لا يختلف اثنان على غرابة تخطيط
الأحياء في مدينة الرياض، وتزداد هذه الغرابة في الأحياء الحديثة
نسبياً، أي التي تقع شمال أحياء بداية الطفرة الاقتصادية الأولى.
* باحث وأكاديمي سعودي.
نسبياً، أي التي تقع شمال أحياء بداية الطفرة الاقتصادية الأولى.
فمن أعجب غرائب تخطيط هذه الأحياء شبه تماثلها بكونها في الغالب على شكل مُربَّع
(الطول والعرض حوالى كيلومترين). وكذلك من العجب في تخطيط هذه الأحياء وجود شوارع
تجارية بعرض بين 30 و 36 متراً في وسط هذا الحي، ولا تنفذ إلى الشوارع الرئيسة
المُحيطة بهذا الحي، بل إن بعضها أو بالأحرى «الخوازيق»، لا يتجاوز طولها
كيلومتراً واحداً. لذلك لا غرابة في كثرة الدكاكين وانتشار سكن العمالة الوافدة،
وكذلك كثرة «التفحيط والتجديع» في مثل هذه الشوارع شبه المعزولة عن أي حركة
مرورية.
وزاد من «عظمة» هذا الإبداع في تخطيط الرياض أن أغلقت «الأمانة» وبلدياتها الفرعية خلال الأعوام الأخيرة الفتحات في الجزيرة الفاصلة بين المسارين في هذه الشوارع «الخوازيق»، وهو ما جعل السير عكس الاتجاه هو القاعدة وليس الاستثناء في هذه الشوارع، استهتاراً وكسلاً من السائقين للسير إلى نهاية الشارع ثم العودة عند التقاءه بشارع «خازوق» آخر بعرض 30 إلى 36 متراً، ومن ثم تضاعفت الحوادث المرورية على هذه الشوارع.
وزاد من «عظمة» هذا الإبداع في تخطيط الرياض أن أغلقت «الأمانة» وبلدياتها الفرعية خلال الأعوام الأخيرة الفتحات في الجزيرة الفاصلة بين المسارين في هذه الشوارع «الخوازيق»، وهو ما جعل السير عكس الاتجاه هو القاعدة وليس الاستثناء في هذه الشوارع، استهتاراً وكسلاً من السائقين للسير إلى نهاية الشارع ثم العودة عند التقاءه بشارع «خازوق» آخر بعرض 30 إلى 36 متراً، ومن ثم تضاعفت الحوادث المرورية على هذه الشوارع.
طلب منطقي
مررت بتجربة حديثة مع أمانة الرياض خلال الأسابيع الماضية، في أمر ظننت مخطئاً أنه منطقي جداً، أو كما يقول الأكاديميين، أمر أو إجراء «كلاسيكي»، ولكني كم كنت مخطئاً في تصوري، مثل خطأ المهندسين الجهابذة الذين خططوا أحياء مدينة الرياض. وإليكم القصة.
الموضوع باختصار يتمثل في بدء وزارة التربية والتعليم بناء مدرسة متوسطة في الحي على أرض مخططة أساساً لتكون مدرسة ابتدائية، حيث وجد جيران المدرسة «منطقية» نقل المدخل والمواقف من جنوب أرض المدرسة إلى شمالها، للأسباب الآتية:
- الواجهة الشمالية لأرض المدرسة تقع أمام مجمع سكني من دون مداخل على طول امتداد شارع متفرع من طريق رئيس بعرض 80 متراً.
- الشارع شمال أرض المدرسة شارع مستمر يرتبط شرقاً بطريق رئيس، بعرض 80 متراً وغرباً بطريق تجاري بمسارين وبعرض 30 متراً.
- إدارة التعليم صممت مدخل المدرسة ومواقف السيارات، لتكون على واجهة أرض المدرسة الجنوبية الواقعة على شارع صغير لا يرتبط مباشرةً بالطريق الرئيس، وهو ما سيتسبب في حدوث حركة مرورية مكثفة وسط الحي على شوارع صغيرة، ومن ثم التسبب في إزعاج غير مبرر لسكان المنطقة المحيطة بالمدرسة.
تواصل جيرانُ المدرسة مع الإدارة الهندسية في وزارة التربية والتعليم مبدين رغبتهم في تغيير مدخل المدرسة ومواقفها من جنوب الأرض إلى شمالها، فأفادتهم بعدم ممانعتها تغيير مدخل المدرسة إذا جاءتهم موافقة أمانة مدينة الرياض على هذا التغيير.
كلفني الجيران بالتواصل مع «الأمانة»، فقدمت خطاباً للأمين من جيران المدرسة المتضررين من المدخل الحالي، فرحب بي ترحيباً جميلاً، وأحال الخطاب إلى وكيل الأمانة للتعمير والمشاريع. وبمجرد خروجي من مبنى الأمانة وصلتني رسالة على الجوال تفيدني بتسلم مكتب الأمين معاملتي، وبعدها بدقائق وصلتني أخرى تفيد بإحالة المعاملة من مكتب الأمين إلى مكتب الوكيل للتعمير والمشاريع. ذهلت من هذه السرعة في تواصل «الأمانة» مع مراجعيها، وكذلك سرعة انتقال المعاملة من مكتب إلى آخر، ومما زاد شدة ذهولي اتصال مدير إدارة مهمة في «الأمانة» في اليوم نفسه يطمئني بأنَّ «معاملتي في إيدٍ أمينة، وأنَّ الموضوع سينتهي كما طلبنا بخطابنا خلال أيام معدودة». على رغم عدم معرفتي به مسبقاً، قلت في نفسي: ما هذا الحظ الذي هبط علينا من جهاز بيروقراطي عتيد؟ استمر تواصلي مع مدير الإدارة أسبوعياً، وكان يقول في كل مرة وبثقة مفرطة: الموضوع سينتهي، كما طلبتم في خطابكم للأمين نهاية هذا الأسبوع، على الأكثر. ولكن «نهاية هذا الأسبوع» تحولت إلى شهر كاملاً بشحمه ولحمه، فرأيت ضرورة الاتصال مباشرة بوكيل الأمين للتعمير والمشاريع، لمعرفة قراره بشأن خطاب جيران المدرسة الذي أحاله إليه الأمينُ قبل شهر.
مررت بتجربة حديثة مع أمانة الرياض خلال الأسابيع الماضية، في أمر ظننت مخطئاً أنه منطقي جداً، أو كما يقول الأكاديميين، أمر أو إجراء «كلاسيكي»، ولكني كم كنت مخطئاً في تصوري، مثل خطأ المهندسين الجهابذة الذين خططوا أحياء مدينة الرياض. وإليكم القصة.
الموضوع باختصار يتمثل في بدء وزارة التربية والتعليم بناء مدرسة متوسطة في الحي على أرض مخططة أساساً لتكون مدرسة ابتدائية، حيث وجد جيران المدرسة «منطقية» نقل المدخل والمواقف من جنوب أرض المدرسة إلى شمالها، للأسباب الآتية:
- الواجهة الشمالية لأرض المدرسة تقع أمام مجمع سكني من دون مداخل على طول امتداد شارع متفرع من طريق رئيس بعرض 80 متراً.
- الشارع شمال أرض المدرسة شارع مستمر يرتبط شرقاً بطريق رئيس، بعرض 80 متراً وغرباً بطريق تجاري بمسارين وبعرض 30 متراً.
- إدارة التعليم صممت مدخل المدرسة ومواقف السيارات، لتكون على واجهة أرض المدرسة الجنوبية الواقعة على شارع صغير لا يرتبط مباشرةً بالطريق الرئيس، وهو ما سيتسبب في حدوث حركة مرورية مكثفة وسط الحي على شوارع صغيرة، ومن ثم التسبب في إزعاج غير مبرر لسكان المنطقة المحيطة بالمدرسة.
تواصل جيرانُ المدرسة مع الإدارة الهندسية في وزارة التربية والتعليم مبدين رغبتهم في تغيير مدخل المدرسة ومواقفها من جنوب الأرض إلى شمالها، فأفادتهم بعدم ممانعتها تغيير مدخل المدرسة إذا جاءتهم موافقة أمانة مدينة الرياض على هذا التغيير.
كلفني الجيران بالتواصل مع «الأمانة»، فقدمت خطاباً للأمين من جيران المدرسة المتضررين من المدخل الحالي، فرحب بي ترحيباً جميلاً، وأحال الخطاب إلى وكيل الأمانة للتعمير والمشاريع. وبمجرد خروجي من مبنى الأمانة وصلتني رسالة على الجوال تفيدني بتسلم مكتب الأمين معاملتي، وبعدها بدقائق وصلتني أخرى تفيد بإحالة المعاملة من مكتب الأمين إلى مكتب الوكيل للتعمير والمشاريع. ذهلت من هذه السرعة في تواصل «الأمانة» مع مراجعيها، وكذلك سرعة انتقال المعاملة من مكتب إلى آخر، ومما زاد شدة ذهولي اتصال مدير إدارة مهمة في «الأمانة» في اليوم نفسه يطمئني بأنَّ «معاملتي في إيدٍ أمينة، وأنَّ الموضوع سينتهي كما طلبنا بخطابنا خلال أيام معدودة». على رغم عدم معرفتي به مسبقاً، قلت في نفسي: ما هذا الحظ الذي هبط علينا من جهاز بيروقراطي عتيد؟ استمر تواصلي مع مدير الإدارة أسبوعياً، وكان يقول في كل مرة وبثقة مفرطة: الموضوع سينتهي، كما طلبتم في خطابكم للأمين نهاية هذا الأسبوع، على الأكثر. ولكن «نهاية هذا الأسبوع» تحولت إلى شهر كاملاً بشحمه ولحمه، فرأيت ضرورة الاتصال مباشرة بوكيل الأمين للتعمير والمشاريع، لمعرفة قراره بشأن خطاب جيران المدرسة الذي أحاله إليه الأمينُ قبل شهر.
مخطط أثري
كانت المفاجأة الكبرى حين التقيت وكيل الأمانة للتعمير والمشاريع بمكتبه، فعلى رغم لطفه وسماحته، إلا أن هذا اللطف وتلك السماحة نغصهما مخطط «مفروش» على طاولته بدت عليه عوامل التعرية من شدة اصفرار ورقه، إذ كان مخطط الحي الذي نسكنه، الذي يبلغ من العمر حوالى نصف قرن، ثم فوجئت بالأمين يقول: نريد موافقة الجارين الشماليين (رقم 1 و 2 في الرسم المرفق)، ولكن الطريف في الأمر أنه كان يحضر اللقاء أحد جهابذة «الأمانة» الذي قال: كذلك نريد حضور صاحب المجمع السكني والجارين الشماليين ومعهم صكوك أراضيهم وبطاقات أحوالهم، للتأكد من موافقتهم. فحمدت الله أنه لم يطلب صكوك زواج هذين الجارين وبقية سكان المجمع السكني.
حاولت جاهداً توضيح النقاط الثلاث السابقة للوكيل وزميله (صاحب طلب الصكوك)، ولكن من دون جدوى. فقد أصرا على الالتزام بما هو موجود في مخطط للحي عمره حوالى نصف قرن، بغض النظر عن أية مستجدات على أرض الواقع.
كانت المفاجأة الكبرى حين التقيت وكيل الأمانة للتعمير والمشاريع بمكتبه، فعلى رغم لطفه وسماحته، إلا أن هذا اللطف وتلك السماحة نغصهما مخطط «مفروش» على طاولته بدت عليه عوامل التعرية من شدة اصفرار ورقه، إذ كان مخطط الحي الذي نسكنه، الذي يبلغ من العمر حوالى نصف قرن، ثم فوجئت بالأمين يقول: نريد موافقة الجارين الشماليين (رقم 1 و 2 في الرسم المرفق)، ولكن الطريف في الأمر أنه كان يحضر اللقاء أحد جهابذة «الأمانة» الذي قال: كذلك نريد حضور صاحب المجمع السكني والجارين الشماليين ومعهم صكوك أراضيهم وبطاقات أحوالهم، للتأكد من موافقتهم. فحمدت الله أنه لم يطلب صكوك زواج هذين الجارين وبقية سكان المجمع السكني.
حاولت جاهداً توضيح النقاط الثلاث السابقة للوكيل وزميله (صاحب طلب الصكوك)، ولكن من دون جدوى. فقد أصرا على الالتزام بما هو موجود في مخطط للحي عمره حوالى نصف قرن، بغض النظر عن أية مستجدات على أرض الواقع.
رأي وزارة التربية والتعليم
وإزاء تمسك وكيل الأمين بطلبه وإصراره عليه، رأى جيران المدرسة ضرورة العودة إلى الأمين وتحكيمه في هذا المأزق التاريخي، فقدموا له خطاباً ثانياً يطلبون فيه تشكيل لجنة من «الأمانة» لمعاينة الوضع على الواقع ودرس تأثير حركة السير في ظل المدخل الحالي والمدخل البديل، وسيقبلون بقرار اللجنة مهما كان. ولكنه أحال الخطاب مرة أخرى إلى وكيل الأمين للتعمير والمشاريع، الذي أعادهم إلى نقطة الصفر مرة أخرى، بإصراره على ضرورة موافقة الجارين الشماليين.
عند ذلك ذهبتُ مرة ثالثة لمقابلة الأمين، وأخبرته بأنَّ الجيران يرضون بحكمه بشأن أحقية مطالبتهم بتغيير المدخل من خلال تشكيل لجنة فنية تزور الموقع ثم تقرر، وعرضت عليه صورة الحي من «غوغل إيرث» ليكون لديه تصور واضح، فقال: لا أستطيع البت في الموضوع أو تشكيل لجنة من «الأمانة»، ولا بد من مخاطبة وزارة التربية والتعليم لأخذ رأيهم في تغيير المدخل، ثم اتصل مباشرة بوكيله للتعمير والمشاريع طالباً منه مخاطبة وزارة التربية والتعليم في ذلك.
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن في هذه القضية العويصة: أيهما أدرى فنياً بالموقع الأفضل لمدخل مدرسة من حيث تأثيره في حركة السير والزحمة في الحي: وزارة التربية والتعليم أم أمانة الرياض.
والسؤال الثاني: هل يُعقل الاحتكام إلى مخطط عمره نصف قرن وكأنه «قُرآن» لا يمكن المساس به؟ أوَلَيسَ مصلحة الغالبية وسهولة حركة السير مقدمة على مصلحة شخصين؟ وأخيراً: هل هذا التسويف والبرودة في التعامل مع مطلب مواطنين يهدف إلى «تمطيط» الإجراءات حتى يقطع المقاول شوطاً كبيراً في بناء المدرسة، ومن ثم وضْع الجيران المتظلمين أمام الأمر الواقع باستحالة تعديل المدخل، ولاسيما إذا ما علمنا بأنَّ الطلب قُدِّم إلى الأمين، والمقاول لا يزال في مرحلة تنظيف الأرض من المخلفات؟
لا يخفى على المطّلعين على العمل البيروقراطي أن الخاسر في قضية بين مواطن وجهة حكومية يتخذ رئيسها قراراً خاطئاً بشأن المواطن، هو الطرف الضعيف (أي المواطن) حتى لو حكم ديوان المظالم بخطأ قرار هذا المسؤول، لأنه إما أن يكون حكم الديوان بعد فوات الأوان ووقوع الفأس في الرأس، وإما بعد تَكبُّد المواطن الكثير من المعاناة المالية والمعنوية في متابعة قضيته في ديوان المظالم وبقية الأجهزة الحكومية، في حين ينعم المسؤول البيروقراطي بالراحة والطمأنينة في مكتبه العامر، ولن يطاوله أي ضرر أو حتى لفت نظر جراء قراره الخاطئ.
لذلك، قد يعتب بعض القراء أن هذه القضية «شخصية»، ولا تستحق الكتابة عنها صحافياً. ومع صحة جزئية «الشخصية»، كوني أحد هؤلاء الجيران، إلا أن الكتابة عن هذه القضية أمر مهم جداً، لإيضاح أن «الفكر» الذي يدير أمانة مدينة يقطنها نحو سبعة ملايين نسمة هو فكر ربما يعود إلى نصف قرن من الزمن حينما كان سكان مدينة الرياض لا يتجاوزون مليون نسمة، إذ كان المأمول أنْ يأمر الأمين أو وكيله بتشكيل لجنة هندسية فنية تدرس الوضع على الواقع كما هو الآن، وليس الاحتكام إلى مخطط عمره نصف قرن، أو الإصرار على أخذ رأي وزارة وظيفتها الأساسية التربية والتعليم، وليس البحث في هندسة الحركة المرورية واحتمالات إزعاج غالبية السكان المحيطين بالمدرسة.
وإزاء تمسك وكيل الأمين بطلبه وإصراره عليه، رأى جيران المدرسة ضرورة العودة إلى الأمين وتحكيمه في هذا المأزق التاريخي، فقدموا له خطاباً ثانياً يطلبون فيه تشكيل لجنة من «الأمانة» لمعاينة الوضع على الواقع ودرس تأثير حركة السير في ظل المدخل الحالي والمدخل البديل، وسيقبلون بقرار اللجنة مهما كان. ولكنه أحال الخطاب مرة أخرى إلى وكيل الأمين للتعمير والمشاريع، الذي أعادهم إلى نقطة الصفر مرة أخرى، بإصراره على ضرورة موافقة الجارين الشماليين.
عند ذلك ذهبتُ مرة ثالثة لمقابلة الأمين، وأخبرته بأنَّ الجيران يرضون بحكمه بشأن أحقية مطالبتهم بتغيير المدخل من خلال تشكيل لجنة فنية تزور الموقع ثم تقرر، وعرضت عليه صورة الحي من «غوغل إيرث» ليكون لديه تصور واضح، فقال: لا أستطيع البت في الموضوع أو تشكيل لجنة من «الأمانة»، ولا بد من مخاطبة وزارة التربية والتعليم لأخذ رأيهم في تغيير المدخل، ثم اتصل مباشرة بوكيله للتعمير والمشاريع طالباً منه مخاطبة وزارة التربية والتعليم في ذلك.
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن في هذه القضية العويصة: أيهما أدرى فنياً بالموقع الأفضل لمدخل مدرسة من حيث تأثيره في حركة السير والزحمة في الحي: وزارة التربية والتعليم أم أمانة الرياض.
والسؤال الثاني: هل يُعقل الاحتكام إلى مخطط عمره نصف قرن وكأنه «قُرآن» لا يمكن المساس به؟ أوَلَيسَ مصلحة الغالبية وسهولة حركة السير مقدمة على مصلحة شخصين؟ وأخيراً: هل هذا التسويف والبرودة في التعامل مع مطلب مواطنين يهدف إلى «تمطيط» الإجراءات حتى يقطع المقاول شوطاً كبيراً في بناء المدرسة، ومن ثم وضْع الجيران المتظلمين أمام الأمر الواقع باستحالة تعديل المدخل، ولاسيما إذا ما علمنا بأنَّ الطلب قُدِّم إلى الأمين، والمقاول لا يزال في مرحلة تنظيف الأرض من المخلفات؟
لا يخفى على المطّلعين على العمل البيروقراطي أن الخاسر في قضية بين مواطن وجهة حكومية يتخذ رئيسها قراراً خاطئاً بشأن المواطن، هو الطرف الضعيف (أي المواطن) حتى لو حكم ديوان المظالم بخطأ قرار هذا المسؤول، لأنه إما أن يكون حكم الديوان بعد فوات الأوان ووقوع الفأس في الرأس، وإما بعد تَكبُّد المواطن الكثير من المعاناة المالية والمعنوية في متابعة قضيته في ديوان المظالم وبقية الأجهزة الحكومية، في حين ينعم المسؤول البيروقراطي بالراحة والطمأنينة في مكتبه العامر، ولن يطاوله أي ضرر أو حتى لفت نظر جراء قراره الخاطئ.
لذلك، قد يعتب بعض القراء أن هذه القضية «شخصية»، ولا تستحق الكتابة عنها صحافياً. ومع صحة جزئية «الشخصية»، كوني أحد هؤلاء الجيران، إلا أن الكتابة عن هذه القضية أمر مهم جداً، لإيضاح أن «الفكر» الذي يدير أمانة مدينة يقطنها نحو سبعة ملايين نسمة هو فكر ربما يعود إلى نصف قرن من الزمن حينما كان سكان مدينة الرياض لا يتجاوزون مليون نسمة، إذ كان المأمول أنْ يأمر الأمين أو وكيله بتشكيل لجنة هندسية فنية تدرس الوضع على الواقع كما هو الآن، وليس الاحتكام إلى مخطط عمره نصف قرن، أو الإصرار على أخذ رأي وزارة وظيفتها الأساسية التربية والتعليم، وليس البحث في هندسة الحركة المرورية واحتمالات إزعاج غالبية السكان المحيطين بالمدرسة.
التفكير خارج الصندوق
عندما عدنا من البعثة في صيف 1404هـ (1984)، كانت المملكة تحتل المركز الأول في العالم العربي، بل وتتقدم على كثير من دول جنوب شرق آسيا. إذ دُشِّنت مدينتا الجبيل وينبع الصناعيتان بمشاريعهما البتروكيماوية العملاقة، وانتُهي من أكبر مدينة جامعية في الشرق الأوسط (الملك سعود)، وتدشين أجمل مطار (الملك خالد بالرياض)، وفوق هذا وذاك كان متوسط دخل الفرد يوازي قرينه الأميركي.
تلك الإنجازات الاقتصادية التنموية لم تكن لتتم لو استعان المخططون آنذاك بمخططات عمرها نصف قرن، كما هي الحال في أمانة مدينة الرياض مع قضية مدخل المدرسة، ولكنهم فكّروا «خارج الصندوق»، فحققت المملكة تلك الإنجازات الاقتصادية التنموية العظيمة، خلال فترة زمنية قصيرة جداً.
لذلك، يبدو أن كبار بيروقراطيينا بعد الطفرة الأولى لجأوا إلى مخططات ورؤى وفكر وأفكار عمرها نصف قرن، ومن ثم لا غرابة أن ينتهي بنا الأمر إلى واقعنا الاقتصادي الحالي المؤلم. فعلى سبيل المثال: بعد أن كانت الخطوط الجوية السعودية الأكبر على مستوى الشرق الأوسط والوحيدة التي تطير من دون توقف إلى أميركا، أصبحت الآن في ذيل القائمة الخليجية. وبعد أن كان مطار الملك خالد بالرياض درة المطارات العالمية أصبح الآن من التحف الأثرية. وبعد أن كان راتب عام ونصف العام للدكتور الجامعي يشتري أرضاً سكنية في حي راقٍ، أصبح الآن يحتاج إلى رواتب 15 عاماً لشراء الأرض نفسها. وبعد أن كان الدكتور الجامعي يحتاج إلى راتب شهر ونصف الشهر لشراء «عراوي» نيسان أو تويوتا، أصبح الآن يحتاج إلى رواتب سبعة أشهر. وغيرها من المقارنات الاقتصادية المؤلمة التي سببها الرئيس رؤية وفكر إداري مرتبط أو مرتهن لحقبة زمنية غابرة.
عندما عدنا من البعثة في صيف 1404هـ (1984)، كانت المملكة تحتل المركز الأول في العالم العربي، بل وتتقدم على كثير من دول جنوب شرق آسيا. إذ دُشِّنت مدينتا الجبيل وينبع الصناعيتان بمشاريعهما البتروكيماوية العملاقة، وانتُهي من أكبر مدينة جامعية في الشرق الأوسط (الملك سعود)، وتدشين أجمل مطار (الملك خالد بالرياض)، وفوق هذا وذاك كان متوسط دخل الفرد يوازي قرينه الأميركي.
تلك الإنجازات الاقتصادية التنموية لم تكن لتتم لو استعان المخططون آنذاك بمخططات عمرها نصف قرن، كما هي الحال في أمانة مدينة الرياض مع قضية مدخل المدرسة، ولكنهم فكّروا «خارج الصندوق»، فحققت المملكة تلك الإنجازات الاقتصادية التنموية العظيمة، خلال فترة زمنية قصيرة جداً.
لذلك، يبدو أن كبار بيروقراطيينا بعد الطفرة الأولى لجأوا إلى مخططات ورؤى وفكر وأفكار عمرها نصف قرن، ومن ثم لا غرابة أن ينتهي بنا الأمر إلى واقعنا الاقتصادي الحالي المؤلم. فعلى سبيل المثال: بعد أن كانت الخطوط الجوية السعودية الأكبر على مستوى الشرق الأوسط والوحيدة التي تطير من دون توقف إلى أميركا، أصبحت الآن في ذيل القائمة الخليجية. وبعد أن كان مطار الملك خالد بالرياض درة المطارات العالمية أصبح الآن من التحف الأثرية. وبعد أن كان راتب عام ونصف العام للدكتور الجامعي يشتري أرضاً سكنية في حي راقٍ، أصبح الآن يحتاج إلى رواتب 15 عاماً لشراء الأرض نفسها. وبعد أن كان الدكتور الجامعي يحتاج إلى راتب شهر ونصف الشهر لشراء «عراوي» نيسان أو تويوتا، أصبح الآن يحتاج إلى رواتب سبعة أشهر. وغيرها من المقارنات الاقتصادية المؤلمة التي سببها الرئيس رؤية وفكر إداري مرتبط أو مرتهن لحقبة زمنية غابرة.
حِكمة أبي وائل
تحدثت بقضية طلب الجيران تغيير باب المدرسة مع صديق ومهندس مخضرم عمل في «الأمانة» أعواماً عدة، فقال بمنطقية طلب الجيران تغيير مدخل المدرسة، وأضاف أن كبار بيروقراطيي «الأمانة» لا يريدون أن يدخلوا طرفاً في مثل هذه الأمور، فيفضلون دائماً إلقاء المشكلة على الأطراف أخرى. للتخلص من المسؤولية، وإلا فإن المنطق يستوجب تشكيل «الأمانة» لجنة فنية تعطي قرارها الفني بعد معاينة الموقع والشوارع المؤدية إلى المدرسة وحركة السير واتجاهاتها. ولكن صديقي الغالي «طين» تعاطفه مع قضيتنا المنطقية بتذكيري «بحكمة أبي وائل» الشهيرة التي سبق أن قصصتها عليه. فقلت له، وعلى مضض: صدقت، فما حكمة أبي وائل؟
قبل أعوام قليلة كنا في «ثلوثية أبي وائل»، حيث احتد النقاش حول موضوع نسيت كنهه، وأبدى كل شخص وجهة نظره في الموضوع. وكانت الغرابة أن أبا وائل وعلى غير العادة، كان صامتاً يداعب «لي الشيشة» ويتفنن في أصوات فرقعاتها وخروج دخانها من منخريه، في الوقت نفسه الذي كان يستمع ويتابع باهتمام كبير وجهات النظر شبه المتطابقة خلال النقاش الحامي، ثم فوجئ الجميع بارتفاع صوت فرقعات شيشة أبي وائل بشدة حتى طغت على أصواتنا، فاضطررنا إلى الصمت ريثما تتوقف فرقعاته ويختفي الدخان الذي أخفى وجه أبي وائل، إذ لم نستطع رؤيته، وعندما تطاير دخان الشيشة وبدت ملامح أبي وائل تظهر للحضور قطع صمته وقال بوجهة نظره التي «أخرست» جميع وجهات النظر المنطقية، إذ قال بلهجته المكاوية الجميلة: «يا جماعة، إنتو تناقشوا الموضوع بمنطق، لكن أمور البلد ماشيه بغير منطق» فضج الحضور بالضحك الهيستيري، وأجمعوا على أن أبا وائل قطع قول كل حكيم. ويبدو أن هذه هي الحال في مطالبة جيران المدرسة للأمانة، إذ وضعوا أسباباً «منطقية»، لتبرير مطلبهم تغيير مدخل المدرسة، في حين أن «الأمانة» تنظر للطلب بمبررات «غير منطقية».
تحدثت بقضية طلب الجيران تغيير باب المدرسة مع صديق ومهندس مخضرم عمل في «الأمانة» أعواماً عدة، فقال بمنطقية طلب الجيران تغيير مدخل المدرسة، وأضاف أن كبار بيروقراطيي «الأمانة» لا يريدون أن يدخلوا طرفاً في مثل هذه الأمور، فيفضلون دائماً إلقاء المشكلة على الأطراف أخرى. للتخلص من المسؤولية، وإلا فإن المنطق يستوجب تشكيل «الأمانة» لجنة فنية تعطي قرارها الفني بعد معاينة الموقع والشوارع المؤدية إلى المدرسة وحركة السير واتجاهاتها. ولكن صديقي الغالي «طين» تعاطفه مع قضيتنا المنطقية بتذكيري «بحكمة أبي وائل» الشهيرة التي سبق أن قصصتها عليه. فقلت له، وعلى مضض: صدقت، فما حكمة أبي وائل؟
قبل أعوام قليلة كنا في «ثلوثية أبي وائل»، حيث احتد النقاش حول موضوع نسيت كنهه، وأبدى كل شخص وجهة نظره في الموضوع. وكانت الغرابة أن أبا وائل وعلى غير العادة، كان صامتاً يداعب «لي الشيشة» ويتفنن في أصوات فرقعاتها وخروج دخانها من منخريه، في الوقت نفسه الذي كان يستمع ويتابع باهتمام كبير وجهات النظر شبه المتطابقة خلال النقاش الحامي، ثم فوجئ الجميع بارتفاع صوت فرقعات شيشة أبي وائل بشدة حتى طغت على أصواتنا، فاضطررنا إلى الصمت ريثما تتوقف فرقعاته ويختفي الدخان الذي أخفى وجه أبي وائل، إذ لم نستطع رؤيته، وعندما تطاير دخان الشيشة وبدت ملامح أبي وائل تظهر للحضور قطع صمته وقال بوجهة نظره التي «أخرست» جميع وجهات النظر المنطقية، إذ قال بلهجته المكاوية الجميلة: «يا جماعة، إنتو تناقشوا الموضوع بمنطق، لكن أمور البلد ماشيه بغير منطق» فضج الحضور بالضحك الهيستيري، وأجمعوا على أن أبا وائل قطع قول كل حكيم. ويبدو أن هذه هي الحال في مطالبة جيران المدرسة للأمانة، إذ وضعوا أسباباً «منطقية»، لتبرير مطلبهم تغيير مدخل المدرسة، في حين أن «الأمانة» تنظر للطلب بمبررات «غير منطقية».
* باحث وأكاديمي سعودي.
د/محمد القنيـبط
الأربعاء، ٩ أبريل ٢٠١٤
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
هل تخيلت ما يحدث في البطحاء .. عندما يغيب الرقيب !!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..