: أرباب المقدس الماسوني؛ الذي هو عن الخلل والزلل مصون!- أن يمنوا علي ويتفضلوا إلي بقبولي في ذلك المجمع المطهر! وبإدخالي في سلك المنخرطين في ذلك المنتدى المفتخر، ولكم الفضل»( 13).

    وبعد ثلاث سنوات أصبح من أهم رجال المحفل الماسوني، بل تم اختياره رئيساً له؛ كما جاء في رسالة المحفل إلى جمال الدين، وهي:

    لوج كوكب الشرق

    نمرة 1255

    في القاهرة بمصر و7 جنايو 1878/5878

    إلى الأخ جمال الدين المحترم.

    إنه لمعلوم لديكم بأن في جلسة 28 الماضي، وبأغلبية الآراء صار انتخابكم رئيس محترم لهذا اللوج لهذا العام؛ ولذا قد نهنيكم ونهني ذواتنا على هذا الحظ العظيم، وعن أمر الرئيس محترم الحالي أدعو إخوتكم للحضور يوم الجمعة القادم 11 الجاري الساعة 2 عربي بعد الغروب إلى محفل هذا اللوج لأجل استلامكم القادوم بعد إتمام ما يجب من التكريز الاعتيادي، ثم سيصير يوم الخميس 10 الجاري الساعة 6 أفرنجي مساء -تكريز رئيس محترم لوج كونكورديه، فالرجاء حضوركم في اليوم المذكور للاشتراك في الأشغال، وفي الحالتين ملابسكم تكون سوداء، ورباطة الرقبة والكفوف بيضاء، واقبلوا منا العناق الأخوي( 14).

    كاتب سر

    نقولا سكروج

    ويظهر من هذه الوثائق عدة حقائق:

    1- اضفاء نعوت الجلال وصفات الكمال على الماسونية ومحافلها وأتباعها مثل: (خلان الوفا)، و(إخوان الصفا)، و(المجمع المقدس)، و(المجمع المطهر)، و(المنتدى المفتخر) بل جعلها في مصاف الشرائع المعصومة (الذي هو عن الزلل مصون)(!).

    2- فيها إشارة إلى بعض الطقوس والرموز الماسونية مثل (استلام القادوم) و(الملابس السوداء ورباطة العنق والكفوف البيضاء).

    3- فيها إشارات يهودية، فالتواريخ بالسنة العبرية، والشهر العبري، فشهر جنايو يقابل يناير أو يونيو أما سنة (5875)؛ فهي سنة النور عند اليهود؛ وتعني: أربعة آلاف سنة قبل الميلاد.

    قال الدكتور عبد الرحمن عميرة: «وذكرت دائرة المعارف اليهودية طبعة (1903) (ج5 ص503): أن اللفتة الفنية والرموز والطقوس التي تمارسها الماسونية ملأى بالمثل والاصطلاحات اليهودية؛ ففي محفل اسكوتلاندا تجد التواريخ الموضوعة على المراسلات والوثائق الرسمية كلها بحسب تقويم العصر والأشهر اليهودية، وتستعمل كذلك الأبجدية العبرية»(15 ).

    4- أمين سر المحفل الماسوني نصراني ويخاطب الأفغاني بقوله: «واقبلوا منا العناق الأخوي» مما يدل على رسوخ الأفغاني في الماسونية العالمية.

    رابعاً: نشاطات الأفغاني:
    1- اتخذ الأفغاني من بار «ماتنيا» في العتبة الخضراء بالقاهرة، أو في «قهوة البوسطة» قرب ملهى الأزبكية منتدى لسهره وسمره مع أصدقائه وتلامذته في مصر.

    2- اتخذ الأعوان والمساعدين من اليهود والنصارى، فقد جعل من معاونيه يعقوب صنوع اليهودي صاحب الأموال، وأبو نظارة النصراني والذي رثاه في «العروة الوثقى»، وسليم عنجوري النصراني الذي تسلم صحيفة «مرآة الشرق».

    3- نشاطه كان سرياً؛ ولذلك أنشأ الجمعيات السرية:

    قال محمد محمد حسين: «ومما يريب الباحث في أمر جمال الدين وأهدافه

    -أيضاً- أن أكثر نشاطه كان سرياً؛ فقد كان أول من أدخل نظام الجمعيات السرية في العصر الحديث في مصر، وكان حيثما حل يؤسس الجمعيات السرية وينشرها..»( 16).
    نقلا من كتاب صحوة الرجل المريض






    ومن هذه الجمعيات السرية:
    أ- الحزب الوطني الحر.

    ب- جمعية مصر الفتاة.

    ت- جمعية العروة الوثقى.

    4- كان يهتم بالسياسة، ويؤثر بالأحداث السياسية في كل بلد يدخلها؛ كالهند، وأفغانستان، وإيران، ومصر، وتركيا.

    وسعى في كل بلد إلى إسقاط حاكمها وإثارة الشغب ضده.

    خامساً- تأثر حركة الإخوان المسلمين بدعوة الأفغاني:

    1- السرية في العمل التنظيمي، ومن ذلك: أن حسن البنا أقام الجهاز السري، الذي تفرعت منه خلايا ذات بلايا، طمت وعمت كل الأنحاء والزوايا( 17).

    2- الاهتمام بالسياسة( 18).

    3- الدعوة إلى التقريب مع الشيعة الروافض والطوائف الضالة.

    4- الدعوة إلى موادة اليهود والنصارى وحوار الأديان:

    أ- دعوة قساوسة النصارى وأعيانهم لمشاركة الإخوان احتفالاتهم( 19).

    ب- إشراك النصارى في كثير من اللجان(20 ).

    ت- الدين لله والوطن للجميع.

    أجرت مجلة «المجلة»( 21) حواراً مع المرشد الثالث عمر التلمساني، وفيه:

    س- الدين لله، والوطن للجميع. هذا هو أحد الشعارات التاريخية للوفد، إلى أي مدى تتفق مع هذا الشعار؟

    ج - أليس هذا هو الواقع؟ ألم تكن المدينة المنورة(22 ) وطناً للمسلمين واليهود على عهد رسول الله × مع بقاء كل مواطن على دينه دون تعرض له في معتقداته؟

    إن في كل دولة في العالم أقليات لها معتقدات دينية تخاف الأكثرية، فالكل يتولون الوظائف العامة، ويجندون للدفاع عن وطنهم كتفاً إلى كتف، لماذا يعتبر هذا المعنى شعاراً أو شيئاً غير مقبول؟ إن الإسلام يسع كل الديانات بعد أن قال الله

    -تبارك وتعالى-: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29]، ثم الحساب عند الله، وليس في الإسلام إكراه على دين بذاته».

    ولذلك؛ فالدكتور القرضاوي يرى أن كفار أهل الكتاب إخوان لهم! قال: «إن بعض ما تراه من التعصب لدى بعض المسلمين، قد يكون رد فعل لتعصب آخر من إخوانهم ومواطنيهم من غير المسلمين»( 23).

    وقال -أيضاً-: «إذا كان الإخوة المسيحيون يتأذون من هذا المصطلح؛ فليغير أو يحذف» .

    ويقول: «ومما لا أنساه في هذا المؤتمر: أن أحد إخواننا الأقباط تكلم...»(24 ).

    ولذلك تراه يجوب الآفاق داعياً إلى حوار الأديان .
    قال: «لقد دعوت شخصياً إلى هذا الحوار في كتابي «أولويات الحركة الإسلامية»، دعوت إلى الحوار مع الغرب، والحوار على المستوى الديني مع رجال الدين من الكرادلة والأساقفة والقسس... محاولة اللقاء بهؤلاء والاتصال بهم كما حاول هذا الدكتور حسن الترابي...»(25 ).

    وقال: «حضرت هذا العام شهر مايو الماضي مؤتمراً في موسكو، وكان حول الإسلام والتفاهم بين الديانات والشعوب الأخرى، وشارك فيه مسيحيون ويهود وغيرهم من أرباب الديانات الأخرى، وفي آخر الصيف حضرت حفلاً تكريمياً للقاء المسيحيين وبعض المسلمين نظمه مجلس الكنائس للشرق الأوسط»( 26).

    ودونك أقوال قادة الإخوان المسلمين في الثناء على الأفغاني واعترافهم أنهم امتداد لدعوته .

    لقد أثنى حسن البنا على الأفغاني فقال: «بنى مصطفى كامل وفريد وجدي، ومن قبلهما جمال الدين ومحمد عبده نهضة مصر، ولو سارت في طريقها ولم تنحرف عنه؛ لوصلت إلى بغيتها، أو على الأقل لتقدمت ولم تتقهقر، وكسبت ولم تخسر»( 27).

    وبين كثير من كُتّاب الإخوان المسلمين، ومثقفيهم: أن دعوة الإخوان المسلمين تسير على منهج الأفغاني ومدرسته.

    قال محمد ضياء الدين الريس: «فإنها كانت الوطن -أي: مصر- الذي اختاره جمال الدين لنشر رسالته لإعادة قوة الإسلام، فتلاه محمد عبده الذي أوجد النهضة في دراسة العلوم الإسلامية، وواصل جهوده محمد رشيد رضا وطنطاوي جوهري وفريد وجدي وغيرهم... ثم ظهرت جماعة الإخوان المسلمين: لتسير على نهج المصلحين السابقين»( 28).

    وقال صالح عشماوي تحت عنوان (حسن البنا مرحلة في تاريخ الكفاح الإسلامي): «حسن البنا في حربه للاستعمار وثورته للحرية ودعوته للوحدة الإسلامية؛ إنما كان يضع حلقة جديدة في الكفاح الإسلامي بجانب الحلقة التي وضعها جمال الدين الأفغاني.

    ولقد جمع حسن البنا بين طريقة السيد جمال الدين الثائر للحرية... وبين طريقة محمد عبده...»( 29).

    ومن أغرب ما قاله الإخوان المسلمون في الثناء على الأفغاني والدفاع عنه ما خطه محمود عبد الحليم بيمينه تحت عنوان (كلمة أخيرة عن جمال الدين الأفغاني):

    «لو كان الخديوي توفيق حياً؛ لقر عيناً بما كتبه الأستاذ الدكتور لويس عوض من مقالات عن الأفغاني.. ولو كانت اللجنة المغرضة التي كتبت أسباب نفي الأفغاني من مصر قائمة وموجودة؛ لقرت عيناً هي الأخرى بما كتبه الدكتور لويس عوض عن الأفغاني.

    إنه يبرر لها قرار الطرد بعد مئة سنة من صدوره، لقد رفعت هذه اللجنة قراراً رسمياً لمجلس الوزراء المصري حينئذ، قالت فيه مبررات طرد الأفغاني: إنه رئيس جمعية سرية من الشبان ذوي الطيش، مجتمعة على فساد الدين والدنيا.

    وها هو الدكتور لويس عوض يحدثنا أن الأفغاني كان مجتمعاً على فساد الدين والدنيا، وكان عميلاً وجاسوساً وزنديقاً وكان ... وكان... هل هي محاولة لطرد الأفغاني من قلوب الشباب اليوم كما فشلت محاولات طرده من قلوب معاصريه..؟ هل هو خط واحد من خطوط مؤامرة هدفها تحطيم النماذج الثائرة في تاريخنا حتى نتوجه إلى أثداء أوروبا لنرضع عسلاً أذيب فيه السم؟... لست أعرف... كل ما أعرفه أن محاولات نفي الأفغاني ما زالت مستمرة، ولقد اكتشفوا أن أفكاره لم تزل حية، وبالتالي؛ فإنهم ما زالوا يحاولون نفيه...ولم يكن النفي هو الشيء الوحيد الذي تعرض له الأفغاني؛ كان القبض عليه، والسجن، والتشريد، ومصادرة الكتب أحداثاً يومية في حياته .. سئل ذات يوم من سلطات الأمن: أين كتبك؟ ..أشار إلى قلبه، وقال: إنها هنا.. سئل عن ملابسه وحقائبه فأشار إلى جبته التي يرتديها وقال: كنت أول عهدي بالنفي استصحب جبة ثانية وسراويل، ولكن لما توالى النفي صرت أستثقل الجبة الثانية؛ فآثرت أن أترك هذه حتى تبلى فأغيرها.

    كان الأفغاني يرى أن السجن لمن يطلب الحق من الظالمين رياضة، والنفي في سبيل الإسلام سياحة، أما القتل في سبيل الله؛ فهو شهادة، وهذه أسمى مراتب الجهاد.

    كان الأفغاني مجاهداً مسلماً .. كان روحاً إسلامية تجوب الأرض، وتوزع الثورة الواعية على الناس، كان يشبه أبطال الأساطير الحقيقية، لم يكن -لحسن الحظ- من أبطال الأساطير اليونانية الذين يسترضون «زيوس» ويشركون بـ «ديانا»، ولو فعل؛ لاستحق رضاء الدكتور لويس عوض.

    كان الأفغاني حنيفاً موحداً .. لا يريد سوى وجه الله وحده... من هذا كان ضرام لحملة ضده... ومن هنا استمرت هذه الحملة حتى موته..بل إن الأفغاني بسبب جهاده ...صار رمزاً للثأر المسلم...ومن هنا فإن كل السهام التي توجه للإسلام لابد أن تمر على صدره...وكل المؤامرات التي تستهدف تشويه الأبطال المسلمين لابد أن تعبر على جسده أولاً ...وهكذا لم يسلم الأفغاني طوال حياته من الكيد؛ يستوي في ذلك كيد اللجان الرسمية، أو كيد البصاصين، أو كيد أذناب الاستعمار من الحكام، أو كيد الكارهين لانتشار الإسلام، ثم ها هو كيد المثقفين أخيراً.

    ما الذي فعله الأفغاني واستحق عليه هذا كله؟ لقد كرس الأفغاني حياته لإيقاظ الروح الكامنة في الإنسان الشرقي، وكرس حياته لمحاربة اليأس والنفوذ الأجنبي، وكرس حياته لالتماس المنهج القرآني في بناء الأفراد والجماعات، وكان يرى أن هذا هو الحل الوحيد أمام المسلمين.

    كما استهدف الأفغاني في حياته تنبيه الأمة الإسلامية إلى ذاتها الأصلية التي أنشأت الحضارة.

    كما كان وجوده في الحياة حرباً على الاستعمار والتبعية ومقاومة لذوبان الفكر الإسلامي في الفكر العالمي.

    باختصار؛ كانت حياة الأفغاني مصداقاً للحديث النبوي الشريف: «إن الله يبعث على رأس كل مئة سنة لأمتي من يجدد لها أمر دينها» هذا هو عندنا وعند التاريخ.. لكنه عند الدكتور لويس عوض إيراني غامض عميل وجاسوس وزنديق يجوب الآفاق.

    إن الشيخ الإمام محمد عبده تلميذ الأفغاني يفسر لنا اختلاف الناس فيه بكلمة دقيقة تعبر بإيجاز عن حقيقة الأفغاني:

    قال الشيخ محمد عبده: إن الناس قد اختلفوا في الأفغاني، حتى لكأنه حقيقة كلية تجلت في كل ذهن بما يلائمه، أو قوة روحية قامت لكل نظر بشكل يشاكله.

    أشيع عنه في حياته قوله: إن الشرق يحتاج إلى مستبد عادل.. وكان الذين أشاعوا هذه المقولة عن الأفغاني يحاولون تبرير الاستبداد بإضافة العدل إليه، ونسبة العبارة كلها إلى السيد جمال الدين الأفغاني-سأل محمد باشا المخزومي السيد جمال الدين يوماً: إن المتداول بين الناس على لسانك قولك: يحتاج الشرق إلى مستبد عادل ... قال الأفغاني: هذا من قبيل جمع الأضداد؛ كيف يجتمع العدل والاستبداد؟ - وهكذا نفى الأفغاني ما نشره أعداؤه عنه زوراً.. ومثلما لم تسلم أفكاره لم يسلم شخصه.

    كان من الصعب على العملاء والجواسيس والبصاصين الذي يقتفون أثره، ويرصدون تحركاته؛ أن يفسروا النبل والإيثار اللذين يصدران عنه بشكل طبيعي، كما يصدر الدفء عن الشمس... ومن هنا كان تفسير كل شيء بعكس الواقع: إذا رفض الأفغاني الجاه؛ فإنما يرفضه كخطة لا تعففاً، وإذا عرض عليه الملك ورفضه؛ فإنما يفعل ذلك لأنه يريد الخلافة، وإذا أفطر في رمضان بعد المغرب؛ قال البصاص الذي يتبعه كظله: إنه رآه يفطر قبل المغرب.. وهكذا تمضي الحلقة.

    ولقد كان الرجل يدرك أنه يحمل دعوة لها أعداء كثيرون.. وكان يعرف أن الابتلاء قدر مقدور على حملة الدعوات العظيمة... ومن ثم مضى في طريقه غير عابىء بما تثيره أفكاره أو تصرفاته؛ كان وجه الله هو غايته.. ومن كانت هذه غايته؛ لم يلتفت إلى حملة الأحجار والغوغاء والكائدين.

    كانت مشكلة الأفغاني: أنه منحاز إلى الإسلام، والعروبة، والعدالة الاجتماعية، والشورى، وحرية الإنسان، وكرامة الخلائق.. كان الاستعمار قوة من قوى الظلام المؤثر في عصر الأفغاني، ومن هنا تحدد موقف الأفغاني بالوقوف ضد الاستعمار... حين دخل الهند وجد الاستعمار الانجليزي يحتضن طائفة من المثقفين -كعادته-، وكانت دعوى هؤلاء طرح الفكر الإسلامي والدعوة للثقافة المدنية.. وقف الأفغاني ضدهم، وكتب لهم: «رسالة الرد على الدهريين».

    وحين جاء الأفغاني إلى مصر أقام فيها أباً روحياً وموقظاً لحركة البعث والإحياء والثورة ..كانت الثورة العربية شرارة من شرارات فكره ..كانت ثورة (1919م) نتيجة من نتائج أفكاره..كان كل رجالات مصر من المثقفين والمتعلمين والصحفيين والدعاة في عصره من أصدقائه وجلسائه وتلاميذه.

    وحين خشي البعض في مصر من غضب الخديوي توفيق وآثر السلامة وتنكب طريق النضال؛ قال الأفغاني كلمته عن توفيق: توفيق في غضبه ورضاه تابع لما يلقى إليه.

    وبهذه الجملة لخص الأفغاني حقيقة الموقف السياسي في مصر، وكشف عن تبعيته للاستعمار الغربي.. ولقد كان هذا كله يبلغ توفيق بشكل أو بآخر، ومن هنا أصدرت اللجنة قرارها الشهير بزعامته لطائفة من الشبان هدفهم فساد الدين والدنيا.

    وطرد الأفغاني من مصر.. وحين ذهب إلى إيران وأبصر المظالم التي يجترحها الشاه ناصر في شعبه؛ قاد ضده حركة شجاعة، ووقف بالإسلام ضد احتكار الإنجليز أصدقاء الشاه «للدخان»، وأوحى الأفغاني إلى الشيرازي وكان مفتياً: أن يصدر فتوى يحرم فيها على المسلمين شرب «الدخان»، وهكذا تراجعت شركة الدخان عن مشروعاتها الضارة بالبلاد، واضطر الشاه إلى تعويضها عن الامتياز..وبعث الشاه بخمس مئة من فرسانه؛ ليقتحموا فراش جمال الدين وهو مريض يشكو من الحمى، وقاده الفرسان وهو مريض إلى حدود إيران، وأمروه أن يمضي، ولا يلتفت أبداً لإيران.

    ويذهب الأفغاني إلى تركيا؛ فيخوض معركته الشهيرة ضد الجمود، ويستمر في خوض معاركه ضد الاستعمار، ويذهب إلى باريس ويصدر هناك جريدة «العروة الوثقى»؛ وهي جريدة تجاوزت أن تكون عملاً صحفياً تجارياً إلى صيرورتها مشروعاً دينياً سياسياً ثورياً .. وتقض الجريدة مضجع الاستعمار، ويصدر نوبار باشا -رئيس نظارة النظار في مصر- قراراً بتغريم كل من يقرأ «العروة الوثقى» (25) جنيهاً، واعتبار قراءتها جنحة.

    ولقد تغير فكر الأفغاني؛ كما كشفت الدراسة المتأنية التي قام بها الدكتور محمد عمارة خلال تحقيقه لأعمال الأفغاني .. تغير فكره في نهاية حياته عن فكره في بدايتها.. كان التغيير نحو النضج والثورة والتقدم، لقد وقف الرجل مع العدالة الاجتماعية، وقف مع التعليم الوطني، وقف مع الجامعة الإسلامية، وقف مع الشورى، وقف ضد الاستبداد.

    تغيرت بعض مواقفه؛ كموقفه من النشوء والارتقاء، والقومية، والاشتراكية ..في بداية حياته كان ينظر إليها بارتياب، فلما تقدمت به السن وزادت خبرته أعاد النظر في مواقفه السابقة، وصححها بما تراءى له من قراءة وسياحة وحكمة.

    كانت هناك متغيرات وثوابت في حياته.. كان الأمر الثابت: أنه يتحرك كفارس من فرسان الدعوة الإسلامية ..وثائر عظيم من ثوار الحياة.. إن هدفه هو العدل، والرحمة، والحق، والخير، والجمال ..لقد أيقظ الشرق من سباته.

    ولقد لبس البحث الجريء الذي كتبه الدكتور لويس عوض عن الأفغاني ثوب البحث، ولكنه لم يكن بحثاً.. إلا أن يكون بحثاً من قبيل أبحاث المباحث العثمانية أو الخديوية أو الإيرانية أو الإنجليزية.

    إن مصادر بحث الدكتور تكشف عن تهافتها، ومعظم ما يبنيه الدكتور حول الأفغاني -رغم فخامته- مزور ولا أظن أن أحداً ممن اشتركوا في الرد على الدكتور لويس كان يريد تفنيد أقواله عن الأفغاني؛ لأن أقواله في جملتها لا تستحق هذا العناء.

    إنما تصدينا بالرد حتى ننبه إلى محاولة تجريح التاريخ الإسلامي وتحطيم النماذج الرفيعة الثائرة فيه..حتى إذا تلوث تاريخنا وصار أبطاله عملاء وثواره جواسيس، ونماذجه الرفيعة أقزاماً ومسوخاً ..حتى إذا وقع؛ تحولنا إلى الغرب وطرحنا ماضينا، وقطعنا الصلة ببذورنا وتاريخنا.. وصرنا رجالاً جوفاً لا ماضي لهم ولا وجدان ولا عقيدة.

    عندئذ ترضى عنا مراجع أبحاث الدكتور لويس عوض، ويرضى هو عنا ...لقد تصدى «الأهرام» بجملة من الأساتذة المتخصصين البارزين للرد؛ تصحيحاً لهذه الفكرة، انبعاثاً من الأمانة الدينية والموضوعية العلمية.

    إن طبق اليوم الذي قدمه الطاهي الشهير لويس عوض عن الأفغاني كان طبقاً من الطعام الفاسد المغشوش.

    إن الطبخة كلها بغير ملح.. بغير صدق»( 30).

    هذه الحقائق التي تليت تدل على تأثر حركة الإخوان المسلمين بفكر الأفغاني، وأنها تعد نفسها ثمرة طبيعية لمدرسته





    --------------------------



    ( 1) «لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث» (3/313).

    ( 2) «دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام» (ص63).

    ( 3) المرجع السابق (ص571-572).

    ( 4) «جمال الدين الأسدأباذي» (ص34).

    ( 5) «جمال الدين الأفغاني» (ص68).

    ( 6) «دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام» (ص80).

    ( 7) «الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني» (ص23) نقلاً عن «تاريخ الأستاذ الإمام» لمحمد رشيد رضا (1/90).

    ( 8) «زعماء الإصلاح في العصر الحديث» (ص110).

    ( 9) «تاريخ الأستاذ الإمام» (1/44).

    ( 10) (م1/637).

    ( 11) «صحوة الرجل المريض» (ص341-342).

    ( 12) انظر «خاطرات جمال الدين» لمحمد المخزومي (ص19).

    ( 13) انظر ملحق الوثائق في كتاب "الجماعات الإسلامية في ضوء الكتاب والسنة" (رقم 11).

    ( 14) انظر ملحق الوثائق في كتاب "الجماعات الإسلامية في ضوء الكتاب والسنة" (رقم 12).

    ( 15) «المذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها» (ص27)، وانظر -لزاماً «حقيقة البابية= =والبهائية» (196).

    ( 16) «الإسلام والحضارات الغربية» (ص65-78).

    (17 ) وانظر -لزاماً-: «حقيقة التنظيم الخاص ودوره في دعوة الإخوان المسلمين» محمود الصباغ.

    ( 18) ليست السياسة الشرعية التي تعني: رعاية شؤون الأمة بما لا يخالف الكتاب والسنة(‍!) وإنما سياسة اللف والدوران، والتهييج الجماهيري، وصناعة الثورات، والانتخابات البرلمانية، والنقابية، والمجالس الطلابية(!)

    ( 19) «حسن البنا مواقف في الدعوة والتربية» (ص120)، و«حسن البنا بأقلام تلامذته ومعاصريه» (ص185).

    ( 20) «تصورات الإخوان المسلمين للقضية الفلسطينية» (ص23).

    ( 21) (عدد 220- 28 نيسان- 4أيار -1984م/ 27 رجب -3 شعبان 1404هـ) (ص8-9).

    ( 22) هذه تسمية صوفيه، والصواب: المدينة النبوية.

    ( 23) «فتاوى معاصرة» (2/668).

    ( 24) المرجع السابق (2/670).

    ( 25) «الإسلام والغرب مع القرضاوي» (ص86).

    ( 26) جريدة «الشرق الأوسط» عدد (2789) (جمادي الثانية 1416هـ الموافق 1995م).

    ( 27) «مذكرات الدعوة والداعية» (ص182).

    ( 28) «مجلة الدعوة» (عدد13ص22رجب 1397هـ).

    ( 29) «مجلة الدعوة» (عدد 21ص23ربيع أول 1398هـ).

    ( 30) «الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ» (3/470-473).



    وثيقة خطيرة :

    طلب انتساب جمال الدين الأفغاني للمحافل الماسونية

    ( 1 ) ـ تكشف هذه الوثيقة طلب انتساب جمال الدين الأفغاني للمحافل الماسونية في مصر بخط يده وتوقيعه ، وكان يسمي نفسه : جمال الدين الكابلي .
    ( 2 ) ـ جمال الدين الأفغاني أول من روج فكرة : ( إشتراكية الإسلام ) ، وقارن بينها وبين اشتراكية الغرب ، وقال : لا مانع عندي من ( السفور ) إذا لم يؤد إلى الفجور ، وعا إلى ( التأويل ) إذا خالفت النصوص الدينية بعض الحقائق العلمية .
    ( 3 ) ـ حكى عنه الشيخ محمد عبده وهو من مريده ، وبعض خاصته أنه كان متصوفا يدين بعقيدة غامضة تنتهي بوحدة الوجود .
    ( 4 ) ـ كان يكرر دعوة الماسونية بوحدة الأديان الثلاثة ، تحت شعار : ( المساواة والإخاء والعدالة )

    نقلا من كتاب صحوة الرجل المريض








    أمتنا الإسلامية في حاجة شديدة وماسة لإعادة النظر في تقويم الرجال لأن كثيرًا ممن يعتبرهم المسلمون من دعائم النهضة الحديثة لم يصبحوا كذلك في أذهان المسلمين إلا بسبب الدعايات المغرضة التي أرادت أن تضعهم في هذه المنزلة لحاجة في نفس مروجيها ولهدفهم المريب من نشر مذاهب هؤلاء القوم والتمكين لآرائهم، ولأن كثيرًا من الآراء المنحرفة التي لم تكن تستطيع أن تجد طريقها إلى عقول المسلمين ومجتمعاتهم إلا من خلال هذه الزعامات والقيادات ذات الألقاب الضخمة والتي لا يتطرق إلى الناس شك في إخلاصهم وعلمهم، ونحن حين ندعو إلى إعادة النظر في تقويم الرجال لا نقصد بذلك أن ننقص من قدر أحد أو نقيم محاكمة تاريخية لمن وارى الثرى أجسادهم وأكلها من سنوات بعيدة، ولكن نعطي كل ذي حق حقه ونكشف عوار من استتر بهالة براقة من صنيع غيره حتى لا يكون في بلاد المسلمين وتاريخهم أصنام جديدة تعبد من أناس يعتقدون في هؤلاء الأصنام العصمة من كل خطأ والبراءة من كل ذلك والإخلاص في كل عمل والله المستعان، وصفحتنا هذه لواحد من أكثر الناس غموضًا وأثرًا في جيل المسلمين في مطلع القرن العشرين وآخر التاسع عشر الميلادي، ويمثل الجيل الثاني لصنائع التغريب والمتغربين.

    هو جمال الدين الأفغاني صاحب الشخصية الغامضة الكثيرة التنقل السويقة الاشتعال الثورية أينما حل في بلد من بلدان المسلمين، هناك اختلاف كبير في أصل جمال الدين هل هو أفغاني سني أم هو إيراني شيعي؟ والصحيح الذي دلت على الحقائق التي تكشفت بعد موته أنه كان إيرانيًا شيعيًا على مذهب الإثنى عشرية وذلك لعدة أسباب منها :

    1 ـ أن أسرته كلها كانت موجودة في أسد آباد وهي قرية بالقرب من همذان بإيران ولا يوجد أحد من أهله أو أقربائه في أسد آباد بالقرب من كابل بأفغانستان التي يدعي أنه من أهلها .

    2 ـ اسم والده وخادمه يدلان على أنه شيعي إيراني فأبوه اسمه [صفدر] ومعناها باللغة الفارسية [مفرق الأعداء] وهي عند الشيعة صفة خاصة بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وهذا الاسم وقف على الشيعة لا يتسمى به أحد غيرهم خاصة الأفغان الذين بينهم وبين الشيعة عداء تاريخي قديم، أما خادمه الذي تركه بمصر بعد أن خرج منها فاسمه [أبو تراب] وهي كنية علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو اسم أيضًا وقف على الشيعة.

    3 ـ لهجة جمال الدين الأفغاني كانت فارسية خالصة تقطع بأنه كان إيرانيًا.

    4 ـ معظم أصدقائه المقربين له والذين لازموه في كثير من رحلاته وأعماله كانوا من الإيرانيين .

    5 ـ إشادته المستمرة بأهل إيران ووصفهم بالذكاء والفهم الصحيح لدين الإسلام.

    6 ـ دعوته لإنشاء الجامعة الإسلامية التي كان يدعو إليها بإيران وزيارته الكثيرة لإيران.

    7 ـ الكتاب الذي ألفه ابن أخته [ميرزا لطف الله خان] والذي كان يلازمه في زياراته لإيران والذي كشف فيه عن حقيقة أهل جمال الدين الإيرانية.

    تلقى جمال الدين علومه الأولية ثم توسع جدًا في دراسة الفلسفة والمنطق وعلم الكلام إلى جانب دراسة الفقه وعلم الأصول وهي الدراسة الشيعية التقليدية التي تنمي ملكة الجدل وقوة الاستدلال، ولقد استفاد جمال الدين من انتسابه للأفغان لأنه أصبح بعيدًا عن سلطة ممثلي إيران وقناصلها في الخارج فحين أن أفغانستان لم يكن لها تمثيل خارجي وقتها فراجت أفغانيته بين الناس وقتها.

    تنقل الأفغاني بين بلاد المسلمين فدخل مصر والتحق بالأزهر الشريف لتدريس المواد الفلسفية ثم انتقل إلى إيران ومكث فيها ستة سنوات ولقي فيها حفاوة بالغة من ناصر الدين شاه إيران ثم دخل الحجاز لأداء فريضة الحج ثم عادة مرة أخرى لمصر فتم نفيه إلى الهند فدخلها وأنشأ فيها جمعية [العروة الوثقى] ثم توجه إلى الأستانة ومكث فيها فترة والتقى مع الخديوي عبد العزيز والي مصر في عهد السلطان عبد الحميد وما لبث أن طرده عبد الحميد من الأستانة فتوجه إلى لندن ومنها إلى فرنسا ومنها إلى روسيا والنمسا ثم إيران مرة أخرى ثم طرد منها إلى لندن والعجيب أن جمال الدين الأفغاني كان كلما دخل بلدًا أثار بين مثقفيها ومفكريها وقادة المسلمين ضجة وثورة وطرح أفكاره التجديدية التغريبية وكان يقابل في الأغلب بالرفض وبالقليل من القبول، ولكن الضجة التي كانت تسبه كانت تسمح له بالتأثير في قطاع المفكرين في الأوساط الإسلامية، وكل بلد يدخله كان جمال الدين حريصًا على أن يتزيى بزي أهل البلد فتارة في زي العرب وتارة في زي علماء الشيعة وتارة بطربوش تركي وهكذا بصورة تدعو للريب.

    عقيدة الأفغاني :

    الذي يقرأ مؤلفات الأفغاني ورسائله التي كان يرسلها لتلامذته وأتباعه يرى من خلالها أنه كان صاحب عقيدة غير سوية فهذا هو رشيد رضا تلميذ تلميذه محمد عبده يقول عنه [كان يميل لوحدة الوجود التي يشتبه فيها كلامه مع كلام الصوفية الباطنية وكلامه في النشوء والترقي يشبه كلام داروين] ويؤيد ما قاله رشيد رضا ما قاله تلميذ آخر للأفغاني وهو أديب إسحاق عندما قال فيه [كان يميل للتصوف في بدء حياته فما تقطع حينًا بمنزله يطلب الخلوة لكشف الطريقة وإدراك الحقيقة ثم خرج من خلوته مستقر الرأي على حكم العقل، وأصول الفلسفة القياسية] وحكى عنه سليم الصحوري أنه سافر إلى الهند وأخذ من علماء البراهمة والإسلام وتبحر في لغة السانسكريت أم لغات الشرق وبرز في علم الأديان حتى أفضى به ذلك إلى الإلحاد والقول بقدمية العالم].

    وحكى عنه شيخ الإسلام في الدولة العثمانية [حسن أفندي فهمي] أنه جعل النبوة صنعة وسوى بينها وبين الفسلفة فأمر شيخ الإسلام الوعاظ وأئمة المساجد أن يهاجموه حتى اضطر لمغادرة الأستانة .

    وسائل غامضة وكلمات أغمض :

    لكثرة تنقل الأفغاني بين البلدان فإن تلاميذه ومريديه كانوا على اتصال دائم به عن طريق الرسائل التي حفظها لنا التاريخ لتشهد على مزيد من الغموض في حياة هذا الرجل وعقيدته وأهدافه وتكشف أيضًا عن مدى غلو أصحابه فيه وخلعهم عليه أوصافًا لا تنبغي إلا لله جل وعلا.

    فهذا رشيد رضا يكتب إليه [وذلك قبل عودة رشيد رضا لرشده] ويخاطبه فيقول [الحمد لله على إفضاله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وعلى سيدي بل السيد المطلق سدرة منتهى الفرقان وجنة مأوى المحاسن والإحسان الذي له في كل متنفس ومن كل نار مقتنبس الإمام المفرد والعقل المجرد بدل الأبدال سيد الآل الإنسان الكامل الوارث الكامل المرشد الكامل].

    وهذا كتاب تلميذه المقرب محمد عبده له [ليتني كنت أعلم ماذا أكتب إليك وأنت تعلم ما في نفسي كما تعلم ما في نفسك صنعتنا بيديك وأفضت على موادّنا صورها الكمالية وأنشأتنا في أحسن تقويم فبك عزمنا أنفسنا وبك عرفناك وبك عرفنا العالم أجمعين].

    ويقول له مرة أخرى [فصورتك الظاهرة تجلت في قوى خيالية وامتد سلطانها على جسدي المشترك وهي رسم الشهامة وشبح الحكمة وهيكل الكمال فإليها رُدت جميع محسوساتي وفيها فنيت مجامع شهوداتي وروح حكمتك التي أحييت بها مواتنا ..].

    أما الأفغاني نفسه فيخاطب تلميذه محمد عبده فيقول له [الابتهاج بجميل الصنع جزاء تفيض به جامعة الكون على النفوس كلما قامت بوظائف الوجود والمحمدة شهادة تبعث ملكوت وحدانية الهيئة على بثها متشخصات الطبيعة في مشهد العالم].

    وهكذا نرى غموض هذه الرسائل وما فيها من كلمات أغمض مثل جامعة الكون والسيد المطلق وملكوت وحدانية الهيئة، وتوحي هذه الكلمات أن صاحبها ينتمي إلى الباطنية القدماء أمثال القرامطة والفاطميين الذين كانت رسائلهم شبيهه بهذه الرسائل وكلامهم فيه نفس الغموض .

    الأفغاني والجمعيات السرية :

    يعتبر الأفغاني أول من أدخل الجمعيات السرية في مصر وباقي بلاد المسلمين، وكان حينما حل يؤسس الجمعيات السرية وينشرها فعندما دخل مصر أسس الحزب الوطني الحر ولم يمض على تأسيسه عام واحد حتى أصبح أعضاؤه 20180 عضوًا وأصبح له رصيد ضخم من المصارف: وأنشأ جمعية [مصر الفتاة] وكان معظم أعضائها من شبان اليهود، وأنشأ أثناء إقامته في الهند جمعية [العروة الوثقى] السرية التي امتد نشاطها إلى الشام ومصر والسودان وتونس ومن خلال هذه الجمعيات السرية بث الأفغاني روح الثورة على المجتمعات الإسلامية بدعوى إصلاحها من الفساد.

    مما لا شك فيه أن الأفغاني كان من الماسونيين حيث كان بالمحفل الماسوني الإسكتلندي ثم اختلف معهم فتحول إلى المحفل الماسوني الفرنسي فلما دخل مصر أنشأ محفلاً ماسونيًا تابعًا للشرق الفرنسي ضم إليه عددًا كبيرًا من أصحاب النفوذ في مصر بمساعدة رياض باشا رئيس الوزراء وهو الذي استقدمه إلى مصر وتولى رعايته فيها وأجرى عليه راتبًا شهريًا وأعد له سكنًا في حارة اليهود هذه التنظيمات السرية التي كونها الأفغاني كان نشاطها لحد كبير يتشابه مع نشاط دعاة الباطنية الذين كانوا يجوبون بلاد الخلافة العباسية يدعون الناس في الظاهر لإعلاء كلمة الله وإنصاف المحرومين ثم ما يلبثوا أن يصلحوا بمن استجاب لهم في البداية إلى عقيدة فلسفية تنكر الأديان وتخوض في دماء المسلمين. والقرامطة تاريخهم أسود في سفك دماء المسلمين خاصة الحجاج منهم وما فعلوه بالمسجد الحرام سنة 318 هـ خير شاهد على ذلك، وقد غمس جمال الدين يده فعلاً في الدم الحرام فهو مسؤول عن اغتيال ناصر الدين شاه إيران الذي طرده من إيران سنة 1309هـ وأخرجه من الضريح المقدس عند الشيعة الذي عاذ به جمال الدين الأفغاني فعمل جمال الدين على التأليب عليه في كل مكان يذهب إليه حتى استطاع أن يقنع رجلاً إيرانيًا مطرودًا مثله من إيران هو [ميرزا رضا الكوماني] تقبل ناصر الدين وبالفعل اغتال ميرزا ناصر الدين سنة 1314 هـ في الضريح المقدس عند الشيعة نفس المكان الذي طرد ناصر الدين منه الأفغاني، وقد فكر الأفغاني في اغتيال الخديوي إسماعيل أثناء مروره على كوبري قصر النيل لأن جمال الدين كان متفقًا على برنامج الحكم مع ابنه توفيق الذي كان الأفغاني قد نجح في ضمه إلى محفله الماسوني .

    أسئلة حائرة :

    هناك الكثير من الأسئلة التي تطرح نفسها في حياة الأفغاني ولكن لا جواب لها ولا تفسير لها إلا من جهة واحدة أن هذا الرجل كان تحركه بأيدي خفية لا تظهر على ساحة الأحداث ولكن أهدافها ودوافعها واضحة لأولي الألباب من هذه الأسئلة:

    1 ـ كثرة تنقل الأفغاني بين بلاد المسلمين والغرب بصورة مريبة ؟

    2 ـ من أين كان ينفق على رحلاته الكثيرة جدًا؟

    3 ـ ما هي علاقته بالرجل المريب صاحب الدور المشبوه مستر بلنت الإنجليزي، ولماذا كان ينزل عليه بلندن ويجعله عنوانًا لمن يريد أن يرسل إليه ؟ ومستر بلنت هو الذي كان يدعو العرب لإنشاء دولة عربية لأن الدولة العثمانية على وشك السقوط والانحلال.

    4 ـ باسم من كان يتفاوض الأفغاني الإنجليز في الوصول إلى اتفاق مع تركيا ضد روسيا؟

    5 ـ لماذا معظم أتباعه من اليهود والنصارى والمريبين من الإيرانيين مثل ميرزا باقر وهو إيراني تنصر وصار داعية للنصرانية ثم عاد للإسلام وعمل مع الأفغاني ؟

    6 ـ لماذا كان أخلص أصدقائه أحدهما نصراني وهو جورجي كونجي والآخر يهودي وهو طبيبه واسمه هارون وهما اللذان شهدا احتضاره وحدهما؟

    7 ـ لماذا كان يهاجمه علماء الإسلام في كل مكان ذهب إليه في مصر وفي سوريا وفي الأستانة ؟

    8 ـ لماذا كان شديد الهجوم على الاحتلال الإنجليزي وحده وغض طرفه عن الاحتلال الفرنسي والهولندي والإيطالي لبلاد المسلمين؟

    9 ـ ومهما تكن الإجابات فالرجل كان غامضًا طوال حياته حتى وفاته، وظل لغزًا كبيرًا وحينما كان منصوبًا في قلوب أتباعه وهم لا يدرون له أصلاً ولا يعرفون له توجهًا إلا التورية أينما حل وتوجه وكلها أمور تجعلنا نقول وبقوة أمصلح هو أم مفسد من كبار المفسدين

    ***********************************************

    هذا الموضوع جمعته عن جمال الدين(( الافغاني )) الذي استطاع بمكره وخبثه الاثناعشري (( التقية)) آن يخدع الكثيرين في مصر وبقية الاقطار الاسلامية التي كان يتنقل لها حيث لم يكن سني ولا حتى افغاني بل كان شيعي ايراني يتستر بالتسنن وقد تحدث الكثيرين من عن ارتباطة بالماسونية العالمية وقد اتهمه علماء تركيا وبعض مشايخ مصر المعاصرين بالإلحاد والكفر والزندقة والمروق من الإسلام
    وقد ارسل الشيخ ابو الهدى الصيادي عام 1898 الى رشيد رضا رسالةأوردها هذا الاخير في كتابه الضخم المنشور عام 1931 (وهو “تاريخ الاستاذ الامام محمد عبده”).جاء فيها ((إني أرى جريدتك (المنار) طافحة بشقاشق المتأفغن جمال الدين الملفقة. وقد تدرجت به الى الحسينية التي كان يزعمها زورا، وقد ثبت في دوائر الدولة رسما أنه مازندراني من أجلاف الشيعة وهو مارق من الدين كما مرق السهم من الرمية))وكان يدعو إلى التقريب بين أهل السنة والرافضةولعله الشيعي الاول الذي وضع حجر الاساس لما يسمي التقريب بين الرافضة الاثناعشرية وبين اهل السنة والجماعة وقد ذكر الاثناعشرية هذا الايراني المتأفغن في كتبهم وعدوه واحد منهم واول من كتب عنه منهم

    1 محسن الأمين صاحب كتاب التراجم الضخم “أعيان الشيعة عده في كتابه منهم
    ففي النجف الأشرف التي درس فيها السيد جمال الدين أربع سنوات نهل من علومها في التفسير، والحديث، والفقه، والأصول، والكلام، والمنطق، والحكمة، والرياضيات، والطبيعيات وغيرها، ومقدمات الطب والهيئة
    ، ص 210. أعيان الشيعة، ج 4،


    2- . قال مرزا لطف الله أسد آبادي ابن اخت جمال الدين المشهور بالأفغاني في كتابه « جمال الدين الأسدابادي » ( ص 34) : « وكان كشف حقيقة جمال الدين أمام السلطان عبد الحميد ضربة قاضية وجَّهها مظفر الدين شاه إلى جمال الدين بوثيقة سلمها علاء الملك سفير إيران في تركيا إلى الحكومة التركية تثبت بالأدلة القاطعة أن جمال الدين إيراني شيعي يختفي في ثياب الأفغاني ، ويتّخذ المذهب السني ستاراً يحتمي به »

    3-المؤرخ والكاتب الشيعي الكبير علي الوردي قال في كتابه((ملامح اجتماعية من تاريخ العراق الحديث))ج 3، ص 273.(( ويروى عن الفقيه المجاهد السيد محمد سعيد الحبوبي الذي كان زميلاً للأفغاني في تلك الفترة انه قال عنه «لقد كنّا ندرس معاً علم التصوف (العرفان) عند الحاج عباس قولي بالنجف، وكان الأفغاني من حسن البيان، بحيث يستطيع أن أراد أن يصور الحق باطلاً والباطل حقاً))
    وقال ايضا .
    ((وقد تميّز السيد جمال الدين بقدرة خارقة على التكيّف مع المحيط الاجتماعي والسياسي الذي يحل فيه،(( قاتل الله التقية)) وتمثل ذلك في تغييره ألقابه.. فهو الأفغاني، والحسيني، والكابلي، والاسطنبولي والأسد آبادي، ولم يقتصر التكيّف على ألقابه، بل كان زيّه هو الآخر يتبدل حسب ظروف وتقاليد المجتمع الذي يحل فيه، فمن العمائم السوداء والبيضاء، والخضراء إلى طربوش أزهري أو تركي، وعقال وكوفية حجازية.
    فحين وصل السيد جمال الدين إلى اسطنبول كان في زي سيد أفغاني على جبة وكساء
    وعمامة عجراء. فشرع بتعلّم اللّغة التركية حتى تمكّن بعد مدة وجيزة من أن يتكلّم بها ويكتب.وحين سافر إلى أوربا لبس الطربوش، ولكنه في الحجاز كان يلبس العقال والكوفية.
    وعندما وصل إلى ايران خلع السيد جمال الدين زيّه الأفغاني الذي عرف به في تركيا ومصر وتزيّا بزي سيّد من علماء الشيعة حيث وضع العمامة السوداء على رأسه، والعباءة على كتفيه، والمداس الأصغر في قدميه ولقب نفسه بالحسيني.))

    وقال الوردي في كتابه السابق (3/313) : « وقد اعتاد الأفغاني أن يغيّر لقبه كلما انتقل من بلد إلى آخر ، فقد رأيناه في مصر وتركيا يلقِّب نفسه بـ( الأفغاني ) بينما هو في إيران يلقِّب نفسه بـ(الحسيني )!
    وكان الأفغاني يغير زيّه ولباس رأسه مثلما كان يغيّر لقبه ، فهو في إيران يلبس العمامة السوداء التي هي شعار الشيعة ، فإذا ذهب إلى تركيا ومصر لبس العمامة البيضاء فوق طربوش ، أما في الحجاز فقد لبس العقال والكوفية ».

    وقال((وكان السيد جمال الدين على الرغم من أصله الشيعي لا يتعصب للتشيع تعصباً أعمى، ففي الوقت الذي نراه ينتقد أهل السنة على «سدّهم باب الاجتهاد نراه ينتقد الشيعة على عاداتهم في ضرب أجسادهم بالسلاسل ضمن اقامة المآتم الحسينية.
    كان السيد جمال الدين يخاطب الحكّام والسلاطين بلهجة الناصح الشجاع دون خوف أو وجل فقد وقف مخاطباً الشاه بقوله (أستطيع أن أفخر بنفسي أن أرى عاهل ايران قد استيقظ من سباته العميق، وأخذ يفكر في تعمير البلاد ورقيها ويثق بي. نعم انني ايراني أسد آبادي، وان كافة العلوم بحمد الله مخزونة في صدري فلا تنظر إلى وحدتي، وصغر جسمي فإني أستطيع أن أطمس جبل دماوند هذا بقبضة يدي الصغيرة،))المصدر السابق، ص 305.


    4-المصري صالح الورداني المترفض قال عنه(( ومن أشهر الشخصيات الشيعية الفوائد على مصر والتي لعبت دورا بارزا في ساحتها وتركت بصمتها على تاريخها الحديث شخصية السيد جمال الدين الأفغاني.))


    وقال ايضا
    ((وبدأت الحكومة تشعر بنشاط الأفغاني وما يمثله من خطورة على سياستها واستقرارها وقرر مجلس الوزراء في عهد توفيق نفي الأفغاني لينتهي دوره في مصر ولكن رسالته لا زالت باقية(( نشر الرفض في مصربدعوى التقريب )) . .
    وليس هناك من خلاف بين المؤرخين والباحثين((يقصدعلماء الروافض)) في حياة الأفغاني حول نسبه الذي يمتد في شجرة آل البيت إلى الإمام الحسن بن على . كما أنه ليس هناك خلاف حول ارتباطه بمذهب الشيعة الإمامية وإن كانت الأطروحة الشيعية لم تكن واضحة في كلماته وكتاباته(( لانه كان يمارس التقية )) .

    من كتاب الشيعة في مصر - صالح الورداني ص 115

    5- قال حسين بركة الشامي احد احد الاثناعشرية المعاصرين في مقال له في جريدة السفير اللبنانية /الجمعة، 14 كانون أول - ديسمبر 2001
    ((. وأكد الحاج حسين آغا للشاعر النجفي بأن السيد جمال الدين فارسي من قرية أسد آباد القريبة من همذان وأسرته معروفة هناك. ويضيف قلعجي بأنه أراد ان يتحقق من الامر بنفسه خلال رحلة قام بها الى إيران سنة 1951، “فاذا الايرانيون مجمعون ان السيد جمال الدين إيراني عريق، وأطلعت على كتاب فارسي عنه بعنوان (السيد جمال الدين أسد آبادي المعروف بالأفغاني) وتعرفت في أسد آباد على أناس يؤكدون أنهم من أسرته ويسمى واحدهم “جمالي” نسبة الى السيد))

    وقال ((بالاستناد الى الوثائق والى العديد من الادلة والقرائن، نستطيع اليوم ان نروي سيرة جمال الدين كما يلي: اسمه محمد جمال الدين الحسيني، وهو ابن السيد صندر (وليس صفتر) بن علي بن مير رضي الدين محمد الحسيني، ابن مير زين الدين الحسيني، القاضي، ابن مير ظهير الدين محمد الحسيني وصولا الى الإمام علي مرورا بالمحدث السيد علي الترمذي، وامه هي السيدة سكينة بيكم بنت مير شرف الدين الحسيني، القاضي، وهي تنتمي الى اسرة ابنه، فهي ابنة عمه لان والدها كان أخا لمير رضي الدين محمد الحسيني، ولد السيد جمال الدين في بلدة أسد آباد، وبالتحديد في حي او حارة “سيدان” اي السادة الاشراف، لان الالف والنون تفيد الجمع بالفارسية كما هي الحال مع كلمة “طالبان”. وقد انجب الابوان اربعة اولاد، يتوزعون مناصفة بين الذكور والاناث وهم: جمال الدين ومسيح الله (وضريح هذا الاخير موجود في اسد آباد وشاهدة القبر مكتوب عليها هنا يرقد السيد مسيح الله ابن السيد صفدر... الخ)، اما البنتان فهما طيبة بيكم ومريم بيكم. وقد انجبت طيبة بيكم ولدين ذكرين هما ميرزا لطف الله (صاحب كتاب جمال الدين الأسدابادي) وميرزا شريف. ويحتوي كتاب الوثائق على نص رسالة ارسلها لطف الله الى خاله المقيم في باريس طالبا الالتحاق به، وجواب جمال الدين طالبا من ابن اخته ان ينتظر لان الوقت غير مناسب، وقد اوصى الاب، السيد صفدر، ان يدفن في مدينة قم مما يرمز الى شيعية الاب وعائلته ))

    واخيرا نرى مدى غفلة اهل السنة متمثلة في احد تلاميذ جمال الدين الايراني --محمد عبدة--حيث كتب مقدمة لكتاب (( الرد على الدهريين)) لاستاذة الايراني جاء فيها
    ((((يقول محمد عبده: “أما مذهب الرجل فحنيفي حنفي، وهو وان لم يكن في عقيدته مقلدا، لكنه لم يفارق السنة الصحيحة، مع ميل الى مذهب السادة الصوفية، رضي الله عنهم، وله مثابرة شديدة على أداء الفرائض في مذهبه، وعرف ذلك بين معاشريه في مصر أيام اقامته بها، ولا يأتي من الأعمال الا ما يحلّ في مذهب إمامه، فهو أشد من رأيت في المحافظة على أصول مذهبه وفروعه، أما حميته الدينية فهي ما لا يساويه فيها أحد، يكاد يلتهب غيرة على الدين وأهله)))


    **********************************************

    عقيدة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده
    الشيخ الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي


    السؤال: ذكرت في معرض كلامك جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ، وقد كثر الكلام حول المذكورين، فما رأيك فيهما من ناحية عقيدتهما؟ وهل لهما جهود في خدمة الإسلام أم لا؟

    الجواب: على كل حال نحن لا يهمنا الأشخاص بأعيانهم، فقد قدموا على ربهم وأفضوا إلى ما قدموا، ولكن عندما نتعرض إلى أي أثر سيئ لأي شخص فلا يجوز أن نكتمه مراعاة لذلك الشخص؛ لأن الحق عندنا فوق الرجال، ومن هنا قد نتعرض لسيرة بعض الناس بل لابد أن نبينه.

    أما الأفغاني فهو رجل رافضي تلبس بلباس السنة، وسمى نفسه الأفغاني رغم أنه إيراني الأصل، وهو رجل باطني يقول بوحدة الأديان، كما أنه عميل للسياسة الإنجليزية، وتلقن علومه في بلاطات ملوك أوروبا ، فهو رجل -نستطيع أن نقول- لا صلة له بالإسلام.

    وأما الشيخ محمد عبده فإن لديه مواقف يُعرف منها الغيرة على الدين، والحرص على أوضاع المسلمين، ولكن هناك جوانب صريحة وقطعية في سيرته تدل على خلل في عقيدته، منها أنه تعلم اللغة الفرنسية ليعرف القوانين الفرنسية، ثم جاء بهذه القوانين الفرنسية وأقامها وطبقها بنفسه في مصر يوم أن كان رئيساً لمحكمة النقض ومفتياً للبلاد، وكان من دعاة خروج المرأة وسفورها، هذا لا شك فيه، وكان أيضاً في عقيدته أقرب إلى منهج المعتزلة وفي بعض الأمور إلى منهج الفلاسفة ، ومن ذلك أنه يرجح أن البعث لا يكون بعثاً جسدياً، وإنما بعث وحشر روحي، وهذا ما حققه المحققون في دراستهم لتعليقه على الحاشية العضدية ، وغير ذلك من الضلالات التي نسأل الله العفو والعافية.

    وعلى أي حال: إذا تعرضنا لأي أمر من أمور الدين والعقيدة، فلا مجاملة لأحد كائناً من كان، ولا ننظر إلى البشر، وإنما نراقب الخالق سبحانه وتعالى.


    ((إن على هذا الرجل مآخذ كبيرة وقوية منها:
    1- أنه كان متهماً بالماسونيـة بل كان أحـد كبار أعضاء الماسون وقدمت الأدلة على هذه الاتهامات، من مكاتبته لأعضائها وطلبه الانضمام إليها واستمراره فيها ( 59).
    2- الدعوة إلى التفرنج باسم التجديد.
    3- الدعوة إلى التحرر والانحلال من القيود الشرعية.
    4- الدعوة إلى توحيد الأديان الثلاثة: الإسلام، واليهودية، والنصرانية.
    5- الدعوة إلى وحدة الشرق بما فيه من ملل.
    6- الدعوة إلى القومية.
    7- الدعوة إلى الاشتراكية.
    8- الدعوة إلى الوطنية.
    9- الدعوة إلى السفور.
    10- القول بوحدة الوجود.
    أما موقفه من السنة، فيوضحه قوله:
    أ- "فالتواتر والإجماع وأعمال النبي ? المتواترة إلى اليوم هي السنة الصحيحة التي تدخل في مفهوم القرآن وحده والدعوة إلى القرآن وحده".
    وهذا القول هو الذي تراجع إليه محمد توفيق صدقي مع الشك في صدق هذا التراجع.
    ب- " القرآن القرآن وإني لآسف إذ دفن المسلمون بين دفتيه الكنوز وطفقوا في فيافي الجهل يفتشون عن الفقر المدقـع "( 60).
    ولا أدري ما هي هذه الكنوز التي دفنها المسلمون وطفقوا يفتشون في فيافي الجهل عن الفقر المدقع طوال أربعة عشرة قرناً حتى جاء الأفغاني فاكتشفها أهي تفسيرات الباطنية؟! أم هي تأويلاته لنصوص القرآن لمطابقة سياسة الغـرب واكتشافاته وتقاليده الفاسدة؟!.
    وقال جمال الدين الأفغاني:" قرأت في القرآن أمراً تغلغل في فهمه روحي وتنبهت إليه بكليتي وهو ? وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة..? (البقرة:30)، فاندهشت الملائكة لهذا النبأ ولهذه المشيئة الربانية إذ علمت أن ذلك الخليفة سيكون الإنسان، وأن ذلك الإنسان – الخليفة- سيصدر منه موبقات وسيئات، أعظمها وأهمها أنه ? يسفك الدماء ? (البقرة:30)، فقالت بملء الحرية المتناسبة مع الملأ الأعلى وعالم الأنوار والأرواح الذي لا يصح أن يكون هناك شيء من رياء ونفاق ? أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ? (البقرة:30)، ووقفت الملائكة عند هذا الحد من الطعن في الإنسان ولم تذكر باقي السيئات من أعماله إذ رأتها لغواً بالنسبة لهذين الوصمين الفساد وسفك الدماء".
    ثم يمضي في التفسير على هذا المنوال إلى أن يقول:" وبأبسط المعاني إن الله تعالى أفهم الملائكة أنكم علمتم ما في خليفتي في الأرض وهو الإنسان من الاستعداد لعمل الفساد وسفك الدماء، وجهلتم ما أعددته لصونه وصرفه عن الإتيان بالنقيصتين المذكورتين ألا وهو العلم فقال: ? وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ?(البقرة:31)".
    وهذا تفسير ديمقراطي، كأن الملائكة حزب معارض.
    ويفسر آيات أخرى فيقول:" غضب سليمان -عليه السلام- على الهدهد إذ تفقده ولم يجده فلما حضر قال: ?وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ? (النمل:22)، غير ملفق ولا مشوب بالكذب كما تفعل أكثر الجواسيس مع الملوك والحكام ?إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ? (النمل:23)، ثم يقول بعد ذلك? وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ? (النمل:24)،" ثم يقول بعد ذلك: "فلما جاء الكتاب إلى ملكة سبأ جمعت فوراً مجلس الأمة ? قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ? (النمل:32)، وبعد أن تداول مجلس الأمة – الوزراء اليوم مثلاً- واستخرجوا إحصاءً من سجلاتهم بما عندهم من المعدات الحربية أعلنوا للملكة وأنبؤوها أنه في إمكانهم محاربة سليمان بما توفر لديهم من القوة إذا هي وافقت على إعلان الحرب ? قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ? (النمل:33)"، ثم مضى بعد يقول:" فرد سليمان الهدية وتحفز لإخراج الملكة وقومها أذلة بالحرب وأراد أن يريها ما لديه من القوى وما تسخر له من الريح يمتطيها وتجري بأمره –طيارات مثلاً- وسرعة نقل الأخبار والأشياء –التلغراف اللاسلكي مثلاً-".
    وكان يشطح في تفسيره فيفسر الربا المحرم في قوله تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً? (آل عمران:130)، بـ"جواز أكل الربا المعقول الذي لا يثقل كاهل المدين ولا يتجاوز في برهة من الزمن رأس المال ويصير أضعافاً مضاعفة".
    ويفسر ?جدّ? في قوله تعالى: ?وأنه تعالى جدُّ ربِّنَا? (الجنّ:3) "بالعرش" "لأنَّ جدّ معرب كدّ، ومعناه العرش بالفارسية أو الهندية"، وهذا تفسير باطل إذ يصير المعنى "وأنه تعالى عرش ربنا".
    ويفسر ? فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة? (النساء:3) بأنه " قيد من خاف أن لا يعدل بالمرأة الواحدة وترك لمن يخشى أن لا يعدل -حتى مع المرأة الواحدة- عدم الزواج وهذا ما يستنتجه العقل مادام يحمله العاقل ويقول به الحق والعدل".
    ويفسر الأمور الغيبية من غير نص فيقول ?وترى الأرض بارزة? (الكهف:47) : "أي خارجة عن محورها غير راضخة للنظام الشمسي، وإذا ما حصل ذلك فلا شك يختلف ما عرف من الجهات اليوم فيصير الغرب شرقاً والجنوب شمالاً، وبذلك الخروج عن النظام الشمسي وما يحدث من الزلزال العظيم، لا شك تتبعثر الأرض لبعدها عن المركز، وتنسف الجبال نسفاً، وتتحول براكين هائلة، وبالنتيجة تخرب الكرة الأرضية ويعمها الفناء بما فيها من الحيوان وتقوم القيامة والله أعلم"(61 ).
    وهذا تفسير باطل، فمصير الأرض والسموات والجبال والشمس والقمر والكواكب مصير واحد تحدث عنه القرآن في عدد من سوره من ذلك قول الله تعالى: ?إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَـرَتْ * وَإِذَا الْبِحَـارُ فُجِّـرَتْ * وَإِذَا الْقُبـُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ? (الإنفطار:1-5).
    وقوله تعالى: ? إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ?. إلى قوله : ? وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ ? (التكوير:1- 14).
    وقال تعالى: ? فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ? إلى قوله تعالى: ? يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ? (الحاقة:13- 18).
    فمصير هذا الكون واحد والنهاية واحدة، فلماذا لا يتحدث الأفغاني إلا عن مصير الأرض فقط مفصولة عن الكون وبحديث يختلف عن حديث القرآن والإسلام والمسلمين؟!.
    ولماذا يتحدث على الطريقة الغربية لا على الطريقة الإسلامية المستمدة من القرآن -الذي يرى أنه وحده كتاب الهداية- فلماذا لا يهتدي به؟!.
    وهل يرى أزلية أو أبدية الكون فلا يلحقه التغير الذي تحدث عنه القرآن وآمن به المؤمنون؟!.
    قال محمد حميد الله في مجلة الفكر الإسلامي- بيروت السنة الثانية العدد الثاني في مقال" صلات آرنست رينان مع جمال الدين الأفغاني العبارات الآتية: " عند قراءة المحاضرة ( يعني: محاضرة رينان التي يرد عليها الأفغاني) لا يقدر الإنسان على منع نفسه من التساؤل:- أن أصل تلك العوائق هل هو من دين المسلمين أو من خصائص الملل التي أكرهت بالسيف على قبول ذلك الدين ".
    ومنها: "وفي الحقيقة إن الدين الإسلامي حاول خنق العلم وسد جميع التطور، ولذلك نجح في سد الحركات الفكرية والفلسفية وطرد الأذهان عن طلب الحقيقة العلمية".
    ومنها: "كان هذا صحيحاً أن دين المسلمين يعوق من تطور العلم، فهل يقدر أحد على أن يدعي أن هذه الطائفة سوف لا تزول يوماً؟ ففيم يختلف دين المسلمين في هذا من سائر الأديان؟ إن جميع الأديان لا سماحة عندها أبداً كل واحد حسب شاكلته، إن المجتمع النصراني الذي تحرر واستقل الآن يتقدم بادي الرأي سريعاً في سبيل التقدم والعلوم بينما المجتمع الإسلامي لم يتحرر إلى الآن من تسلط الدين".
    ومنها: "لا شك عندما سار الإسلام في البلاد التي تملكها باستعمال الجبر والقهر ما هو معروف نقل إليها لغته وعاداته ومعتقداته وهذه البلاد لم تستطع إلى الآن من الخلاص من مخالبه".
    ومنها: "... ولماذا لم يزل العلم العربي مغطى بالظلمات العميقة؟ في هذه الناحية تظهر مسؤولية الدين الإسلامي كاملة. ومن الظاهر أن هذا الدين حيثما حل حاول خنق العلوم".
    هذه النصوص نقلها الأستاذ محمد حميد الله من جريدة "جورنال ديه ديبا" الفرنسية المؤرخة في 18 مايو1883 "( 62).
    فإن صحت عنه فإنما تدل على حقده الخطير على الإسلام وظلمه الكبير له بتصويره في هذه الصورة الشوهاء التي لا يفتريها ألد الأعداء لهذا الدين العظيم الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور وأعتقها من الأغلال والآصار التي ضربها عليها محرفو الأديان وفتح الآفاق أمام العقول والمدارك.
    ج- ومن أقواله الخطيرة التي خاطب بها أتباعه في مصر قوله:
    "إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد وربيتم بحجر الاستبداد وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك الرعاة حتى اليوم وأنتم تحملون عبء نير الفاتحين وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين تسومكم حكوماتكم الحيف والجور، وتنـزل بكم الخسف والذل، وأنتم صابرون بل راضون، وتنتزف قوام حياتكم ومواد غذائكم المجموعة بما يتحلب من عروق جباهكم بالمقرعة والسوط".
    إلى أن قال: "وأنتم ضاحكون، تناوبتكم أيدي الرعاة ثم اليونان والرومان والفرس ثم العرب والأكراد، والمماليك، ثم الفرنسيين والمماليك والعلويين كلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه ويهيض عظامكم بأداة عسفه وأنتم كالصخرة الملقاة في الفلاة لا حس لكم ولا صوت، انظروا أهرام مصر وهياكل منفيس وآثار ثيبة ومشاهد سيون وحصون دمياط شاهدة بمنعة أجدادكم.
    وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إنّ التشبه بالرشيد فلاح" ( 63).
    انظر كيف اعتبر الفتح الإسلامي دخول مستعمرين مستبدين لا يفرق بينه وبين الاستعباد والاستبداد اليوناني والروماني إلخ.
    وانظر كيف يشيد بحضارة الفراعنة ويحض المصريين على الاعتزاز بها، ورؤية الفلاح والرشد في التشبه بهم.
    إنّه لا يستغرب مثل هذا المكر والموقف من الإسلام من رجل فيلسوف رافضي ماسوني، وإنما المستغرب أن يكون له أتباع في بلاد الإسلام من مفكرين ومفسرين يعظمونه ويسيرون على منواله إن لم يكن في كل شيء ففي أصول ومناهج أثخنت في الإسلام والمسلمين.
    موقفه من السنة:
    يرى هذا الرجل –إن صدق في قوله- أن سبب الهداية هو القرآن وحده وهو وحده العمدة فيقول (64 ):"القرآن وحده سبب الهداية، أما ما تراكم عليه وتجمع حوله من آراء الرجال واستنباطهم ونظرياتهم، فينبغي ألا نعول عليه كوحي وإنما نستأنس به كرأي، ولا نحمله على أكفنا مع القرآن في الدعوة إليه وإرشاد الأمم إلى تعاليمه، لصعوبة ذلك وتعسره وإضاعة الوقت في عرضه، ألسنا مكلفين بالدعوة إلى الإسلام وحمل الأمم على قبوله؟ وهل تمكن الدعوة من دون ترجمة تعاليم الإسلام إلى لغة الأقوام الذين ندعوهم؟
    هل في طاقة سكان البرازيل -مثلاً- إذا أردنا دعوتهم إلى الإسلام أن يفهموا كنه الإسلام من ترجمة علماء الإسلام وآرائهم المتشعبة في تفسير القرآن والحديث؟
    ألق نظرك على فهرست أحد الكتب الدينية الكبرى، وتأمل فيها ما الذي يمكن عرضه والدعوة إليه من أحكامه وتعاليمه وما لا يمكن تجد أن ما لا يمكن العمل به ولا الدعوة إليه ولا تطبيق مفاصلة أصبح عبئاً يجب الاستغناء عنه بما يمكن والممكن هو ما في القرآن وحده" ( 65).
    أقول :
    أ- وهذا فيه صرف الناس عن السنة النبوية التي لا يفهم كثير من نصوص القرآن ولا يمكن تطبيقها إلا بالسنة المبينة لمجملاته والمخصصة لعموماته والمقيدة لمطلقاته والمتحدثة عن كثير مما سكت عنه القرآن، كما هو إلغاءٌ لتفسير أئمة الإسلام، ومن سار على نهجهم من أعلام الأمة في فهم القرآن ومعرفة معانيه ومقاصده ومراميه.
    ب- إن الرجل يريد أن يفك ارتباط المسلمين بسنة نبيهم ? وتراث سلفهم الصالح ثم ربطهم بضلالاته وخرافاته بما فيها من إلحاد وهدم للإسلام تلك الطوام التي أسلفنا الإشارة إليها قريباً.
    هذا هو مغزى هذا الرجل ومن وراءه من الاستعماريين والماسونيين، وبهذا القول أخذ منكرو السنة النبوية ومنهم محمد توفيق صدقي في أول أمره حيث كتب مقالاً أو مقالين تحت عنوان "الإسلام هو القرآن وحده".
    وحامل لواء هذه المدرسة ومرسخ جذورها هو محمد عبده المصري الذي ضخمه النافخون في كير هذه الفتنة الكبيرة فسموه بالأستاذ الإمام فإنّ له مقالات تدل على فساد عقيدته وقبح منهجه، فمنها -على سبيل المثال- قوله:
    " نعم كنت فيمن دعا الأمة المصرية إلى معرفة حقها على حاكمها وهي هذه الأمة لم يخطر لها هذا الخاطر على بال من مــدة تزيد على عشرين قرناً، دعوناهم إلى الاعتقاد بأن الحاكم وإن وجبت طاعته هو من البشر الذين يخطئون وتغلبهم شهواتهم، وأنه لا يرده عن خطئه ولا يوقف طغيان شهوته إلا نصح الأمّة له بالقول والفعل، جهرنا بهذا القول والاستبداد في عنفوانه، والظلم قابض على صولجانه، ويد الظالم من حديد، والنّاس كلّهم له عبيد أي عبيد"(66 ).
    أقول : سبحان الله!! دخلت مصر في الإسلام في مطالع القرن الأول الهجري ونعمت به طوال أربعة عشر قرناً، فلم تعرف طوال هذه الفترة ولم يخطر ببال علمائها ومفكريها وطلاب العلم حتى العوام حقها على الحاكم حتى جاء محمد عبده وعرفها هذا الحق!!، لعل هذا الحق الذي عرفه محمد عبده من غير الإسلام أليس الإسلام قد عرف الأمة حقها على الحاكم وحق الحاكم عليها وحقوق المسلمين بعضهم على بعض وحقوق سائر البشر بل حقوق البهائم والطيور؟، إن هذا الكلام يلتقي مع كلام شيخه جمال الدين الأفغاني.
    " إنكم معشر المصريين نشأتم في الاستعباد وربيتم بحجر الاستبداد.. الخ "، وهي دعوة ماسونية حملت على عاتقها الدعوة إلى القوميات ومنها الفرعونية.
    2- ومنها قوله: " إن خير أوجه الوحدة الوطن لامتناع الخلاف والنـزاع فيه، ونحن الآن مبينون –بعون الله- ماهيّة هذا الوطن وبعض ما يجب على ذويه"(67 )، ثم قام ببيان ذلك بطريقة ليست من الإسلام في شيء.
    إنّ الإسلام هو الذي يحارب النـزاع والخلاف بين أهله، أما القومية والوطنية فلم تمنع النـزاع والخلاف بين أهلها في يوم من الأيام لا في غابر التاريخ ولا في حاضره.
    ثم أين وضع هذا الرجل الإسلام حينما دعا إلى هذه الوحدة بين طوائف المسلمين واليهود والنصارى والأغلبية فيها للمسلمين؟.
    ومن كوارثه المزلزلة للإسلام وأهله: دعوته إلى التقريب بين الأديان السماوية، فبعد عودته من فرنسا إلى بيروت أنشأ جمعية سياسية دينية سرية هدفها التقريب بين الأديان الثلاثة السماوية (الإسلام واليهودية والنصرانية) وإزالة الشقاق من بين أهلها، والتعاون على إزالة ضغط أوربا عن الشرقيين، ولا سيما المسلمين منهم وتعريف الإفرنج بحقيقة الإسلام وحقيته من أقرب الطرق.
    واشترك معه في تأسيس هذه الجمعية: ميرزا باقر، وبيرزادة، وعارف أبو تراب، وجمال بك نجل رامز بك التركي قاضي بيروت، ثم انضم إليها مؤيد الملك أحد وزراء إيران، وحسن خان مستشار السفارة الإيرانية بالآستانة، والقس إسحاق طيلر، وجي دبليو لنتر وشمعون مويال وبعض الإنكليز، واليهود.
    وكان الشيخ محمد عبده صاحب الرأي الأول في موضوعها ونظامها، وميرزا باقر هو الناموس (السكرتير) العام لها وهو إيراني تنصر وصار مبشراً نصرانياً وتسمى بميرزا يوحنا ثم عاد إلى الإسلام كما يزعم.
    ودعا أعضاؤها إلى فكرتهم في صحفهم ورسائلهم.
    ولا ندري إلى أي إسلام يدعى الإفرنج؟ أهو الإسلام الذي جاء به محمد ? الذي أدان اليهود والنصارى وعقائدهم بالكفر والشرك؟ أم المزيج المركب من الرفض والماسونية وغيرها من الضلالات التي تحملها هذه الجمعية؟!!.
    وهذا الشيخ محمد عبده يكتب رسالة إلى القس إسحاق طيلر يقول فيها: "كتابي إلى الملهم بالحق الناطق بالصدق حضرة القس المحترم إسحاق طيلر أيده الله في مقصده ووفاه المذخور من موعده"، إلى أن قال: "...ونستبشر بقرب الوقت الذي يسطع فيه نور العرفان الكامل فتهزم له ظلمات الغفلة فتصبح الملتان العظيمتان: المسيحية والإسلام وقد تعرفت كل منهما إلى الأخرى، وتصافحتا مصافحة الوداد وتعانقتا معانقة الألفة، فتغمد عند ذلك سيوف الحرب التي طالما انزعجت لها أرواح الملتين" (68 ).
    ويقول أيضـاً:" وإنا لنرى التـوراة والإنجيل والقرآن ستصبح كتبـاً متوافقة، وصحفاً متصادقة يدرسها أبناء الملتين ويوقرها أصحاب الدينين فيتم نور الله في أرضه، ويظهر دينه الحق على الدين كله" ( 69).
    أقول: ? يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ? ( التوبة: 32-33 ).
    لقد أمر الله بجهاد اليهود والنصارى الأمر الذي يريد محمد عبده إبطاله ونص في هذه الآيات على كفرهم وشركهم.
    ومن أسباب كفرهم وشركهم أن اليهود قالوا: عزير ابن الله، وأن النصارى قالوا: المسيح ابن الله أو هو الله أو ثالث ثلاثة، وأضافوا إلى هذا الكفر والشرك بأن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله.
    وأنهم أعداء الله وأعداء الرسالة التي جاء بها محمد ? ومن هذا المنطلق يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ليعيشوا هم والإنسانية جميعاً في ظلمات الجهل والكفر حسداً وبغياً على محمد ? ورسالته وأمته.
    ويأبى الله إلا أن يتم نوره ذلكم النور الذي لا يوجد إلا في الإسلام ولو جاء موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء والرسل فلا يسعهم إلا اتباع خاتم النبيين محمد ? يأبى الله إلا أن يتم نوره ولوكره الكافرون وفي طليعتهم اليهود والنصارى الذين يتخبطون في ظلمات الكفر والشرك والجهل والضلال ولقد حصر الهدى ودين الحق في الإسلام وحده وحصر فيه نور الله ويأبى إلا أن يظهر الإسلام على الأديان كلها، لكن محمد عبده يرى ضد ذلك يرى أنه لا يتم نور الله إلا باجتماع الأديان الثلاثة؛ وكفى بما يراه ضلالاً ومصادمة واضحة لما قرره القرآن والسنة في نصوص كثيرة لا يتسع المقام لسردها وإجماع المسلمين، ومنها قول الله تعالى : ? وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ? ( البقرة:135). فلقد أبطلوا أسباب الهداية من الكتابين بتحريفهم وكفرهم وجرأتهم على هذا التحريف.
    وأخيراً يقول الله تعالى: ? وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ? ( البقرة: 120).
    قال فهد بن عبد الرحمن الرومي:
    "نشر محمد أحمد خلف الله كتابه "الفن القصصي في القرآن الكريم"، زعم فيه أن ورود الخبر في القرآن لا يقتضي وقوعه وأنه يذكر أشياء وهي لم تقع، ويخشى على القرآن من مقارنة أخباره بحقائق التاريخ.
    وقال: إنا لا نتحرج من القول بأن القرآن أساطير.
    وعندما رفضت جامعة فؤاد هذه الرسالة دافع عنها أمين الخولي المشرف على الرسالة قائلاً: " إنها ترفض اليوم ما كان يقرره الشيخ محمد عبده بين جدران الأزهر منذ اثنين وأربعين عاماً "( 70).
    وهذا أمر ينطوي على كفر غليظ فإن ثبت هذا عن الشيخ محمد عبده فإنها لطامة كبرى تدل على كيد كبير للإسلام وتكذيب للقرآن نفسه ونرجو أن يكون هذا افتراءاً عليه.
المصدر



----------------------------------------------
ومن مصدر ثالث

بسم الله الرحمن الرحيم

أعلم أن الموضوع طويل لكنه بحق مهم

آية الله مازندراني !!

للأستاذ / محمدبن حسن المبارك .

لا يمكن أن نمر على تاريخ الماسونية في مصر دون أن نعرِّج على سيرة من وُصِف بأنه مؤسس المدرسة الإصلاحية و أستاذها الأول جمال الدين الأفغاني ، أو "المازندراني"
ـ فمن هوالأفغاني ؟؟
ـ ولماذا جاء إلى مصر ؟؟؟؟

نسبه :
هو جمال الدين هو جمال الدين بن صفدر المازندراني المعروف بالأفغاني ولد عام 1254هـ 1838م ، و قد اختلف في نسبه و بلدته كما سيأتي
عقيدته:
يعد جمال الدين الأسد آبادي من الشخصيات التي لايزال الغموض يكتنفها والسرية تحوط معظم تصرفاتها ، إذ كان الافغاني ذا علاقة مريبة باليهود والنصارى والمرتدين ، و صلة وثيقة بالمحافل الماسونية ، بل رئيساً لأحدها وهو محفل كوكب الشرق في القاهرة، و لذلك لم يعدم الافغاني من علماء الاسلام من يفتي بكفره و انحلاله ، فقد اتهم الأفغاني بالإلحاد و الخروج من ربقة الدين عدة مرات والذي يقرأ مؤلفات الأفغاني ورسائله التي كان يرسلها لتلامذته وأتباعه يرى من خلالها أنه كان صاحب عقيدة غير سوية .
و كذلك رسائل تلامذته إليه مما ينضح بالغلو القبيح و الشرك الصريح ، فمن ذلك رسالة الشيخ محمد عبده إلى إستاذه جمال الدين الأفغاني بتاريخ 5 جمادي الأولى سنة 1300 ، يقول فيها :
( ليتني كنت أعلم ماذا أكتب لك ، وأنت تعلم ما في نفسي كما تعلم ما في نفسك ، صنعتنا بيدك وافضت على موادنا صورها الكمالية وانشأتنا في أحسن تقويم ، فيك عرفنا أنفسنا ، وبك عرفناك ، وبك عرفنا العالم أجمعين ، فعلمك بنا كما لا يخفاك علم من طريق الموجب ، وهو علمك بذاتك ، وثقتك بقدرتك وارادتك ، فعنك صدرنا وإليك إليك المآب .
أوتيت من لدنك حكمة أقلب بها القلوب واعقل العقول ، واتصرف بها في خواطر النفوس ، ومنحت منك عزمة أتعتع بها الثواب ، وأذل بها شوامخ الصعاب ، وأصدع بها حم المشاكل ، واثبت بها في الحق للحق حتى يرضى الحق ، وكنت أظن قدرتي بقدرتك غير محدودة ، ومكنتي لا مبتوتة ، ولا مقدورة ، فإذا أنا من الأيام كل يوم في شأن جديد ) .
إلى أن يقول :
( فصورتك الظاهرة تجلت في قوتي الخيالية وامتد سلطانها على حسي المشترك ، وهي رسم الشهامة ، وشبح الحكمة وهيكل الكمال ، فإليها ردت جميع محسوساتي ، وفيها فنيت مجامع مشهوداتي ، وروح حكمتك التي احييت بها مواتنا ، وأنرت بها عقولنا ،ولطفت بها نفوسنا ، بل التي بطنت بها فينا ، فظهرت في اشخاصنا ، فكنا اعدادك ، وأنت الواحد وغيبك ، وأنت الشاهد ورسمك الفوتوغرافي الذي أقمته في قبلة صلاتي ، رقيبا على ما أقدم من أعمالي ، ومسيطر علي في أحوالي ، وما تحركت حركة ولا تكلمت ولا مضيت إلى غاية ولا انثنيت عن نهاية حتى تطابق في عملي أحكام أرواحك ؛ وهي ثلاثة فمضيت على حكمها سعيا في الخير ، واعلاء لكلمة الحق ، تأييدا لشوكة الحكمة ، وسلطان الفضيلة ، ولست في ذلك إلا آلة لتنفيذ الرأي المثلث ، ومالي من ذاتي إرادة حتى ينقلب مربعا غير أن قواي العلية تخلت عني في مكاتبتي إليك ، وخلت بيني وبين نفسي التزاما لحكم ان المعلول لا يعود على علته بالتأثير على أن ما يكون إلى المولى من رقائم عبده ليس ألا نوعا من التضرع والابتهال لا أحسب فيه ما يكشف خفاء أو يزيد جلاء ، ومع ذلك فإني لا أتوسل إليك في العفو عما تجده من قلق العبارة وما تراه مما يخالف سنن البلاغة بشفيع أقوى من عجز العقل عن إحداق نظره إليك واطرق الفكر خشية منك بين يديك ، وأي شفيع أقوى من رحمتك بالضعفاء وحنوك لمغلوبي حياء ) .
ثم يقول أيضا :
( أما ما يتعلق بنا فإني على بينة من أمر مولاي ، وان كان في قوة بيانه ما يشكك الملائكة في معبودهم والأنبياء في وحيهم ، ولكن ليس في استطاعته أن يشك نفسه في نفسه ، ولا أن يقنع عقله إلا على بالمحالات وإن كان في طوعه أن يقنع بها من أراد من الشرقيين والغربيين)انظر منهج المدرسة العقلية في التفسير للشيخ فهد الرومي ، ص155 .
قال الشيخ فهد الرومي معلِّقاً على خطاب محمد عبده :
( وهي عبارات ولا شك خطيرة توجب إعادة النظر في عقيدة الرجل عند من لا تخدعه الأسماء ، وقد استغرب السيد رشيد رضا نفسه هذه الرسالة من إستاذه حيث قال عند سياقه لها :
"ومن كتاب له إلى السيد جمال الدين عقب النفي من مصر إلى بيروت ، وهو أغرب كتبه ، بل هو شاذ فيما يصف به استاذه السيد مما يشبه كلام صوفية الحقائق والقائلين بوحدة الوجود التي كان ينكرها عليهم بالمعنى المشهور عنهم ، وفيه من الإغراق والغلو في السيد ما يستغرب صدوره عنه ، وإن كان من قبيل الشعريات وكذا ما يصف به نفسه بالتبع لاستاذه من الدعوى لم تُعهد منه البته" ) .
انظر منهج المدرسة العقلية في التفسير للشيخ فهد الرومي ، ص155
فمن تلك التهم :
أـ الإلحاد :
ـ إذ قال عنه تلميذه النصراني سليم العنجوري في "شرح ديوان سحر هاروت"
عند ترجمته له : إنه سافر إلى الهند وهناك أخذ عن علماء البراهمة والإسلام أجل العلوم الشرقية والتاريخ ، وتبحر في لغة "السانسكريت" أم لغات الشرق .
وبرَّز في علم الأديان حتى أفضى به ذلك إلى الإلحاد والقول بقدمية العالم ، زاعماً أن الجراثيم الحيوية المنتشرة في الفضاء هي المكونة ـ بطرق وتحول طبيعيين ـ ما نراه من الأجرام التي تشغل الفضاء ويتجاذبها الجو ، وأن القول بوجود محرك أول حكيم وهمٌ نشأ من ترقي الإنسان في تنظيم المعبود على حسب ترقيه في المعقولات . انظر : تاريخ الأستاذ الإمام (1/43 ) .
و هذه ـ بالضبط ـ هي عقيدة حكماء مصر القديمة ، التي تتبناها الماسونية من وراء حجاب ، و تُظهِرها في فترات متباعدة ـ و في مقاسات متعدِّدة .
إذ أن فلسفة الكابالا اليهودية القائمة على أرثٍ فرعوني قديم تقوم على أساس أن الكون تشكَّل بنفسه وتطور تلقائياً بعوامل المصادفات العشوائية.
يقول مؤلفا كتاب "مفتاح حيرام" :
( كان المصريون القدماء يؤمنون بأن المادة كانت موجودة منذ الأزل، حيث أن الدنيا وجدت بولادة النظام من رحم الفوضى والعماء و الظلام ـ وهو نفس ما كان يعتقده السومريون أيضاً ـ ، وكان لهذه الهاوية قوة داخلية ثم أمرت هذه القوة الخالقة نفسها ببدء النظام. ولم تكن هذه القدرة السرية الموجودة داخل المادة في هذه الفوضى على وعي بذاتها... كانت هذه القوة احتمالاً من الاحتمالات وقوة ظهرت من رحم الفوضى نتيجة مصادفات عمياء.
ويعلِّق مؤلفا كتاب "مفتاح حيرام" على تلك الفلسفة المصرية الوثنية بالتطرق إلى امتداداتها الحديثة قائلَين:
"..والغريب أن هذا التعريف للخلق يتطابق تماماً مع النظرة الحالية للعلم الحديث ولا سيما مع "نظرية الفوضى" من ناحية تطور الأنظمة المختلطة والمشوشة رياضياً مكررة نفسها رياضياً ونتيجة للنظام".
.. والمذهل في الأمر أن هذه الفلسفة المصرية الوثنية هي الفلسفة المطروحة في أيامنا الحالية من قبل أنصار "نظرية التطور" و"نظرية الفوضى" لا سيما في مجموع طروحات ماركس و دارون مع الفلسفة الهيغلية ، إلاَّ أن الافغاني رجع الى المصادر القديمة .. فتأمل!
ـ كما اتهمه بعض علماء الأزهر بالإلحاد أيضاً ، ومنهم الشيخ عليش مفتي المالكية .
بل حتى المستشرق البريطاني (ايلي كدوري) كان يعتبر الأفغاني ملحداً، ، ودليله على ذلك عبارةُ للأفغاني ـ خلال محاورةٍ له مع المستشرق الفرنسي (رينان) ـ يقول فيها «لا تقطع رأس الدين إلا بسيف الدين» .
وكذلك كان "كدوري" يعتبر تلميذ الأفغاني "محمد عبده" ملحداً ، مستدلاً يقول الشيخ محمد عبده في رسالة لأستاذه بتاريخ 8 شعبان سنة 1300 هـ :
( نحن الآن على سنتك القويمة لا تقطع رأس الدين إلا بسيف الدين ، ولهذا لو رأيتنا لرأيت زهادا عبادا ركعا سجدا لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ...) ، انظر منهج المدرسة العقلية في التفسير للشيخ فهد الرومي ، ص161
، و الحاصل أن تلامذة الافغاني ساروا على نفس طريقة شيخهم ، وهي محاربة الدين باسم الدين ، كما قرَّر ذلك الشيخ محمد عبده شخصيا ، و بقلمه أيضاً .
وقد اشتهرت عنه هذه التهمة ، و لعلَّ ذلك هوما جعله يكتب رسالته في الرد
على ا لدهريين ـ مع أنه من أكابرهم ـ ليدفع عنه هذه التهمة.
يقول شبخ الاسلام مصطفى صبري ـ عن محمد عبده ـ فلعله وصديقه أو شيخه جمال الدين أراداأن يلعبا !!! في الإسلام دور لوثر وكالفين زعيمي البروستانت
في المسيحية فلم يتسنَّ لهما الأمر لتأسيس دين حديث للمسلمين ، وإنما اقتصر تأثير سعيهما على مساعدة الإلحاد المقنع بالنهوض والتجديد )) ( موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين 1/144)
ب . القول بأن النبوة مكتسبة :
ـ و في بلاد الأناضول رماه علماء الأستانة بالإلحاد و المروق من الدين إثر محاضرة ألقاها في دار الفنون ذكر فيها أن النبوة صناعة مكتسبة .
ـ وحكى عنه شيخ الإسلام في الدولة العثمانية "حسن أفندي فهمي" أنه جعل النبوة صنعة وسوَّى بينها وبين الفسلفة فأمر شيخ الإسلام الوعاظ وأئمة المساجد أن يهاجموه حتى اضطر لمغادرة الأستانة .
و قال عنه تلميذه النصراني سليم عنجوري:
( ارتجل خطبة في الصناعات غالى فيها إلى حد أن أدمج النبوة في عداد الصناعات المعنوية فشغب عليه طلبة العلم وشددت عليه صحيفة النكير ) " تاريخ الأستاذ الإمام 1/44"
ج ـ وحدة الوجود :
ـ كما وصف الشيخ رشيد رضا ـ تلميذ تلميذه محمد عبده ـ الأفغاني بأنه كان يميل إلى وحدة الوجود التي تشتبه فيها كلام الصوفية بكلام الباطنية ،يقول رشيد رضا: (كان يميل لوحدة الوجود التي يشتبه فيها كلامه مع كلام الصوفية الباطنية ). انظر: "تاريخ الأستاذ الإمام"ـ (1/79 ) .
ويؤيد ما قاله رشيد رضا ما قاله تلميذ آخر للأفغاني وهو أديب إسحاق عندما قال فيه : (كان يميل للتصوف في بدء حياته فانقطع حينًا بمنزله يطلب الخلوة لكشف الطريقة وإدراك الحقيقة ثم خرج من خلوته مستقر الرأي على حكم العقل، وأصول الفلسفة القياسية).
د ـ القول بوحدة الأديان :
و اشتهر عنه القول بوحدة الأديان ، و لا نحتاج كثيرا من الأدلة لاثبات هذه التهمة لكونها من ثمرات الاعتقاد بوحدة الوجود، كما أن صِلاته باليهود و النصارى و دولهم ، و كذلك صِلاته بغيرهم من أهل الملل تؤكد هذا الأمر ، وكذلك انتسابه وترؤسه للمحافل الماسونية التي تدعو الى ذلك بكل صراحة ووضوح .
يقول "شيخ الاسلام" ـ في الدولة العثمانية ـ مصطفي صبري عن دعوة الأفغاني ومحمد عبده :
(( وأما الدعوة الإصلاحية المنسوبة الى محمد عبده فخلاصته أنه زعزع الأزهر عن جموده على الدين !! فقرب كثيراً من الأزهريين الى اللادينيين ولم يقرب اللادينيين الى الدين خطوة وهو الذي أدخل الماسونية في الأزهر بواسطة شيخه جمال الدين الأفغاني كما أنه شجع قاسم أمين على ترويج السفور في مصر )) ( 1/133-134 .
و يقول تلميذه محمد عبده :
(( وإنا نرى التوراة والإنجيل والقرآن ستصبح كتباً متوافقة وصحفاً متصادقة يدرسها أبنا الملتين ويوقرها أرباب الدينين فيم نور الله في أرضه ويظهر دينه الحق على الدين كله )) ، ( الأعمال الكاملة لمحمد عبده جمع محمد عمارة ( 2/363-364)
هـ القول بنظرية النشوء و الارتقاء :
و اشتهر عنه القول بنظرية النشوء و الارتقاء ، و هي تهمة متفرعة عن التهمة الأولى ـ الإلحاد ـ ، يقول الشيخ رشيد رضا ـ عن الافغاني ـ :
(وكلامه في النشوء والترقي يشبه كلام داروين) . انظر: "تاريخ الأستاذ الإمام"ـ (1/79 ) .

سلوكيات جمال الدين :
قال سليم عنجوري كما في كتاب « لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث » للوردي (3/113) « كان (الأفغاني) يكره الحلو ويحب المر ، ويكثر من الشاي والتبغ ، وإذا تعاطى مسكراً ، فقليلاً من الكونياك ".
و أكد ذلك محمد رشيد رضا الذي يقول : ( كان الافغاني يشرب قليلا من الكونياك - وهو نوع من الخمر) " تاريخ الأستاذ الامام " (1/49) .
و كان جمال الدين ممن يشجع على السفور ، بل هو باذر نبتته ، فقد نقل أحمد أمين عن جمال الدين أنه كان يقول : ( وعندي أنه لا مانع من السفور إذا لم يتَّخذ مطيَّة للفجور) « زعماء الإصلاح في العصر الحديث » (ص 114)
وقد تبنى هذه الفكرة تلامذته من بعده ، و نشروها بكل جد واجنهاد ـ لا يُحمدون عليه ـ و بالأخص تلميذه محمد عبده .
ـ وذكر الشيخ يوسف النبهاني مفتي بيروت أنه : ( اجتمع به ـ أي بالافغاني ـ سنة 1287 هـ في مصر حين كان مجاورا بالأزهر ولازمه من قبل المغرب الى قرب العشاء فلم يصل المغرب)
ـ كما ذكر مثل ذلك عن تلميذه محمد عبده فقال :
( الذي أعلمه من حال الشيخ محمد عبده ، وكل من عرفه يعلمه كذلك ، أنه حينما كان في بيروت منفيا كان كثير المخالطة للنصارى والزيارة في بيوتهم والاختلاط مع نسائهم بدون تستر . هذا مما يعلمه كل من عرف حاله في هذه البلاد ، فضلا عن أسفاره المشهورة الى بلاد أوروبا واختلاطه بنساء الأفرنج وارتكابه المنكرات من شرب الخمر وترك الصلوات . ولم يدَّعِ هو نفسه الصلاح ، ولا أحد توهمه فيه . فكيف يكون قدوة وإماما في دين الأسلام ، نعم هو إمام الفسَّـاق والمرّاق مثله ، ولذلك تراهم على شاكلته ، لا حج ولا صلاة ولا صيام ولا غيرها من شرائع الأسلام "
وقال بعد ذلك :
" دعاني رجل من أهل جبل لبنان سنة 1305 هـ وهي توافق 1888 مـ الى بيته فتوجهت معه فوجدت هناك الشيخ محمد عبده . فتصاحبنا من الصباح الى المساء لم أفارقه نهارا كاملا . فصليت الظهر والعصر ولم يصل ظهرا ولا عصرا . ولم يكن به علة ولا عذر له ،إلاَّ خوفه من أنه إذا صلى بحضوري يقول أولئك الحاضرون الذين كان لا يصلي أمامهم أنه يرائي في هذه الصلاة لأجلي ، فغلب عليه شيطانه ، وأصر على عدم الصلاة ، وإلا فقد بلغني عنه أنه كان يصلي تارة ويترك أكثر "
نقلا عن كتاب"الأسلام والحضارة الغربية" للأستاذ الدكتور محمد محمد حسين.
ـ و قد ذكر النبهاني ذلك أيضاً في رائيته الصغرى ، إذ يقول :

( و لكنكم مع تركه الحج مرةً ................ و حجٍّ لباريس و لندنة عشرا
ومع تركه فرض الصلاة و لم يكن ............ يسرُّ بذا بل كان يتركها جهرا
و مع كونه شيخ المسون مجاهراً ............ بذلك لا يُخفي أخُوَّتهم سراًّ
ومع غير هذا من ضلالاته التي ........... بها سار مثل السهم للجهة الأخرى
تقولون أســتاذٌ إمام لديننا ............ فما أكذب الدعوى وماأقبح الأمرا
و نحن نراه عندنا شر فاسقٍ ........... فيُقتلُ فسقاً بالشريعة أو كفراً ).
الرائية الصغرى ضمن كتاب العقود اللؤلؤية من المدائح النبوية للشيخ يوسف النبهاني . ص 383

.أسفاره و مغامراته.

في الهند (المرة الأولى ):
بعد أن تم اعداد جمال الدين اعدادا متقنا من فبل الاستعمار البريطاني، تم ارساله الى الهند التي كانت تقبع في ذلك الوقت تحت الاحتلال الانجليزي ، فارتحل جمال الدين وهو في الثامنة عشر من عمره الى الهند ، حيث احتضنه الاستعمار هنالك، وأقام بها سنة وبضعة أشهر يدرس العلوم الحديثة على الطريقة الأوربية و يتعلم فيها بعض العلوم الحديثة ، و هناك رأى أن يؤدي فريضة الحج ، فاغتنم هذا الفرصة وقضى سنة ينتقل في البلاد ، ويتعرف احوالها ، وعادا ت أهلها ، حتى وافى مكة المكرمة سنة 1273 هـ ( 1857 م ) .

في أفغانستان :

ثم أرسل ـ في مهمة استعمارية ـ الى افغانستان، و ليكتسب ـ أيضاً ـ النسبة الافغانية ، و هنالك كلِّف بكتابة "تاريخ افغانستان " إمعانا في التمويه.
وقضى جمال الدين ثمان سنوات قضاها في بلاد الافغان كانت حافلة بأنواع الدسائس و المكائد بين امراء تلك البلاد ، مِما أجج الحرب بين كل من محمد أعظم ، و شير علي ابني الأمير حاكم افغانستان دوست محمد خان خلال تلك الفترة .
في الهند (المرة الثانية ):
ثم عاد الى الهند عام 1869م ، فلما وصل إلي التخوم الهندية تلقته الحكومة الانجليزية بالحفاوة والإكرام لترسله في مهمة جديدة إلى أرض الكنانة ، حيث قدم على ظهر باخرة بريطانية إلى ميناء السويس.
في مصر (المرة الأولى ) :
في أوائل سنة 1870 م ( أواخر سنة 1286 هـ ) قدم الافغاني الى مصر لأول مرة ، و استقبل بكل حفارة وأقام بمصر أربعين يوماً ، ومُكَّن من التردد على الأزهر ، فاتصل به كثير من الطلبة ، وقرؤوا عليه شروحاً في المنطق و الفلسفة ، في بيته الذي نزل به بخان الخليلي ، ثم عزم على السفر الى الأستانة.
في تركيا (المرة الأولى ) :
وصل السيد جمال الدين إلي الأستانة ، فلقي من جمعية الاتحاد و الترقي حفاوه وإكراماً ، فلم تمض ستة أشهر حتى كان عضواً في مجلس المعارف ، و بدا واضحا لأهل العلم غرابة توجهاته وخبثها ، مما جعله محل نقمة و سخط علماء الدولة ، لا سيما شيخ الإسلام حسن فهمي أفندي.
وإثر محاضرة ألقاها في جمع حاشد في رمضان سنة 1287 هـ (ديسمبر سنة 1870 م ) في دار الفنون للحث على الصناعات ، قال فيها جمال الدين : أن النبوة صناعة مكتسبة ، رماه علماء الأستانة بالإلحاد والمروق من الدين.
و ألَّف الشيخ (خليل فوزي الفيليباوي) إثر ذلك كتابا باللغة العربية عَنونَه بـ ..(السيوف القواطع) للرد على عقيدة الأفغاني ، وترجم الكتاب في تلك الفترة الى اللغة التركية ، مما حدا بالدولة العثمانية أن تصدر أمرا بإخراجه من البلاد .

الأفغاني و اسماعيل :
من الأمور التي لم يختلف فيها المؤرخون المحققون أن الأفغاني كان رأساً كبيراً في الماسونية العالمية ، ولكونه من كبار الماسون العالميين فقد استقدمه رياض باشا ـ اليهودي الأصل ـ و رئيس الوزراء في عهد اسماعيل باشا ـ بأمرٍ من اسماعيل باشا "الماسوني" الى مصر.
ومع كثرة البلاد التي طاف بها الأفغاني يمكن القول أنه لم يُحدث أثرا في أي من هذه البلاد كما أحدث في مصر التي أقام بها قرابة ثماني سنوات بدأت في مارس 1871 وامتدت حتى أغسطس 1879 .
حيث دخل السيد جمال الدين الافغاني مصر ـ للمرة الثانية ـ في مارس في أول المحرم سنة 1288 هـ ( مارس سنة 1871 م ) ، فأجرت عليه حكومة إسماعيل باشا راتباً مقداره ألف قرش كل شهر ، دون عمل ، و كان الطلبة يقرؤون عليه في بيته في علم الكلام ، والحكمة النظرية ، من طبيعية وعقلية ، وعلوم الفلك ، والتصوف كنوع من التضليل .
و ، وتولى رياض باشا رعايته فيها ، وأعد له سكنًا في حارة اليهود حيث يمكن الافغاني انشاء جمعياته السرية . و بمساعدة من رياض باشا ضم الافغاني إليه عددًا كبيرًا من أصحاب النفوذ في مصر .
وكان اسماعيل باشا قد استقدمه لأمرين :
1ـ أن اسماعيل باشا كان أيضاً ماسونيا:بل و متحمساً للماسونية مع ميل جارف
الى الاوربيين ، فلذلك رحب بأحد أكابر الماسونيين العالميين الذين يسيرون في فلك الماسونية العالمية ، لا سيما البريطانية منها .
2ـ طموحات اسماعيل باشا الانفصالية :
فليس خافياً ما كان يبذله اسماعيل باشا من المساعي للانفصال عن تركيا في ذلك الحين ،
وظهوره بمظهر العاهل المستقل ، كمافي المعرض العالمي في باريس سنة 1867 ،
وفي إغفاله دعوة السلطان إلي حضور حفلات افتتاح القناة سنة 1869 ،
وعزمه على اعلان استقلال مصر التام في تلك الحفلات ـ لولا العقبات السياسية التي اعترضته مما أوجد انواعاً من مظاهر الفتور والجفاء بين الخديوي والسلطان والتي كادت أن تقطع الروابط بينهما .
وأخصها فرمان نوفمبر سنة 1869 الذي اصدره السلطان منتقصا من سلطة الخديوي .
فقد كان إسماعيل يرى في حكمه منافساً لحكومة الأستانة في المكانة والنفوذ السياسي ، وينظر إليها بعين الزراية ، ولا يرضى لمصر أن تكون تابعة لتركيا ، ولا أن يكون هو تابعاً للسلطان العثماني ، مستطيلاً بذلك بعلاقاته مع الانجليز ، إذ كان يطمح للانضمام الى اوربا ، وكان كثيرا ما يصرح بأن حلمه الأكبر أن يجعل من مصر قطعة من أوربا .
ولذلك فقد وجد اسماعيل باشا ضالته في الافغاني الذي كان يناهض الحكم العثماني أينما حل.
الأفغاني و العمل السري:
مما يريب اللباحث في شخصية الافغاني وأهدافه -أيضاً- أن جلٌُّ نشاطاته كانت تتم بالخفاء حيث ما حل ، وأنَّى ارتحل ، و قد اتجه جمال الدين للانخراط في العمل السري ـ منذ دخل مصر ـ بعدة وسائل ، فمن ذلك :
أـ الانخراط في الماسونية:
سرعان ما اتصل الافغاني بالماسونية العالمية بالديار المصرية منذ حل في أرضها ، فانضم مباشرةً إلى المحفل الماسوني البريطاني .
وفي كلمة ألقاها في المحفل البريطاني عاب فيها عليهم عدم التدخل في السياسة، يقول فيها: «دعوني أكون عاملاً ماسونياً نزيهاً متجنباً للرذائل، إذا لم يكن حرصاً على شرف شخصي؛ فتخوفاً من أن تعاب الماسونية بي، فيتخذني الأغيار سهماً للطعن بها وهي براء منه، وما ذنب الماسونية إلا أنها قبلتني بين أفرادها دون اختيار صحيح، وأبقت عليّ من غير تبصُّر؟!) .
إلاَّ أنه استقال من المحفل الاسكتلندي البريطاني ـ كخطوة سياسية ـ ،إذ كيف يكون من سيتصدر الثورة ضد الاحتلال الانجليزي أمام الجماهير عضوا في محفل ماسوني بريطاني .
ـ و التحق بمحفل كوكب الشرق التابع لفرنسا ، و هو أول محفل إشتغل باللغة العربية ، وكان لايؤمه إلا المصريون فحسب أو من هم في حكمهم، وقد ترأسه جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وبعض الشوام.
ـ ثم انتقل بعد ذلك إلى ووجه الافغاني خطابا الى المحفل الماسوني الفرنسي، يطلب فيه الانضمام إليهم؛ قال فيه:
«يقول مدرس العلوم الفلسفية بمصر المحروسة -جمال الدين الكابلي الذي مضى من عمره سبعة وثلاثون سنة-: بأني أرجو من إخوان الصفا وأستدعي من خلال الوفا- أعني: أرباب المقدس الماسوني؛ الذي هو عن الخلل والزلل مصون!- أن يمنوا علي ويتفضلوا إلي بقبولي في ذلك المجمع المطهر! وبإدخالي في سلك المنخرطين في ذلك المنتدى المفتخر، ولكم الفضل»( 13).
ـ وبعد ثلاث سنوات أصبح من أهم رجال المحفل الماسوني، بل تم اختياره رئيساً له؛ كما جاء في رسالة المحفل إلى جمال الدين، وهي:
لوج كوكب الشرق
نمرة 1255
في القاهرة بمصر و7 جنايو 1878/5878
إلى الأخ جمال الدين المحترم.
إنه لمعلوم لديكم بأن في جلسة 28 الماضي، وبأغلبية الآراء صار انتخابكم رئيس محترم لهذا اللوج لهذا العام؛ ولذا قد نهنيكم ونهني ذواتنا على هذا الحظ العظيم، وعن أمر الرئيس محترم الحالي أدعو إخوتكم للحضور يوم الجمعة القادم 11 الجاري الساعة 2 عربي بعد الغروب إلى محفل هذا اللوج لأجل استلامكم القادوم بعد إتمام ما يجب من التكريز الاعتيادي، ثم سيصير يوم الخميس 10 الجاري الساعة 6 أفرنجي مساء -تكريز رئيس محترم لوج كونكورديه، فالرجاء حضوركم في اليوم المذكور للاشتراك في الأشغال، وفي الحالتين ملابسكم تكون سوداء، ورباطة الرقبة والكفوف بيضاء، واقبلوا منا العناق الأخوي .
كاتب سر
نقولا سكروج .
.و سواءٌ ترأس الافغاني المحفل الاسكتلندي البريطاني أو المحفل الفرنسي ، فكلا المحفلين كانا يخدمان المخطط الانجليزي الفرنسي لتسليم مصر الى بريطانيا مقابل اعطاء المغرب لفرنسا .
ـ و استقال الافغاني من المحفل وأنشأ محفلا آخر تابع للشرق الفرنسي الذي سرعان مابلغ أعضاؤه أكثر من 300 عضواً من نخبة المفكرين والناهضين المصريين ولما كان هذا المحفل مطلق الحرية ، فقد دعاه محفل "كوكب الشرق".
ب ـ الافغاني والجمعيات السرية :وكذلك أنشأ الافغاني الجمعيات السرية ، ومن هذه الجمعيات السرية:
أَ ـ الحزب الوطني الحر ، والذي لم يمضِ على تأسيسه عام واحد حتى :
ـ أصبح أعضاؤه 20180 عضوًا ؟؟
ـ و أصبح له رصيد ضخم من المصارف ؟؟؟
بَ- جمعية مصر الفتاة وأنشأ جمعية "مصر الفتاة" ، وكان معظم أعضائها من شبان اليهود.
ـ و قد تبع تلاميذ الشيخ جمال الدين الافغاني شيخهم في الانضمام إلى الماسونية و الجمعيات السرية ، و منهم كثير من الأدباء و المفكرين ، و الزعماء السياسيين ، ومن أهمهم :
ـ* تلميذه محمد عبده ، و الذي ورث الماسونية الفكرية المتلبسة بلباس الدين .
ـ * سعد زغلول ، و الذي ورث الماسونية السياسية ، و الذي اختاره اللورد كرومر وزيراً للمعارف عام 1907م ثم انتخب وكيلاً للجمعية التشريعية المصرية.
و بعد الحرب العالمية الأولى كون سعد وفداً لمفاوضة الإنجليز حول استقلال مصر عن الأمبراطورية البريطانية فأطلق شرارة ثورة 1919م.
ثم كون حزب الوفد المصري وفاز في الانتخابات البرلمانية عام 1924م وكون الوزارة واصبح أيضاً رئيس البرلمان المصري ثم استقال من منصب رئيس الوزراء ثم انتخب رئيساً للنواب عام 1925م و توفي عام 1927.
و يعتبر سعد زغلول من أهم دعاة العلمانية ، وله الدور العملي الاساسي بحركة السفور بمصر مع صديقه قاسم أمين تلميذ الشيخ محمد عبده و صاحب كتاب "المرأة الجديدة " في الدعوة الى تحرير المرأة والسفور .
و قد ألف الشيخ محمد عبده أكثر فصول الكتاب ، و دافع عنه ، و سار بذلك على خطى شيخه الأفغاني الذي صرح بأنه لا يرى تحريم السفور إذا لم يكن مطيةً للفجور يقول محمد عمارة : " والرأي الذي أؤمن به والذي نبع من الدراسة لهذه القضية هو أن هذا الكتاب إنما جاء ثمرة لعمل مشترك بين كل من الشيخ محمد عبده وقاسم أمين ... وإن في هذا الكتاب - يعني كتاب تحرير المرأة - عدة فصول قد كتبها الأستاذ الإمام وحده ، وعدة فصول كتبها قاسم أمين ، ثم صاغ الأستاذ الإمام الكتاب صياغته النهائية ، بحيث جاء أسلوبه على نمط واحد هو أقرب إلى أسلوب محمد عبده منه إلى قاسم أمين " : " الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده " (1/247 - 248 ) .
ـ و قد اتخذ الافغاني الأعوان والمساعدين من اليهود والنصارى، فقد جعل من معاونيه يعقوب صروف النصراني صاحب الأموال، و يعقوب صنوع أبو نظارة اليهودي ، والذي رثاه الافغاني في «العروة الوثقى»، وسليم عنجوري النصراني الذي تسلم صحيفة «مرآة الشرق».
ـ و كانت سياسة حكومة اسماعيل باشا التي أفضت إلى تدخل الدول في شؤون مصر وامتهانها كرامة البلاد واستقلالها قد ولَّدت الكراهية المطلقة لدى الشعب المصري لنظام حكم اسماعيل باشا .
عند ذلك أنشأ الافغاني الكثير من الأدوات الماسونية كالأحزاب السياسية و الحركات الوطنية المشبوهة ، و المجلات و الجرائد الساخنة التي سخرها لمحاربة البلاط الملكي .
وما أنشأه غير الماسون تمت فيما بعد سرقته ماسونيا من قبل جمال الدين الافغاني وتلامذته .
في هذه الأثناء زاد خطر الأفغاني لكونه كان على قائمة الهرم الماسوني ، والذي ترتبط
به كثير من الحركات الوطنية ، فأسس الصحف المختلفة و شارك في الكتابة فيها ، كما بدأ في بث اطروحات سياسية كالحياة النيابية ، و البرلمان ، والمشاركة الشعبية ، و المجالس الوطنية ممَّا أسهم في تسخين الشارع المصري .
ـ ولم يتجه جمال الدين الى المشاركة السياسية العلنية ضد الانجليز و القصر الملكي إلا حوالي سنة 1876 بعد تطبيق سياسات التدخل الانجليزية .
ثم بدأت خطورة جمال الدين تكبر شيئاً فشيئاً ، و غي سنة 1878 كانت له
الكلمة الفصل في الحياة السياسية عبر أدواته الاعلامية و السياسية من خلال
تلاميذه الماسون الذين تسنموا المناصب العليا في الدولة .
و هناك من انخدع به كأحمد عرابي باشا ، مِمَّا جرَّ ـ على ارض الكنانة ـ الكثير من الويلات ، و أنواع المضائق والأزمات .
بل وصل بالأفغاني الأمر أن فكر في اغتيال الخديوي إسماعيل أثناء مروره على كوبري قصر النيل ، فقد كان جمال الدين متفقًا على برنامج الحكم مع ابنه توفيق الذي كان الأفغاني قد نجح في ضمه إلى محفله الماسوني .
الوضع السياسي خلال عهد اسماعيل باشا:
الخديوي إسماعيل هو ابن إبراهيم باشا بن محمد علي باشا المولود عام 1830 م ، خامس حكام مصر من أسرة محمد علي باشا ، و اسماعيل هو الذي أغرق مصر بالديون و ان كانت تلك الديون قد ابتدأت في عهد سلفه محمد سعيد بن محمد علي ـ من1854 إلى 1864ـ. الذي منح امتياز شق قناة السويس لصديقه المهندس الفرنسي " دي ليسابس " بشروط مجحفة جرَّت على بلاد مصر الويلات فيما بعد.
ولد اسماعيل في القاهرة عام 1830،. و أتم دراسته في باريس ، و عاد الي مصر حيث أصبح وريثا شرعيا للعرش .
وفي 18 يناير 1863 أصبح إسماعيل والي مصر بعد وفاة عمه سعيد باشا ، و كان الأمير " حليم " شقيق اسماعيل باشا هو الوريث الشرعي " لإسماعيل باشا " بناءا على بروتوكول الوراثة القديمة , إلاَّ أنَّ إسماعيل نجح في أن يجعل الوراثة لابنه توفيق أكبر أبنائه , بعد أن أنفق هدايا ورشاوي للباب العالي للحصول على فرمان 1866 لتحويل الولاية الى أكبر أبنائه .
ثم فرمان 1867 للحصول على لقب الخديوي .
و خلعته إنجلترا عن العرش في 1879نتيجة لتبذيره الذي جر على البلاد التدخل الاجنبي ، بعد أن ضغطت على السلطان العثماني لاستصدار أمر بعزله و تولية ابنه توفيق .
و بعد عزله سافر على الفور إلى ناپولي بإيطاليا، ثم انتقل بعدها للإقامة في الآستانة.
حيث توفي في 2 مارس 1895 .
النشاط الماسوني في عهد إسماعيل :
كان إسماعيل باشا ماسونيا صرفاً كجدَّه محمد علي، وكان متأثرا جدا بالحياة في أوروبا , و ذلك جرَّاء اقامته للدراسة في فرنسا ، فكان يحلم بـأن يجعل فرتسا قطعة من الغرب ، و لذلك فقد لجأ اسماعيل باشا إلى استمالة حكام اوروبا له , فكان يهدي كل واحد منهم يزور مصر مسلة فرعونية وهي التي تظهر في ميادين العواصم الأوروبية الآن .
وحين تولى حكم مصر ألقى مقاليد البلاد لليهود والماسونيين الذين كانوا يسيطرون على نظام الحكم في مصر ويتحكمون في شئون البلاد اقتصاديا وسياسيا .
ـ وزاد النشاط الماسوني في مصر في عهد اسماعيل باشا جدَّا , واحتل الماسونيون في عهده أعلى المناصب في البلاد , فكان رئيس الوزراء والوزراء والمديرون وكبار الشخصيات في مصر من الماسونيين الذين كانوا قد عادوا من فرنسا , و منح اسماعيل الماسونيين ألقاب " باشا " و " بك " و " أفندي " دون غيرهم من المواطنين .
والتف اليهود حول " إسماعيل باشا " وأحسوا بأنه فريسة سهلة يمكن توريطها والزج بها في المستنقع الذي ترسمه له الصهيونية العالمية .. واستغل اليهود حماس " إسماعيل باشا " في أنه يريد أن تكون القاهرة مثل باريس التي عاش فيها .
ـ ثم فتح " إسماعيل باشا " الوظائف الحكومية العامة على مصراعيها لليهود , ولاسيما في أقسام وأقلام الحسابات والترجمة , وبدأ اليهود في تحقيق آمالهم في السيطرة على مصادر المال والذهب في مصر .
وكان من أوائل اليهود الذين عملوا في هذه الوظائف " فيكتور هراري " و " إفرايم عاداة " اللذان تدرجا حتى صار الأول مديرا عاما للخزانة المصرية , وصار الآخر مراقبا بوزارة المالية , و عين " يعقوب منشه " " صراف باشي " للخديوي إسماعيل وهو الذي أسس مع " يعقوب قطاوي " بيتا للصرافة والتجارة ولاقى نجاحا وشهرة حتى أنهما فتحا أفرعا في انجلترا فيما بعد .
ـ وتمكن اليهود و الماسون من إصدار أول صحيفة يهودية سنة 1877 , وامتلكها اليهودي المعروف " يعقوب صنوع " أحد كبار مريدي الافغاني والذي أطلق إسم " أبو نظارة " على صحيفته " وتبعه زميله اليهودي " موسي كاستلي " عام 1879 فأصدر صحيفة " الكوكب المصري " .
واستغل اليهود الموقف فأصدروا الصحف والمجلات التي تخدم أهدافهم الرئيسية التي تساعدهم على إقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين , ولما كان " محمد علي " قد عين من قبل يهوديا ضمن أفراد حاشيته , فإن ابنه " عباس الأول " قرب إليه " يعقوب قطاوي " وعينه في وظيفة صراف عام .
وكذلك فعل " إسماعيل " الذي فتح الباب على مصراعيه لأعداد كبيرة من اليهود واستعان بهم في مفاوضات الحصول على القروض الأجنبية من البيوت المالية اليهودية الكبرى في أوروبا مثل بيت " أوبنهايم " وبيت " روتشيلد ".

حليم باشا و الماسونية :ـ

عَهِدَ اسماعيل باشا برعاية الماسونية الى أخيه الأمير حليم ( عبدالحليم ) شقيق إسماعيل باشا الوريث الشرعي لعرش مصر حسب نظام الوراثة المعمول به منذ عهد محمد على باشا ، وذلك لإلهائه عن المطالبة بالعرش .
و هنالك ركز الماسونيون اهتمامهم بالأمير حليم نظرا لحماسه الشديد للنشاط الماسوني في مصر .. و كان قد أتم تعليمه أيضا في فرنسا , في كلية " سان سيتر " العسكرية مع إسماعيل باشا وعاد إلى مصر عام 1845 وهو يعتصر ماسونية , واختاره الماسونيون " استاذا كبيرا " لهم في محفل " الشرق الأكبر الماسوني المصري " عام 1867 , وتحول قصره في شبرا إلي محفل ماسوني ، بل حضر ولي عهد بريطانيا حفل تنصيبه في ذلك القصر .
وكان معظم أعوان الأمير " حليم " من الماسونيين الإيطاليين والفرنسييين واليهود , ومن بين اليهود الخطيرين والذين لعبوا دورا هاما في نشر الماسونية في مصر تلميذ الأمير " حليم " المدعو " يعقوب صنوع " و " حسن موسى العقاد " أحد كبار تجار القاهرة ..

أوربا تصطاد اسماعيل :
كانت انجلترا وفرنسا قد وضعتا خطة عام 1852 لخنق مصر اقتصادياً ، ليكون هناك سبب لإرسال الحملة البريطانية لتحتل مصر فيما بعد في مقابل احتلال فرنسا للجزائر.
وبدأت أوروبا تتخذ من اليهود وسيلة لإيقاع " إسماعيل " في فخ الديون , و لكون اسماعيل باشا كان قد بلغ درجة عالية من الماسونية حتى قيل انه " راعي الماسونية " في مصر , فقد أصدر أمرا بتشكيل وزارة يرأسها الماسوني " نوبار باشا " وهو الذي شارك في إغراق اسماعيل باشا في ديون ضخمة جدا, و نوبار هذا أسهم ـ بشكل كبير ـ في إنشاء المحافل الماسونية في مصر , و كذلك كان هو من أشرف على حفر قناة السويس .
وفرض البيت المصرفي الإنجليزي أول قرض على مصر بمبلغ 3 مليون جنيها استرلينيا بفوائد كبيرة , وسلم " إسماعيل باشا " الأمر لليهود المختصين في وزارة ماليته طوال 12 سنة , ونجحوا مع المصارف البريطانية من فرض 7 قروض أخرى على مصر .
وفي عام 1875 بلغت ديون مصر حوالي 100 مليون جنيه استرليني , مما أدى إلى خلق حالة من إفلاس للحكومة المصرية , وكان ذلك بسبب إنشاء دار للأوبرا تشبه ما هو موجود في باريس وروما , وإنشاء 20 قصرا من أعظم قصور العالم منها قصر عابدين وقصر القبة , ورأس التين والمنتزه وغيرها .. ليتوارثها أولاده وأحفاده من بعده
بالإضافة إلى المصاريف الضخمة التي صرفت على الحفلة الشبه خرافية التي أقامها لافتتاح قناة السويس عام 1869 ...
الخطة المشتركة "البريطانية الفرنسية" لاحتلال مصر :
اتفق اليهودي العالمي ديزرائيلي رئيس وزراء بريطانيا في ذلك الوقت مع فرنسا أن تعمل على تسليم مصر للاحتلال البريطاني مقابل أن تترك انجلترا دول المغرب للاستعمار الفرنسي .
واستغل " دزرائيلي " سيطرة اليهود على شئون الخديوي إسماعيل وتغلغلهم في داخل الشئون المالية والاقتصادية في البلاد , وعن طريقهم أقنع الخديوي إسماعيل بضرورة بيع حصته في أسهم قناة السويس مقابل 4 ملايين جنيها استرلينيا ..
" دزرائيلي " هذا هو يهودي متعصب تظاهر باعتناق الدين المسيحي من أجل أن يتولى رئاسة الوزراء حسب الدستور البريطاني .
واتصل " دزرائيلي " سرا ً بـ " آل روتشيلد " في فرنسا وحصل منهم على قرض ليستغله في إغراق الخديوي إسماعيل في ديونه التي زادت عن حدها , وكانت الخطة قد وضعتها انجلترا بالاتفاق مع فرنسا على أساس إغراق مصر في ديون تعجز عن سدادها ويكون ذلك سببا لتقدم القوات البريطانية لاحتلال مصر , وقد ساهم يهودي فرنسي يدعي " ناتانيل " من أقارب " روتشيلد " في إرباك الاقتصاد والشئون المالية في مصر " مما جعله يستحق أن ينال لقب " بارون " على ذلك العمل المجيد " .
و اسرفت حكومة إسماعيل بسياساتها الحمقاء في القروض غير المبررة ، مما فتح الباب على مصراعيه لانجلترا للتدخل في شؤون البلاد ، وبدأت عواقب هذا الإسراف تظهر للعيان رغم ما بذلته الحكومة لإخفائها بمختلف الوسائل .

بداية التدخل الانجليزي :
يمكننا أن نحدد أواخر سنة 1875 ، وأوائل سنة 1876 كبدايةٍ للتدخل الأوربي ، إذ حدث من مظاهره وقتئذ :
ـ شراء إنجلترا أسهم مصر في القناة بأربعة ملايين جنيه ، فقد استغل اليهودي العالمي " دزرائيلي " ـ رئيس وزراء بريطانيا في ذلك الوقت ـ سيطرة اليهود على شئون الخديوي إسماعيل وتغلغلهم في داخل الشئون المالية والاقتصادية في البلاد , وعن طريقهم أقنع الخديوي إسماعيل بضرورة بيع حصته في أسهم قناة السويس مقابل 4 ملايين جنيها استرلينيا ..
ـ ثم كان قدوم بعثة المستر " كيف " الإنجليزية لفحص مالية مصر .
ـ ثم توقف حكومة اسماعيل عن اداء أقساط ديونها، وما اعقب ذلك من إنشاء صندوق الدين في مايو سنة 1876 0
هذا التدخل كان من الأسباب الجوهرية التي حفزت النفوس إلي التبرم بنظام الحكم ، والتخلص من مساوئه ، لأن سياسة الحكومة هي التي أفضت إلي تدخل الدول في شؤون مصر وامتهانها كرامة البلاد واستقلالها .
الفرصة الافغانية :
و هنا كانت الفرصة الذهبية للافغاني لمهاجمة القصر الملكي ، والدعوة الى الثورة على القصر وحلفائه الانجليز، و من ثم التمهيد للثورة العرابية التي أدت بالبلاد للوقوع في يد المحتل الاجنبي
و ابتدأ الافغاني هذا الاسلوب منذ عام 1876م ، بينما استخدم الافغاني من أجل ذلك تلاميذه من نواب مجلس الشورى ، وعلى رأسهم عبد السلام بك المويلحي ( باشا ) ، الذي يعد من كبار تلامذته .
كما استخدم الافغاني لذلك الصحف السياسية التي كان يشرف عليها تلامذته مثل سليم نقاش واديب اسحاق النصرانيين و عبدالله النديم صاحب جريدة "التبكيت و التنكيت"، بل حتى الصحف الهزلية مثل يعقوب صنوع اليهودي ،و الذي اشتهر باسمه الهزلي "ابو نظارة " .
يقول سليم بك العنجوري أحد أدباء سورية و تلميذا الافغاني حين زار مصر ووصف مكانة السيد بقوله : " في خلال سنة 1878 زاد مركزه خطراً وسما مقامه ، لأنه تدخل في السياسات وتولى رئاسة جمعية ( الماسون ) العربية وصار له أصدقاء وأولياء من أصحاب المناصب العالية ، مثل محمود سامي البارودي الذي نفي اخيراً مع عرابي إلي جزيرة سيلان ، وعبد السلام بك المويلحي النائب المصري في دار الندوة ، وأخيه إبراهيم ( المويلحي ) كاتب الضابطة ، وكثر سواد الذين يخدمون افكاره ، ويعلون بين الناس مناره ، من أرباب الأقلام ، مثل الشيخ محمد عبده ، وإبراهيم اللقاني ، وعلى بك مظهر ، والشاعر الزرقاني ، وأبي الوفاء القوني في مصر ، وسليم النقاش ، وأديب اسحق ، وعبد الله النديم في الإسكندرية".
الافغاني و توفيق باشا (1879-1892م):
ـ عمل جمال الدين الأفغاني من خلال علاقاته الماسونية باستمالة ولي العهد توفيق ، إذ كان توفيق ماسونياً من النخبة ، إذ ترأس ـ فيما بعد ـ المحفل الماسوني ، و قام الإنجليزـ بدورهم ـ بالاتصال بالسلطان العثماني الذي أصدر فرمانا بعزل اسماعيل باشا في يونيو 1879 وتولية ابنه " توفيق " حكم مصر .
ـ فلما وُلِّي توفيق باشا ـ بعد ذلك ـ ظهرت المحافل الماسونية الفرنسية والانجليزية والمصرية في جميع أنحاء مصر وانتقل النشاط الماسوني إلى القاهرة ، بعد أن كانت المحافل الماسونية منحصرةً في الاسكندرية ، و التي كانت مركز الماسونية في مصر حتى عام 1879.
ـ و حين تولى الخديوي توفيق ـ تلميذ الافغاني ـ الحكم أحس بخطورة الأفغاني وما يبثه من أفكارـ أو هكذا قيل ـ ، فأصدر أمره بنفيه من البلاد ، " أو هكذا كانت الحبكة الحوارية " لطريقة إخراج الافغاني من مصر ، ليستمر في نشاطاته الماسونية ، من نسج للمؤامرات واسقاطٍ للأنظمة ، خارج الديار المصرية .
لقد تولى "توفيق باشا" بناءً على وساطة بريطانية ، في عهد التدخل البريطاني ، فهو بذلك تحت طائلة الانجليز.
و لنا أن نتساءل لماذا يقوم الانجليز باخراج رجلهم الاول و لاعبهم المفضل في المنطقة ؟؟؟
إلا إذا كان ذلك خوفاً عليه من غوائل و نتائج الحركة العرابية ، في حين قد لاحت لهم في الأفق مهمات أُخَر .
و من زاوية أخرى : كانت المهمة الأصعب من الناحية التخطيطية و التجهيزية للمؤامرة قد انتهت ، و لم تبقَ إلاَّ النواحي التنفيذية و العسكرية و كان الجيش الانجليزي في الميدان ، وسفنه تمخر قناةالسويس جيئةً و ذهاباً .
لِيُقبََِض ـ حينذاك ـ على الأفغاني في ليلة الأحد سادس رمضان سنة 1296 - 24 أغسطس سنة 1879 ، وهو ذاهب إلي بيته هو وخادمه الأمين ( أبو تراب ) ، ليُحمَلَ في الصباح في عربة مقفلة إلي محطة السكة الحديدية ، ومنها نقل تحت المراقبة الشديدة إلي السويس ، وانزل منها إلي باخرة اقلته إلى الهند ، وسارت به إلي بومباي ، و إثر ذلك قامت الحكومة بنشر بلاغ رسمي من إدارة المطبوعات بتاريخ 8 رمضان سنة 1296 ( 26 أغسطس سنة 1879 م ) ذكرت فيه نفي السيد بعد أن نسبت إليه السعي في الأرض بالفساد ، و أنه " رئيس جمعية سرية من الشبان ذوي الطيش مجتمعة على فساد الدين والدنيا " ، وحذرت الناس من الاتصال بهذه الجمعية .
و بذلك تم نفيه خارج مصر ؛ و لكن بعد أن تمكن تلامذته من البلاد من جميع الأصعدة ، وعلى كافة المستويات ، بل كان بعض تلامذته أعضاء في مجلس الوزراء ، مثل تلميذه محمود سامي البارودي ناظرالأوقاف حينذاك و رئيس الحكومة فيما بعد .

آلية الخطة المشتركة :
كانت الخطة الانجليزية الفرنسية الافغانية تقضي بافتعال ثورة وطنية فاشلة ضد حكم اسماعيل الفاسد ، ليتم بعد ذلك احتلال بريطانيا لمصر بحجة حماية مصالحها و مواطنيها ،وهو ماكان بالضبط من خلال ثورة عرابي الذي أوقعته السياسة الاوربية في حبائلها عن طريق وكيلها المعتمد الدائم السيد جمال الدين الافغاني ، و الذي غادر الى الهند ، و ترك مخطط "بيع مصر" في أيدٍ "غير أمينة " ليشرف على تنفيذه كل من الانجليز ، و تلميذه الخديوي توفيق ، و باقي تلامذته من الماسون "الوطنين" و على رأسهم الماسوني العريق الشيخ محمد عبده الذي كان يشرف على تلميذه "المخدوع" أحمد عرابي .
الثورة العرابية :
- كانت القشة التي قصمت ظهر البعير و الشرارة و التي استوجبت الثورة العرابية هي مظالم عثمان رفقي ناظر الجهادية ( وزير الحربية ) في عهد توفيق ضد الجنود والضباط المصريين مما دفع بالضباط المصريين بقيادة عرابي للمطالبة برفع الظلم عنهم و إقالة رفقي ، فأرسلوا رسالة إلى رياض باشا ناظر النظار ( رئيس الوزراء ) يطالبونه فيها بعزل عثمان رفقي ( وزير الحربية ) التركى المتغطرس ويطالبونه فيها بمساواة المصريين بأقرانهم من الأتراك ووقع على الرسالة الزعيم احمد عرابى وعبد العال حلمى وعلى فهمى فتمَّ لهم ذلك بعد مصاولات .
ـ وفي يوم الجمعة 9 سبتمبر 1881 م حاصر احمد عرابى مع ضباطه وجنوده قصر عابدين ليطالب الخديوى توفيق بحقوق الأمة المصرية ومساواة المصريين بالأجانب وهو ما جعل الخديوى يرد عليه بقوله :
"كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها وأنا ورثت ملك هذه البلاد عن آبائي واجدادى وما انتم إلا عبيد احساننا " في مسرحية ماسونية مكشوفة.
ـ يقول الشيخ سليمان الخراشي حفظه الله في رسالته القيِّمة : "كيف احتل الانجليز مصر "
( كان الإنجليز و الفرنسيون يرقبون الأحداث بغبطة وسرور! وكانوا يوعزون من خلف الستار إلى عرابي أن : امض في طريق "الإصلاح"، ولا تخش أحدًا! ومن ذلك ما ذكر محمد عبده في مذكراته عن الثورة العرابية –وهو أحد أقطابها- من أن قنصل فرنسا ( أرسل إلى أحمد عرابي وإخوانه يقول لهم: إنه يسره ما يراه من صلابتهم وعزيمتهم، واشتدادهم في المطالبة بالعدل، فعليهم أن يثبتوا في مطالبهم ولا يُضعفهم ما يُهَددون به) ! (الأعمال الكاملة لمحمد عبده، 1/528، 531) .
و( أرسل إلى عرابي كتابًا يمدحه فيه على ثباته، ويشجعه على عدم المبالاة بالحكومة ). (مصر المجاهدة في العصر الحديث، عبد الرحمن الرافعي، ص 34) .
أما إنجلترا فكانت تفعل الأمر نفسه بل أشد، من خلال جاسوسها المدعو: " بلنت" الذي كان يجوس بلاد مصر يؤلب الناس على الحكم، ويراسل عرابي ويستحثه على مواصلة الضغط على الحكومة لعلها تستجيب لمطالب "الإصلاح"! ، وهدفه الحقيقي فصل مصر عن الدولة العثمانية تمهيدًا لاحتلالها .
يقول الدكتور محمد محمد حسين –رحمه الله- عن "بلنت" هذا: (كان لا يفتر عن التنقل بين مضارب الأعراب في مصر.. يدعو المصريين إلى الثورة، ويتكلم بعد وقوعها باسم عرابي، ويقدم له صورًا مضللة عن صفته الرسمية، وقدرته السياسية، وقوة الجيوش الإنجليزية..). (الإسلام والحضارة الغربية، ص 66).
ويقول الأستاذ مصطفى غزال عنه : ( كان من أشد الناس تفانياً في مصالح الإنجليز، رغم أنه يتظاهر بصداقته للشرق المتمثل بالشعوب التابعة لتركيا، وبعدائه للحكومات البريطانية، بل كان أحيانًا يتظاهر بالدفاع عن قضايا الشعوب الشرقية، ويقف بجانبهم، كما وقف بجانب عرابي، ودافع عنه بعد أسره، كان هذا نوعًا من الدهاء والحنكة الإنجليزية).( دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام، ص 123).
أحس الخديو توفيق بالخطر فلجأ إلى الإسكندرية طالباً من الإنجليز المتربصين بسفنهم في البحر حماية عرشه ! مع ضغطه هو والإنجليز على السلطان العثماني لإصدار منشور في عصيان عرابي ؛ لكي ينفض الناس عنه .
- افتعل الإنجليز مذبحة للنصارى في الإسكندرية ليتخذوها ذريعة لاحتلالها عام (1882م) بدعوى حماية رعاياهم !
قبل أن تتم المصالحة بين عرابي والدولة العثمانية .
- تعاون المنافقون الخونة من أبناء مصر مع الإنجليز ، ومكنوا لهم من احتلال البلاد بعرض من الدنيا قليل !
- لم يستجب عرابي للناصحين الذين حثوه على سد قناة السويس لكي لا يتسلل منها الإنجليز إلى عمق الأراضي المصرية ؛ منخدعاً –كما سيأتي- بتطمينات المهندس الفرنسي صاحب امتياز القناة .
- قضي على الثورة العرابية بعد أن أوقعت البلاد بيد الاحتلال الإنجليزي ، الذي استمر أكثر من 70 عاماً !! (1882 – 1956م). رغم ادعاءاتهم وتصريحاتهم المتكررة بأنهم سيخرجون حالما يعود الهدوء والأمن للبلاد !! انتهى عن رسالة "كيف احتل الانجليز مصر " للشيخ سليمان الخراشي .
ـ و كان من المفاجآت خلال حصار القاهرة وقوف البكباشي محمد عبيد صامدا برجاله الثلاثة آلاف مقاتل من المصريين ببنادقهم العتيقة فى وجه جيش الإمبراطورية الإنجليزية التى لا تغرب عنها الشمس بكل أسلحته ومدافعه ليستشهدوا جميعاً في ساحة المعركة .
- يقول الشيخ الخراشي حفظه الله:
( بعد أن تمكن الإنجليز من البلاد المصرية عاثوا فيها فساداً في جميع المجالات: السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، مستعينين في ذلك كله بالمتعاونين معهم من أفراد الطابور (الخامس) ؛ وعلى رأسهم الشيخ محمد عبده الذي كان له ولتلاميذه من بعده الدور الأول في تغريب البلاد وترويضها لقبول مطالب الاحتلال .
- استمر الخديوي توفيق في الحكم ، ثم جاء بعده ابنه عباس حلمي (1892 – 1914) ثم حسين كامل ابن إسماعيل (1914م – 1917م) ثم فؤاد بن إسماعيل (1917م – 1936م)، ثم الملك فاروق ابن فؤاد (1936-1952م) . وجميع هؤلاء الحكام لم يكن لهم عقد ولا حل، إنما كانوا واجهة شكلية أمام الناس، وأما السلطة الحقيقية فكانت بيد الإنجليز) انتهى عن رسالة "كيف احتل الانجليز مصر " للشيخ سليمان الخراشي .

في الهند ـ مرةً أخرى ـ :
ارتحل الافغاني الى الهند "مركز الاستعمار الانكليزي في الشرق" و سكن "حيدر آباد" الدكن ، حيث استضافته الحكومة البريطانية في الهند الى حين انتهاء أمر الثورة العرابية.
، و بما أن الأفغاني كان حيثما يحل يؤسس الجمعيات السرية وينشرها، فقد أنشأ أثناء إقامته في الهند جمعية "العروة الوثقى" الماسونية السرية التي امتد نشاطها إلى الشام ومصر والسودان وتونس ومن خلال هذه الجمعيات السرية بث الأفغاني روح الثورة على المجتمعات الإسلامية بدعوى إصلاحها من الفساد.
وأخبار تلك الجمعية السرية موجودة عند أخلص تلاميذ الأفغاني وهو الشيخ محمد عبده الذي نشر له الباحث الجاد المرحوم علي شلش في سلسلة الأعمال المجهولة نصاً يقول فيه الشيخ محمد عبده ـ معترفاً ـ بجمعية (حيدر أباد) في رسالة له إلى استاذه جمال الدين الأفغاني، تحمل تاريخ الرابع والعشرين من ديسمبر (كانون الأول) 1884 ميلادية، كتبها من تونس:
«استطعت أن ألتقي هنا العلماء ورجال الدين، وقد عرَّفتهم بنا، وقلت لهم: إن العروة ليست اسم الصحيفة، وإنما اسم جمعية أسسها السيد في حيدر أباد ولها فروع في كثير من الأقطار لا يدري أحدها عن الآخر شيئاً، ولا يعرف هذه الفروع إلا الرئيس وحده، كما قلت لهم إننا نرغب اليوم بتأسيس فرع جديد في هذا البلد». "سلسلة الأعمال المجهولة" علي شلش .
و في الهند كتب الافغاني رسالته في "الرد على الدهريين" مع أنه كما يذكر أساطين اهل العلم في عصره كان من كبار الذاهبين الى الدهرية و الالحاد .
في لندن (المرة الأولى) :
ـ بعد أن ثبت اخفاق الثورة العرابية ، واحتلال الإنجليز مصر ،و نظراً لنجاح الافغاني في التمهيد للاحتلال الانكليزي لمصر فقد رأت الحكومة البريطانية استدعاء الافغاني لوضع خطة كبرى للقضاء على الخلافة العثمانية ، فغادر الافغاني الهند الى لندن ، حيث أقام بها أياماً معدودات ، كما قامت بريطانيا أيضاً باستدعاء مهندس الثورة العرابية في مصر الجاسوس الشهير المستر بلنت ، و الذي كان مقيماً في مصر و مشرفاً على تنظيم الثورة العرابية بالتنسيق مع محمد عبده تلميذ الافغاني .
و في لندن عقد الافغاني سلسلة اجتماعات مع الجاسوس الانكليزي الشهير بلنت في وزارة الخارجية الانكليزية و تمخضت تلك الاجتماعات عن خطة مرسومة بكل دقة للقضاء على الخلافة العثمانية عن طريق استثارة الشعوب رالعربية بإذكاء النعرة القومية لديهم ضد "الحكم التركي"، إلاَّ أن المخابرات العثمانية استطاعت الحصول على اخبار تلك الخطة ، فقد ذكر السلطان عبدالحميد في مذكراته ما نصُّه :
(وقعت في يدي خطة أعدها في وزارة الخارجية الإنكليزية مهرج اسمه جمال الدين الأفغاني وإنكليزي يُدعى بلنت قالا فيها بإقصاء الخلافة عن الاتراك. واقترحا على الانكليز إعلان الشريف حسين أمير مكة خليفة على المسلمين) .انظر: مذكرات السلطان عبدالحميد، ص 148.
في باريس :
ثم انتقل الافغاني إلي باريس، فأقام بها ثلاثة اعوام منذ عام 1883- الى 1885م ، وكان الافغاني ـ قبل مغادرته مصر ـ قد أوكل مهمة الاشراف على الثورة العرابية إلى تلميذه الأكبر الشيخ محمد عبده ، و الذي أتمها على حسب المخطط ، و من ثمَّ ـ و عقب إخماد الثورة ـ "نفاه" الاستعمار الانكليزي الى بيروت ، ليستدعيَه الافغاني الى باريس ، فوافاه الشيخ محمد عبده هنالك .
وهناك واصلا عملهما السري من خلال جمعيتهما (العروة الوثقى )التي أنشأها الافغاني في الهند قبل ذلك ، و من ثَمَّ أصدر جريدة (العروة الوثقى ) عام 1300هـ 1884م، و التي شاركهما في الاشراف عليها تلميذه الميرزا محمد الباقر ، و الذي كان من من كبار الماسون ، وقد سميت الجريدة باسم الجمعية التي أنشأتها ، و التي تقوم بإصدارها .
في روسيا القيصرية :
ـ ثم أقام أربع سنوات في روسيا القيصرية منذ 1886 الى 1889م و ما تزال أخبار إقامته فيها غامضة ، و لا ريب أن روسيا القيصرية آنذاك كانت تستعد للوثوب على التركة العثمانية ، و تحتاج لرجل في مثل قدرات و معرفة جمال الدين بالأوضاع السياسية في العالم الاسلامي ، لا سيما إذا علمنا أن الافغاني كان يصرح ـ من خلال جريدته العروة الوثقى ، و غيرها ـ بأن للروس مصالح حيوية وإستراتيجية في الهند، تدفعهم لاحتلالها. وأنه ليس لديه أي اعتراض على هذا الاحتلال إذا حدث، بل ينصح الروس باتباع أسلم السبل وأسهلها لتنفيذه، وذلك بأن يستعينوا بدولة فارس، وبلاد الأفغان ، لفتح أبواب الهند، شريطة أن تسهمهما في الغنيمة وتشركهما في المنفعة.
ـ ثم كان جمال الدين بعد خروجه من روسيا عام 1889و إلى عام 1892 يتنقل بين المدن التالية : ميونخ وطهران والبصره ولندن .
في إيران :
ـ في ميونيخ جرى لقاء بين الشاه ناصر الدين شاه إيران و جمال الدين ، حيث عرض الأول على الثاني منصب رئيس الوزراء ، فوافق جمال الدين وغادر أوروبا قاصداً طهران سنة 1307هـ (1885 ـ1886 م) ، و استلم مهامه ، لكن سرعان ما احتدم الصراع بينه و بين الشاه ، فاستأذن بالسفر وخرج .
الا أن الشاه طلبه مرة أخرى فعاد عام 1889م، و لكن في هذه المرة تأكدت مخاوف الشاه تجاه الافغاني ، حيث اتضح للشاه أن الافغاني كان يعمل لمصلحة الانجليز الذين كانت لهم اطماع في ذلك الوقت في ايران ، ولعلَّه ـ حينذاك ـ تبينت له نحلة الافغاني ـ كما سيأتي ـ ، مما اضطر جمال الدين إلى الالتجاء إلى ( مقام عبد العظيم ) - و هو من أحفاد الأئمة ، ـ و مقامه حرم لدى الرافضة : يرون أنَّ من دخله كان آمناً !!! – فمكث هنالك سبعة أشهر .. ثم بعدها اقتحمت السلطات هذا المقام و تم القبض على جمال الدين و أخرج من إيران إلى العراق سنة 1309هـ 1891م.
في لندن (المرة الثانية) :
مكث جمال الدين بالبصرة ريثما عادت إليه صحته ، ثم شخص إلى لندن، فتلقاه الإنجليز بالإكرام، فأنشأ مجلة للتأليب على ناصر شاه سماها (ضياء الخافقين) ، وحمل على الشاه وسياسته ، ودعا الأمة الفارسية إلى خلعه ، بل و خطط لاغتياله ، حتى استطاع أن يقنع رجلاً إيرانيًا مطرودًا مثله من إيران هو "ميرزا رضا الكوماني"، و الذي تقبل فكرة اغتيال ناصر الدين وبالفعل اغتال ميرزا "ناصر الدين" سنة 1314 هـ 1896 م ، في الضريح المقدس عند الشيعة ، في نفس المكان الذي طرد ناصر الدين منه الأفغاني ،و كان يصيح وهو يطلق النار عليه ( خذها من يد جمال الدين ) .. ، ليتولى بعده ابنه مظفر الدين شاه ( 1313هجرية قمرية – 1896 ميلادية ).
في تركيا مرةً أخرى :
في المرة الثانية التي دخل فيها جمال الدين تركيا دخل بمشروع سياسي أجاب به دعوة السلطان عبدالحميد الى الجامعة الاسلامية ، وقدَّمَ ـ بصفته سنِّياًّ ـ مشروعات ترمي الى توحيد أهل السنة مع الشيعة . انظر: السلطان عبدالحميد الثاني، ص181.
لاعباً حينذاك بورقة طرده من مصر على يد الاحتلال الانجليزي التي تُظهِر ـ فيما قدَّر ـ صحة "ولائه للدولة العثمانية" ، والتي يعلم أنها محل نظر لدى الدولة العليَّة .
إلاَّ أن السلطان عبدالحميد الثاني لم يكنْ ممن ينخدع بتلك السهولة ، فلم يكن الأفغاني آنذاك محل ثقة السلطان عبدالحميد ، لعدة أسباب :
1ـ فقد كان السلطان يعلم بتشيع الافغاني ، يقول ميرزا لطف الله خان ابن اخت جمال الدين :
( وكان كشف حقيقة جمال الدين أمام السلطان عبد الحميد ضربة قاضية وجَّهها مظفر الدين شاه إلى جمال الدين بوثيقة سلمها علاء الملك سفير إيران في تركيا إلى الحكومة التركية تثبت بالأدلة القاطعة أن جمال الدين إيراني شيعي يختفي في ثياب الأفغاني ، ويتّخذ المذهب السني ستاراً يحتمي به ) « جمال الدين الأسد آبادي » ( ص 34) .
2. أن الأفغاني الذي يطرح قضية "وحدة المسلمين " كان من اكبر المؤيدين في نفس الوقت للثوار ضد السلطان عبدالحميد ، من القوميين الأتراك والعثمانيين عامة.
3. أن الأفغاني لم يكن صادقاً في عرضه لوحدة الشعوب الإسلامية في مواجهة الدول الأوروبية الرامية الى تقسيم الدولة العثمانية العاملة على انهيارها ، فالسلطان يعلم عنه أنه في نفس الوقت لم يكن يتعرض للاستعمار الفرنسي من قريب أو بعيد ، ولو بكلمة تنديد. في وقت كان فيه السلطان عبدالحميد يحتاج الى مقاومة الفرنسيين في شمال أفريقيا . انظر: السلطان عبدالحميد الثاني، ص 182.
4ـ حصول المخابرات العثمانية، على خطة أعدت في وزارة الخارجية الانكليزية، واشترك فيها جمال الدين الأفغاني وبلنت الانكليزي وتقضي هذه الخطة بإقصاء الخلافة عن السلطان عبدالحميد وعن العثمانيين عموماً، في الوقت الذي كان فيه جمال الدين يندِّد بالاستعمار الإنكليزي . فقد ذكر السلطان عبدالحميد في مذكراته ما نصُّه :
(وقعت في يدي خطة أعدها في وزارة الخارجية الإنكليزية مهرج اسمه جمال الدين الأفغاني وإنكليزي يُدعى بلنت قالا فيها بإقصاء الخلافة عن الاتراك. واقترحا على الانكليز إعلان الشريف حسين أمير مكة خليفة على المسلمين.
كنت أعرف جمال الدين الأفغاني عن قرب. كان في مصر، وكان رجلاً خطيراً. اقترح عليّ ذات مرة -وهو يدّعي المهدية- أن يثير جميع مسلمي آسيا الوسطى. وكنت أعرف أنه غير قادر على هذا. وكان رجل الانكليز ، ومن المحتمل جداً أن يكون الانكليز قد أعدوا هذا الرجل لاختباري فرفضت فوراً ، فاتحد مع بلنت.
استدعيته الى استانبول عن طريق أبي الهدى الصيادي الحلبي ، الذي كان يلقي الاحترام في كل البلاد العربية.
قام بالتوسط في هذا كل من منيف باشا، حامي الأفغان القديم ، والأديب الشاعر عبدالحق حامد. جاء جمال الدين الأفغاني الى استانبول، ولم أسمح له مرة أخرى بالخروج منها...) انظر: مذكرات السلطان عبدالحميد، ص 148.
5 ـ موقف السيد جمال الدين الأفغاني من مبدأ التوسع الروسي كان غريباً على مفهوم الجامعة الاسلامية الذي يدعو اليه ، فبالرغم من الأطماع الروسية والحروب الروسية ، ضد الدولة العثمانية واقتطاع الروس لأجزاء من الأراضي العثمانية، فقد كان الافغاني يصرح من خلال جريدنه أن للروس مصالح حيوية وإستراتيجية في الهند، تدفعهم لاحتلالها. وأنه ليس لدى الافغاني اعتراض على هذا الاحتلال إذا حدث، بل ينصح الروس باتباع أسلم السبل وأسهلها لتنفيذه، وذلك بأن يستعينوا بدولة فارس، وبلاد الأفغان ، لفتح أبواب الهند، شريطة أن تسهمهما في الغنيمة وتشركهما في المنفعة ، وهنا ـ مع ما مرَّ بنا من صيغة مشروعه ـ تظهر النزعة الشيعية لجمال الدين الأسدآبادي .
ـ إلاَّ أن السلطان عبدالحميد ـ المعروف بشدة دهائه ـ استطاع الإفادة من الأفغاني في الدعاية الى الجامعة الاسلامية بما يخدم مصالح دولة الخلافة الاسلامية .
يقول جمال الدين الأفغاني واصفاً شدة دهاء السلطان عبدالحميد: (إن السلطان عبدالحميد لو وزن مع أربعة من نوابغ رجال العصر لرجحهم ذكاء ودهاء وسياسة، خصوصاً في تسخير جليسه، ولا عجب إذا رأيناه يذلل لك مايقام لملكه من الصعاب من دول الغرب، ويخرج المناوئ له من حضرته راضياً عنه وعن سيرته وسيره، مقتنعاً بحجته سواء من ذلك الملك والأمير والوزير والسفير...) جمال الدين الأفغاني المصلح المفترى عليه، د. محسن عبدالحميد، ص137.
ـ ويقول : (ورأيته يعلم دقائق الأمور السياسية ومرامي الدول الغربية وهو معد لكل هوة تطرأ على الملك، مخرجاً وسلماً، وأعظم ماأدهشني ، ماأعده من خفي الوسائل وأمضى العوامل ، كي لاتتفق أوروبا على عمل خطير في الممالك العثمانية، ويريها عياناً محسوساً أن تجزئة السلطنة العثمانية لا يمكن إلا بخراب يعم الممالك الأوروبية بأسرها) جمال الدين الأفغاني المصلح المفترى عليه، د. محسن عبدالحميد، ص137.
ويقول: (أما مارأيته من يقظة السلطان ورشده وحذره وإعداده العدة اللازمة لإبطال مكائد أوروبا وحسن نواياه واستعداده للنهوض بالدولة الذي فيه نهضة المسلمين عموماً، فقد دفعني الى مد يدي له فبايعته بالخلافة والملك، عالماً علم اليقين ، أن الممالك الاسلامية في الشرق لاتسلم من شراك أوروبا، ولا من السعي وراء اضعافها وتجزئتها ، وفي الأخير ازدرائها واحدة بعد أخرى، إلا بيقظة وانتباه عمومي وانضواء تحت راية الخليفة الأعظم...) نفس المرجع ص137.

نهاية الأفغاني "مرضه ووفاته":

خلال مكوث الافغاني في الآستانة ظهر مرض السرطان في فكه الأسفل وعملت له ثلاث عمليات جراحية لكنها لم تنجح ، وقد قال طبيبه الخاص أن شدة ولع جمال الدين بالسيجار الأفرنجي ، وكثرة شربه للشاي وتناوله الطعام مالحا كان من مسببات السرطان حتى قال بعض تلاميذه :
الملحُ والشاي والدخانُ *** أودت بروحِ شيخنا الأفغاني
فتوفي عام 1897 م .
الأفغاني كان شيعياً :
نسبه الصحيح :
هو جمال الدين هو جمال الدين بن صفدر المازندراني الشيعي الرافضي المولود بأسد آباد من مازندران في همدان ببلاد ايران عام 1254هـ 1838م ،الذي اشتهر بين الناس بالأفغاني .
وقد اختلف المترجمون في نسبه لأنه كان يظهر في كل أرض باسم جديد وشخصية مختلفة ،
ومن هذه الأسماء:
جمال الدين الإستانبولي ..
جمال الدين الأسد آبادي ..
جمال الدين الحسيني ..
جمال الدين الافغاني الكابلي ..
جمال الدين الطوسي ..
جمال الدين الرومي ..
قال علي الوردي في كتابه « لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث » (3/313) : « وقد اعتاد الأفغاني أن يغيّر لقبه كلما انتقل من بلد إلى آخر ، فقد رأيناه في مصر وتركيا يلقِّب نفسه بـ( الأفغاني ) بينما هو في إيران يلقِّب نفسه بـ(الحسيني) .
وكان الأفغاني يغير زيّه ولباس رأسه مثلما كان يغيّر لقبه ، فهو في إيران يلبس العمامة السوداء التي هي شعار الشيعة ، فإذا ذهب إلى تركيا ومصر لبس العمامة البيضاء فوق طربوش ، أما في الحجاز فقد لبس العقال والكوفية ».
نشأته الشيعية :
لا ريب في كون جمال الدين شيعيا رافضياً ، لعدة اثباتات و اعترافات تصل بمجموعها الى حد العلم اليقيني الاضطراري بتشيعه .
فمن ذلك :
1 ـ ما ذكره مريده و أخص تلاميذه بل صاحبُ سِرِّه الشيخ محمد عبدة في فاتحة تعريبه لرسالة الرد على الدهريين : إن السيد جمال الدين و إن كان في الحقيقة فارسياً ، فقد انتسب إلى الأفغان لأمرين :-
أ - أن يكون من السهل عليه الظهور بمظهر السني لا الشيعي .
ب - أن يستطيع الخلاص من رقابة الحكومة الإيرانية لرعاياها في الخارج .
2 - كما صدر في برلين عام 1926م كتاب بالفارسية في سيرة الأفغاني بقلم الميرزا لطف الله خان ، ويدعي المؤلف أنه ابن أخت الأفغاني ، وأنه اجتمع به في طهران عند ذهاب الأفغاني إليها عام 1886م ، و يحتوي الكتاب على صور فوتوغرافية واضحة تجمع الأفغاني و الميرزا لطف الله خان مع زمرة من رجال الدين الإيرانيين ، و قد ترجم الكتاب إلى العربية في مصر عام 1957م ، و لم يظهر أحد من أقارب جمال الدين حتى الآن ليكذب المؤلف أو يتحداه على وجه من الوجوه ـ لا سيما مع اشتهار الكتاب ؟؟
3ـ يقول عبد المهدي فلاح الأصفهاني معلقاً على رسالة وجهها إليه جمال الدين ، وأمره بنشرها بعد موته ، فيقول : إن مشاهير الأحرار الإيرانيين اضطروا في عهد الشاه ناصر الدين و عماله إلى هجر وطنهم و الالتجاء إلى البلاد الشرقية الإسلامية هرباً من الظلم ، فلقب بعضهم – كالسيد جمال الدين – بالأفغاني ، و هو في الحقيقة إيراني صميم .
4 – عندما اشتد العداء أخيراً بين الشاه و الأفغاني ، أخذ أعوان الشاه يشوهون سمعة الأفغاني ، فأشاعوا عنه أنه بابي ، و أنه غير مختون ، و لكنهم لم يشيعوا عنه أنه سني أو أفغاني ، و كان من السهل عليهم أن يفعلوا ذلك لو كان الأفغاني أفغانياً "حقاًّ ".
5 ـ عندما نفِيَ الأفغاني من مصر لم يأت لتوديعه في السويس سوى القنصل الإيراني ، و نفر من التجار الإيرانيين الساكنين في مصر .. فما هو السبب الذي جعل أولئك الإيرانيين يفعلون ذلك ، إن لم تكن لهم مع الأفغاني رابطة خاصة .
6ـ اختيار الشاه ناصر الدين للأفغاني ليكزن رئيساً لوزراء دولته ، و بالطبع فإنه لا يمكن أن يقع اختيار قادة ايران على عالم من علماء السنة من بلاد الأفغان ليكون الرجل الثاني أو الثالث في البلاط ، و عندما وقعت الخلافات بينه و بين الشاه لم يقل أحد من رجال البلاط أو من علماء الشيعة أن الأفغاني سني أو عميل من عملاء الخليفة العثماني لاسيما و هم يعرفون إقامته في بلاد اهل السنة ، و لكن كان كل ما قيل عنه أنه : بابي مفسد.
7ـ كما ترجم له الشيعة في كتبهم ، مثل آغابزرك الطهراني في كتابه "أعلام طبقات الشيعة" ومحسن الأمين في كتابه : "جمال الدين الأفغاني" ، وغيرهم .
8 ـ و حين أصدر جريدة (العروة الوثقى ) عام 1300هـ 1884م،
شاركه في الاشراف عليهاـ عدا محمد عبده ـ تلميذه الميرزا محمد الباقر الشيعي الماسوني ، وكان في كل تنقلاته يستصحب معه خادمه الايراني الشيعي أبوتراب ..
هذه بعض الأدلة التي تؤكد أن جمال الدين إيراني و ليس أفغانياً ، و أنه شيعي رافضي كما ذكر ذلك كبار تلامذته كمحمد عبده مثلاً ، هذا عدا ما تدلُّ عليه
مراحل نشأته التي سنسوقها :
مولده :ولد عام ( 1254هـ/1838م ) في أسد آباد في همدان – من أعمال إيران – ، من أسرة شيعية ،ثم انتقل إلى قزوين و هي من مدن الشيعة في إيران فأكمل دراسة المذهب ، حيث عُيِّن والده مدرسا في احدى تلك المدارس .
في طهران :وحين بلغ الثانية عشر من عمره ، و نظرا لألمعية و حدة ذكاء جمال الدين ـ إذ كانت مخايل الذكاء ، وقوة الفطرة ، وتوقد القريحة تبدو عليه منذ صباه ـ فقد رأى والده أن ينتقل به إلى طهران ليجالس كبار علمائها و يأخذ عنهم المذهب ، إلاَّ أن الملالي هنالك نصحوا الفتى ووالده أن يولُّوا وجوههم للنجف قبلة علماء المذهب الشيعي .
في النجف :رحل جمال الدين الى النجف مع والده فمكث فيه أربع سنوات ، درس فيها علوم الرافضة والفلسفة والمنطق و الرياضة و علم النجوم والطب و الكيمياء ، وأنهى دراسته و عمره لا يتجاوز ( 16 ) سنة .
و من أشهر أساتذته هنالك :
1ـ آقا خان صادق مرتضى ، أحد مراجع الشيعة في النجف .
2ـ ميرزا محمد المجتهد .
3ـ الحافظ دراز .
4ـ و حبيب الله القندهاري .
5ـ القاضي بشر النجفي .
و هؤلاء جميعهم من مراجع الشيعة الكبار وآياتهم المعروفين في تلك الفترة.
وقد اعترف جمال الدين أيضاً بأنه انتقل إلى العراق ليتابع دراسته في العتبات المقدسة – أي في النجف – والتي يؤمها طلاب العلم الشيعة من جميع بلدان العالم .و يتحدث جمال الدين عن هذه المرحلة بأنه لبس العباءة والعمامة ، و تتلمذ على يد أكبر علماء الشيعة فيها . و هنالك توسَّم فيه ملالي الشيعة في جمال الدين حدة الذكاء و شدة الفطنة و قوة الشخصية، فأُعِدَ هنالك من فبل الاستعمار و ملالي الشيعة ليلعب دوراً خطيراً بين أهل السنة في العالم الإسلامي .
لماذا أخفى نسبه ؟!
كانت إيران وكراً من أوكار التآمر ضد الخلافة الإسلامية ، و كان قادتها – ولا يزالون – يستعينون بأعداء الإسلام من أجل تفتيت وحدة المسلمين .
و كان المسلمون السنة يرتابون من نوايا و أهداف كل عالم شيعي إيراني ، ولا يثقون به .. و كان لجمال الدين من الخبث و الدهاء بحيث لا تخفى عليه مثل هذه الأمور ، و طالما أعد نفسه ، أو أعده أعداء الإسلام ليلعب دوراً مشبوهاً في تاريخ أمتنا الحديث – كما لعب ابن سبأ نفس الدور في صدر الإسلام - ، إذاً لا بد أن يقدم نفسه على أنه عالم من علماء الأفغان ، و أنه حنفي المذهب ، كما لا ننسى سعي الدولة الصفوية الرافضية في سبيل تقويض الخلافة الاسلامية .


المفاجــــأة :

بل كان جمال الدين بابياً ؟؟؟:


في النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي ، ظهرت في آخر أيام محمد شاه ـ في بلاد فارس ـ حركة دينية شيعية اسمها (البابية ) ، وهي امتداد للحركة (الشيخية) التي نادى بهاالشيخ احمد بن زين الدين الاحسائي) .
و توفي محمد شاه عام 1848 م عن عمر (40) عاما و خلفه ابنه الأكبر (ناصر الدين) وكان عمره 17 عاماً حينذاك ، و الذي اضطلع بمهمة القضاء على تلك النحلة الجديدة .

ماهي البابية :

البابية حركة نبعت من المذهب الشيعي الشيخي سنة 1260ه‍/1844م تحت رعاية الاستعمار الروسي واليهودية العالمية والاستعمار الإنجليزي بهدف إفساد العقيدة الإسلامية وتفكيك وحدة المسلمين وصرفهم عن قضاياهم الأساسية"،
.وملخص الحركة البابية التي انضم اليها مريدو ( الشيخية ) بعد وفاة مؤسسها .. هو ادعاء (محمد رضا الشيرازي) مؤسس الحركة ، بأنه يشكل بابا الى (الإمام المنتظر) فعلى من يحتاج مخاطبة (الامام المنتظر) بشيء عليه مخاطبة الباب أولا ! .
ثم تطورت الأمور مع هذا الدعي حتى ادعى النبوة وقال أنه أفضل من رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم .
وتنكر هذه الفرقة الكثير من ضروريات الدين كالمعاد ، ممَّاأدَّى بها أن تُحل كثيراً من المحرمات ـى إن لم يكن كلها ـ كالربا و الزنا و شرب الخمر .
و قد خرجت البابية ؟ـ كما تأكد ذلك فيما بعد في نسختها البهائية ـ بتقرير ما أسمته بوحدة المنبع لجميع الديانات العظمى الموجودة في العالم، كما يعترفون بالزردشتية والهندوسية واليهودية والبوذية والمسيحية والإسلام مما يجرهم الى الإيمان بفكرة وحدة الأديان .

من هو الباب :

هو الميرزا علي محمد رضا الشيرازي 1235ـ1266هـ (1819 ـ 1850 م)، تلقى تعليمه الأولي و هو في السادسة من عمره على يد دعاة الشيخية من الشيعة ثم انقطع عن الدراسة ومارس التجارة.
ـ وفي السابعة عشر من عمره عاد للدراسة واشتغل بدراسة كتب الصوفية والرياضة الروحانية وخاصة كتب الحروفيين وممارسة الأعمال الباطنية المتعبة.
ـ في عام 1259 م ذهب إلى بغداد وبدأ يرتاد مجلس إمام الشيخية في زمانه كاظم الرشتي ويدرس أفكاره وآراء الشيخية. وفي مجالس الرشتي تعرف عليه الجاسوس الروسي كينازد الغوركي والمدعي الإسلام باسم عيسى النكراني والذي بدأ يلقي في روعهم أن الميرزا علي محمد الشيرازي هو المهدي المنتظر والباب الموصل إلى الحقيقة الإلهية والذي سيظهر بعد وفاة الرشتي وذلك لما وجده مؤهلاً لتحقيق خطته في تمزيق وحدة المسلمين.
ـ في ليلة الخميس 5 جمادى الأولى 1260 ه‍ ـ 23 مارس 1844م أعلن الميرزا أنه الباب نسبة إلى ما يعتقده الشيعة الشيخية من ظهوره بعد وفاة الرشتي المتوفى 1259 ه‍، وأنه رسول كموسى وعيسى ومحمد ـ عليهم السلام ـ بل وعياذاً بالله ـ أفضل منهم شأناً.
ـ فآمن به تلاميذ الرشتي وانخدع به العامة واختار ثمانية عشرة مبشراً لدعوته أطلق عليهم حروف الحي ، و كان للظلم والقهر اللذين كانا يهيمنان على المجتمع الايراني في عصر الحكم الكسروي بزعامة الشاه دور كبير على تقبل الناس هذا الدين الجديد الذي بشرهم بالانقاذ والخلاص.
ـ كما ساعد على نشوئها غلبة الجهل والسذاجة وغياب الوعي وكثرة الخرافات ، ـ لا سيما في ذلك المجتمع المشبَع بالخرافة ـ حيث لاقت البابية ترحيبا بين البسطاء والسذج، وكذلك دعم الدول الاستعمارية لها خصوصا روسية القيصرية و بريطانيا .

البهاء:

ـ في سنة 1844 م دخل الميرزا حسين علي النوري في دعوة الباب فور إطلاعه على بعض كتابات الباب التي أرسلها له مع أقرب مؤيديه ملا حسين بشروئي وصار من أشهر أتباع الباب وأنصار دينه، وقام بنشر تعاليمه وخاصة في إقليم نور وكانت قد حمته مكانة أسرته وحسن سيرته من الاضطهاد نوعا ما خلال السنوات الاولى من إيمانه بدعوة الباب.

قرة العين :

ـ كما اتبعته و ساندته قرة العين واسمها الحقيقي أم سلمى ولدت في قزوين سنة 1231 ه‍ أو 1233 ه‍ أو 1235 ه‍ للملا محمد صالح القزويني أحد علماء الشيعة ودرست عليه العلوم ومالت إلى الشيخية بواسطة عمها الأصغر الملا علي الشيخي وتأثرت بأفكارهم ومعتقداتهم .

اتصالها بالباب :

ثم رافقت الباب في الدراسة عند كاظم الرشتي بكربلاء حتى قيل إنها مهندسة أفكاره إذ كانت خطيبة مؤثرة، أديبة فصيحة اللسان فضلاً عن أنها كانت جميلة جذابة، إلا أنها كانت فاجرة ، فطلقها زوجها وتبرأ من أولادها. و كانت تلقب بـ زرين تاج ، أي "صاحبة الشعر الذهبي " بالفارسية.
ـ في سنة (1261 هـ)، (1848 م) اجتمع قادة البابية في مدينة (رشت) الايرانية ،فقرروا فيه نسخ الشريعة المحمدية بشريعة الباب الميرزا
علي محمد الشيرازي، وقامت (زرين تاج) الملقبة بـ (قرة العين) أحد الرموز الفاعلة في هذه الفرقة متبرجة فخطبت خطبة في ذلك المؤتمر كانت سببا في تقاطر الناس على هذا المذهب الجديد، ومما جاء في خطبتها :
"مزقوا هذا الحجاب الحاضر بينكم وبين نسائكم بأن تشاركوهن بالاعمال، وتقاسموهن في الافعال واصلوهن بعد السلوة واخرجوهن من الخلوة الى الجلوة، فماهن الا زهرة الحياة الدنيا، وان الزهرة لابد من قطفها وشمّها لانها خلقت للشم، ولاينبغي ان يعد ولا يحد شاموها بالكيف والكم فالزهرة تجنى وتقطف، وللاحباب تهدى وتتحف ".
ـ و اعتقل الباب فاجتمعت قرة العين مع زعماء البابية في رجب 1264 ه‍ في مؤتمر بيدشت
، ولعب الميرزا حسين علي النوري دورا رئيسيا في مؤتمر بدشت الذي يعتبر نقطة تحول هامة في تاريخ البابية لانه ثم من خلالها الاعلان عن استقلال الشريعة البابية عن الاسلام واعتبارها شريعة مستقلة بأحكامها ومبادئها. واتخذ حسين علي لنفسه خلال هذا المؤتمر لقب "بهاء الله".
وكانت قرة العين هي خطيبة القوم ومحرضة الأتباع على الخروج في مظاهرات احتجاج على اعتقال الباب، حينما أعلنت نسخ الشريعة الإسلامية، و أفرج عن الباب فهدأت ثائرة البابيين .
ـ و شيد الميرزا حسين علي حصنا منيعا في جبال مازندران الايرانية وغاباتها واجتمع حوله خلق كثير من اجل نصرة هذا الدين الجديد، فهال هذا الحال حكومة الشاه فأرسلت بعثة عسكرية لقتالهم ففشلت في دحرهم وعادت تجر اذيال الخيبة والهزيمة.
ـ و في عام 1266 ه‍ ادعى الباب حلول الإلهية في شخصه حلولاً مادياً وجسمانياً.
نكبة البابية :
كررت الحكومة هجماتها المتلاحقة وعززت قواتها بالمدافع والمدمرات من كل نوع فقاومها البابيون مقاومة عنيفة مدة اربعة اشهر حتى فني رجالهم ونفدت ذخائرهم فدخل جنود الشاه الى حصنهم فاسروا (214) شخصا من البابيين بين رجال و نساء واطفال ثم فتك فيهم الجنود فتكا مروعا فبقروا بطونهم وسلوا السنتهم ومثلوا بهم اقبح تمثيل.
ـ و اقتيد من تبقى منهم الى طهران حيث رأى الناس اسرابا من الرجال والنساء والاطفال من البابية مقودين بالحبال، فكان هناك مشهد مرعب في سوق طهران حيث أجسادهم المجروحة وقد وضع الجلادون في كل جرح منها فتيلة ملتهبة، وهم كيوم ولدتهم امهاتهم ، والجنود خلفهم يضربون من يتأخر او من يقع منهم بالسياط فاذا مات طفل في الطريق القوه تحت ارجل ابويه فكانا يمران عليه غير ملتـفـتـين اليه ، ثم رميت الجثث بالارض تسيل دماؤها والكلاب تنهشها وتأكل من اشلائها.
ـ و حوكم الباب فحاول التظاهر بالتوبة والرجوع، ولم يصدقوه فقد عرف بالجبن والتنصل عند المواجهة ، فحكم عليه بالإعدام هو و صاحبه الزنوزي ، وذلك في 27 شعبان سنة 1266 ه‍ ـ 8 يوليو 1850 .

العداء و الثأر :

أكنَّت البابية كل مشاعر الكراهية و البغض للشاه ناصر الدين ، كما كان هناك مخزون هائل من الحقد يحملونه عليه ، و ثأرٌ كامنٌ ينتظرون الفرصة لإيقاعه ، فقد أباد البابية إبادة شبه تامة ، بل حدثت مجازر تشيب منها الولدان للبابية في مازندران ، مما جعل البابية تتستر مرة اخرى نحت مسمَّى الشيخية التي انبثقت منها ، أو تمتد الى نحلة غنوصية سميت فيما بعد بالبهائية نسبة الى البهاء .

محاولات البابية اغتيال ناصر الدين شاه:

ـ في سنة 1852 م اشتركت قرة العين و بهاء الله في مؤامرة قتل الشاه ناصر الدين القاجاري (تولى 1848ــ توفي 1896م ) فقبض عليهما وحكم على قرة العين بأن تحرق حية ولكن الجلاد خنقها قبل أن تحرق في أول ذي القعدة 1268 ه‍ الموافق 1852 م. . كما زج ببهاء الله في سجن سياه جال (النقرة السوداء) لعدم توفر الأدلة ضده .

الأفغاني و البابية :

يترجح لدى المتأمل
في سيرة جمال الدين أنَّه كان بابياً لعدة قرائن :
1ـ فقد كان يدعو الى وحدة الأديان، و الذي دعت إليه البابية من قبل : يقول مصطفى غزال في كتابه "دعوة جمال الدين"
( كما يجب ألا يغرب عن ذهننا أن البهائية التي ورثت البابية كانت تجمع في صفوفها مختلف الأصناف والمعتقدات ، فلا مانع عندهم من الجمع بين البهائية وبين أي معتقد آخر ) .
و قد جعل الافغاني لذلك مدخلاً ، ألا و هو الدعوة الى "التقريب بين أهل السنة والرافضة" ، و الذي دعا إليه مع تلميذه محمد عبده ، في وقت لم يكن فيه ما يبرر تلك الجهود ، إذ كانت الصلات مقطوعة تماماً مع العالم الشيعي .
.
2ـ أنه مولود في أسد آباد من أعمال مازندران بايران ، وهي منشأ البابية و ربيبتها البهائية ، كما أنَّ العجم يسمون "البابية" بالمازندرانية .
3ـ كما وصفه أبو الهدى الصيادي الصوفي أنه مازنداني ( أي بابي ) من أجلاف الروافض وأنه مارق من الدين . " تاريخ الأستاذ الإمام لمحمد رشيد رضا" / 1/90.
4ـ أن البابية و البهائية لها صلات قوية بالاستعمار الانجليزي .
5ـ كان الشيخ محمد عبده قد حرص خلال إحدى زياراته إلى بيروت, سنة 1883.على الاجتماع برأس البهائية عباس افندي ابن البهاء ـ "صاحب الباب " و مؤسس نحلة البهائية و التي هي امتداد للبابية ـ و أبدى اعجابه الشديد به .
فكتب الأمير شكيب ارسلان، الكاتب والأديب المعروف، عن الإمام محمد عبده، فصلاً تحت عنوان "نبذة ثانية من سيرته في بيروت". وتضمن هذا الفصل الوصف التالي لعلاقة ألإمام محمد عبده بعباس أفندي: "لم يكن يطرأ على بيروت أحد من معارفه أو من الأعيان المشهورين إلا وقام بسنّة السلام عليه ، وقد يُجله ويحتفي به ولو كان مخالفًا له في العقيدة ، ولم أجده احتفل بأحد أكثر من احتفاله بعباس أفندي البهاء ، وكان يكرِم في عباس أفندي العلم والفضل والنبل والأخلاق العالية وكان عباس أفندي يقابله بالمثل...". تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، تأليف محمد رشيد رضا ص 407
وأدلى محمد رشيد رضا، صاحب مجلة المنار الشهيرة، بمثل ذلك في سياق حديثه مع الشيخ محمد عبده عن البهائية قائلا:
"ثم سألته عن عباس أفندي وقلت أسمَعُ انه بارع في العلم والسياسة وأنه عاقل يُرضِي كل مجالس. فقال: "نعم إن عباس أفندي فوق هذا، انه رجل كبير، هو الرجل الذي يصح إطلاق هذا اللقب ( كبير ) عليه."
تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، تأليف محمد رشيد رضا ص 931
6ـ انقلاب الشاه ناصر الدين شاه إيران ـ و بِحِدَّةٍ شديدة ـ على جمال الدين ، بعد أن كان هو من عرض عليه منصب رئيس الوزراء ، و لا يمكن تبرير ذلك إلاَّ بكون الشاه كان قد علم أن الافغاني مازندراني بابي ، و لا ننسى أن البابية لهم ثأرٌ قديم لازم مع الشاه ناصر الدين الذي أوقع بهم أنواعاً من المجازر و أصنافاً من الإبادة الجماعية ممَّا جعل الشاه ناصر الدين يقبض على جمال الدين و يخرجه من إيران إلى العراق سنة 1309هـ 1891م.
7 ـ عِداء جمال الدين البالغ للشاه ناصر الدين "طُلبة البابية " ودعوته للأمة الفارسية إلى خلعه ، و من ثم التخطيط لاغتياله ، حتى استطاع ذلك عن طريق "ميرزا رضا الكوماني" الذي تقبل فكرة اغتيال ناصر الدين ، ومن ثمَّ اغتاله سنة 1314 هـ 1896 م .
8ـ أن الاتهام الرسمي الذي اطلقته حكومة ناصر الدين شاه للافغاني بعد طرده أنه كان بابياً مفسداً !!!! ـ و عند جهينة الخبر اليقين ـ

عقيدة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده
الشيخ الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي
من محاضرة: الأسئلة


السؤال: ذكرت في معرض كلامك جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ، وقد كثر الكلام حول المذكورين، فما رأيك فيهما من ناحية عقيدتهما؟ وهل لهما جهود في خدمة الإسلام أم لا؟

الجواب: على كل حال نحن لا يهمنا الأشخاص بأعيانهم، فقد قدموا على ربهم وأفضوا إلى ما قدموا، ولكن عندما نتعرض إلى أي أثر سيئ لأي شخص فلا يجوز أن نكتمه مراعاة لذلك الشخص؛ لأن الحق عندنا فوق الرجال، ومن هنا قد نتعرض لسيرة بعض الناس بل لابد أن نبينه.

أما الأفغاني فهو رجل رافضي تلبس بلباس السنة، وسمى نفسه الأفغاني رغم أنه إيراني الأصل، وهو رجل باطني يقول بوحدة الأديان، كما أنه عميل للسياسة الإنجليزية، وتلقن علومه في بلاطات ملوك أوروبا ، فهو رجل -نستطيع أن نقول- لا صلة له بالإسلام.

وأما الشيخ محمد عبده فإن لديه مواقف يُعرف منها الغيرة على الدين، والحرص على أوضاع المسلمين، ولكن هناك جوانب صريحة وقطعية في سيرته تدل على خلل في عقيدته، منها أنه تعلم اللغة الفرنسية ليعرف القوانين الفرنسية، ثم جاء بهذه القوانين الفرنسية وأقامها وطبقها بنفسه في مصر يوم أن كان رئيساً لمحكمة النقض ومفتياً للبلاد، وكان من دعاة خروج المرأة وسفورها، هذا لا شك فيه، وكان أيضاً في عقيدته أقرب إلى منهج المعتزلة وفي بعض الأمور إلى منهج الفلاسفة ، ومن ذلك أنه يرجح أن البعث لا يكون بعثاً جسدياً، وإنما بعث وحشر روحي، وهذا ما حققه المحققون في دراستهم لتعليقه على الحاشية العضدية ، وغير ذلك من الضلالات التي نسأل الله العفو والعافية.

وعلى أي حال: إذا تعرضنا لأي أمر من أمور الدين والعقيدة، فلا مجاملة لأحد كائناً من كان، ولا ننظر إلى البشر، وإنما نراقب الخالق سبحانه وتعالى.


الافغانى اول من دعا الى القومية المصرية

بقلم : د. خادم حسين الهى بخشى ..... الاستاذ بالجامعة الاسلامية – الهند
دعوات هدامة تتناوب شغل اهتمام المسلمين عن قضاياهم الكبرى ، تتوالى مع صبيحة كل يوم وتحمل اسماء او عناوين ان لم تكن ذات جذور اسلامية او ملتبسة بالاسلام ، فان المثيرين لها فى الغالب ، وان كانوا من رموز الدعوة الاسلامية الا انهم من هذا القطيع الذى سقط فى براثن الاستشراق والمستشرقين ، او سقط فى بحار شهوة الشهرة والمناصب وجمع الاموال او لاسباب خفية لم يقف عليها اباحثون حتى الان .

ومن اشهر هذه الرموز كان الشيخ محمد عبده الذى اصبح مدرسة ومرجعية يعتمد عليها كل العلمانيين الذين يكيدون للاسلام تحت اسم التنوير فقد تمتع الازهر منذ وجوده بمكانة علمية مرموقة فى العالم الاسلامى كله ، وما زال يتمتع بها لخدمته الدين ونشر علومه من التفسير والفقه واللغة العربية .. حتى اليوم ، وكان الراى السائد بين الاوساط المسلمة قبل تعديل منجه التعليمى ان خريج الازهر مثال الوعى الدينى والادراك السليم لمبادىء الاسلام ، ويعبر عن ذلك احد سكان ملقا – من جزر الهند الشرقية – فيقول : (( من لم يتلق العلم فى مصر ، ولم يدرس الدين فيها لا يصح ان يكون مثال العلم الصحيح والعقيدة الثابتة وقد يتجاوزون فى اعتقادهم الى حد انهم لا يعتمدون الا فتوى اتت من الازهر ، او قالها عالم من علماء مصر اذ المسلم المصرى المتعلم يعد هنا المثل الاعلى لدراسة الدين وفهم اسراره ومعرفة احكامه ))
وعلى قدر ثقل الازهر ووزنه العلمى خطط اعداء الاسلام لهدم الدين بتعكير روافده ، فسقوا ازهار مصر المسلمة بما يعود على صفائها بالخراب والدمار ، وعلى نقاوتها بالتلبد والغيوم ففى عهد محمد على باشا بدات البعثات العلمية تغدو تروح الى اوربنا لتلقى العلم ، ويحدد عادل ابو عمشة هذه الفترة بقوله (( ولم يكتف محمد على بما فتحه من مدارس فى مصر ، فارسل اول بعثة علمية الى ايطاليا عام 1809 م ، ثم حول وجهة البعثات الى فرنسا فارسل اول بعثة كبيرة اليها عام 1826 م وعين الشيخ رفاعة الطهطاوى اماما لها )) .

وازداد الوضع سوءا فى عهد اسماعيل باشا حفيد محمد على فما ان تولى الحكم حتى فتح ابواب مصر على مصراعيها للحضارة الاوربية وقد يكون لطفولته وشبابه اللذين قى زمنا منهما فى اوربا متنقلا بين فيينا وباريس اثر فى هذا الانفتاح ، وظهرت رغبته فى تقليد اوربا لكل ذى عينين حين اجبر جميع مستخدمى الدولة على ارتداء الزى الاوربى وجماع فكرته على حد رواية محمد طلعت حرب (( ان اخلاق المصريين وعوائدهم التى ورثوها ستصبح بمساعيه بعد قليل مماثلة لعوائد اوربا واخلاقها )) .

وطبقا لسياسة تحويل مصر الى قطعة من اوربا اصدر امرا بانشاء مجلس شورى النواب ، كما قضى بتشكيل المحاكم المختلطة ، واوفد نوبار باشا الى اوربا ليمهد السبيل لذلك ، وكان المتبع فى هذه المحاكم ان يكون قضاتها وكتابها وسائر المستخدمين من المسلمين ، ثم سمح للاقباط وغير المسلمين ان يكونوا قضاة فى المحاكم الاهلية التى اعقبت المحاكم المختلطة ، ثم جرى تطبيق القانون الفرنسى فى تلك المحاكم .
واظلم الجو اكثر من ذى قبل اثر وصول السيد جمال الدين الافغانى الى مصر عام 1870 م بعد ان دعاه اليها رياض باشا وحاول الافغانى عبثا ان ينصب منصة القاء فى الازهر فلم يوفق فاتخذ له بيتا فى حارة اليهود مالبث ان تحول الى منتدى للعلماء والطلاب ، ثم اتخذ الافغانى من ملهى قرب الازبكية مجلسا له يلتقى فيه مع طلابه حتى الفجر ، حيث كانوا يلقون عليه ادق المسائل على حد قول ابى رية .
وقد ضمت حلقته المنزلية كلا من الشيخ محمد عبده وعبد الكريم سلمان وابراهيم اللقانى وسعد زغلول وابراهيم الهلباوى واتسع ملهى الازبكية ليشمل محمود سامى البارودى وعبد السلام المويلحى وابراهيم المويلحى وعلى مظهر وسليم النقاش واديب اسحاق .
وكان الافغانى اول من نطق بان مصر للمصريين فجلب له هذا الشعار العديد من مريديه النصارى واليهود ، وبذلك احل رابطة الوطن محل رابطة الدين ، اضف اليه ان الافغانى كان يؤمن بوحدة الاديان الثلاثة ويعد تخالفها من صنع بعض رؤسائها (( واما ما نراه من اختلاف اهل الاديان فهو صنع رؤساء بعض تلك الاديان التذين يتاجرون بالدين )) .
وبعد طرد الافغانى من مصر تطورت الامور بسرعة واخذ الوعى السياسى ينضج فطال الحزب الوطنى توفيق باشا بتصحيح الاوضاع ووصف الحزب نفسه فى مبادئه التى صاغ الشيخ محمد عبده مواده بمساعدة المستشرق " بلنت " (( بانه حزب سياسى لادينى )) ، ونفى زعماء الحزب بعد هزيمة الجيش المصرى كما نفى زعماء الثورة مدى الحياة ، اشترط الانجليز المحتلون لعودة الشيخ محمد عبده الى مصر عدم اشتغاله بالسياسة ، وما ان عاد الشيخ من منفاه حتى اصدر تصريحا لعن فيه السياسة ، ثم اخذ يعمل على تطويع الشريعة وترويضها حتى تتقبل الخضارة الاوربية ، ولا سيما بعد ان وصل الى منصب الافتاء .
وقد كان للاراء التى بثها الشيخ محمد عبده فى مجال الاصلاح الاجتماعى او الدينى اثر فيمن جاء بعده ، بل منهم من توصل الى هدم الدين واسسه المحكمة .

المصدر
....
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ماذا قال نائب وزير الشؤون الإسلامية السعودي عن البنا؟

الأفغاني وعبده .. مائة عام من الغيبوبة

الشيخ :  محمد عبده  /سيرة


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..