الأستاذ محمد مهدي عاكف - المرشد السابع للإخوان المسلمين |
مقدمة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا ... فَأَعَادَهَا مِرَارًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ) .. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إِلَى أُمَّتِهِ .. (فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) رواه البخاري.
هذه هي وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمته على امتداد المكان، وعلى امتداد الزمان، إلى أن يلقوا ربهم عند انقضاء الحياة الدنيا.
ويا لها من وصية عظيمة، ونصيحة بالغة، وكلمات واضحة، وعِظَة نبوية كريمة، بلَّغها لأمته، وأمرهم أن يبلغوها لمن خلفهم؛ لتبقى كنزًا موروثًا للأمة المسلمة، ينقذهم من الدواهي العظام، وينجيهم من الخطوب الجسام، ويحفظهم من الفتن التي تدع الحليم حيرانا .. وكيف لا تحار أيها المسلم وأنت أينما توجهت روَّعتك الدماء المسلمة المسفوكة بأيدٍ مسلمة، وأفزعتك الأرواح التي تزهق، وهالَكَ الخراب والدمار الذي ينزل بديار المسلمين من الاقتتال فيما بينهم.
ونظرة واحدة شاملة إلى العالم العربي والإسلامي كافية لرؤية المآسي الأليمة التي يتخبط فيها، والأحداثِ الرهيبة التي يعيشها، والدماءِ الغزيرة التي تسيل، والخَرابِ الكبير الذي يعُمّ، والمستقبلِ المظلمِ المنذرِ، وهذا الانتحارِ العبثي السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي .. إذا استمرت هذه الحال.
وعلى سبيل المثال
في باكستان: العمليات العسكرية في وادي سوات، وقودها الوحيد دماء المسلمين من جند ومدنيين ..في الصومال: حرب مشتعلة بين الحكومة والأحزاب المسلمة الأخرى، والقتلى من الطرفين مسلمون .. ومن بينهم الأطفال والشيوخ والنساء ..
' في أفغانستان:' منذ سنوات والحرب مستعرة بين قوات المقاومة من جانب، وجيش الدولة والقوات المحتلة من حلف الناتو من جانب آخر .. والمسلمون هم القتلى على الجانبين ..
في العراق: حدِّث عن الدماء التي روت الأرض، والأرواح التي أُزهقت، والمنشآت التي دُمِّرت، وكلها دماء وأرواح مسلمة، وما دُمِّر من ممتلكات المسلمين ومقدراتهم ..
في السودان: قبائل وإن اختلفت أعراقهم فإن الإسلام يجمعهم، والحربُ تأبى أن تضع أوزارها، ومع كل يوم تصعد أرواح مسلمة إلى باريها تشكو ظلم المسلمين بعضهم البعض ..
في لبنان: يؤجج لنيران الفتنة التي أخمدت، ويمكرون بالليل والنهار للإيقاع بها في حرب لا تبقي ولا تذر ..
وفي فلسطين: يصبون الزيت على النار، ويضعون كل العقبات والعراقيل؛ حتى لا يصطلح أبناء الوطن الواحد.
إن أعداءنا بذلك يُزهقون أرواحنا، ويستنزفون خيراتنا، ويخرِّبون ديارنا، ويمزقون شملنا، ونكفيهم مؤونة التفرغ لهم ومواجهة مؤامراتهم ومخططاتهم.
وإن أكثر الدوافع التي تؤدي للقتال بين المسلمين غير جائزة، سواء أكانت طلبًا لمصالح مادية، أو حميَّة لعصبية قبلية، أو تغليبًا لمذهب فقهي أو غير ذلك.
أيتها الأمة المسلمة
أعداؤنا يتربصون بنا الدوائر، ويسعون إلى ردنا إلى الكفر والعصيان بأن يقتل بعضنا بعضًا، ونقع فيما نهانا عنه رسولنا صلى الله عليه وسلم: (لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) .. ولنتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حمل علينا السلاحَ فليس منَّا).واعلموا أن الإسلام هو المستهدف من وراء ذلك كله، وما كان ذلك ليقع لولا ضعف المناعة لدى الشعوب التي ابتعدت عن عقيدتها وتشريع دينها العظيم، الذي يجعل منهم في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد الواحد، كما يجعل منهم بناء متراصًّا يشد بعضه بعضًا، وإلى جانب ذلك يمنحها قوة الممانعة والمقاومة .. وهذا البعد عن الدين جاء مقرونًا بابتلائها بأنظمة وحكومات عماد سياستها الاستبداد والطغيان، وكبت الحريات، ونشر الظلم والفساد.
واعلموا أيها المسلمون أن أعداءنا يغيظهم أن نتَّحد، ويشقيهم أن نترابط ونتحاب ويضنيهم أن نتعاون، ويأبون إلا أن نظل في حرب وخصومة وعداوة، والتاريخ يعيد نفسه وما نراه ليس إلا امتدادًا لما وقع في صدر الإسلام من شَاس بْنُ قَيْسٍ اليهودي، الذي مرَّ على الأوس والخزرج، فغاظه مَا رَأَى مِنْ أُلْفَتِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمْ، وَصَلاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ عَلَى الإِسْلامِ، بَعْدَ الّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْعَدَاوَةِ فِي الْجَاهِلِيّةِ، فَقَالَ: وَاَللّهِ مَا لَنَا مَعَهُمْ إذَا اجْتَمَعَ مَلَؤُهُمْ بِهَا مِنْ قَرَارٍ. فَأَمَرَ فَتًى شَابّا مِنْ يَهُودَ أن يجْلِسْ مَعَهُمْ، ويذكرهم بيَوْمَ بُعَاثَ، الذي اقتتل فِيهِ الأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، فَفَعَلَ. فَتَكَلّمَ الْقَوْمُ عِنْدَ ذَلِكَ وَتَنَازَعُوا وتنادوا: السّلاحَ السّلاحَ .. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ إلَيْهِمْ فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ الْمُهَاجِرِينَ حَتّى جَاءَهُمْ، فَقَالَ: (يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، اللّهَ اللّهَ أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيّةِ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ بَعْدَ أَنْ هَدَاكُمْ اللّهُ لِلإِسْلامِ، وَأَكْرَمَكُمْ بِهِ، وَقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أَمْرَ الْجَاهِلِيّةِ، وَاسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِنْ الْكُفْرِ، وَأَلّفَ بِهِ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ)، فَعَرَفَ الْقَوْمُ أَنّهَا نَزْغَةٌ مِنْ الشّيْطَانِ، وَكَيْدٌ مِنْ عَدُوّهِمْ، فَبَكَوْا وَعَانَقَ الرّجَالُ مِنْ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمّ انْصَرَفُوا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم سَامِعِينَ مُطِيعِينَ قَدْ أَطْفَأَ اللّهُ عَنْهُمْ كَيْدَ عَدُوّ اللّهِ شَأْسِ بْنِ قَيّسْ. فَأَنْزَلَ اللّهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (آل عمران: 101).
فهل نفيق يا قوم، ونخلع عن أنفسنا كل دعوى للجاهلية، تدفع بنا إلى أن يسفك بعضنا دماء بعض؟
وهل نسمع لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم حتى نطفئ كيد أبناء شاس بن قيس في عصرنا الذين يفسدون في الأرض، وينفخون في بوق الحروب، وأينما حلوا أوقدوا للحرب نارًا؟
طريق الإنقاذ
أيها المسلمون المتقاتلون:والله لا أجد لكم ولنا إنقاذًا وخلاصًا إلا بعودة صادقة إلى الإسلام المتمثل في كتاب الله الخالد، وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني لعلى يقين بأن سبيل النجاة يتمثل في هذه الحقائق:
1- الاعتصام بالله عز وجل والتوكل عليه: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (آل عمران: 101).
2- المسلمون أمة واحدة: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ (المؤمنون: 52).
3- الأخوة الإسلامية رباط مقدس: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون﴾ (الحجرات: 10)، هذه الأخوَّة تجمعنا وتحول بيننا وبين الفرقة: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (آل عمران: 103).
4- حرمة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم: (كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ) .. (المسلمُ من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمنُ مَنْ أَمِنه الناسُ على دمائهم وأموالهم).
ويا أيها المتقاتلون
لكم في "الإخوان المسلمون" أسوة؛ فقد نزلت بهم الضربات المتوالية؛ من إعدام وتعذيب وسجن وما رفعوا السلاح في وجه من عذبوهم من المسلمين، ولا ثأروا لقتلاهم، وإن سلاحهم لم يرفع إلا في وجه المحتل الغاصب، وإنهم يعتبرون دم المسلم وعرضه وماله خطًّا أحمر يحرم اجتيازه، واحترام هذا الخط من المقاومة الإسلامية على أرض فلسطين خير شاهد.5- الواجب على الأمة الإسلامية التدخُّلُ للصُّلْح بين المتقاتلين بمُقتضى قوله تعالى: ﴿وإنْ طائفتانِ مِنَ المؤمنينَ اقْتَتَلُوا فأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فإنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا على الأُخرَى فقَاتِلُوا التي تَبْغِي حتَّى تَفِيءَ إلَى أمْرِ اللهِ فإنْ فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بيْنهمَا بالعدْلِ وأَقْسِطُوا إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقسطينَ﴾ (الحجرات: 8-9)، وبموجب هذه الآية يجب على المسلمين أن يضعوا حدًّا لهذه المذابح المرعبة التي يَبرَأُ منها الدين، وتبرأ منها الإنسانية، ويبرأ منها ويشجبها كل خلق كريم.
6- أن يستحضر المسلمون المتقاتلون فيما بينهم الوقفة بين يدي الله، وسؤالهم عن كل قطرة دم مسلمة أريقت، وعن كل روح أزهقت بأي ذنب قتلت، ولا يحسبوا أنهم يفلتون من الحساب.. أو ينجون من العقاب.. ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيما﴾ (النساء: 93).
7- أن نكف عن التراشق بالسباب والطعن وعن كل ما يوغر الصدور، ويولد العداوة والبغضاء، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (سِبَابُ المسلم فُسُوق وقتاله كُفر).
8- أن يؤدي كلُّ مسلم، وكل إنسان حرٍّ شريف دوره في النصح والصلح بأفضل ما يستطيع، وأقصى ما يستطيع، فإن ذلك من باب النصيحة الواجبة: عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (الدِّينُ النَّصِيحَةُ .. قُلْنَا لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ) (رواه مسلم).
تحذير ونداء
ألم يأن للعالم الإسلامي أن يستيقظ وينتبه لما يحاك له، ولا يسقط في الهوة السحيقة التي أعدت لدفنه فيها؟، ألا يوقظه ما فعله ويفعله الصهاينة في فلسطين بوجه عام وغزة بوجه خاص، حتى تتوجه جميع الجهود المبذولة لنصرة المقاومة ودحر العدوان الحقيقي للأمة الإسلامية والعربية.وألم يأن للعالم الغربي أن يكف عن مكره وكيده وتدخله في شئوننا؟ خير له أن يرحل قبل أن تحل به الدواهي، وليكن له في التاريخ عبرة، فما حل مستعمر ببلد إلا ورحل خاسئًا مدحورًا: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ (الشعراء: 227).
ونحن نهيب بالأمة العربية والإسلامية حكومات وشعوبًا، وخاصة العلماءَ والمثقّفين والقادة الشعبيين .. أن يقوموا بدورهم وأن ينهضوا بواجبهم، وأن يتعاونوا فيما بينهم بجدّ ووعي وإخلاص .. على إنقاذ الأمة من الهلاك والدمار، كما ندعو الهيئات الإسلامية، خاصة منظمة المؤتمر الإسلامي أن تضطلع بدورها في إصلاح ذات البين، ولا تألو جهدًا ولا تدخر وسعًا في سبيل حقن دماء المسلمين.
ودور اتحاد علماء المسلمين والمجامع الفقهية في ذلك من الأهمية بمكان؛ حيث يمكنهم الاتصال بعلماء الأحزاب المتقاتلة، للوقوف على سبل التقريب بين وجهات النظر، وإقناع جميع الأطراف بأن هذه الحرب لا يفرح بها إلا الأعداء، ولا يخسر فيها إلا المسلمون، وأن الأجدر بهم جميعًا أن ينصهروا في بوتقة الإسلام العظيم ويتحدوا فيما بينهم لمواجهة كيد الأعداء ومكرهم.
لو فعلنا ذلك وبذلنا غاية الجهد وأخلصنا النوايا فإن الله معنا ولن يترنا أعمالنا، وسيحبط مكر أعدائنا، وسيحل بهم وعيد الله في موعده الذي قدره: ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا﴾ (الكهف: 59).
والله أكبر ولله الحمد..
المصدر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..