الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده.
أما بعدُ:
فإنَّ منَ الأمورِ المعلومة المسلَّمة في عقيدة أهل
السُّنَّة والجماعة - التفريقَ بين الحكم على الاعتقاد، أو
القول، أو الفعل بأنَّه كُفر أو شرك، وبين الحكم على المسلِم المعيَّن الذي اعتقد اعتقادًا كفريًّا، أو فَعَل أمرًا مُكَفِّرًا، أو قال قولاً كُفْريًّا.
القول، أو الفعل بأنَّه كُفر أو شرك، وبين الحكم على المسلِم المعيَّن الذي اعتقد اعتقادًا كفريًّا، أو فَعَل أمرًا مُكَفِّرًا، أو قال قولاً كُفْريًّا.
فإنَّ الحكم على القول أو الفعل بأنه كُفْر، متعلِّقٌ
ببيان الحكم الشرعي المطلَق، أمَّا الحكم على الشخص المعيَّن إذا اعتقد،
أو قال، أو فعل أمرًا كفريًّا مُخْرِجًا منَ الملَّة؛ كأن ينكرَ أمرًا
معلومًا منَ الدِّين بالضرورة، وكأن يسُبَّ الله - تعالى - أو يسبَّ دين
الإسلام، فإنه لا بُدَّ عند الحكم عليه منَ التَّبَيُّن عن حال هذا الشخص
المعيَّن في ذلك، وذلك بمعرفةِ: هل توفَّرتْ فيه جميعُ شروط الحكم عليه
بالكفر أو لا؟ وهلِ انتفَتْ عنه جميع موانع الحكم عليه بالكفر أو لا؟ فإنْ
توفَّرتْ فيه جميع شروط التكفير، وانتفتْ عنه جميعُ موانعِه؛ حُكِم
بكفْرِه، وإن لم يتوفَّر فيه شرطٌ واحد أو أكثر مِن شروط الحكم عليه
بالكفر، أو وُجِد لديه مانع أو أكثر من موانع التكفير؛ لم يُحْكَم بكفرِه[1].
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله -: "إنَّ
التكفير له شروط وموانعُ، قد تنتفي في حقِّ المعيَّن، وإن تكفير المطلَق لا
يستلزم تكفيرَ المُعَيَّن، إلاَّ إذا وُجِدَتِ الشروط، وانتفتِ الموانع،
يُبَيِّن هذا أنَّ الإمام أحمدَ وعامَّة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات -
أي: مَن قال أو فعل كذا، فقد كفر - لم يُكَفِّروا أكثر مَن تَكَلَّم بهذا
الكلام بعينِه.
فإنَّ الإمام أحمد مثلاً قد باشَرَ الجهميَّة الذين
دعَوه إلى خَلْق القرآن، ونفْيِ الصفات، وامتحنوه وسائرَ علماء وقته،
وفتنوا المؤمنينَ والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التَّجَهُّم بالضرب،
والحبس، والقتل، والعزل عنِ الولايات، وقَطْع الأرزاق، ورَدِّ الشهادة،
وترك تخليصهم من أيدي العدو، بحيث كان كثيرٌ مِن أولي الأمر إذ ذاك منَ
الجهميَّة - مِنَ الولاة والقضاة وغيرهم - يُكَفِّرُون كلَّ مَن لم يكنْ
جَهْمِيًّا موافقًا لهم على نَفْيِ الصفات، مثل القول بِخلْق القرآن،
ويحكمون فيه بِحُكْمِهم في الكافر.
ثم إنَّ الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضَرَبَه
وحبسه، واستغفرَ لهم، وحَلَّلهم مما فعلوه به من الظلمِ والدعاءِ إلى القول
الذي هو كُفر، ولو كانوا مرتدينَ عنِ الإسلام، لم يَجُز الاستغفار لهم،
فإنَّ الاستغفار للكُفَّار لا يجوز بالكتاب والسُّنَّة والإجماع، وهذه
الأقوال والأعمالُ منه ومِن غيره منَ الأئمة صريحةٌ في أنهم لم يُكَفِّروا
المُعَيَّنينَ مِنَ الجَهْميَّة الذين كانوا يقولون: إنَّ القرآن مخلوقٌ،
وإنَّ الله لا يُرَى في الآخرة، وقد نُقِل عن أحمد ما يدلُّ على أنه كَفَّر
به - أي: بقول الجهميَّة وعقيدتهم - قومًا مُعَيَّنِين.
فيُحمَل الأمر على التفصيل؛ فيقال: مَن كُفِّر بعينه،
فَلِقِيام الدليل على أنَّه وُجِدَتْ فيه شروط التكفير، وانتفتْ موانعه،
ومَن لم يُكَفَّر بعينه فَلانْتِفاء ذلك في حقِّه، هذا مع إطلاق قوله
بالتكفير على سبيل العُمُوم.
والدَّليل على هذا الأصل: الكتاب، والسُّنَّةُ،
والإجماع، والاعتبار، فالتكفير العامُّ كالوعيد العامِّ؛ يجب القول بإطلاقه
وعمومه، وأما الحكم على المُعَيَّن بأنه كافر، أو مشهود له بالنار، فهذا
يقف على الدليل المُعين، فإنَّ الحكم يقف على ثُبُوت شروطه، وانتفاء
موانعه"؛ انتهى كلام شيخ الإسلام - رحمه الله - مختصرًا[2].
وقال شيخ الإسلام أيضًا: "نُصُوص الوعيد التي في
الكتاب والسنة، ونصوص الأئمة بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك - لا يستلزم ثبوت
موجبها في حق المعيَّن؛ إلاَّ إذا وُجِدَتِ الشروط، وانتفتِ الموانع"[3].
وقال شيخ الإسلام كذلك فيمَن قال ببعض مقالات
الباطنيَّة الكفريَّة: "فهذه المقالات هي كُفر؛ لكن ثبوت التكفير في حقِّ
الشخص المعيَّن، موقوفٌ على قيام الحجة التي يَكْفُر تاركها، وإن أطلق
القول بتكفير مَن يقول ذلك، فهو مثل إطلاق القول بنُصُوص الوعيد، مع أنَّ
ثُبُوت حكم الوعيد في حقِّ الشخص المعيَّن، موقوفٌ على ثبوت شروطه، وانتفاء
موانعه؛ ولهذا أطلق الأئمة القول بالتَّكفير، مع أنهم لم يحكموا في عين
كلِّ قائلٍ بِحُكم الكفار"[4].
وقال ابن أبي العِزِّ الحنفي في "شرح الطحاوية"، عند
كلامه على تكفير المُعَيَّن: "الشَّخص المعيَّن يمكن أن يكونَ مجتهدًا
مخطِئًا مغفورًا له، أو يمكن أن يكونَ ممن لم يبلغْه ما وراء ذلك منَ
النصوص، ويمكن أن يكونَ له إيمان عظيم، وحسنات أوجبتْ له رحمة الله... ثمَّ
إذا كانَ القول في نفسِه كفرًا، قيل: إنَّه كفر، والقائل له يَكْفُر
بشروط، وانتفاء موانع"[5].
وقال الشيخ عبدالله بن عبداللطيف، وأخوه الشيخ
إبراهيم بن عبداللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان - رحمهم الله تعالى -:
"ومسألة تَكْفِيرِ المُعَيَّن مسألة معروفة، إذا قال قولاً يكون القول به
كفرًا، فيقال: مَن قال بهذا القول فهو كافِر؛ ولكن الشخص المُعَيَّن إذا
قال ذلك لا يُحْكَم بكفره، حتى تقومَ عليه الحجة التي يكفر تاركُها"[6].
وقال شيخنا محمد بن عُثَيْمِين - رحمه الله -: "الواجِب قبل الحكم بالتَّكْفير أن يُنْظَر في أمرين: الأمر الأول: دلالة الكتاب والسُّنَّة على أن هذا مُكَفِّر؛ لئِلاَّ يُفْتَرى على الله الكَذِب.
الثاني: انطباق الحُكم على الشخص المُعَيَّن؛ بحيث تتم شروط التكفير في حَقِّه، وتنتفي الموانع"[7].
وقال الشيخ سليمان بن ناصر العلوان في آخر رسالة
"التبيان شرح نواقِض الإسلام": "إذا عُلِمَ ما تَقَدَّمَ مِنَ النواقض التي
تُحبِط الأعمال، وتجعل صاحبها منَ الخالدين في النار، فَلْيُعْلَم أنَّ
المسلم قد يقول قولاً، أو يفعل فعلاً قد دَلَّ الكتاب والسنة وإجماع سلف
الأمة على أنَّه كُفْر ورِدَّة عنِ الإسلام؛ ولكن لا تلازُم عند أهل العلم
بين القول بأنَّ هذا كُفْر، وبين تكفير الرَّجُل بعينه.
فليس كلُّ مَن فعل مُكَفِّرًا حُكِمَ بِكُفْره؛ إذِ
القول أوِ الفعل قد يكون كفرًا؛ لكن لا يُطْلَق الكفر على القائل أو الفاعل
إلاَّ بشرطه؛ لأنه لا بُدَّ أن تثبتَ في حقِّه شروط التكفير، وتَنْتفي
موانِعُه؛ فالمرءُ قد يكون حديث عهد بإسلام، وقد يفعل مُكَفِّرًا، ولا يعلم
أنه مُكَفِّر[8]، فإذا بُيِّنَ له رَجَع، وقد ينكر شيئًا متأولاً أخطأ بتأويله، وغير ذلك منَ الموانع التي تَمْنَعُ منَ التكفير.
وهذا أصلٌ عظيم يجب تفهُّمه والاعتناء به؛ لأنَّ
التكفير ليس حقًّا للمخلوق، يُكفِّر مَن يشاء على وَفْق هواه؛ بل يجب
الرُّجوع في ذلك إلى الكتاب والسُّنَّة على فَهْم السَّلَف الصالح، فمَن
كَفَّرَهُ الله ورسوله، وقامتْ عليه الحجة، فهو كافر، ومَن لا، فلا".
ثم ذَكَر الحديث المتَّفق عليه في قِصَّة الرَّجُل
الذي أَمَرَ أولاده إذا مات أن يُحَرِّقُوه، ويذرُّوه في الرِّيح؛ لِئلاَّ
يبعثه الله، ثم نَقَل عن شيخ الإسلام ابن تيميَّة أنَّ الله - تعالى -
عَذَر هذا الرجل؛ لجهله، وخَوْفه مِن ربه، ثم قال: "والحاصِلُ أنَّ مذهب
أهل التحقيق التَّفريقُ بين تكفير الفعل، وبين تكفير الفاعل، وكذلك الأمر
في التَّبْديع، هناك فرقٌ بين تبديع القول أو الفعل، وبين تبديع القائل أو
الفاعل، فليسَ كُلُّ مَن فعل بدعة صار مبتدعًا.
ومَن نظر في سيرة السَّلَف عَرَفَ حقيقة هذا القول،
وعلم أنَّ هذا مذهبهم، وهذه طريقتهم، ورأى ما هم عليه منَ العدل، والإنصاف،
وقول الحق، والحِرْص على هداية الخَلْق؛ لِمَا خَصَّهمُ الله به منَ العلم
النافع، والعمل الصالح، وهذا هو الواجب على جميع الخَلْق، أن يكونَ قصدهم
بيانَ الحق، وإزهاق الباطل، مع العدل والإنصاف؛ ليكونَ الدِّين كلُّه لله،
والحمد لله رب العالمين"؛ انتهى كلام الشيخ سليمان العلوان - وَفَّقَهُ
الله[9].
فالمسلِم قد يقع في بعض أنواع الكفر أوِ الشِّرك
الأكبر، والتي وردتْ أدلة شرعيَّة تدل على أن الوقوع فيها مُخْرِجٌ منَ
الملَّة، وقال أهل العلم: "مَن فَعَلَهَا فقد كَفَر"؛ ولكن قد لا يُحْكَم
على هذا المسلم المعيَّن بالكفر، وذلك لِفَقْد شرط مِن شروط الحكم عليه، أو
وُجُود مانِع مِن ذلك.
ومِن شروط الحكم على المسلم المُعَيَّنِ بالكُفْر:
- أن يكونَ عالمًا بتحريم هذا الشيء المُكَفِّر،
وسيأتي مزيد تفصيل لهذا الشرط عند ذِكْر مانع الجهل - الذي هو ضِدُّ العلم -
إن شاء الله تعالى.
- ومنها: أن يكونَ متعمِّدًا لفِعْله[10].
- ومنها: أن يكونَ مختارًا، وذلك بألاَّ يكونَ مكرَهًا على قولِ أو فعل الأمر المُكَفِّر؛ كما قال - تعالى -: {مَنْ
كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا
فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106]، وهذا مُجمَع عليه بين أهل العلم.
ولأهل العلم أقوال وتفصيلات يَطُول ذِكْرها في الأمور
التي يعذر فيها بالإكْراه، والأمور التي لا يُعْذَر فيها بذلك، وفي صُوَر
الإكراه، وهل يدخل فيها الخوف من ضرر مُحَقَّق أو لا؟ وفي شروطِ الإكْرَاه[11].
ومِنَ الأُمُور التي لا يُحْكَم على المسلم المعين
بالكفر بِسَبَبِها - كما سبق - أن يوجدَ لديه مانعٌ من موانع الحكم على
المُعَيَّنِ بالكُفْر.
ومِن موانع تكفير المُعَيَّن:
الجهل:
قال الإمام الشافعيُّ عند كلامِه على الأسماءِ
والصِّفات الثابتة في القرآن والسُّنة: "فإنْ خالف بعد ذلك بعد ثبوت الحجة
عليه، فهو كافر، فأمَّا قبْل ثبوت الحجة عليه، فمعذور بالجهل"[12].
وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: "إن تكفير المُعَيَّن
وجواز قتله، موقوف على أن تبلغَه الحجة النَّبويَّة، التي يَكْفُر مَن
خَالَفَها، وإلاَّ فليس مَن جهل شيئًا مِن الدِّين يَكْفُر"[13].
وقال شيخ الإسلام أيضًا عند كلامه على بعض
المُكَفِّرات: "لكن مِن الناس مَن يكون جاهِلاً ببعض هذه الأحكام جهلاً
يُعْذَر به، فلا يُحْكَم بكُفْر أحدٍ، حتى تقومَ عليه الحجة مِن جهة بلاغ
الرِّسالة"[14].
وقال الحافظ ابن القيم بعد ذِكْره كُفرَ مَن هَجَر
فريضة من فرائض الإسلام، أو أنكر صفة من صفات الله - تعالى - أو أنكر خبرًا
أخبر الله به عمدًا، قال: "وأمَّا جَحْد ذلك جهلاً، أو تأويلاً يُعْذَر
فيه صاحبه، فلا يَكْفُر صاحبه به"[15].
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب: "وأمَّا ما
ذَكَرَه الأعداء عنِّي أنِّي أُكَفِّر بالظن وبالمُوَالاة، أو أكفر الجاهل
الذي لم تقم عليه الحجة؛ فهذا بهتان عظيم"[16].
وقال الشَّيخان عبدالله وإبراهيم ابنا الشيخ
عبداللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان: "يكون القول المتضمن لردِّ بعض النصوص
كفرًا، ولا يُحْكَم على قائله بالكفر؛ لاحتمال وجود مانع كالجهل، وعدم
العلم بنقض النَّصِّ، أو بدلالته، فإنَّ الشَّرائع لا تَلْزم إلاَّ بعد
بلوغها، ذَكَر ذلك شيخ الإسلام ابن تيميَّة - قَدَّسَ الله روحه - في كثير
من كتبه"[17].
وجاء في فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة -
برئاسة شيخنا عبدالعزيز بن باز، وعضوية كلٍّ مِن نائبه الشيخ عبدالرزاق
عفيفي، والشيخ عبدالله بن قَعُود، والشيخ عبدالله بن غديان - جوابًا عن
سؤالٍ عن عُبَّاد القبور، وهل يُعْذَرُون بِجهلهم، وعنِ الأمور التي
يُعْذَر فيها بالجهل: "يختلف الحُكم على الإنسان بأنْ يُعْذَر بالجهل في
المسائل الدِّينية، أو لا يعذر، باختلاف البلاغ وعدمه، واختلاف المسألة
نفسها وضوحًا وخفاءً، وتفاوُت مداركِ الناس قوةً وضعفًا"[18].
وقال شيخنا محمد بن صالح بن عُثيمين - رحمه الله - : "الجهل بالمُكَفِّر على نوعينِ:
الأول:
أن يكونَ مِن شخص يدين بِغَيْر الإسلام، أو لا يدين بشيء، ولو لم يكن يخطر
بباله أن دينًا يخالف ما هو عليه، فهذا تَجْرِي عليه أحكام الظاهر في
الدنيا - أي أحكام الكُفَّار - وأما في الآخرة فأمْرُه إلى الله - تعالى.
النوع الثاني:
أن يكونَ من شخص يدين بالإسلام؛ ولكنه عاش على هذا المُكَفِّر، ولم يَكُن
يخطر ببالِه أنه مخالفٌ للإسلام، ولا نَبَّهه أحدٌ على ذلك، فهذا تجري عليه
أحكام الإسلام ظاهرًا، أما في الآخرة فأمْرُه إلى الله - عز وجل - وقد
دَلَّ على ذلك الكتاب، والسنة، وأقوال أهل العلم"[19].
وقال الشيخ الدكتور عبدالعزيز بن محمد بن عبداللطيف:
"مما قد يعتبر مانعًا مِن موانع تكفير المُعَيَّن: العُذر بالجهل، وإنما
اقتصرتُ عليه مع تعَدُّد عوارض الأهليَّة؛ لكَثْرة الكلام فيه، ووقوع
اللَّبْس فيه، وهذه مسألة خاضَ الناس فيها ما بين غالٍ وجافٍ، فهناك مَن
يجعل الجهل عذرًا بإطلاق، وهناك مَن يمنعه بإطلاق، والحق وَسَطٌ بينهما،
والعذر بالجهل لا يزال ظاهرًا في عصرنا؛ حيث قلَّ أهل العلم العاملون،
وكَثُر الأدعياء الذين يُزَيِّنُون الباطل والكفر للعامَّة ويلبسون عليهم"؛
انتهى كلامه مختصرًا[20].
ولأهلِ العِلْم أقوال وتفصيلات يَطُول ذِكْرُها في
المسائل التي يكون الجَهْل بها مانعًا مِنَ الحكم بكفر المُعَيَّن،
والمسائل التي لا يكونُ الجَهْلُ بها مانعًا منَ الحكم بكفره[21].
وقد ذَكَرَ بعض العلماء من أدلَّة هذا المانع - مانع
الجهل - قصَّة الرجل الذي لم يعملْ خيرًا قط، فأمَرَ أولاده إذا مات أن
يحرِّقوه، ثم يذرُّوا رمادَه في يوم شديد الرِّيح في البحر، وقال: والله
لئن قدر عليَّ ليُعَذِّبَنِّي عذابًا ما عَذَّبَ به أحدًا، فغَفَرَ الله
له؛ متفق عليه[22]،
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة بعد ذِكْره لهذا الحديث: "فهذا رجلٌ شَكَّ في
قدرة الله، وفي إعادته إذا ذُري؛ بل اعتقد أنه لا يُعاد، وهذا كُفْر
باتِّفاق المُسلمينَ؛ ولكن كان جاهِلاً لا يعلم ذلك، وكان مُؤمنًا يخاف
الله أنْ يعاقِبه، فغُفِر له بذلك"[23].
وقال شيخ الإسلام أيضًا: "فهذا اعتقَد أنه إذا فعل
ذلك لا يَقدر الله على إعادته، وأنه لا يعيده، أو جوَّز ذلك، وكلاهما كفر،
لكن كان جاهلاً لم يتبيّن له الحق، فغفر له"[24].
وقال الحافظ ابن القيم بعد ذكره لهذا الحديث: "ومع
هذا، فقد غفر الله له ورحمه؛ لجهله، إذ كان ذلك الذي فعله مبلغَ علمِه، ولم
يجحد قدرة الله على إعادته عنادًا أو تكذيبًا"[25].
وقد ذكر بعض أهل العلم أدلة أخرى كثيرة لهذا المانع[26].
ومن موانع التكفير للمعين أيضًا: التأويل:
والتأويل هو: أن يرتكب المسلم أمرًا كفريًّا، معتقدًا مشروعيته، أو إباحته
له؛ لدليل يرى صحته، أو لأمر يراه عذرًا له في ذلك، وهو مخطئ في ذلك كله.
فإذا اعتقد المسلم، أو فعل، أو قال أمرًا مخرجًا من
الملة، وكان عنده شبهة تأويل في ذلك، وهو ممن يمكن وجودُ هذه الشبهة لديه،
وكانت في مسألة يحتمل التأويل فيها، فإنه يُعذر بذلك، ولو كانت هذه الشبهة
ضعيفة، وقد حكى بعض العلماء إجماعَ أهل السنة على هذا المانع[27].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "إن
المتأوِّل الذي قصد متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يكفر؛ بل ولا
يفسق، إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، وأما
مسائل العقائد فكثير من الناس كفَّر المخطئين فيها، وهذا القول لا يُعرف عن
أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما
هو في الأصل من أقوال أهل البدع"[28].
وقال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله -:
"إن المتأولين من أهل القِبلة الذين ضلوا وأخطؤوا في فَهم ما جاء به الكتاب
والسنة، مع إيمانهم بالرسول، واعتقادهم صدقه في كل ما قال، وأن ما قاله
كله حق، والتزموا ذلك، لكنهم أخطؤوا في بعض المسائل الخبرية أو العملية،
فهؤلاء قد دلَّ الكتاب والسنة على عدم خروجهم من الدِّين، وعدم الحكم لهم
بأحكام الكافرين، وأجمع الصحابة - رضي الله عنهم – والتابعون، ومِن بعدهم
أئمة السلف على ذلك"[29].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضًا: "هذا مع أني
دائمًا - ومَن جالسني يعلم ذلك مني - أني من أعظم الناس نهيًا عن أن يُنسب
معيَّنٌ إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا عُلم أنه قد قامت عليه الحجة
الرسالية، التي مَن خالفها كان كافرًا تارة، وفاسقًا أخرى، وعاصيًا أخرى،
وإني أقرر أن الله قد غَفَر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعمُّ الخطأ في المسائل
الخبرية القولية، والمسائل العملية...وكنت أبيِّن لهم أن ما نُقل لهم عن
السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير مَن يقول كذا وكذا، فهو أيضًا حق، لكن
يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، وهذه أول مسألة تنازعتْ فيها الأمة من
مسائل الأصول الكبار، وهي مسألة: (الوعيد)، فإن نصوص القرآن في الوعيد
مطلقة؛ كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}
[النساء: 10]، وكذلك سائر ما ورد: مَن فعل كذا فله كذا، فإن هذه مطلقة
عامة... والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيبًا لما قاله
الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكن قد يكون الرجل حديثَ عهد بإسلام، أو نشأ
ببادية بعيدة، ومثلُ هذا لا يكفر بجحد ما يجحده، حتى تقوم عليه الحجة، وقد
يكون الرجل لم يسمع تلك النصوصَ، أو سمعها ولم تثبُت عنده، أو عارضها عنده
معارضٌ آخر أوجب تأويلَها، وإن كان مخطئًا"، ثم ذكر قصة الرجل الذي أمر
أولاده إذا مات أن يُحَرِّقُوه؛ لئلا يبعثه الله، ومغفرة الله له، ثم قال:
"والمتأول من أهل الاجتهاد، الحريص على متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم
- أولى بالمغفرة مِن مثل هذا"؛ انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية مختصرًا[30].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضًا، بعد ذِكره أن
المعيَّن لا يكفر حتى تجتمع فيه شروط التكفير، وتنتفي عنه موانعه: "والدليل
على هذا الأصل: الكتاب، والسنة، والإجماع، والاعتبار"، ثم ذَكَر بعض هذه
الأدلة، ثم قال: "وإذا ثبت بالكتاب المفسَّر بالسنة، أن الله قد غفر لهذه
الأمةِ الخطأَ والنسيان، فهذا عام عمومًا محفوظًا، وليس في الدلالة الشرعية
ما يوجب أن الله يعذِّب من هذه الأمة مخطئًا على خطئه... وإذا عُرف هذا،
فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم - بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار -
لا يجوز الإقدام عليه، إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجةُ الرسالية التي
يتبيَّن بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر،
وهذا الكلام في تكفير جميع المعينين، مع أن بعض هذه البدعة أشد من بعض،
وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض، فليس لأحدٍ أن يكفر
أحدًا من المسلمين - وإن أخطأ وغلط - حتى تقام عليه الحجةُ، وتبيَّن له
المحجة، ومَن ثبت إيمانه بيقين، لم يَزُل ذلك عنه بالشك؛ بل لا يزول إلا
بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة"؛ انتهى كلامه بحروفه مختصرًا[31].
وقال شيخنا محمد بن عثيمين عند كلامه على تكفير
المعين: "ومن الموانع أيضًا أن يكون له شبهة تأويل في المكفِّر، بحيث يظن
أنه على حق؛ لأن هذا لم يتعمد الإثم والمخالفة، فيكون داخلاً في قوله -
تعالى -: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]، ولأن هذا غاية جهده، فيكون داخلاً في قوله - تعالى -: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]"[32].
ولأهل العلم تفصيل وأقوال يطول ذِكرها في المسائل
التي يكون التأويل فيها مانعًا في الحكم بكفر المعين، والمسائل التي لا
يكون التأويل فيها مانعًا من الحكم بكفره[33].
وعلى وجه العموم، فعذر التأويل من أوسع موانع تكفير المعين.
ولهذا ذَكر بعض أهل العلم أنه إذا بلغ المتأولَ
الدليلُ فيما خالف فيه ولم يرجع، وكانت في مسألةٍ يحتمل وقوع الخطأ فيها؛
لخفائها، واحتَمَل بقاء الشبهة في قلب مَن أخطأ فيها؛ لشُبَهٍ أثيرتْ
حولها، أو لملابسات أحاطت بها في واقعة أو وقائع معينة، ونحو ذلك - أنه لا
يُحكم بكفره؛ لقوله - تعالى -: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذه الأقوال التي يكفر
قائلها، قد يكون الرجل لم تبلغْه النصوصُ الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون
عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن مِن فهمها، وقد يكون عرضت له شبهاتٌ
يَعذره الله بها، فمَن كان مِن المؤمنين مجتهدًا في طلب الحق وأخطأ، فإن
الله يغفر له خطأه، كائنًا ما كان، سواء كان في المسائل النظرية أم
العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وجماهير أئمة
الإسلام"[34].
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم، مفتي المملكة السابق، عند ذِكره لأنواع المكفِّرات: "القسم الثالث: أشياء تكون غامضة، فهذه لا يكفر الشخص فيها، ولو بعدما أقيمت عليه الأدلة، وسواء كانت في الفروع أو الأصول"[35].
وينظر ما يأتي قريبًا - إن شاء الله تعالى - من كلام
شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة، عند ذكر عدم تكفير بعض العلماء لبعض
المعينين من الجهمية[36].
وقد ذكر بعض أهل العلم أنه من أجل هذا المانع - وهو
مانع التأويل - لم يكفِّر الصحابةُ - رضي الله عنهم - الخوارجَ الذين خرجوا
عليهم، وحاربوهم، وكفَّروا الخليفة الراشد علي بن أبي طالب المشهود له
بالجنة، واستحلوا دمه، حتى قتلوه، واستحلوا دماءَ جميع مَن خالفهم، مع أن
بعض ما وقعوا فيه هو من الأمور التي يَكفر مرتكبُها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لم تكفِّر الصحابة
الخوارجَ، مع تكفيرهم لعثمان وعلي ومَن والاهُما، واستحلالهم لدماء
المسلمين المخالفين لهم"[37].
ومن أجل هذا المانع أيضًا - وهو مانع التأويل - صرَّح
بعض العلماء بعدم تكفير بعض المعيَّنين من الجهمية، الذين يعتقدون بعض
الاعتقادات الكفرية في صفات الله - تعالى[38].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "المحفوظ عن أحمدَ وغيرِه
من الأئمة، إنما هو تكفير الجهمية المُشَبِّهة وأمثال هؤلاء... مع أن
أحمدَ لم يكفِّر أعيان الجهمية، ولا كل مَن قال: "إنه جهمي" كفَّره، ولا كل
مَن وافق الجهمية في بعض بدعهم؛ بل صلَّى خلف الجهمية الذين دعَوْا إلى
قولهم، وامتحنوا الناس، وعاقبوا مَن لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة، لم
يكفِّرهم أحمدُ وأمثاله؛ بل كان يعتقد إيمانَهم وإمامتهم، ويدعو لهم، ويرى
الائتمام بهم في الصلوات خلفهم، والحج والغزو معهم، والمنع من الخروج
عليهم، ما يراه لأمثالهم من الأئمة"؛ انتهى كلام شيخ الإسلام ملخصًا[39].
وقال شيخ الإسلام أيضًا، بعد ذِكره لقصة قدامة، ولقصة
الذي طلب من أولاده أن يحرقوا جسده بعد موته السابقتين: "ولهذا كنتُ أقول
للجهمية من الحلولية والنُّفاة، الذين نفوا أن الله - تعالى - فوق العرش،
لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافرًا؛ لأني أعلم أن قولكم كفر،
وأنتم عندي لا تكفرون؛ لأنكم جُهَّال[40]،
وكان هذا خطابًا لعلمائهم، وقضاتهم، وشيوخهم، وأمرائهم، وأصلُ جهلهم
شبهاتٌ عقلية حصلت لرؤوسهم في قصور من معرفة المنقول الصحيح، والمعقول
الصريح الموافق له"[41].
وعلى العموم، فإن مسألة تكفير المعين مسألة كبيرة،
تختلف فيها أنظار المجتهدين، وللعلماء في بعض جزئياتها أقوالٌ وتفصيلات،
سبقت الإشارة إلى بعضها عند الكلام على الإكراه، وعند الكلام على الجهل،
وعند الكلام على التأويل[42].
فلهذا ينبغي للمسلم ألاَّ يتعجل في الحكم على الشخص
المعين، أو الجماعة المعينة بالكفر، حتى يتأكد من وجود جميع شروط الحكم
بالكفر، وانتفاء جميع موانعه.
فتكفير المعين يحتاج إلى نظر من وجهين:
الأول: معرفة هل هذا القول أو الفعل الذي صدر من هذا المكلَّف، مما يدخل في أنواع الكفر أو الشرك الأكبر، أو لا؟
والثاني: معرفة الحكم الصحيح الذي يُحكم به على هذا المكلف، وهل وجدت جميع أسباب الحكم عليه بالكفر، وانتفت جميع الموانع من تكفيره، أو لا؟[43]
وهذا يجعل مسألةَ تكفير المعين من المسائل التي لا يَحكم فيها على شخص أو جماعة، إلا أهلُ العلم.
والحكم على المسلم بالكفر - وهو لا يستحقه - ذنب
عظيم؛ لأنه حكم عليه بالخروج من ملة الإسلام، وأنه حلال الدم والمال، وحكم
عليه بالخلود في النار إن مات على ذلك؛ ولذلك ورد الوعيد الشديد في شأن مَن
يحكم على مسلم بالكفر وهو ليس كذلك؛ فقد ثبت عن أبي ذر، قال: قال النبي -
صلى الله عليه وسلم -: ((لا يرمي رجلٌ رجلاً بالفسوق، ولا يرميه بالكفر،
إلا ارتدتْ عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك))؛ متفق عليه[44].
قال علاَّمة اليمن محمد بن علي الشوكاني: "اعلم أن
الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام، ودخوله في الكفر - لا ينبغي
لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أنْ يقدمَ عليه إلا ببرهانٍ أوضحَ من شمس
النهار؛ فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من
الصحابة، أن: ((مَن قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما))؛ هكذا في
الصحيح، وفي لفظ آخر في "الصحيحين" وغيرهما: ((مَن دعا رجلاً بالكفر، أو
قال: عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه))؛ أي رجع، وفي لفظ في الصحيح:
((فقد كفر أحدهما))، ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظمُ زاجر، وأكبر
واعظ عن التسرع في التكفير"[45].
وقال ابن أبي العز الحنفي: "اعلم - رحمك الله وإيانا -
أن باب التكفير وعدم التكفير، باب عظمت الفتنةُ والمحنة فيه، وكثر فيه
الافتراق، وتشتت فيه الأهواء والآراء، وأما الشخص المعين، إذا قيل: هل
تشهدون أنه من أهل الوعيد، وأنه كافر؟ فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجُوز
معه الشهادة، فإنه من أعظم البغي أن يُشهد على معين أن الله لا يغفر له،
ولا يرحمه، بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت؛ ولهذا ذكر
أبو داود في "سننه" في كتاب الأدب: باب النهي عن البغي، وذكر فيه عن أبي
هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
((كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في
العبادة، فكان لا يزال المجتهدُ يرى الآخرَ على الذنب، فيقول: أقصر، فوجده
يومًا على ذنب، فقال له: أقصر، فقال: خلِّني وربي، أبُعثتَ عليَّ رقيبًا؟!
فقال: واللهِ لا يغفر الله لك، أو: لا يدخلك الجنةَ، فقبَض أرواحَهما،
فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالمًا؟ أو كنت على
ما في يدي قادرًا؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنةَ برحمتي، وقال للآخر:
اذهبوا به إلى النار))، قال أبو هريرة: "والذي نفسي بيده، لتكلَّم بكلمةٍ
أوبقتْ دنياه وآخرتَه"[46]؛
وهو حديث حسن، فمِن عيوب أهل البدع تكفيرُ بعضهم بعضًا، ومن ممادح أهل
العلم أنهم يخطِّئون ولا يكفِّرون"؛ انتهى كلام ابن أبي العز - رحمه الله -
بحروفه مختصرًا[47].
وقال ابن الوزير: "وقد عُوقِبَتِ الخوارج أشد عقوبة،
وذُمَّت أقبح الذم على تكفيرهم لعصاة المسلمين، مع تعظيمهم في ذلك لمعاصي
الله - تعالى - وتعظيمهم الله - تعالى - بتكفير عاصيه، فلا يأمن المُكَفِّر
أن يقع في مثل ذنبهم، وهذا خَطَر في الدين جليل، فينبغي شدة الاحتراز فيه
مِن كل حليم نبيل"[48].
وقال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن
عبدالوهاب: "التَّجاسُر على تكفير مَن ظاهرُه الإسلامُ مِن غير مستند
شرعي، ولا برهان مرضي - يخالف ما عليه أئمة العلم من أهل السُّنَّة
والجماعة، وهذه الطريقة هي طريقة أهل البدع والضلال، ومن عدم الخشية
والتقوى فيما يصدر عنه منَ الأقوال والأفعال... قال شيخ الإسلام - أي ابن
تيميَّة - رحمه الله -: "لا بدَّ للمتكلم في هذه المباحث ونحوها، أن يكون
معه أصول كليَّة، يرد إليها الجزئيات؛ ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات
كيف وقعتْ، وإلا فيبقى في كَذِب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في
الكلِّيَّات"، وأطال الكلام على الفرق بين المتأوِّل والمتعمِّد، ومن قامت
عليه الحجة وزالت عنه الشُّبهة، والمخطئ الذي الْتبس عليه الأمر، وخفي عليه
الحكم"[49].
وقال شيخنا محمد بن عثيمين - رحمه الله تعالى -:
"الأصل فيمَن ينتسب للإسلام بقاء إسلامه، حتى يتحقق زوال ذلك عنه، بمقتضى
الدليل الشرعي، ولا يجوز التَّساهُل في تكفيره؛ لأن في ذلك محذورين:
أحدهما: افتراء الكذب على الله - تعالى - في الحكم، وعلى المحكوم عليه في
الوصف الذي نَبَزَه به، أما الأول: فواضح حيث حَكَم بالكفر على مَن لم
يكفره الله - تعالى - فهو كمَن حَرَّمَ ما أحل الله؛ لأن الحكم بالتكفير أو
عدمه إلى الله وحده؛ كالحكم بالتحريم أو عدمه.
وأما الثاني: فلأنه وصف المسلم بوصف مضادٍّ، فقال:
إنه كافر، مع أنه بريء من ذلك، وحريٌّ به أن يعود وصفُ الكفر عليه؛ لما ثبت
في "صحيح مسلم"، عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - قال: ((إذا كَفَّرَ الرجل أخاه، فقد باء بها أحدهما))،
وفي رواية: ((ومن دعا رجلاً بالكفر، أو قال: عدو الله، وليس كذلك، إلا حار
عليه))، يعني رجع عليه.
وقوله في حديث ابن عمر: ((إن كان كما قال))؛ يعني: في
حكم الله - تعالى - وكذلك قوله في حديث أبي ذر: ((وليس كذلك))؛ يعني: في
حكم الله - تعالى - وهذا هو المحذور الثاني؛ أعني: عود وصف الكفر عليه إن
كان أخوه بريئًا منه، وهو محذور عظيم يوشك أن يقعَ به؛ لأن الغالب أنَّ مَن
تَسَرَّعَ بوصف المسلم بالكفر كان معجبًا بعمله، محتقرًا لغيره، فيكون
جامعًا بين الإعجاب بعمله، الذي قد يؤدي إلى حُبُوطه، وبين الكبر الموجب
لعذاب الله - تعالى - في النار؛ كما جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد وأبو
داود، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال: ((قال الله - عز وجل -: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني
واحدًا منهما، قذفته في النار))[50]، فالواجب قبل الحكم بالتكفير أن يُنظر في أمرين:
الأمر الأول: دلالة الكتاب والسنة على أن هذا مكفِّر؛ لئلاَّ يفتري على الله الكذب.
الثاني: انطباق الحكم على الشخص المعيَّن؛ بحيث تتم
شروط التكفير في حقِّه، وتنتفي الموانع"؛ انتهى كلام الشيخ ابن عثيمين -
رحمه الله[51].
ولذلك كله، فإنه يجب على المسلم الذي يريد لنفسه
النجاة، ألاَّ يتعجل في إصدار الحكم على أحد منَ المسلمين بالكفر أو الشرك،
كما أنه يحرم على العامة وصغار طلاَّب العلم أن يحكموا على مسلم معين، أو
على جماعة معيَّنة من المسلمين، أو على أناس معينين منَ المسلمين ينتسبون
إلى حزب معين - بالكفر، دون الرجوع إلى أهل العلم في ذلك.
كما أنه يجب على كل مسلم أن يجتنبَ مجالسة الذين
يتكلمون في مسائل التكفير، وهم ممن يَحْرُم عليهم ذلك؛ لقلَّة علمهم؛ لأن
كلامهم في هذه المسائل منَ الخوض في آيات الله - تعالى - وقد قال - جل وعلا
-: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ
فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ
غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ
الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68][52].
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: "إنَّ تسلُّط الجُهَّال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات، وإنما أصل هذا منَ الخوارج والروافض، الذين يكفِّرون أئمة المسلمين؛ لما يعتقدون أنهم أخطؤوا فيه من الدِّين، وقد اتَّفَق أهل السنة والجماعة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمُجرد الخطأ المحض؛ بل كل أحد يُؤخَذ من قوله ويترك، إلا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم، وليس كل مَن يترك بعضُ كلامه لخطأٍ أخطأه يَكفر ولا يفسق؛ بل ولا يأثم؛ فإنَّ الله - تعالى -: قال في دعاء المؤمنين: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله - تعالى - قال: قد فعلت"[53].
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: "إنَّ تسلُّط الجُهَّال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات، وإنما أصل هذا منَ الخوارج والروافض، الذين يكفِّرون أئمة المسلمين؛ لما يعتقدون أنهم أخطؤوا فيه من الدِّين، وقد اتَّفَق أهل السنة والجماعة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمُجرد الخطأ المحض؛ بل كل أحد يُؤخَذ من قوله ويترك، إلا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم، وليس كل مَن يترك بعضُ كلامه لخطأٍ أخطأه يَكفر ولا يفسق؛ بل ولا يأثم؛ فإنَّ الله - تعالى -: قال في دعاء المؤمنين: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله - تعالى - قال: قد فعلت"[53].
وقال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن
عبدالوهاب - رحمهم الله - في رسالته التي وجهها لبعض المُتَسَرِّعين في
التكفير، بعد ذكره أنه قد أنكر على رجلين صنعا مثلما صنع هذا المتسرع، قال:
"وأخبرتهم – أي: هذين الرجلين - ببراءة الشيخ محمد – أي: الشيخ محمد بن
عبدالوهاب - من هذا المعتَقَد والمذهب، وأنه لا يكفِّر إلا بما أجمع
المسلمون على تكفير فاعله منَ الشِّرك الأكبر، والكفر بآيات الله ورسله، أو
بشيء منها بعد قيام الحجة، وبلوغها المعتبر"، ثم استطرد - رحمه الله - في
بيان حال هذين الرجلين، وفي تفكيرهما لولاة أمور المسلمين، ولبعض أهل
العلم، ثم قال مخاطبًا هؤلاء المتسرعين في التكفير: "وقد بلغنا عنكم نحوٌ
من هذا، وخضتُم في مسائل من هذا الباب، كالكلام في المُوالاة والمعاداة،
والمصالحة والمكاتبات، وبذل الأموال والهدايا، ونحو ذلك من مقالة أهل الشرك
بالله والضلالات، والحكم بغير ما أنزل الله عند البوادي ونحوهم منَ
الجفاة، والتي لا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب، ومَن رُزق الفهم
عن الله وأوتي الحكمة وفصل الخطاب، والكلام في هذا يتوقف على معرفة ما
قَدَّمناه، ومعرفة أصول عامة كلية، لا يحوز الكلام في هذا الباب وفي غيره
لمن جهلها وأعرض عنها وعن تفاصيلها، فإنَّ الإجمال والإطلاق، وعدم العلم
بمعرفة مواقع الخطاب وتفاصيله، يحصل به منَ اللَّبس والخطأ، وعدم الفقه عن
الله ما يفسد الأديان، ويُشتت الأذهان، ويحول بينها وبين فهم السنة
والقرآن؛ قال ابن القيم في "كافيته" - رحمه الله تعالى -:
وَعَلَيْكَ بِالتَّفْصِيلِ وَالتَّبْيِينِ فَالْ إِطْلاَقُ وَالإِجْمَالُ دُونَ بَيَانِ قَدْ أَفْسَدَا هَذَا الوُجُودَ وَخَبَّطَا ال أَذْهَانَ وَالآرَاءَ كُلَّ زَمَانِ" |
انتهى كلام الشيخ عبداللطيف - رحمه الله تعالى[54].
وقال الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن أبابطين - رحمه الله
-: "وبالجملة فيجب على مَن نَصح نفسَه ألاَّ يتكلَّم في هذه المسألةِ، إلا
بعلمٍ وبرهان من الله، ولْيحذر مِن إخراج رجلٍ من الإسلام بمجرد فَهمه
واستحسان عقله؛ فإن إخراج رجل من الإسلام أو إدخالَه فيه أعظمُ أمور
الدين... وأيضًا: فما تنازع العلماءُ في كونه كفرًا، فالاحتياطُ للدين
التوقفُ وعدم الإقدام، ما لم يكن في المسألة نصٌّ صريح عن المعصوم - صلى
الله عليه وسلم - وقد استزلَّ الشيطان أكثرَ الناس في هذه المسألة، فقصر
بطائفة، فحَكَموا بإسلام مَن دلَّت نصوصُ الكتاب والسنة والإجماع على كفره،
وتعدَّى بآخرين فكفَّروا مَن حكم الكتابُ والسنة مع الإجماع بأنه مسلم،
ومن العجب: أن أحد هؤلاء لو سئل عن مسألة في الطهارة، أو البيع ونحوهما، لم
يُفتِ بمجرد فهمه، واستحسان عقله؛ بل يبحث عن كلام العلماء، ويفتي بما
قالوه، فكيف يعتمد في هذا الأمرِ العظيم، الذي هو أعظم أمور الدين، وأشدها
خطرًا على مجرد فهمه واستحسانه؟! فيا مصيبةَ الإسلام من هاتين الطائفتين!
ومحنته من تَيْنِكَ البَلِيَّتين!"؛ انتهى كلام الشيخ عبدالله أبابطين -
رحمه الله[55].
وقال الشيخ سليمان بن سحمان - رحمه الله - في إجابةٍ
لسؤال عن بعض المسائل المتعلقة بالتكفير: "الحمد لله وكفى، وسلام على عباده
الذين اصطفى، أما بعد؛ فقد تأملتُ ما ذَكره الأخ من المسائل التي ابتُلي
بالخوض فيها كثيرٌ من الناس مِن غير معرفة ولا إتقان، ولا بينة ولا دليل
واضح من السنة والقرآن، وقد كان غالب مَن يتكلم فيها بعضَ المتدينين من
العوام، الذين لا معرفةَ لهم بمدارك الأحكام، ولا خبرة لهم بمسالك مهالكها
المظلمة العظام، وليس لهم اطِّلاع على ما قرَّره أئمة الإسلام، ووضحوه في
هذه المباحث التي لا يتكلم فيها إلا فحولُ الأئمة الأعلام، وهذه المسائل قد
وضحها أهلُ العلم وقرروها، وحسبنا أن نسير على منهاجهم القويم، ونكتفي بما
وضحوه من التعليم والتفهيم، ونعوذ بالله من القول على الله بلا علم، وهذه
المسائل التي أشرت إليها لا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب، ومَن
رُزق الفهم عن الله وأوتي الحكمة وفصل الخطاب"؛ انتهى كلام الشيخ سليمان بن
سحمان - رحمه الله[56].
وجاء في بيان مجلس هيئة كبار العلماء في هذه البلاد -
المملكة العربية السعودية - في دورته التاسعة والأربعين المنعقدة في 2/ 4/
1419هـ برئاسة شيخنا عبدالعزيز بن عبدالله بن باز - رحمه الله - ما نصه:
"التكفير حكم شرعي، مَرَدُّه إلى الله ورسوله، فكما أن التحليل والتحريم
والإيجاب إلى الله ورسوله، فكذلك التكفير، وليس كلُّ ما وصف بالكفر مِن قول
أو فعل، يكون كفرًا أكبر مخرجًا عن الملة.
ولما كان مردُّ حكم التكفير إلى الله ورسوله، لم
يَجُز أن نكفِّر إلا مَن دل الكتاب والسنة على كفره دلالةً واضحة، فلا يكفي
في ذلك مجردُ الشبهة والظن؛ لما يترتب على ذلك من الأحكام الخطيرة، وإذا
كانت الحدود تُدرأ بالشبهات، مع أن ما يترتب عليها أقلُّ مما يترتب على
التكفير، فالتكفير أولى أن يُدْرَأَ بالشبهات؛ ولذلك حذر النبي - صلى الله
عليه وسلم - من الحكم بالتكفير على شخص ليس بكافر، فقال: ((أيما امرئ قال
لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه))،
وقد يَرِد في الكتاب والسنة ما يُفهم منه أن هذا القول، أو العمل، أو
الاعتقاد - كفرٌ، ولا يكفر مَن اتَّصف به؛ لوجود مانع يمنع مِن كفره، وهذا
الحكم كغيره من الأحكام التي لا تتم إلا بوجود أسبابها وشروطها، وانتفاء
موانعها، كما في الإرث، سببه القرابة مثلاً، وقد لا يرث بها؛ لوجود مانع؛
كاختلاف الدِّين، وهكذا الكفر، يُكرَه عليه المؤمنُ فلا يَكفر به، وقد ينطق
المسلم بكلمة الكفر؛ لغلبة فرحٍ، أو غضب، أو نحوهما؛ فلا يكفر بها؛ لعدم
القصد، كما في قصة الذي قال: (("اللهم أنت عبدي، وأنا ربك"، أخطأ من شدة
الفرح))، والتسرع في التكفير يترتب عليه أمورٌ خطيرة، من استحلال الدم
والمال، ومنع التوارث، وفسخ النكاح، وغيرها مما يترتب على الردة، فكيف يسوغ
للمؤمن أن يقدم عليه لأدنى شبهة؟!
وإذا كان هذا في ولاة الأمور، كان أشدَّ؛ لما يترتب
عليه من التمرُّد عليهم، وحمل السلاح عليهم، وإشاعة الفوضى، وسفك الدماء،
وفساد العباد والبلاد؛ ولهذا مَنَع النبي - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه
وسلم - من منابذتهم، فقال: ((إلاَّ أن ترَوْا كفرًا بواحًا، عندكم فيه من
الله برهان))، فأفاد قوله: ((إلا أن تروا)): أنه لا يكفي مجردُ الظن
والإشاعة، وأفاد قوله : ((كفرًا)): أنه لا يكفي الفسوقُ ولو كبِر؛ كالظلم،
وشرب الخمر، ولعب القمار، والاستئثار المحرم، وأفاد قوله: ((بواحًا)): أنه
لا يكفي الكفر الذي ليس ببواحٍ؛ أي: صريح ظاهر، وأفاد قوله: ((عندكم فيه من
الله برهان)): أنه لا بد من دليل صريح، بحيث يكون صحيح الثبوت، صريح
الدلالة، فلا يكفي الدليل ضعيف السند، ولا غامض الدلالة، وأفاد قوله: ((مِن
الله)): أنه لا عِبرة بقول أحد من العلماء، مهما بلغت منزلته في العلم
والأمانة، إذا لم يكن لقوله دليلٌ صريح صحيح من كتاب الله، أو سنة رسوله -
صلى الله عليه وسلم - وهذه القيود تدل على خطورة الأمر.
وجملة القول: أن التسرع في التكفير له خطرُه العظيم؛ لقول الله - عز وجل -: {قُلْ
إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ
مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا
لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33][57]؛ انتهى ما أردت نقله من بيان مجلس هيئة كبار العلماء بهذه البلاد - حرسها الله تعالى وجميع بلاد المسلمين.
وفي ختام هذه الرسالة، أحببت أن أنقل كلامًا للشيخ
الدكتور عبدالرحمن المحمود، ذكره في آخر مباحث رسالة "الحكم بغير ما أنزل
الله"، لخص فيه أكثرَ أحكام هذه المسألة، وذكر فيه وسطية أهل السنة
والجماعة، بين مَن غلا، وبين من جفا في هذه المسألة، قال - وفقه الله تعالى
-: "إن هناك فرقًا بين الحكم العام على فعل من الأفعال، أو أمر من الأمور
بأنه كفر، وبين تطبيقه على المعيَّن، وغلط في هذا طائفتان:
إحداهما: رأتْ أن المعين لا يُكفر
أبدًا، فأغلقت بابَ الردة؛ بدعوى صعوبة التطبيق على المعين؛ لعدم وجود شرط
من شروط التكفير، أو لوجود مانع من موانعه، كما سبقت الإشارة إلى شيء من
ذلك، عندما يقول المرجئة: إنه لا يكفر إلا المكذبُ بقلبه فقط، ومعنى ذلك
أننا لا نستطيع أن نحكم على أحد بالكفر بعينه لأي قول، أو فعل من الأفعال،
مهما كان ناقضًا للإسلام؛ لأنه قد يكون مؤمنًا لوجود التصديق في قلبه.
والأخرى: قالت إذا وُجِد الحُكْم
العامُّ على فِعلٍ منَ الأعمال بأنه كُفْر، دخل فيه جميع الأفراد ممن وقع
منهم هذا الفعل المُكَفِّر، وكفروا بأعيانهم، دون النَّظر إلى حال كلِّ فرد
على حدة؛ مِن حيث توفُّر شروط التَّكفير، وانتفاء موانعه.
أما أهل السنة، فإنهم لم يقولوا: إنَّ المُعَيَّن لا
يكفر أبدًا؛ كما أنهم لم يوقعوا التكفير على كل من فعل المُكَفِّر، دون
النظر إلى عوارض الأهليَّة.
ولو نَظَرْنا إلى فعل السلف - رحمهم الله تعالى -
لَوَجَدْنا أنهم كثيرًا ما يُطلقون التكفير في بعض الأفعال، والبدع،
والمقالات، ونحوها، وحينما يطبقونها على محلِّها بتكفير المعين، يُشَدِّدون
في التطبيق؛ لأنَّ مَن وقع منه ذلك قد يكون جاهلاً، أو متأوِّلاً تأويلاً
سائغًا[58]، أو حديث عهد بالإسلام، أو غير ذلك منَ الأمور التي تمنع منَ الحكم بتكفيره.
والإمام أحمد وغيره أطلقوا: أنَّ التَّجَهُّم وتعطيل
الصفات، أو القول بخلْق القرآن، أو إنكار رؤية الله، أوِ القَدَر - كُفر؛
لكنَّهم لم يُكَفِّروا الأعيان إلاَّ قليلاً ممن ثبت كفرهم، بتوفر الشروط،
وانتفاء الموانع، ومن ثَمَّ أُقيمَتْ عليهم أحكام الرِّدَّة منَ القتل
وغيره.
وممَّا سَبَقَ - ونحن نعرض لقضية الحكم بِغَيْر ما
أنزل الله - يمكن أن نقولَ: إنَّ هذه الدراسة جاءت لبيان حكم الإسلام،
وكلام العلماء في هذه المسألة، فهي دراسة نظريَّة تُبَيِّن الحكم الشرعي،
من خلال النصوص، وكلام أهل العلم فيها، أمَّا تطبيقها على محلِّها - في بلد
من البلاد - فهذا لا بدَّ من دراسة الواقع بشَكْل واضح، ثم تطبيق الحكم
عليه، مع مراعاة الشروط والموانع في التكفير"؛ انتهى كلام الشيخ عبدالرحمن
المحمود - وَفَّقه الله[59].
أسأل الله - تعالى - أن ينفعَ بهذه الرِّسالة كاتبَها
وجميع المسلمين، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه، صوابًا على سنة نبيه محمد
بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم - وأسأله - تعالى - أن يريَنا الحق حقًّا،
ويرزقنا اتِّباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً، ويرزقنا اجتنابه، وصلى الله
على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
[1] فمِن
موانع تكفير مَن أنكر معلومًا منَ الدين بالضرورة - الجهلُ، كأن يكون
حديثَ عهدٍ بإسلام، ومِن موانع تكفير مَن سَبَّ الله - تعالى - أو سب دين
الإسلام، أن يكون مُكرَهًا على ذلك، وهكذا، وسيأتي بيانٌ لهذه الموانع
وغيرها - إن شاء الله تعالى.
وفي المقابل فمَنِ ارتَكَبَ أحد المُكَفِّرات
السابقة؛ كأن يسب دين الإسلام مثلاً، وكان مُتَعَمِّدًا لذلك، ليس عن سبق
لسان أو نحوه، وكان عالمًا أنَّ هذا اللَّفظ من ألفاظ السَّبِّ والشَّتم،
وكان غير مُكْرَه؛ أي: اجْتمعت فيه شروط التكفير، وانتفت عنه موانعُه؛ فإنه
يُحْكَم بِكُفر هذا الشخص المعيَّن؛ لكن لا يجوز أن يَحْكُمَ عليه بالكفر
إلاَّ أهلُ العلم؛ كما سيأتي بيان ذلك - إن شاء الله تعالى.
وهذا التفصيل الذي يظهر منه الفرق بين الحكم المطلق،
والحكم على المُعَيَّن - موجودٌ في كثيرٍ منَ الأحكام الشَّرعيَّة، فمثلاً:
قَطْع يد السارق جاء حُكمه في الشرع عامًّا مُطلقًا؛ قال الله - تعالى -: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}
[المائدة: 38]؛ لكن لا يجوز قَطْع يد سارقٍ مُعينٍ، حتى تتوفَّر فيه جميع
شروط القطع، وتنتفي عنه جميع موانعه، فلا بدَّ أن يكونَ هذا السَّارق
المُعين بالغًا عاقلاً، ولا بُدَّ أن يكونَ سرق المال مِن حِرْزه، ولا بد
أن يَبْلُغ المالُ المسروق المقدارَ الذي تُقْطَع اليد بِسَرِقَتِه، ولا
بُدَّ أَلاَّ توجدَ شُبهة لهذا السارق في هذا المال، ونحو ذلك، فإذا
تَوَفَّرَتْ جميع شروط القَطْع، وانْتَفَتْ موانعه، وجب حينئذٍ الحكم
بِقَطْع يد هذا السارق المُعَيَّن.
وكذلك جاء الحكم بِتَوْريث الولد مِن والده عامًّا مطلقًا؛ قال - تعالى -: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}
[النساء: 11]؛ لكن لا يجوز تَوْريثُ وَلَدٍ مُعَيَّن مِن والده؛ حتى
تَتَوَفَّرَ فيه جميع شروط الإرث، وتنتفي عنه جميع موانِعه، فلا بُدَّ منَ
التَّأَكُّد من حياة الولد بعد وفاة الوالد، ولا بدَّ أن يكون الولد
موافقًا لوالده في الدِّين، وألاَّ يكونَ قاتلاً لوالده، وألاَّ يكونَ
رقيقًا، ونحو ذلك، فإذا توفرت جميع شروط الإرث في هذا الولد المُعَيَّن،
وانتفت عنه جميع موانع الإرث؛ حُكمَ بتوريثه مِن والده.
وكذلك جاء الحكم العامُّ بوجوب رجم الثَّيِّب
الزَّاني، لكن لا يجوز رَجْم رجل معين إذا زنا وهو ثَيِّب، حتى تَتَوَفَّر
فيه جميعُ شروط الرَّجم، وتنتفي عنه جميع موانعه، فلا بُدَّ أن يكونَ
عالمًا بتحريم الزنا، فقد يكون حديث عهد بإسلام، ولم يعلم بتحريمه، ولا
بدَّ أن يكونَ مُحْصنًا، وأن تنتفي الشُّبهة، ونحو ذلك، فإذا توفَّرت جميع
شروط الرَّجم في هذا الزاني المُعَيَّن، وانتفت عنه جميع موانعه؛ حُكِم
برجمه.
[2] "مجموع الفتاوى" 12/ 487، 489، 498.
[3] "مجموع الفتاوى" 10/ 372، وينظر المرجع نفسه 35/ 165، 166، و"المسائل الماردينية"؛ لشيخ الإسلام ابن تيميَّة ص 71.
[4] "بغية
المرتاد في الرَّد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية"؛ لشيخ الإسلام ابن
تيميَّة ص 353، 354، وقال شيخ الإسلام أيضًا؛ كما في "مجموع الفتاوى" 10/
329، 330: "لَعْن المطلق لا يستلزم لَعْن المُعَيَّن الذي قام به ما يمنع
لُحُوق اللعنة به، وكذلك التكفير المطلق والوعيد المطلق، ولهذا كان الوعيد
المُطْلَق في الكتاب والسنة مشروطًا بثبوت شروط وانتفاء موانع"، وينظر:
"بغية المرتاد" ص 311.
[5] ينظر: "شرح الطحاوية" ص 437.
[6] "الدُّرر السنية" 10/ 432، 433.
[7] ينظر: "مجموع فتاوى"؛ الشيخ ابن عثيمين، (جمع فهد السليمان 2/ 134).
[8] الأَوْلى: أن يقال: "ولا يعلم أنَّه مُحَرَّم"، وسيأتي بيان ذلك عند الكلام على شروط تكفير المعين - إن شاء الله تعالى.
[9] ينظر
رسالة: "التبيان نواقض الإسلام" (الطبعة السادسة: الملحق ص 75 - 76)، وكان
الشيخ قد قال في مقدمة هذه الطبعة ص 3: "كتبتُ ملحقًا آخِر الشرح في
التفريق بين تكفير الفعل وتكفير الفاعل؛ لأن بعض الناس يخلط بين الأمرين،
فيرى التلازُم بينهما، وهذا غلط كما ستراه موضحًا في الملحق".
[10] ينظر:
"الاستغاثة"؛ لشيخ الإسلام ابن تيميَّة 1/ 570، "إعلام الموقعين"، فصل
اعتبار النِّيات 3/ 62، "البحر الرائق" 5/ 134، ويُنظر: فتاوى شيخنا محمد
بن عُثيمين (جمع فهد السليمان 2/ 125، 126).
[11] ينظر
في مانِعِ الإكراه، وتفصيل صُوره ومسائله، وأقوال أهل العلم في ذلك:
"تعظيم قدر الصلاة" ص 930، "المغني" 12/ 292، 295، "صحيح البخاري" مع شرحه،
لابن بطال، أول كتاب الإكراه 8/290، 294، وشرحه، لابن حجر، 12/ 311، 315،
وشرحه، للعيني 24/95، 98، "تفسير القرطبي"، (تفسير الآية الأخيرة من سورة
البقرة 3/432)، "إيثار الحق"؛ لابن الوزير ص 395، 397، "البحر الرائق"
5/134، تفسير الآية (28) من آل عمران في تفاسير: "القرطبي"، و"ابن كثير"،
و"الشوكاني"، "جامع العلوم والحكم"، (شرح الحديث 39)، "سبيل النَّجاة
والفكاك" (الدليل الرابع عشر)، رسالة "منهج ابن تيميَّة في مسألة
التَّكفير" 1/ 266، 270، "رسالة ضوابط التكفير" ص 365، 375، "رسالة نواقض
الإيمان الاعتقادية، وضوابط التكفير عند السَّلَف"، 2/ 5، 19.
[12] "مختصر العلو" ص 177، "اجتماع الجُيُوش الإسلاميَّة" ص 165.
[13] "الاستغاثة" 1/ 381، 382.
[14] "مجموع الفتاوى" 11/ 406.
[15] "مدارج السالكين" 1/ 367.
[16] ينظر: "مجموعة الشيخ محمد بن عبدالوهاب" 12/ 60.
[17] "الدرر السنية" 10/ 433.
[18] ينظر: "فتاوى اللجنة الدائمة" 2/ 97، "الفتوى" (11043).
[19] ينظر:
"مجموع فتاوى شيخنا محمد بن عثيمين"، (جمع فهد السليمان 2/ 130، 131)، وقد
ذكر بعد كلامه السابق أدلَّة منَ القرآن والسنة لهذا المانع، ثم نقل
نقولات عن شيخ الإسلام ابن تيميَّة، وعن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب
فيها إثبات لهذا المانع، وبيان لبعض أدلته.
[20] ينظر: "رسالة نواقض الإيمان القولية والعملية"، العذر بالجهل ص 59، 64.
[21] ينظر:
"الفصل" 3/ 249، "المغني" الردة 12/ 277، "الشفا" 2/ 523، 524، 529، 530،
"منهاج السنة" 5/ 88، 125، "مختصر الفتاوى المصرية" ص 247، 248، "الرد على
الأخنائي" ص 61، 62، "مجموع الفتاوى" 35، 164، 165، "الاستغاثة" 2، 629،
630، "مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد"، "الدرر السنية" 1/ 235، 236،
520، 521، و10/ 386 - 474، "مجموعة التوحيد" 1/ 54، رسالتا الشيخ عبدالله
بن عبدالرحمن أبابطين في "تكفير المعين"، (مطبوعتان ضمن "الدرر السنية" 10/
351، 375)، رسالة "حكم تكفير المعين"؛ للشيخ إسحاق بن عبدالرحمن، "فتاوى
اللجنة الدائمة" 2/ 96، 100، "الفتوى" (11403)، "مجموع فتاوى شيخنا
عبدالعزيز بن باز" (جمع الطيار 2/ 528، 529)، رسالة "ضوابط التكفير": تكفير
المعين، "رسالة نواقض الإيمان القولية والعملية": العذر بالجهل، رسالة
"التبيان شرح نواقض الإسلام"، الملحق ص 75، 76، "المسائل المشتركة"؛
للدكتور محمد العروسي ص 303 وما بعدها.
ويُنظر رسالة "الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه"؛
لعبدالرزاق معاش، والتي أشرف عليها شيخنا عبدالرحمن بن ناصر البَرَّاك،
ورسالة "نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السَّلف"؛ للدكتور
محمد الوهيبي 1/ 225، 301، ففيهما تفصيل لمسائل هذا المانع.
[22] رواه
البخاري في الأنبياء (3478، 3481)، ومسلم في التوبة (2758، 2757)، من حديث
أبي هريرة، ومن حديث أبي سعيد، ورواه البخاري (3479)، من حديث حُذيفة، وقد
رواه أيضًا عدة منَ الصحابة، وأحاديثهم مُخَرَّجة في غير الصحيحين، وقد
ذَكَر شيخ الإسلام ابن تيميَّة؛ كما في "مجموع الفتاوى" 12/ 491، وابن
الوزير في "إيثار الحق" ص 394، أن هذا الحديث متواتِر.
[23] ينظر: "مجموع الفتاوى" 3/ 231، 230 وينظر: "الدرر السنية" 12/ 73، 74.
وقال أبو محمد ابن حزم في "الفصل" 3/ 252: "فهذا
إنسان جهل إلى أن مات أنَّ الله - عز وجل - يقدر على جمع رماده وإحيائه،
وقد غفر له؛ لإقراره وخوفه وجهله"، وينظر: "مختلف الحديث" ص 81، "إيثار
الحق" ص 394.
[24] ينظر: "الاستغاثة في الرد على البكري"؛ لشيخ الإسلام ابن تيمية 1/ 383.
[25] ينظر: "مدارج السالكين" 1/ 367.
[26] ينظر:
"الفصل" 3/251، 253، فقد ذكر ثلاثة أدلة أخرى لهذا المانع، وينظر: "منهج
ابن تيمية في التكفير" 1/243، 249، فقد نقل مؤلفها نصوصًا عن ابن تيميَّة،
فيها ذكر لتسعة أدلة لهذا المانع، وينظر: كتاب "القطع والظن" 2/ 469، 479،
المراجع المذكورة عند الإشارة إلى أقوال أهل العلم في المسائل التي يكون
الجهل بها مانعًا من تكفير المعين، ففيها أدلة كثيرة لهذا المانع.
[27] قال
الإمام الشافعي في "الأم": الأقضية 6/ 205: "لم نعلم أحدًا من سَلَف هذه
الأمة يقتدى به، ولا منَ التابعين بعدهم، رَدَّ شهادة أحد بتأويل، وإن خطأه
وضَلَّله، ورآه استحل فيه ما حرم عليه، ولا رد شهادة أحد بشيء من التأويل
كان له وجه يحتمله، وإن بلغ فيه استحلال الدم والمال، أو المفرط من القول".
وقال أبو محمد ابن حزم في "الفصل" 3/ 247: "ذهبتْ
طائفة إلى أنه لا يكفر ولا يفسق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فُتيا، وأنَّ
كل مجتهد في شيء من ذلك، فدان بما رأى أنه الحق، فإنه مأجور على كل حال،
وهو قول كلِّ من عرفنا له قولاً في هذه المسألة من الصحابة - رضي الله عنهم
- لا نعلم منهم في ذلك خلافًا أصلاً، إلا ما ذكرنا من اختلافهم في تكفير
مَن ترك صلاة متعمدًا، حتى خرج وقتها"، وينظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" 5/
563.
وقال ابن بَطَّال 8/ 595: "قال المهلب وغيره: لا
خِلاف بين العلماء أن كل متأوِّل معذور بتأوله، غير مأثوم فيه؛ إذا كان
تأويله ذلك مما يسوغ ويجوز في لسان العرب، أو كان له وجه في العلم".
وقال الحافظ في "الفتح": استتابة المرتدين، باب ما
جاء في المتأولين 12/ 304: "قال العلماء: كل متأول معذور بتأويله ليس يأثم؛
إذا كان تأويله سائغًا في لسان العرب، وكان له وجه في العلم".
[28] "منهاج السنة" 5/ 239.
[29] ينظر: "الإرشاد إلى معرفة الأحكام" ص 207.
[30] ينظر: "مجموع الفتاوى" 3/ 229، 231.
[31] ينظر: "مجموع الفتاوى" 12/ 489، 490/ 500، 501.
[32] ينظر: "مجموع فتاواه" - رحمه الله - (جمع فهد السليمان 2/ 136).
[33] قال
الشيخ عبدالرحمن السعدي في "الإرشاد" ص 209، بعد كلامه عن عذر التأويل
الذي سبق نقله قريبًا، وبعد ذكره أن المبتدعة الواقعين في المكفر ثلاثة
أقسام: قسم لا يُعذر؛ بل يكفر؛ لمعرفته بالحق، وإصراره على المخالفة، وقسم
آثِم؛ لعدم بحثِه عنِ الحق، وقسم ربما كان مغفورًا له؛ لجهله مع حرصه على
معرفة الحق، ولكن لم يتيسر له من يعلمه إيَّاه، قال - رحمه الله تعالى -:
"والمقصود أنَّه لا بد مِن هذا الملحظ في هذا المقام؛ لأنه وُجِد بعض
التَّفاصيل التي كَفَّر أهلُ العلم فيها مَن اتَّصف بها، وثَمَّ أُخَر من
جنسها لم يكفروه بها، والفرق بين الأمرين أن التي جزموا بكفره بها؛ لعدم
التأويل المسوغ، وعدم الشُّبهة المقيمة لبعض العُذر، والتي فصلوا فيها
القول؛ لكثرة التأويلات الواقعة فيها".
وقال الشيخ محمد بن عُثيمين؛ كما في "المجموع الثمين"
2/ 63: "النوع الثاني - أيْ من أنواع الجحود -: إنكار تأويل، وهو ألاَّ
يجحدها، ولكن يؤولها، وهذا نوعان: الأول: أن يكونَ لهذا التأويل مُسَوِّغ في اللُّغة العربيَّة، فهذا لا يوجب الكفر، الثاني:
ألاَّ يكونَ له مسوغ في اللغة العربية، فهذا موجب للكفر؛ لأنه إذا لم يكن
له مسوغ صار تكذيبًا، مثل أن يقول: ليس لله يد حقيقة، ولا بمعنى النِّعمة
أو القوة، فهذا كافر؛ لأنَّه نفاها نفيًا مطلقًا، فهو مكذب حقيقة، ولو قال
في قوله - تعالى -: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]: المراد
بيديه السموات والأرض، فهو كافر؛ لأنه لا يصح في اللغة العربية، ولا هو
مقتضى الحقيقة الشرعية، فهو منكر مُكَذِّب".
وتنظر أقوال أهل العلم في هذه المسألة في مراجع مانع
الجهل السابقة، وينظر أيضًا: "الشفا" 2/ 500، 529، "المغني" 12/ 276،
"مجموع فتاوى ابن تيمية" 20/ 263، 268، و35/ 161، 162، "إيثار الحق" ص 376،
377، 393، رسالة "منهج ابن تيمية في مسألة التكفير" 1/ 193، 250، رسالة
"ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة": ضابط الإعذار بالشبهة ص 357، 363،
رسالة "نواقض الإيمان القولية والعملية"، تكفير المتأول ص 75 - 80، رسالة
"نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السَّلَف" 2/ 20، 38.
[34] "مجموع الفتاوى" 23/ 346.
[35] ينظر: "فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم" 1/ 74.
[36] وينظر:
"الفصل" 3/ 285، "مجموع الفتاوى" 7/ 472، 20/ 263، 268، "إيثار الحق" ص
376، 406، "فتح الباري"، استتابة المرتدين 12/ 273، "الدرر السنية" 1/ 235،
236، "نواقض الإيمان الاعتقادية" 1/ 20، 34، "ضوابط التكفير" ص 333، 334،
وتُنظر: المراجع المذكورة فيما سبق عند الكلام على عذر الجهل.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيميَّة في كتاب "الاستغاثة"
1/ 282، 283: أنَّ الصحابة - رضي الله عنهم - لم يُكَفِّروا قدامة بن
مظعون - رضي الله عنه - لما شرب الخمر معتقدًا أنها تحل له ولأمثاله،
متأولاً قوله – تعالى -: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا} [المائدة: 93].
ذكر أنَّ الصحابة لم يكفروا قدامة، ومن عمل مثله عمله
بالاستحلال ابتداء؛ لأجل الشُّبهة التي عرضت لهم، حتى يتبين لهم الحق، فإن
أصروا على الجحود كفروا، وهذا الخبر رواه عبدالرَّزَّاق (17076)، ومن
طريقه البيهقي في "سننه" 8/ 315، 316، بإسناد صحيح، رجاله رجال الصَّحيحين،
وله شواهد عند عبدالرَّزَّاق وغيره، ينظر: "المُصَنَّف" (17075)،
"الإصابة" 3/ 220، وينظر "المصنف"؛ لابن أبي شيبة (9/ 546)، "مشكل الآثار"
(4441)، "الدر المنثور" 3/ 161، 174، وينظر كذلك: "منهاج السنة" 5/ 89، و6/
84، "مجموع الفتاوى" 7/ 619.
[37] يُنظر:
"منهاج السنة" 5/ 95، وينظر أيضًا: "مجموع الفتاوى" 3/ 282، 283، و7/ 217،
"المغني" 12/ 276 "الدرر السنية" 10/ 431، و 12/ 272.
وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي في "الإرشاد" ص 207،
208: "الخوارج الحرورية الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -
رضي الله عنه - ومَن معه من الصحابة والمسلمين، وكفروهم، واستحلوا دماءهم
الثابت بالكتاب والسنة والإجماع عصمتها واحترامها، فضللوهم، واستباحوا
قتالهم؛ حيث خرجوا عليهم، ولم يخرجوهم من دائرة الإسلام مع استحلالهم ما هو
من ضرورات الدِّين، ولكن التأويل الذي قام بقلوبهم، وظنوا أنه مراد الله
ورسوله مَنَعَ الصحابة من الحكم عليهم بالكفر؛ اتِّباعًا لقوله - تعالى -: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}
[البقرة: 286]، قال الله - تعالى -: "قد فعلت"، وهذا عام في كل ما أخطأ
فيه المؤمنون منَ الأمور العملية والأمور الخبرية؛ بل أبلغ من ذلك أنهم
يَروُون عنهم - أي يروون عنِ الخوارج - ويأخذون الأحاديث المتعلِّقة بالدين
إذا تبيَّن صِدقهم، مع أن مذهبهم - غير تكفير المسلمين - إنكارُ الشفاعة
في أهل الكبائر، مع ثبوتها وتواترها؛ ولكنهم مع عدم تكفيرهم لهم قد حكموا
عليهم بالضلال، والمروق منَ الشريعة، ومخالِفَة المسلمين، واستحلُّوا
قتالهم؛ بل رأوه من أفضل الأعمال المقربة منه؛ لشدة ضررهم في عقيدتهم
وسيفهم"؛ انتهى كلام الشيخ عبدالرحمن السعدي - رحمه الله.
[38] وهذا
الحكم لا يشْمَل غلاة الجهميَّة، قال الحافظ ابن القَيِّم؛ كما في "الدرر
السَّنيَّة" 10/ 374: "وأما غُلاة الجهميَّة فكغُلاة الرَّافضة، ليس
للطَّائفتينِ في الإسلام نصيب؛ ولذلك أخرجهم جماعة منَ السَّلَف منَ
الثِّنتين والسبعين، وقالوا: هم مباينون للملَّة"، وينظر: "منهج ابن تيمية
في التكفير" 1/ 198، 199.
[39] ينظر:
"الإيمان الأوسط" ص 374، 375، "مجموع الفتاوى" 7/ 507، 508، وينظر: ما سبق
نقله في أول هذه الرسالة من كلام شيخ الإسلام، الذي بين فيه موقف الإمام
أحمد وغيره منَ السَّلَف من بعض المعينين منَ الجهميَّة.
[40] ينظر توجيه كلام شيخ الإسلام هذا في "الدرر السنية" 10/ 373، من كلام الشيخ عبد الله أبابطين - رحمه الله.
[41] ينظر:
كتاب "الاستغاثة" 1/ 383، 384، وقال شيخ الإسلام كذلك كما في "مجموع
الفتاوى" 5/ 563، بعد ذكره لحيرة وضلال بعض الجهميَّة: "لكن لم يعرف هؤلاءِ
حقيقة ما جاء به الرسول، وحصل اضطراب في المعقول به، فحَصَل نقص في معرفة
السَّمع والعقل، وإن كان هذا النَّقص هو منتهى قدرة صاحبه، لا يَقْدر على
إزالته، فالعجز يكون عذرًا للإنسان في أنَّ الله لا يعذبه إذا اجتهد
الاجتهاد التام، هذا هو قول السَّلَف والأئمة، في أنَّ مَن اتَّقى الله ما
استطاع، إذا عجز عن معرفة بعض الحق، لَم يعذَّب به"، وينظر: المرجع نفسه
12/ 485، 489.
وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي - رحمه الله - في
"الإرشاد" ص 208، 209 عند كلامه على عذر التأويل: "وكذلك المعتَزِلة
ونحوهم، معروف معاملة الأئمة لهم، وأنهم مع شدة إنكارهم لبدعهم، لم يخرجوهم
من دائرة الإسلام، ويحكموا لهم بأحكام الكافرين، مع أن بدعهم مشتملة على
تكذيب نصوص كثيرة منَ الكتاب والسنة، ونفي صفات الله وعلوه على خلقه، وما
أشبه ذلك من الأصول العظيمة التي قررها الكتاب والسنة، مع إنكارهم
وتحريفهم، ومعاملتهم لأئمة أهل السنة تلك المعاملة القبيحة، لم يكفروهم، مع
أنهم صرحوا أن مقالاتهم كفر، ومشتملة على الكفر؛ وذلك لأجل تأويلهم
وجهلهم"؛ انتهى كلام الشيخ عبدالرحمن السعدي - رحمه الله - وقد سمى ردهم
للمعاني الظاهرة للنصوص وصرفها عن ظواهرها تكذيبًا.
[42] ينظر: مراجع عذر الإكراه، وعذر الجهل، وعذر التأويل السابقة.
[43] سيأتي
كلام الشيخين عبدالله بن عبدالرحمن أبابطين، ومحمد بن عثيمين - رحمهما
الله - في هذه المسألة قريبًا - إن شاء الله تعالى.
[44] البخاري
(6045)، ومسلم (61)، وله شواهد كثيرة تنظر في "مشكل الآثار" (855، 865)
وغيره، وقال ابن الوزير بعد ذِكره لِتَوَاتر هذه الأحاديث، وذكره ما يشهد
لها، قال في "إيثار الحق" ص 385: "وفي مجموع ذلك ما يشهد لصحة التغليظ في
تكفير المؤمن، وإخراجه منَ الإسلام مع شهادته بالتوحيد والنبوات، وخاصة مع
قيامه بأركان الإسلام، وتجنبه للكبائر، وظهور أمارات صدقه في تصديقه، لأجل
غلطة في بدعةٍ، لعل المكفِّر له لا يَسلم من مثلها أو قريب منها، فإنَّ
العصمة مرتفعة، وحُسن ظن الإنسان بنفسه لا يستلزم السلامة من ذلك عقلاً ولا
شرعًا؛ بل الغالب على أهل البدع شدة العُجب بنفوسهم، والاستحسان لبدعتهم".
وقال ابن دقيق العيد في "إحكام الأحكام" في آخر باب
اللعان 4/ 76، عند شرحه لحديث أبي ذر السابق: "وهذا وعيدٌ عظيم لمن كفر
أحدًا منَ المسلمين وليس كذلك، وهي وَرْطَة عظيمة، وَقَعَ فيها خَلْق كثير
منَ المتكلمين ومن المنسوبين إلى السُّنة وأهل الحديث، لما اختلفوا في
العقائد، فغلظوا على مخالفيهم، وحكموا بِكُفْرهم".
[45] انظر: "السَّيل الجَرَّار"، فصل: والرِّدَّة باعتقاد أو فعل أو زي أو لفظ كُفري 4/ 578.
[46] رواه
الإمام أحمد (8292)، وأبو داود (4901)، وابن حِبَّان (5712)، بإسنادٍ
حَسَنٍ، وله شاهِد مِن حديث جندب عند مسلم (2621)، مرفوعًا: ((أن رجلاً
قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله - تعالى - قال: مَن ذا الذي
يَتَأَلَّى عليَّ ألاَّ أغفر لفلان، فإنِّي قد غفرتُ لفلان، وأحبطتُ
عملك))، أو كما قال.
[47] "شرح
الطحاوية" ص 432، 436، 439، وجُملة "مِن عيوب أهل البدع... إلخ"، نَقَلها
فيما يظهر من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في "منهاج السنة" 5/ 251.
[48] "إيثار الحق على الخَلْق" ص 403.
[49] ينظر: "الدرر السنية" 10/ 423، 424، 425، وينظر: "منهاج السنة" 5/ 89، 125.
[50] رواه
الإمام أحمد (7382)، وأبو داود (4090) بإسناد صحيح، ورواه مسلم (2620)، عن
أبي سعيد وأبي هريرة، قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((العز
إزاره، والكبرياء رداؤه، فمَن ينازعني عذبته)).
[51] ينظر: "مجموع فتاواه"، (جمع فهد السليمان 2/ 133، 134).
[52] ينظر: تفسير هذه الآية في تفاسير: "القرطبي"، و"الشوكاني"، و"السعدي".
[53] ينظر: "مجموع الفتاوى" 35/ 100.
[54] ينظر: "الدرر السنية" 1/ 467، 469.
[55] ينظر: "الدر السنية" 10/ 374، 375.
[56] "الدرر السنية" 10/ 468، 469.
[57] ينظر: "مجلة البحوث الإسلامية" العدد (56) ص 357، 359.
[58] سبق بيان المراد بالتأويل السائغ عند الكلام على عُذر التأويل.
[59] ينظر: رسالة "الحكم بغير ما أنزل الله" ص 372، 373.
وقال الدكتور عبدالعزيز عبداللطيف في "نواقض الإيمان
القولية والعملية" ص 52، 54: "يُفَرِّق أهل السُّنَّة بين تكفير المطلق،
وتكفير المعين، ففي الأول يُطلق القول بتكفير صاحبه الذي تلبس بالكُفْر،
فيقال: "من قال كذا - أو فعل كذا - فهو كافر"، ولكن الشخص المعين الذي قاله
أو فعله لا يحكم بِكُفْره إطلاقًا؛ حتى تجتمع فيه الشروط، وتنتفي عنه
الموانع، فعندئذٍ تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وإذا ظهر لنا الفرق
بين التكفير المطلق وتكفير المعين، فسندرك خطأ فريقينِ منَ الناس، فهناك
فريقٌ منَ الناس قد غلا، فادَّعى تكفير المُعَيَّن بإطلاق، دون النظر إلى
الشروط والموانِع، وفريق آخر امتنع عن تكفير المعين بإطلاق، فأغْلَقَ باب
الردة"؛ انتهى كلام الدكتور عبدالعزيز عبداللطيف - وَفَّقه الله مختصرًا.
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..