الصفحات

الأربعاء، 29 يونيو 2016

تركيا والعلاقات الحرجة

    ما تم بين تركيا والكيان الصهيوني من الاتفاق على تطبيع العلاقات اعتبره الكثير لاسيما من المنتمين للفكر السياسي الإسلامي مفاجأة ، ورأى بعضهم أن الأوضاع الملتهبة قد فرضته ، في صيغة
إدانة لكنها تميل للاعتذار للقيادة التركية ، وصرح بعضهم بالإدانة ، لكنها إدانات باردة يسبقها إشادة بأردوغان وما قدمه لشعبه وما قدمه للقضايا الإسلامية . وجميع من قرأت لهم في هذا الصدد من المتابعين الإسلاميين يٓغْفٓلُون أو يُغفِلُون عمداً كون العلاقات التركية مع الكيان الصهيوني استراتيجية للجمهورية التركية منذ نشوء الكيان الصهيوني سنة ١٩٤٨ بل إن علاقة الجمهورية التركية مع الصهاينة اليهود كانت قبل نشوء كيانهم أي منذ قيام الجمهورية التركية عام١٩٢٣بل من المعلوم تاريخياً أن لليهود دور كبير في إنشاء هذه الجمهورية على أنقاض الدولة العثمانية .
وليس معروفاً أن حزب العدالة والتنمية الذي يتمتع مؤسسوه بخلفية دينية ثار رسمياً على المبادئ التي قامت عليها هذه الجمهورية ، بل لا يُعرف أنه أدان هذه المبادئ أو تنصل منها.
حقاً: إن مؤسسي حزب العدالة والتنمية وقفوا ضد الحرب على الدين ومظاهره والتي كانت الأحزاب العلمانية الحاكمة في تركيا تشنها باستمرار وبمغالاة ممقوتة .

وحقا أيضاً:أن مؤسسي حزب العدالة والتنمية لا يخفون تعاطفهم مع التاريخ العثماني .
كل ذلك صحيح إلا أن العدالة والتنمية لازالوا حريصين على التركيز في الإعلام على علمانية الدولة بشكل مستمر ، بل إن أحد مستشاري الرئيس أردوغان لام بشدة الإسلاميين العرب في أسلوب إشادتهم بتركيا في ملتقى شكراً تركياً والذي وصفوا فيه أردوغان بأوصاف لا تليق برئيس علماني ، وقال : إن هؤلاء العرب أسقطوا دولهم بسبب هذه الشعارات ولن نسمح لهم بإسقاط تركيا .
إذاً تركيا اليوم لازالت تؤمن -ولو ظاهراً- بمبادئ الجمهورية التركية وعلاقاتِها الاستراتيجية. فتجديد العلاقات التركية مع الصهاينة ليس أمراً مستغرباً إلا في حال واحدة ، وهي لو كانت تركيا الحالية تنصلت رسمياً من مبادئ الجمهورية الأتاتوركية وهو مالم يحدث حتى اليوم .
وحتى يحدث ذلك تبقى الاستراتيجية التركية على ما هي عليه ومن الظلم لها وللإسلام أن نحاكمها على مقتضيات الإسلام وهي لم تقر به دستوراً ، بل العدل والنظرة الواقعية هي محاكمتها إلى المبادئ التي قامت عليها الجمهورية التركية ، وهي العلمانية . يؤكد لنا ذلك الدكتور داود أوغلو وزير الخارجية ورئيس الوزراء الأسبق في حكومة حزب العدالة والتنمية التركي ، في كتابه الاستراتيجية العميقة حيث أكد في صفحة ٤٥٢أن العلاقات التركية الإسرائيلية والتركية الإيرانية علاقات استراتيجية والحرص عليها لئلا تتولد حالة من العزلة في التوازن التركي العربي الإيراني .
فالمقصود بالعلاقات التركية الإسرائيلية [حسب أوغلو] هو المحافظة على التوازن التركي في مواجهة العرب والإيرانيين .
  وحين ننظر إلى الواقع نجد أن العلاقات التركية الصهيونية تخلفت منذ حادثة سفينة مرمرة في الجانب الدبلماسي فقط ، أما العلاقات التجارية والعسكرية فلم نعلم أنها تخلفت إلا بمقادير طبيعية يفرضها التجافي الدبلماسي ، وبذلك لا يمكننا القول كما يقول البعض إن تركيا اختارت عمقها الشعبي العربي الإسلامي ورفضت إسرائيل ، أو أنها اختارت الأمة الإسلامية على العلمانية أو القومية ، أو غير ذلك من المقولات التي يرددها إخواننا من المحللين الإسلاميين بشكل كبير ، بل الذي ينبغي قوله: هو أن تركيا لا تزال ترى خيارها الصحيح هو مبادئ الجمهورية التركية الأتاتوركية ، وأن كل ما فعله حزب العدالة طيلة السنوات الاثنتي عشرة الماضية هو ثورة لتصحيح هذه المبادئ وتجديدها لا ثورة عليها .
 
مشكلة المحللين الإسلاميين السياسيين هي المغالاة في حب كل من أظهر المشاعر الإسلامية حتى يأتي يوم ويصدمون فيه ويكتشفوا أن أمنياتهم فيه كانت بيوتاً من القش ، لذلك تكثر انهياراتهم كلما صُدِمُوا في شخصية كانت تمثل لهم حلماً.  
حزب العدالة والتنمية حَلَّق بالإسلاميين العرب في عالم الأحلام بسبب نجاحاته الاقتصادية ، ورفعه المظالم عن مدارس تحفيظ القرآن والمدارس الدينية ، ووقوفه الإيجابي مع القضية السورية وأحداث غزة ، ومساندته الإخوان المسلمين ضد الانقلاب في مصر ، وهذا التحليق في الأحلام من الإسلاميين العرب مع حزب العدالة ، جعلهم دائمي الاعتذار للحزب في كل مواقفه التي يختلفون معه فيها ، كموقفه من الشذوذ الجنسي كمثال صارخ للخلاف في مجال الأخلاق ، وكموقفه من إيران كمثال صارخ للخلاف في مجال العلاقات السياسية . بل وقفوا معه حتى في ظلمه لحركة إسلامية تركية أخرى وهي حركة الخدمة ، وصدَّقوا إعلام حزب العدالة في كل ما يقوله عنها دون تحريات ، وجعلوا مشاركته في ظلمها خياراً لهم بدلاً من السعي في المصالحة بينهما ، مع أن الصلح خير كما يقول القرآن ، ومع أن العدل هو السماع من الطرفين لا في تصديق طرف دون أخذ أقوال الآخر ، لكن التحليق في الأحلام يفعل أكثر من ذلك .

الإستشكال على كل ما قدَّمتُه قد يأتي في السؤال التالي : كيف يصح القول بأن تركيا حزب العدالة ما زالت على مبادئ الجمهورية التركية ، مع ما نراه من مواقف محمودة لتركيا مع القضايا الإسلامية ، كالوقفة مع أهل غزة وسوريا وبورما ، هل هذه المواقف تتناسب مع مبادئ الجمهورية ؟! الجواب :نعم هي تتناسب مع مبادئ الجمهورية من زاوية رفع الظلم والمطالبة بالحريات ، فهذه مبادئ رفعهتا الجمهورية التركية الأتاتوركية من قبل ، ولا ننسي أن تركيا في زمن أتاتورك وعصمت إينونو وعدنان مندريس حاولت تسويق نفسها في العالم العربي والإسلامي على أنها تقف مع قضايا التحرر العادلة ، ويحضرني هنا موقفها في عهد عدنان مندريس من استقلال ليبيا فقذ كان مشهوداً وقوياً أشاد به مصطفى بن حليمة رئيس الوزراء الليبي حتى عام ١٩٥٤في مذكراته . نعم أنا لا أُقارن الشعور الديني والالتزام الذي يوصف به الرئيس أردوغان ومن حوله بحال معظم رؤساء الجمهورية السابقين والموصوفين بضعف التدين في أنفسهم بل ومحاربة مظاهره في كل تفاصيل الحياة التركية ، لا أقارن بين الأمرين ، وإنما أقول إن المواقف التركية المحمودة حالياً لا تتعارض مع مبادئ الجمهورية ، ولا تعني أبداً أن تركيا قد طلقت العلمانية -كما يقولون- طلاقاً بائناً .
موقف تركيا من مصر ومن إيران لو تم النظر إليه باستقلالية وحياد لدل على حقيقة التفكير التركي الوطني المصلحي ، وليس القِيَمِي الأخلاقي كما يتصور الكثيرون أو كما يحاول الكثيرون أن يُصَوِّرُوا لنا .

فمعلوم أن المواقف المبنية على القِيَم والأخلاق تكون مطردة لا تناقض بينها ، بعكس المواقف المصلحية فإنها تظهر متناقضة حين نُحَاول تصويرها على أنها أخلاقية .
فتركيا تقف موقفاً صُلباً ضد الانقلاب في مصر وما حدث في ميدان رابعة على اعتبار أنه مناف للديمقراطية وحقوق الإنسان ، ولهذا تقاطع النظام المصري وترفض التعامل معه .
ومع ذلك تقف موقفاً متعاوناً بقوة مع النظام الإيراني بالرغم من أعماله القمعية ضد الشعب الإيراني نفسه وتدخله السياسي والعسكري في العراق وسوريا التي يزعم حزب العدالة الوقوف مع شعبها ضد الأسد ، لكنه لا يقف مع شعبها ضد خامنئي .

    فقتلى ميدان رابعة رحمهم الله في أعلى تقدير لهم لا يتجاوزون الأربعة الآلاف ، ومع ذلك تقاطع تركيا مصر من أجلهم دبلوماسيا وتجاريا ، وتؤوي المعارضين للنظام المصري وتفتح لهم الفضاء الإعلامي ليعبروا عن معارضتهم .
في حين بلغ القتلى العراقيون والسوريون مئات الآلاف جراء التدخل الإيراني فضلا عن المهاجرين الذين تؤوي تركيا مليونين منهم ، ومع ذلك تزيد مقادير التبادل التجاري والمشاريع بين البلدين عن المئتي مليار ليرة تركية ، كما لا يُسمح بالهجوم الإعلامي على نظام إيران من داخل تركيا ، بل إن عدداً من الصحف والقنوات التي تهاجم النظام الإيراني تم إغلاقها بحجة انتمائها لحركة الخدمة .

كما أن الحكومة التركية التي تُجَدِّد العلاقة بالصهاينة الذين دمروا غزة وقتلوا أهلها بالطائرات والصواريخ ، ترفض أي علاقة مع النظام المصري بحجة أنه يحاصر غزة.

مما أريد الوصول إليه من هذا المقال : أن العاطفة لا ينبغي أن تكون حكماً في التحليل السياسي وتقييم مواقف الدول والساسة .


د محمد السعيدي
  • 29 يونيو 16
المصدر

مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

تعرف على :أهم بنود الاتفاق التركي الإسرائيلي

تركيا وإسرائيل تتفقان رسمياً على تطبيع العلاقات

20 مليون دولار لتركيا مقابل إبقاء الحصار الإسرائيلي على غزة

تركيا وإسرائيل على طريق التطبيع الدبلوماسي

- تركيا تنقلب على الإخوان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..