مصطلح (الفساد) كما ورد في القرآن الكريم لا يدل على ما هو متعارف عليه في أذهان
عامة الناس، من أنّ كلمة الفساد تعني عدم الالتزام الشرعي، وبخاصة فيما
يتعلق بموضوع الأحكام الشرعية، التي تتعلق
بالسلوك الشخصي للإنسان، كشرب الخمر والزنى وعدم أداء الفرائض وسوء الأخلاق وما شابه.
إن المعنى الذي يطرحه القرآن الكريم لهذا المصطلح، أوسع بكثير مما هو متعارف عليه في أذهان عموم الناس.
فهل كانت الأرض مكاناً يسوده الاطمئنان والسلام والهدوء، لا فساد فيها ولا خراب، ولا تجاوز ولا تعدٍّ. حتى كان هذا المخلوق المكرّم عند اللّه هو مبدأ الفساد وسفك الدماء؟ حيث عرّفته الملائكة بهذين الأمرين المستهجنين، وكان من الرد الرباني على هذا الاستغراب الملائكي: (إني أعلم ما لا تعلمون)، إشارة إلى سر في هذا المخلوق، وحكمة في وجوده على الأرض وطبيعته ومسيرته وتكامله فيها. ولعلّ في الجواب الإلهي للملائكة إقراراً بهذا الجانب في الظاهرة الإنسانية، وكأنّ الفساد وسفك الدماء ملازمان لطبيعة الإنسان، بما تملكه من قدرة على الاختيار والإرادة والتجاوز: (إنّا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً).
وفي هذا المشهد القرآني الذي يقصّ علينا خلق الإنسان، وموقف الملائكة فيه، يمكن أن نثبت عدة قضايا وأفكار وملاحظات نجدها منتشرة في ثنايا آيات اللّه، بشكل مباشر أو إشارات أو تأكيدات، وبهذا نجد القرآن يفسر بعضه بعضاً، ونجده نسيجاً واحداً يتحدث عن حقائق مترابطة ومتكاملة في منظومة خاصة.
بعد هذه المقدمة التي جعلناها مدخلاً لبحثنا، وخرجنا منها بحقيقة أن الفساد ظاهرة إنسانية، تحكمها قوانين الإنسان فرداً ومجتمعاً، وأن ما يقابل هذه الظاهرة هو الصلاح والإصلاح، وأن حركة التضاد الموجودة بين هاتين الظاهرتين هي من العوامل التي تحكم مسيرة الأمم على الأرض، ومن ثم تحكم مسيرة الإنسان ونهاية الأرض: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون).
قال ابن منظور: «الفساد نقيض الصلاح... وتفاسد القوم: تدابروا وقطعوا الأرحام... واستفسد السلطان قائده إذا أساء إليه حتى استعصى عليه، والمفسدة خلاف المصلحة، والاستفساد خلاف الاستصلاح»(1).
وعن الراغب: «الفساد خروج الشيء عن الاعتدال ، قليلاً كان الخروج عنه أو كثيراً»(2)، ويضاده الصلاح، ويستعمل ذلك في النفس والبدن والأشياء الخارجة عن الاستفادة.
وإذا حللنا ما أورده علماء اللغة يمكن أن نخلص إلى أن الأشياء لها وظائف تؤديها ، ومهامّ تقوم بها، وأدوار متوقعة منها، وهذا هو صلاحها، فعند وجود خلل أو نقص في أداء الشيء لهذه الوظيفة أو المهمة أو الدور، يمكن أن نقول عنه إنه فسد، وهذا الخلل ناتج من خروج الشيء نفسه عن وضعه المتعارف عليه، فهو خلل أو خروج عن الاعتدال والاستقامة من داخله، أي إن لكل شيء مهمته المناسبة له، ففساد الآلة بخرابها، والجسم بمرضه وضعفه، والثمرة بفقدان طعمها، والدولة بنكوصها عن أداء مهماتها، وذلك بعدم انسجام أعضاء مجتمعها، وتنافر مجاميعه، وفقدان الأمن والوحدة الاجتماعية اللذين يحفظان تماسكه.
والفساد أمر مرفوض ومستهجن بالوجدان، وعند العقل العملي بشكل عام، فإن النفس لا تميل إليه ولا تسعى له، كما هو حال كثير من القضايا التي يُحسّنها العقل أو يقبّحها، بغض النظر عن مصاديقها ، وكذلك الحال في الصلاح الذي هو أمر مرغوب ومقبول وتميل له النفس، ولذا نجد الإنسان يرفض صفة الفساد في الأشياء، وينفر منها ويسعى إلى إصلاحها إن أمكنه.
وتارة يستعملها معبراً عن رأي السماء والشريعة في وصف الطغاة أو الخارجين عن الشريعة، أو في التحذير من عمل يؤدي إلى الفساد، كقوله تعالى: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً) (3)، وقوله: (إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) (4)، وقوله: (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها).
فيمكن القول: إن مصطلح الفساد في القرآن الكريم يصف حالة معينة عامة، وينقل تارة عن لسان المتشرعة، وتارة عن عامة الناس، وتارة عن المناوئين للرسالة. وقد يكون لكل مدرسة واتجاه فلسفي أو سياسي تحديد خاص لمضمون هذا المصطلح، وتفسير لهذه الظواهر وتقييم خاص لها، وفهم لطريقة علاجها والتعامل معها، وقد يلاحظ الموضوع بزوايا مختلفة حسب توجه الناظر وتقييمه وفق فهمه ومصلحته.
نخلص من هذا الاستعراض أن ذكر الأرض إشارة إلى عموم وسعة ما يشمله موضوع الفساد، فظاهرة الفساد التي يشير إليها القرآن الكريم ليست ظاهرة فردية أو شخصية، أو محدودة بمجتمع ضيق أو حالة معينة خاصة، بل هي ظاهرة تعم المجتمع الإنساني بغالبيته، فالمواضيع التي يطلق عليها القرآن الكريم مصطلح الفساد، تشمل الظواهر الإنسانية العامة والواسعة التي يصح إطلاق (الفساد في الأرض) عليها.
وقد نجد أن القرآن الكريم ينتقد أو يحذّر من بعض الظواهر ويطلق عليها لفظ الفساد، وهي لا تتصف بتلك السعة والشمولية، لكن عمق خطرها وأثرها السيئ يؤدي إلى فساد المجتمع كله، أو الحضارة السائدة، بحيث يمكن أن تدخل تحت عنوان الفساد في الأرض.
إن مما لا شك فيه أن المعتقد سواء كان الإيمان أو الكفر يلقي ظلاله على السلوك والعمل، ومجمل حياة الإنسان وارتباطاته المختلفة، سواء مع الطبيعة أو مع الإنسان، إلاّ أن ظاهرة الفساد كما تشير اكثر الآيات القرآنية تتعلق بسلوك الإنسان وتجاوزاته كظاهرة اجتماعية.
والسؤال الذي يطرح هنا هو إلى أي صلاح تشير هذه الآية: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها)؟ حيث يفهم أن هناك حالة صلاح، وما يعني من استقرار وسلام وتوازن وعدالة واتساق في الموازين، وأن هناك عملية إفساد وخراب لهذا الصلاح والاتساق والتوازن.
قد يكون الإصلاح الذي تشير إليه الآية الكريمة هو الصلاح الطبيعي والفطري والتكويني الذي خلق اللّه عليه الممكنات: (الذي أحسن كل شيء خلقه)، و(الذي خلق فهدى)، أي الإشارة إلى واقع الصلاح الذي يعم نظام الخلق والكون.
والاحتمال الآخر الذي يمكن ذكره في واقع الإصلاح هنا، هو الإشارة إلى دور الأنبياء في حفظ الاعتدال والاستقامة في المجتمعات الإنسانية، فقد كانوا (عليهم السلام) سبباً في حفظ الوجود الإنساني وكيانه الاجتماعي واستمرار النظام الكوني.
ويمكن أن تكون الإشارة إلى الأمرين معاً، الصلاح الفطري والتكويني، والإصلاح الإرشادي التبليغي بفعل الرسل والأنبياء والأولياء والمصلحين، الذين لولاهم لساخت الأرض بمن فيها.
*من الفساد في الأرض: التهديد لتماسك المجتمع
إن هناك حاجات رئيسية وحقوقاً أساسية يضمنها هذا الاجتماع، ولولاها لا يمكن لهذا التجمع أن يستمر نحو أهدافه، وهي حاجات طبيعية تفرضها حالة الإنسان الطبيعية، من غذاء، وسكن، وأمن، بغض النظر عن هويته الفكرية والسياسية، وتصاغ الأنظمة والقوانين والأعراف والمواثيق والعهود لتحفظ أمن المجتمع وسلامته داخلياً وخارجياً من جيرانه، وكذلك لتأمين وضع اقتصادي يضمن سبل المعيشة المناسبة وتطورها، لأفراد المجتمع مأوىً أو سكناً مناسباً، ويؤمن لهم ولأولادهم حياة كريمة محترمة. جميع هذه القضايا وما يشابهها تدخل في ضمن الأمور الحسبية، التي تعد من بركات المجتمع الإنساني وعوامل وجود المجتمعات، ولها الأثر في حفظ استمرار المجتمع، ولذا فهذه الحاجات والضمانات (الأمنية والاقتصادية والاجتماعية) تعد حقوقاً أساسية في كل مجتمع، وأي تهديد لهذه الحاجات أو خلل في تلبيتها أو كفايتها، وذلك من خلال إضعاف عوامل وجوده، وشلّ روابطه التي تحفظ استمراره واستقراره، وإحداث خلل بالمواثيق والاتفاقات والعهود بين أفراده، يعدّ تعدّياً على تلك الحقوق.
القرآن الكريم يسمي التهديد لهذه الحاجات الأساسية، والإخلال بهذه المواثيق والروابط التي تحفظ تماسك المجتمع، والتي تشكل البنية التحتية لأي مجتمع مدني، بالإفساد في الأرض، وهي عملية مستهجنة ويقدّر عموم أفراد المجتمع خطرها وآثارها المدمرة، ولذا اعتبر الحفاظ على هذه الوحدة الاجتماعية المستندة لهذا العامل أمراً مطلوباً من الجميع; لأنها تمس حياتهم جميعاً. ويتعرّض القرآن بشكل مفصّل تحت عنوان الإفساد في الأرض إلى ضمانات الأمن الاجتماعي، وخصوصاً الداخلي منه، وكذلك يتعرض إلى الحاجات الاقتصادية وسلامتها، كما يتعرض إلى المواثيق والعهود والروابط التي تحفظ المجتمع، وإلى خطر تجاوز العهود وانحلال الروابط.
وهناك جانب آخر من حفظ المجتمع واستمراره وتكامله يرتبط بنوع المثل الأعلى لذلك المجتمع، والروح الثقافية التي تبلور شخصية ووجود هذا الكيان الاجتماعي، واثر ذلك على استمرار المجتمع وتكامله، والخلل في نوعية المثل الأعلى الذي يشكل هوية كل مجتمع والتي تنعكس آثاره على تماسكه، فنوع المنهج والنظام السياسي السائد، ومدى ارتباطه باللّه وسيادته ومولويته على كل جوانب الحياة، وتفاعل المجتمع معها بالطاعة والقرب والحركة التكاملية باتجاه اللّه وصفاته، ينعكس ذلك على آثار هذا القرب من الحق على سعادة هذا المجتمع ورقيه وتماسكه(5): (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).
إن عملية الهداية والإرشاد التي يقوم بها الأنبياء والأولياء والصالحون، والتي تستهدف نقل المجتمع من حالة إلى حالة أرقى وأكثر كمالاً، قد تؤدي في آثارها إلى تغيرات في الروابط الاجتماعية والمواقع والأدوار، مما تنعكس آثارها على الاتفاقات والأعراف والقيم السائدة والتي كان لها أثر في استمرار المجتمع وبقائه، فتبدو وكأنها تهدد وحدة الكيان السائد فعلاً، ولذا يحاول الفراعنة على طول التاريخ أن يموهوا على الأمة ويخلطوا بين العامل الأول (الحاجات الأساسية وتلبيتها)، والعامل الثاني (نوعية المثل الأعلى)، من أجل كسب عامة الناس وبسطائهم لدعم مواقع الفراعنة وأصحاب المصالح والملا المرتبطين بهذا النظام ومؤسساته، كي تستمر الحالة السائدة.
ويصفون عملية الهداية بأنها تهديد للمجتمع، ومس بحاجاته المختلفة ووحدته وروابطه، ويرون أن الأنبياء والأولياء وأتباعهم يفرّقون بين الأب وابنه، وأنهم إرهابيون يثيرون الفتن والمشاكل.
وإذا لاحظنا اتهامات فرعون لموسى، وهي اتهامات كل الفراعنة -بغض النظر عن الزمان والمكان- للرسل وأصحابهم وأتباعهم نجد أنها كانت تمثل في جوهرها عملية خلط وتمويه بين العامل الأول والعامل الثاني، إذ حاول أن يدرج العامل الثاني ضمن الأول الذي هو تهديد وحدة المجتمع واستقراره (الفساد في الأرض): (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدعُ ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد). (وقال الملا من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك).
والقرآن الكريم تارة يطرح مسألة الحاكم، وتارة طبيعة الحكم، ويشير بالخصوص إلى ظاهرة الطغيان، والإسراف، والتعالي، والتكبّر واحتقار الآخرين، التي تبدو عادة من الحكام ضمن الأنظمة السياسية المستبدة، التي تكون فيها أجهزة الحكم والسلطة وقدرتها في خدمة شخص الحاكم لا الأمة، وتسحق فيها مصالح الأمة وكرامتها لتحقيق مصالح شخص الحاكم وكرامته، وتعتبر نزوات الحاكم قرارات، وشهواته مصالح أمة، بل تصبح الأمة بكل جهودها وقيمها أسيرة ما يضفيه الحاكم عليها من وجود وقيم.
القرآن يطرح قضية فرعون وهامان نموذجاً للأنظمة المستبدة التي أفسدت في الأرض:
(لا أراكم إلاّ ما أرى). (إنّ فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين). (إنّ فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين).
هذه الآية تشير إلى أثر الأنظمة المستبدة والفردية في تمزيق المجتمع (جعل أهلها شيعاً)، وعدم تماسكه وشيوع الاختلافات الواسعة فيه، وإلى منهج هذه الأنظمة الظالمة والمفسدة في الاعتماد على طائفة في ضرب الطائفة الأخرى; كي يبقى الحاكم فوق الجميع، فهناك في مجتمع الفراعنة الملا، أعوان الظلمة المتحكمون، والطائفة الأوسع التي يقع عليها الحيف والظلم والتجاوز والإرهاب والطغيان، ولعلّ هذا من أوضح عمليات الإفساد والتخريب التي تقوم بها الأنظمة والحكام المفسدون والفاسقون.
القرآن الكريم أشار إلى حقيقة اجتماعية وسياسية مهمة، ولفت الأذهان والأنظار إلى أثر الأنظمة السياسية الظالمة في تخريب وحدة المجتمعات وسقوطها، وضعف روابطها وتمزيقها. القرآن الكريم يقول صراحة إن سبب فساد المجتمعات بالمعنى الذي أشرنا إليه، هو الأنظمة السياسية المستبدة وطغيان الحكام: (الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد). (إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض). (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل).
ويجعل الخلاص من الحكام الفاسقين طريقاً إلى سعادة المجتمع واستقراره، وإن الحكام الظلمة هم سبب خراب العباد والبلاد.
والموضوع يطرح في عنوانه الكبير تحت عنوان «المشكلة الجنسية»، التي أصبحت في حضارة اليوم معلماً بارزاً وسيئاً وخطيراً، ولا سيما في الحضارة الغربية التي تحكم العالم اليوم، والجنسية المثلية التي يريد الغرب أن يقننها كظاهرة إنسانية مقبولة، يعتبرها القرآن من مصاديق ونماذج «الإفساد في الأرض» ، وآثار هذه الظاهرة وخرابها الآن يعم كل الأرض بما أفرزته من أمراض عجيبة، ولعلّ هذه المشكلة وشيوعها وتعقدّها تعتبر معلماً مهماً في حساب درجة الإفساد في الأرض، وما تعيشه حضارة الغرب التي تريد أن تلقي بظلالها السيئة على كل العالم، نموذج جلي لانهيار المجتمع وفساده وتفككه. والإحصائيات العديدة لآثار هذه الظاهرة السيئة تملأ الصحف.
إن شيوع ظاهرة الاعتداء والتجاوز والقتل تجعل المجتمع في رعب دائم، وخوف على الحاضر والمستقبل، مما يجعل الحياة بدون أمل، وغير قابلة للتطور.
العقود والعهود ظاهرة اجتماعية ملازمة للإنسان، يحفظ بها الإنسان وجوده، ويحتمي بها لتدبير معاشه وأمنه ووجوده، ولذا فالإسلام أعطاها موقعية خاصة.
العقود والعهود تارة تكون بين الأفراد لشؤون شخصية وفردية، وتارة تكون بين أمم ودول وتخص مصالحها وآثارها مجموع الأمة ككل وليس فرداً فرداً، وثالثة تكون بين الأمة كقانون وعرف وعقد اجتماعي يلزم الجميع به. ويسمي القرآن كذلك العلاقة بين الإنسان واللّه، والرابطة التي تحكم التزام الفرد به سبحانه بالعهد والميثاق.
أما ما يتعلق بموضوع بحثنا وهو (الفساد في الأرض)، وارتباطه مع موضوع نقض العقود والعهود، سواء كانت فردية أو أممية أو اجتماعية، فيمكن القول إن القرآن قد قرن في مواضع كثيرة في الكتاب العزيز بين الفساد وبين نقض العهود، بغض النظر عن نوعية هذا الاقتران، هل هو من باب التلازم أو التضمن، وعلى أي شكل كان. المهم في الموضوع أن نجد في نقض العهود والعقود فساداً في الأرض.
ومعنى الفساد الذي أشرنا إليه في مضامينه هو حالة الخراب والتفكك وضعف الارتباط التي تسود المجتمع، والتجاوز على حقوق الآخرين، التي من مجموعها نجد فيها نقضاً لعهد وعقد، سواء كان هذا النقض مع اللّه أو مع الأمة أو بين الناس أو بين الأفراد.
من هنا يمكن القول إن نقض العهود والعقود بأي شكل كان هو فساد في الأرض، وخراب لذلك المجتمع أو المؤسسة أو الدولة، ويمكن لنا أن نستشف مستقبل ومصير أي تجمع من خلال هذه الظاهرة المريضة (عدم الإيفاء بالعقود) لحكم على نهايته ومآله.
إن القرآن الكريم يعطي لليهود صفة نقض العهد، وصفة الإفساد، وفي ذلك إشارة إلى سجية اليهود كأمة في تعاملها مع باقي الأمم ونقضهم للمواثيق، وما يستلزم ذلك من اعتداء وتعدي وحروب، فيكونون بذلك أهل لصفة الفساد والإفساد في الأرض.
وفي مقابل ذلك نجد أن القرآن الكريم يفرض على المجتمع المسلم والدولة الالتزام بالعهود التي تبرمها مع الآخرين، وحتى في الأحكام الفردية تؤكد الشريعة على الالتزام بهذه العقود، حتى مع الأفراد المخالفين بالعقيدة، وحتى مع الدولة المخالفة; لان الالتزام بالعهود يضمن استمرار المجتمع، ويحفظ الحقوق ويعطي للحياة البشرية استقراراً ونمواً وتكاملاً.
ولذا كان نقض المواثيق والعهود يحتاج إلى موقف واضح وبين لتحمل نتائجه وآثاره، ولبيان الموقف الجديد، ولعلّ خصوصية سورة براءة التي فصمت عقداً بين المسلمين والمشركين، بعد أن تجاوزها المشركون ونكصوا عن التزاماتها، مما يكشف عن أهمية وخطر نقض العهود بين الأمم.
يثبت القرآن الكريم قانون وتشريع النصرة في الدين، ومن أجل الدين وبسبب الدين، هذا التشريع الذي يفرض على الجماعة المؤمنة المتمكنة، وبالتحقيق الدولة الإسلامية، نصرة من ينتمي إلى الدين في أي مكان كان، وفي أي تجمع كان يعيش، وبذلك يسن القرآن أنه في عالم الإسلام يكون للفرد المسلم الذي يعيش خارج دولة الإسلام نوع ارتباط وانتماء، وحق على الدولة في نصرته والدفاع عنه، عندما يتعلق الأمر بمعتقد المسلم وممارسته الدينية، أي عندما يُضيّق عليه بسبب انتمائه الإسلامي، أو يُحارب ويمنع من حقوقه بسبب انتمائه الديني. هنا تكون الدولة الإسلامية ملزمة بالنصرة والدفاع، إن طُلب منها النصر والمساعدة في الدفاع، عن المسلمين الذين يعيشون خارج رقعة الدولة الإسلامية.
ويستثني القرآن وجوب تلبية طلب النصرة مع الدول والأقوام والأمم، التي بينها وبين الدولة الإسلامية تعاهد وميثاق بالصلح ومعاهدة سلام.
وغير مجهولة قصة ذاك المسلم الذي طلب النصرة للخلاص من تعذيب قريش، بعد معاهدة وصلح الحديبية، ووقوف الرسول مكتوف اليد عن نصرته بسبب هذه المعاهدة والميثاق.
إن الخروج على المواثيق والمعاهدات بين الدول والأمم، سوف يؤدي إلى اضطراب في الأرض، وغياب القواعد والثقة في التعامل الدولي، مما يمنع أي فرصة لبناء علاقة تحفظ قيام مواثيق الصلح والسلام.
القرآن يعتبر الخروج على المواثيق فتنة وفساداً كبيراً. وما نشاهده اليوم في غياب الالتزام الحقيقي للمواثيق والعهود، تحت ذريعة قيام النظام العالمي الجديد، بداية لفساد كبير في الأرض، نجد مفرداتها واضحة بالحروب وعدم الاستقرار والاعتداءات وتجاوز الحقوق.
إننا فعلاً في عصر نعيش فيه الفتنة والفساد الكبير.
هناك آيات كثيرة في كتاب اللّه المجيد تؤكد على الوفاء بالمواثيق والالتزام بالعهود، وكذلك تؤكد الأحاديث هذا السياق.
(وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلُنّ علواً كبيراً).
الأمة اليهودية من الأمم الباقية إلى يوم القيامة، كما أشار القرآن الكريم ، ويلحظ في هذه الأمة أنها أمة متمزقة مشحونة بالعداوات والبغضاء، وما يستتبع ذلك من أحقاد وتآمر فيما بينهم. هذا هو الذي يقرره القرآن بحق هذه الأمة، فإذا وجدنا حالة من التماسك والانسجام فيها، فإنها تمثل حالة طارئة سرعان ما سوف ترجع إلى حالة العداوة والبغضاء.
هذه الأمة التي تعيش حالة العداوة فيما بينها، تعيش مع الآخرين حالة العدوان والحرب وتجاوز الحقوق والحدود، فهم يسعون للاعتداء ويؤججون نار الحرب، ويقرعون طبولها ، لكنهم غير قادرين على الاستمرار لنهايتها، وينكصون في نصف الطريق، وقد تكون هذه العداوة والبغضاء سبباً لانطفاء نار تأجيجهم للحروب.
هذه الأمة بهذه المواصفات أمة متمزقة تسود العداوة والبغضاء ما بين أبنائها. أمة نزاعة للحرب والاعتداء على الآخرين. هذه الأمة لا يمكن أن تكون إلاّ أمة فاسدة ومفسدة في الأرض. أمة تثير الحروب وتمزق الروابط وتعتدي على الحقوق ولا تلتزم بالمواثيق. أمة متآمرة حاقدة. هذه الأمة المفسدة ستتمكن من القدرة، وسينال فسادها وإيذائها الآخرين. ستعلو وستحول الأرض إلى صراعات وحروب وتآمر.
وشاء اللّه أن تكون هذه الأمة المفسدة المملؤة عداوة وبغضاء، والساعية إلى التدمير والاعتداء، هي التي تواجه الأمة الناجية والصالحة، وتناصبها العداء، وتحوك ضدها المؤامرات، وتسعى لنقض عهودها معها. هذه الأمة هي التي ستقف لصد نور الحق والعدل والصلاح على الأرض ما دام وجودها قائماً.
أمة اليهود أمة فاسدة ومفسدة في الأرض، واللّه لا يحب المفسدين، فلا يكتب لها النجاح في فسادها، ولا توفق في تحقيق أهدافها، ولن تفلح في الوصول إلى مراميها; لأنها ليست مع الفطرة ولا مع السنة الإلهية، ولأنها عقبة في طريق التكامل، فلابد أن يتم تجاوزها فاللّه لا يحب المفسدين.
والنتيجة التي نخلص إليها بهذا الصدد هي أن الفساد في الأرض المنسوب إلى اليهود، الذي تشير إليه هاتان الآيتان، ينسجم في معناه مع الاتجاه العام الذي يتضمنه معنى الفساد في الأرض، من مجمل آيات الكتاب الكريم. إنه نقض العهود والمواثيق، والاعتداء على حقوق الآخرين ومصالحهم. إنه إضعاف لروابط الناس بعضهم ببعض، وتخريب للأواصر التي تحفظ وحدة المجتمع وتماسكه. إنه إشاعة لكل الآفات والسبل التي تزرع في المجتمع العداوة والبغضاء والحقد والمشاحنات. إنه تأجيج للحروب والاعتداء والقتل بغير الحق . إنه تخريب للإنسان من داخله، وتخريب لمجتمع الإنسان ككل.
(أُذن للذين يقاتلون بأنّهم ظلموا وإن اللّه على نصرهم لقدير * الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلاّ أن يقولوا ربّنا اللّه ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبِيَع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم اللّه كثيراً ولينصرنّ اللّه من ينصره إنّ اللّه لقوي عزيز)(8). جاءت هذه الآية بعد آية الجهاد التي أذن فيها للمسلمين بقتال الكافرين، فهي في معرض تفسير وإيجاد إطار وخلفية لهذا الإذن، وبيان ملاكات الحكم بالجهاد والقتال.
فهي إذن متعلقة بالجهاد والصراع والقتال بين أهل الأرض، وبعبارة أدق بين أهل الإيمان والكفر، ولولا هذا الإذن بالجهاد ورد أهل الكفر، لكانت نتيجته أن هدّمت مواطن العبادة والحق والخير في الأرض، فهو إذنٌ عام لكل أهل اللّه ومسيرة الإيمان أن يواجهوا بقتال وسلاح أهل الكفر، الذين تعدوا الحقوق وطردوا المؤمنين وهجّروا أهل الخير وأخرجوهم من بلادهم.
إن اللّه تعالى أذن للجماعة المؤمنة أن ترد الظلم والاعتداء. هذا الإذن ملاكه أنه من أجل حفظ التوحيد والحق والعدالة في الأرض. إنه منع للفساد في الأرض. إنه لصالح الإنسان ولخيره، ولولا هذا الإذن بالتدافع لفسدت الأرض وحل الظلم والخراب فيها.
الدفع هنا معناه اللغوي واضح، وهو دفع أهل الإيمان لأهل الباطل وإبعادهم عن إيذاء المؤمنين، ودفعهم عن منعهم لأن يمارسوا حقّهم في العبادة، وحقّهم في التوجه لأهدافهم ومراميهم ومقاصدهم ودفعهم عن تهديد وجود الأمة وبيضتها ومصالحها.
الدفع هو الإبعاد (دفع اللّه) يشير فيه إلى السنّة والفطرة والقانون الإلهي الجاري بين الناس والأمم. (بعضهم ببعض) أي التدافع الموجود بين البشر عموماً (ما يسمى صراع الإرادات، وصراع المصالح، وصراع الحق والباطل). لولا هذا الصراع، أو لولا هذا الإذن بالصراع الجهادي المسلح -لأن الصراع الفكري كان موجوداً وجارياً فعلاً في مكة منذ أول بزوغ الدعوة- لعم الفساد في الأرض، ولم ترتفع راية الحق، ولساد الظلم على الجميع.
والقرآن يفسر بعضه بعضاً. الآية الأولى تقول: (لولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)، والآية الثانية تقول: (لولا دفع اللّه بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم اللّه كثيرا)، وبالجمع بين الآيتين نصل إلى أن الفساد في الأرض يساوي انهدام مراكز ذكر اللّه، ويساوي انحلال مواقع الداعية لإقامة الخير، ويعادل غياب المؤسسات الداعية إلى الحق والصلاح، ويماثل غياب الصوت الداعي إلى الإصلاح والصلاح في الأرض.
فلابد إذن، عند الاقتضاء من الكفاح المسلح والقتال والجهاد، وما يستلزمه ذلك من تضحية ودماء وآلام ومعاناة وتشريد وهجرة; لإبقاء الأرض صالحة، ولمنع فسادها وخرابها. وهذه هي سنّة اللّه في الأرض، وحكمته التي أجراها فيها وفي عباده وبين الناس.
(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين للّه).
ولعل في جواب اللّه على تساؤلات الملائكة بـ(إني أعلم ما لا تعلمون)، إشارة إلى هذه الحكمة والسنّة، ولعلّ الملائكة الذين استغربوا ذلك الجعل بقولهم : (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)، غاب عنهم أن قسماً من الدماء التي تجري في الأرض من مستلزمات بقاء الأرض والحياة والخير، وأنه لولا هذه الدماء لفسدت الأرض، ولعمّ فيها الخراب والظلم والظلام.
واللّه أعلم. (إني أعلم ما لا تعلمون).
(1) لسان العرب 3:335.
(2) معاني القرآن: 379.
(3) القصص: 83.
(4) الأنفال: 73.
(5) راجع الشهيد الصدر في محاضراته القرآنية وفي آثار العبادة على المجتمع.
(6) المائدة:64.
(7) البقرة: 251.
(8) الحج: 39 ـ 40.
المصدر
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
بالسلوك الشخصي للإنسان، كشرب الخمر والزنى وعدم أداء الفرائض وسوء الأخلاق وما شابه.
إن المعنى الذي يطرحه القرآن الكريم لهذا المصطلح، أوسع بكثير مما هو متعارف عليه في أذهان عموم الناس.
*الإنسان وظاهرة الفساد:
إن الانطباع الأول الذي تبادر عند الملائكة حينما خلق اللّه آدم،
وأخبرهم أنه جاعل في الأرض خليفة، كان استفهاماً استغرابياً عن إنشاء هذا
المخلوق الجديد، وذلك قولهم: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء). فهل كانت الأرض مكاناً يسوده الاطمئنان والسلام والهدوء، لا فساد فيها ولا خراب، ولا تجاوز ولا تعدٍّ. حتى كان هذا المخلوق المكرّم عند اللّه هو مبدأ الفساد وسفك الدماء؟ حيث عرّفته الملائكة بهذين الأمرين المستهجنين، وكان من الرد الرباني على هذا الاستغراب الملائكي: (إني أعلم ما لا تعلمون)، إشارة إلى سر في هذا المخلوق، وحكمة في وجوده على الأرض وطبيعته ومسيرته وتكامله فيها. ولعلّ في الجواب الإلهي للملائكة إقراراً بهذا الجانب في الظاهرة الإنسانية، وكأنّ الفساد وسفك الدماء ملازمان لطبيعة الإنسان، بما تملكه من قدرة على الاختيار والإرادة والتجاوز: (إنّا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً).
وفي هذا المشهد القرآني الذي يقصّ علينا خلق الإنسان، وموقف الملائكة فيه، يمكن أن نثبت عدة قضايا وأفكار وملاحظات نجدها منتشرة في ثنايا آيات اللّه، بشكل مباشر أو إشارات أو تأكيدات، وبهذا نجد القرآن يفسر بعضه بعضاً، ونجده نسيجاً واحداً يتحدث عن حقائق مترابطة ومتكاملة في منظومة خاصة.
بعد هذه المقدمة التي جعلناها مدخلاً لبحثنا، وخرجنا منها بحقيقة أن الفساد ظاهرة إنسانية، تحكمها قوانين الإنسان فرداً ومجتمعاً، وأن ما يقابل هذه الظاهرة هو الصلاح والإصلاح، وأن حركة التضاد الموجودة بين هاتين الظاهرتين هي من العوامل التي تحكم مسيرة الأمم على الأرض، ومن ثم تحكم مسيرة الإنسان ونهاية الأرض: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون).
*المعنى اللغوي للفساد:
لعلَّ من المفيد تناول المعنى اللغوي للفساد من خلال معاجم اللغة، لنقارن بينه وبين استعمال القرآن لهذا المصطلح. قال ابن منظور: «الفساد نقيض الصلاح... وتفاسد القوم: تدابروا وقطعوا الأرحام... واستفسد السلطان قائده إذا أساء إليه حتى استعصى عليه، والمفسدة خلاف المصلحة، والاستفساد خلاف الاستصلاح»(1).
وعن الراغب: «الفساد خروج الشيء عن الاعتدال ، قليلاً كان الخروج عنه أو كثيراً»(2)، ويضاده الصلاح، ويستعمل ذلك في النفس والبدن والأشياء الخارجة عن الاستفادة.
وإذا حللنا ما أورده علماء اللغة يمكن أن نخلص إلى أن الأشياء لها وظائف تؤديها ، ومهامّ تقوم بها، وأدوار متوقعة منها، وهذا هو صلاحها، فعند وجود خلل أو نقص في أداء الشيء لهذه الوظيفة أو المهمة أو الدور، يمكن أن نقول عنه إنه فسد، وهذا الخلل ناتج من خروج الشيء نفسه عن وضعه المتعارف عليه، فهو خلل أو خروج عن الاعتدال والاستقامة من داخله، أي إن لكل شيء مهمته المناسبة له، ففساد الآلة بخرابها، والجسم بمرضه وضعفه، والثمرة بفقدان طعمها، والدولة بنكوصها عن أداء مهماتها، وذلك بعدم انسجام أعضاء مجتمعها، وتنافر مجاميعه، وفقدان الأمن والوحدة الاجتماعية اللذين يحفظان تماسكه.
والفساد أمر مرفوض ومستهجن بالوجدان، وعند العقل العملي بشكل عام، فإن النفس لا تميل إليه ولا تسعى له، كما هو حال كثير من القضايا التي يُحسّنها العقل أو يقبّحها، بغض النظر عن مصاديقها ، وكذلك الحال في الصلاح الذي هو أمر مرغوب ومقبول وتميل له النفس، ولذا نجد الإنسان يرفض صفة الفساد في الأشياء، وينفر منها ويسعى إلى إصلاحها إن أمكنه.
*الاستعمال القرآني للفساد:
من خلال تناول القرآن الكريم لهذا المصطلح. إن القرآن الكريم لا يستعمل
مصطلح الفساد بمعناه الشرعي الخاص فقط، فقد نقله تارة عن لسان العصاة
والظالمين في وصفهم لحركة الأنبياء والصالحين، كما في وصف أتباع فرعون
لدعوة موسى وحركته الإصلاحية بقولهم: (أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض)،
أو وصف فرعون لدعوة موسى بقوله: (ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن
يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)، أو قول بلقيس في وصف عمل الملوك:
(إنّ الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة). وتارة يستعملها معبراً عن رأي السماء والشريعة في وصف الطغاة أو الخارجين عن الشريعة، أو في التحذير من عمل يؤدي إلى الفساد، كقوله تعالى: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً) (3)، وقوله: (إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) (4)، وقوله: (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها).
فيمكن القول: إن مصطلح الفساد في القرآن الكريم يصف حالة معينة عامة، وينقل تارة عن لسان المتشرعة، وتارة عن عامة الناس، وتارة عن المناوئين للرسالة. وقد يكون لكل مدرسة واتجاه فلسفي أو سياسي تحديد خاص لمضمون هذا المصطلح، وتفسير لهذه الظواهر وتقييم خاص لها، وفهم لطريقة علاجها والتعامل معها، وقد يلاحظ الموضوع بزوايا مختلفة حسب توجه الناظر وتقييمه وفق فهمه ومصلحته.
*الفساد في الأرض:
هناك شبه تلازم في القرآن الكريم بين مصطلح (الفساد) وبين كلمة (الأرض)،
وإذا قمنا بعملية إحصائية بسيطة، فسوف نجد أن الكتاب الحكيم استخدم كلمة
(الفساد) وتصريفاتها بحدود خمسين مرة، وفي جميع هذه الاستخدامات كان يرد
اسم الأرض أو إشارة إليها، ما عدا إحدى عشرة مرة لم يرد فيها ذكر الأرض;
لان الاستعمال كان في معرض وصف عمل المفسدين وعاقبته: (فانظر كيف كان عاقبة
المفسدين)، أو في معرض الدعاء: (قال ربي انصرني على القوم المفسدين)، أو
في معرض بيان إحاطة العلم الإلهي: (وربك أعلم بالمفسدين)، وتكرر هذا المقطع
اكثر من مرة، فيكون الاستعمال الأكثر تكراراً. وفي مختلف صور استعمال كلمة
الفساد جاءت مقترنة بكلمة الأرض، وهو الغالب في الاستخدام القرآني، وجاءت
مرة مقترنة بذكر البر والبحر، ومرة أضيفت السماوات إلى الأرض. وبذلك يمكن
القول: إن الاستعمال الغالب الذي به يمكن أن يشكل مصطلحاً قرآنياً ذا معنىً
خاص ومضمون محدود، يمكن استكشافه من دراسة عموم الآيات وسياقها، التي ورد
فيها ذكر الفساد مقترناً بكلمة الأرض، كما نلاحظ هذه المجموعة من الآيات:
(ولا تبغ الفساد في الأرض). (مفسدون في الأرض). (ولا تعثوا في الأرض
مفسدين). (أو أن يظهر في الأرض الفساد). (لتفسدن في الأرض مرتين). (ولا
تفسدوا في الأرض). (ما جئنا لنفسد في الأرض). (ويسعون في الأرض فسادا).
(كالمفسدين في الأرض). (فساداً في الأرض). (لفسدت الأرض). نخلص من هذا الاستعراض أن ذكر الأرض إشارة إلى عموم وسعة ما يشمله موضوع الفساد، فظاهرة الفساد التي يشير إليها القرآن الكريم ليست ظاهرة فردية أو شخصية، أو محدودة بمجتمع ضيق أو حالة معينة خاصة، بل هي ظاهرة تعم المجتمع الإنساني بغالبيته، فالمواضيع التي يطلق عليها القرآن الكريم مصطلح الفساد، تشمل الظواهر الإنسانية العامة والواسعة التي يصح إطلاق (الفساد في الأرض) عليها.
وقد نجد أن القرآن الكريم ينتقد أو يحذّر من بعض الظواهر ويطلق عليها لفظ الفساد، وهي لا تتصف بتلك السعة والشمولية، لكن عمق خطرها وأثرها السيئ يؤدي إلى فساد المجتمع كله، أو الحضارة السائدة، بحيث يمكن أن تدخل تحت عنوان الفساد في الأرض.
*الفساد والكفر:
مما سبق يمكن أن نقول: إن موضوع الفساد غير موضوع الكفر، فالكفر مجاله
الظلم والخطأ في المعتقد، والجحود باللّه وكفران نعمته، أمّا الفساد
فموضوعه عمل الإنسان وفعله ونتاجه وعلاقاته وروابطه. إن مما لا شك فيه أن المعتقد سواء كان الإيمان أو الكفر يلقي ظلاله على السلوك والعمل، ومجمل حياة الإنسان وارتباطاته المختلفة، سواء مع الطبيعة أو مع الإنسان، إلاّ أن ظاهرة الفساد كما تشير اكثر الآيات القرآنية تتعلق بسلوك الإنسان وتجاوزاته كظاهرة اجتماعية.
*الفساد والظلم:
يستعمل القرآن الكريم مصطلح (الظلم) في موارد كثيرة واستعمالات متعددة،
فمصطلح (الظلم) يشمل في القرآن الكريم ظلم الإنسان نفسه بالكفر والجحود
والمعصية، وظلمه أخاه بتعديه على حقوقه، وظلم الحاكم للمجتمع بقهره
واستعباده، وظلم مجتمع لمجتمع بالعدوان عليه، وظلم مجتمع أو قوم لنبي
بتكذيبه ومحاربة دعوته. ويبدو أن الفساد قد يشترك مع بعض أشكال الظلم الذي
يكون موضوعه المجتمع، فيزعزع استقراره وتماسكه وانسجامه ككل. وسوف نتناول
هذا الموضوع بشيء من التفصيل عند بحث مصطلح الظلم في القرآن الكريم.
*الفساد والإصلاح:
لعلّ ما يقابل مصطلح (الفساد) في القرآن الكريم هو مصطلح (الإصلاح)، وقد
اقترن كثير من الآيات التي تذكر الفساد في الأرض بموضوع الإصلاح، حيث ذُكر
في اكثر من مورد (بعد إصلاحها)، أو (ينهون عن الفساد في الأرض)، أو
(يفسدون في الأرض ولا يصلحون)، وما شابه من الموارد. والسؤال الذي يطرح هنا هو إلى أي صلاح تشير هذه الآية: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها)؟ حيث يفهم أن هناك حالة صلاح، وما يعني من استقرار وسلام وتوازن وعدالة واتساق في الموازين، وأن هناك عملية إفساد وخراب لهذا الصلاح والاتساق والتوازن.
قد يكون الإصلاح الذي تشير إليه الآية الكريمة هو الصلاح الطبيعي والفطري والتكويني الذي خلق اللّه عليه الممكنات: (الذي أحسن كل شيء خلقه)، و(الذي خلق فهدى)، أي الإشارة إلى واقع الصلاح الذي يعم نظام الخلق والكون.
والاحتمال الآخر الذي يمكن ذكره في واقع الإصلاح هنا، هو الإشارة إلى دور الأنبياء في حفظ الاعتدال والاستقامة في المجتمعات الإنسانية، فقد كانوا (عليهم السلام) سبباً في حفظ الوجود الإنساني وكيانه الاجتماعي واستمرار النظام الكوني.
ويمكن أن تكون الإشارة إلى الأمرين معاً، الصلاح الفطري والتكويني، والإصلاح الإرشادي التبليغي بفعل الرسل والأنبياء والأولياء والمصلحين، الذين لولاهم لساخت الأرض بمن فيها.
*من الفساد في الأرض: التهديد لتماسك المجتمع
إن هناك حاجات رئيسية وحقوقاً أساسية يضمنها هذا الاجتماع، ولولاها لا يمكن لهذا التجمع أن يستمر نحو أهدافه، وهي حاجات طبيعية تفرضها حالة الإنسان الطبيعية، من غذاء، وسكن، وأمن، بغض النظر عن هويته الفكرية والسياسية، وتصاغ الأنظمة والقوانين والأعراف والمواثيق والعهود لتحفظ أمن المجتمع وسلامته داخلياً وخارجياً من جيرانه، وكذلك لتأمين وضع اقتصادي يضمن سبل المعيشة المناسبة وتطورها، لأفراد المجتمع مأوىً أو سكناً مناسباً، ويؤمن لهم ولأولادهم حياة كريمة محترمة. جميع هذه القضايا وما يشابهها تدخل في ضمن الأمور الحسبية، التي تعد من بركات المجتمع الإنساني وعوامل وجود المجتمعات، ولها الأثر في حفظ استمرار المجتمع، ولذا فهذه الحاجات والضمانات (الأمنية والاقتصادية والاجتماعية) تعد حقوقاً أساسية في كل مجتمع، وأي تهديد لهذه الحاجات أو خلل في تلبيتها أو كفايتها، وذلك من خلال إضعاف عوامل وجوده، وشلّ روابطه التي تحفظ استمراره واستقراره، وإحداث خلل بالمواثيق والاتفاقات والعهود بين أفراده، يعدّ تعدّياً على تلك الحقوق.
القرآن الكريم يسمي التهديد لهذه الحاجات الأساسية، والإخلال بهذه المواثيق والروابط التي تحفظ تماسك المجتمع، والتي تشكل البنية التحتية لأي مجتمع مدني، بالإفساد في الأرض، وهي عملية مستهجنة ويقدّر عموم أفراد المجتمع خطرها وآثارها المدمرة، ولذا اعتبر الحفاظ على هذه الوحدة الاجتماعية المستندة لهذا العامل أمراً مطلوباً من الجميع; لأنها تمس حياتهم جميعاً. ويتعرّض القرآن بشكل مفصّل تحت عنوان الإفساد في الأرض إلى ضمانات الأمن الاجتماعي، وخصوصاً الداخلي منه، وكذلك يتعرض إلى الحاجات الاقتصادية وسلامتها، كما يتعرض إلى المواثيق والعهود والروابط التي تحفظ المجتمع، وإلى خطر تجاوز العهود وانحلال الروابط.
وهناك جانب آخر من حفظ المجتمع واستمراره وتكامله يرتبط بنوع المثل الأعلى لذلك المجتمع، والروح الثقافية التي تبلور شخصية ووجود هذا الكيان الاجتماعي، واثر ذلك على استمرار المجتمع وتكامله، والخلل في نوعية المثل الأعلى الذي يشكل هوية كل مجتمع والتي تنعكس آثاره على تماسكه، فنوع المنهج والنظام السياسي السائد، ومدى ارتباطه باللّه وسيادته ومولويته على كل جوانب الحياة، وتفاعل المجتمع معها بالطاعة والقرب والحركة التكاملية باتجاه اللّه وصفاته، ينعكس ذلك على آثار هذا القرب من الحق على سعادة هذا المجتمع ورقيه وتماسكه(5): (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).
إن عملية الهداية والإرشاد التي يقوم بها الأنبياء والأولياء والصالحون، والتي تستهدف نقل المجتمع من حالة إلى حالة أرقى وأكثر كمالاً، قد تؤدي في آثارها إلى تغيرات في الروابط الاجتماعية والمواقع والأدوار، مما تنعكس آثارها على الاتفاقات والأعراف والقيم السائدة والتي كان لها أثر في استمرار المجتمع وبقائه، فتبدو وكأنها تهدد وحدة الكيان السائد فعلاً، ولذا يحاول الفراعنة على طول التاريخ أن يموهوا على الأمة ويخلطوا بين العامل الأول (الحاجات الأساسية وتلبيتها)، والعامل الثاني (نوعية المثل الأعلى)، من أجل كسب عامة الناس وبسطائهم لدعم مواقع الفراعنة وأصحاب المصالح والملا المرتبطين بهذا النظام ومؤسساته، كي تستمر الحالة السائدة.
ويصفون عملية الهداية بأنها تهديد للمجتمع، ومس بحاجاته المختلفة ووحدته وروابطه، ويرون أن الأنبياء والأولياء وأتباعهم يفرّقون بين الأب وابنه، وأنهم إرهابيون يثيرون الفتن والمشاكل.
وإذا لاحظنا اتهامات فرعون لموسى، وهي اتهامات كل الفراعنة -بغض النظر عن الزمان والمكان- للرسل وأصحابهم وأتباعهم نجد أنها كانت تمثل في جوهرها عملية خلط وتمويه بين العامل الأول والعامل الثاني، إذ حاول أن يدرج العامل الثاني ضمن الأول الذي هو تهديد وحدة المجتمع واستقراره (الفساد في الأرض): (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدعُ ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد). (وقال الملا من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك).
*نوع الأنظمة السياسية والفساد في الأرض:
القرآن الكريم يشير إلى مسألة النظام السياسي بالخصوص، وأثره في تمزيق
المجتمع وتفتيت وحدته وتهديد كيانه، التي هي بمجموعها عملية إفساد للمجتمع
وإفساد في الأرض. والقرآن الكريم تارة يطرح مسألة الحاكم، وتارة طبيعة الحكم، ويشير بالخصوص إلى ظاهرة الطغيان، والإسراف، والتعالي، والتكبّر واحتقار الآخرين، التي تبدو عادة من الحكام ضمن الأنظمة السياسية المستبدة، التي تكون فيها أجهزة الحكم والسلطة وقدرتها في خدمة شخص الحاكم لا الأمة، وتسحق فيها مصالح الأمة وكرامتها لتحقيق مصالح شخص الحاكم وكرامته، وتعتبر نزوات الحاكم قرارات، وشهواته مصالح أمة، بل تصبح الأمة بكل جهودها وقيمها أسيرة ما يضفيه الحاكم عليها من وجود وقيم.
القرآن يطرح قضية فرعون وهامان نموذجاً للأنظمة المستبدة التي أفسدت في الأرض:
(لا أراكم إلاّ ما أرى). (إنّ فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين). (إنّ فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين).
هذه الآية تشير إلى أثر الأنظمة المستبدة والفردية في تمزيق المجتمع (جعل أهلها شيعاً)، وعدم تماسكه وشيوع الاختلافات الواسعة فيه، وإلى منهج هذه الأنظمة الظالمة والمفسدة في الاعتماد على طائفة في ضرب الطائفة الأخرى; كي يبقى الحاكم فوق الجميع، فهناك في مجتمع الفراعنة الملا، أعوان الظلمة المتحكمون، والطائفة الأوسع التي يقع عليها الحيف والظلم والتجاوز والإرهاب والطغيان، ولعلّ هذا من أوضح عمليات الإفساد والتخريب التي تقوم بها الأنظمة والحكام المفسدون والفاسقون.
القرآن الكريم أشار إلى حقيقة اجتماعية وسياسية مهمة، ولفت الأذهان والأنظار إلى أثر الأنظمة السياسية الظالمة في تخريب وحدة المجتمعات وسقوطها، وضعف روابطها وتمزيقها. القرآن الكريم يقول صراحة إن سبب فساد المجتمعات بالمعنى الذي أشرنا إليه، هو الأنظمة السياسية المستبدة وطغيان الحكام: (الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد). (إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض). (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل).
ويجعل الخلاص من الحكام الفاسقين طريقاً إلى سعادة المجتمع واستقراره، وإن الحكام الظلمة هم سبب خراب العباد والبلاد.
*نماذج قرآنية للفساد في الأرض الجنسية المثلية:
يذكر القرآن الكريم مصداقاً للفساد في الأرض ضمن دعوات قوم لوط وقوم
شعيب، فالقرآن يعتبر أن عمل قوم لوط من مصاديق الإفساد في الأرض، وهذا
العمل الشائن يؤدي بالإضافة إلى الأمراض المختلفة، إلى تهديد النسل
واستمرار الوجود البشري بما لا يحتاج إلى بيان. والموضوع يطرح في عنوانه الكبير تحت عنوان «المشكلة الجنسية»، التي أصبحت في حضارة اليوم معلماً بارزاً وسيئاً وخطيراً، ولا سيما في الحضارة الغربية التي تحكم العالم اليوم، والجنسية المثلية التي يريد الغرب أن يقننها كظاهرة إنسانية مقبولة، يعتبرها القرآن من مصاديق ونماذج «الإفساد في الأرض» ، وآثار هذه الظاهرة وخرابها الآن يعم كل الأرض بما أفرزته من أمراض عجيبة، ولعلّ هذه المشكلة وشيوعها وتعقدّها تعتبر معلماً مهماً في حساب درجة الإفساد في الأرض، وما تعيشه حضارة الغرب التي تريد أن تلقي بظلالها السيئة على كل العالم، نموذج جلي لانهيار المجتمع وفساده وتفككه. والإحصائيات العديدة لآثار هذه الظاهرة السيئة تملأ الصحف.
*الغش وغياب الأمانة السوقية:
من المصاديق التي يتعرض لها القرآن الكريم نموذج غياب الأمانة في
الأسواق، كظاهرة الغش في الإنتاج (سوء الإنتاج)، والسرقة في البيع وعدم
الصدق في العقود. إن المعاملة الاقتصادية من بيع وشراء وإيجار ومضاربة وما
شابه من ألوان التعامل السوقي، التي هي عقود بين طرفين أو أكثر، إذا حكمها
الصدق في التعامل، وعدم التجاوز على حقوق الآخرين، والتزام كل طرف بما
يقضيه العقد، فإن التعامل الاقتصادي والتجاري سوف يكون ناشطاً وفاعلاً
وبعيداً عن الخداع والاعتداء والغبن والتدليس، وما شابه من ألوان التعامل
غير الأمين، مما يعود على السوق بمزيد من الأموال والقدرة المالية وزيادة
الإنتاج، والتداول في نوعية الإنتاج الجيّد والتنافس في هذا الأداء، وينعكس
ذلك على شيوع قيم الثقة والصدق في المجتمع، مقابل قيم الجشع والظلم
والاعتداء وعدم الثقة بين أفراد المجتمع، وهي من المسائل المهمة في حفظ
المجتمع واستقراره، في مقابل قيم الظلم والغش التي تؤدي إلى زعزعة الروابط
الاجتماعية وتماسك المجتمع، ويهدد استقراره، وهو أوضح صور الفساد في الأرض.
*فقدان الأمن:
إن الشعور بالحماية والأمن والشعور بالاطمئنان من الحاجات الأساسية في
أي مجتمع، وفقدانها بأي صورة تحول المجتمع إلى مجموعة كيانات متشرنقة حول
نفسها، تسعى لحماية نفسها والدفاع عن مصالحها. إن شيوع ظاهرة الاعتداء والتجاوز والقتل تجعل المجتمع في رعب دائم، وخوف على الحاضر والمستقبل، مما يجعل الحياة بدون أمل، وغير قابلة للتطور.
*نقض العهود والمواثيق والعقود:
القرآن الكريم يعطي للعهود والعقود أحكاماً خاصة، تكشف عن حرص القرآن
الكريم على إنفاذ العقود، والإيفاء بها والالتزام بمضمونها وتحمّل آثارها
وتبعاتها. العقود والعهود ظاهرة اجتماعية ملازمة للإنسان، يحفظ بها الإنسان وجوده، ويحتمي بها لتدبير معاشه وأمنه ووجوده، ولذا فالإسلام أعطاها موقعية خاصة.
العقود والعهود تارة تكون بين الأفراد لشؤون شخصية وفردية، وتارة تكون بين أمم ودول وتخص مصالحها وآثارها مجموع الأمة ككل وليس فرداً فرداً، وثالثة تكون بين الأمة كقانون وعرف وعقد اجتماعي يلزم الجميع به. ويسمي القرآن كذلك العلاقة بين الإنسان واللّه، والرابطة التي تحكم التزام الفرد به سبحانه بالعهد والميثاق.
أما ما يتعلق بموضوع بحثنا وهو (الفساد في الأرض)، وارتباطه مع موضوع نقض العقود والعهود، سواء كانت فردية أو أممية أو اجتماعية، فيمكن القول إن القرآن قد قرن في مواضع كثيرة في الكتاب العزيز بين الفساد وبين نقض العهود، بغض النظر عن نوعية هذا الاقتران، هل هو من باب التلازم أو التضمن، وعلى أي شكل كان. المهم في الموضوع أن نجد في نقض العهود والعقود فساداً في الأرض.
ومعنى الفساد الذي أشرنا إليه في مضامينه هو حالة الخراب والتفكك وضعف الارتباط التي تسود المجتمع، والتجاوز على حقوق الآخرين، التي من مجموعها نجد فيها نقضاً لعهد وعقد، سواء كان هذا النقض مع اللّه أو مع الأمة أو بين الناس أو بين الأفراد.
من هنا يمكن القول إن نقض العهود والعقود بأي شكل كان هو فساد في الأرض، وخراب لذلك المجتمع أو المؤسسة أو الدولة، ويمكن لنا أن نستشف مستقبل ومصير أي تجمع من خلال هذه الظاهرة المريضة (عدم الإيفاء بالعقود) لحكم على نهايته ومآله.
إن القرآن الكريم يعطي لليهود صفة نقض العهد، وصفة الإفساد، وفي ذلك إشارة إلى سجية اليهود كأمة في تعاملها مع باقي الأمم ونقضهم للمواثيق، وما يستلزم ذلك من اعتداء وتعدي وحروب، فيكونون بذلك أهل لصفة الفساد والإفساد في الأرض.
وفي مقابل ذلك نجد أن القرآن الكريم يفرض على المجتمع المسلم والدولة الالتزام بالعهود التي تبرمها مع الآخرين، وحتى في الأحكام الفردية تؤكد الشريعة على الالتزام بهذه العقود، حتى مع الأفراد المخالفين بالعقيدة، وحتى مع الدولة المخالفة; لان الالتزام بالعهود يضمن استمرار المجتمع، ويحفظ الحقوق ويعطي للحياة البشرية استقراراً ونمواً وتكاملاً.
ولذا كان نقض المواثيق والعهود يحتاج إلى موقف واضح وبين لتحمل نتائجه وآثاره، ولبيان الموقف الجديد، ولعلّ خصوصية سورة براءة التي فصمت عقداً بين المسلمين والمشركين، بعد أن تجاوزها المشركون ونكصوا عن التزاماتها، مما يكشف عن أهمية وخطر نقض العهود بين الأمم.
*الفساد الكبير هو نقض المعاهدات والمواثيق الدولية:
(وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلاّ على قوم بينكم وبينهم ميثاق
واللّه بما يعملون بصير * والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلاّ تفعلوه تكن
فتنة في الأرض وفساد كبير). يثبت القرآن الكريم قانون وتشريع النصرة في الدين، ومن أجل الدين وبسبب الدين، هذا التشريع الذي يفرض على الجماعة المؤمنة المتمكنة، وبالتحقيق الدولة الإسلامية، نصرة من ينتمي إلى الدين في أي مكان كان، وفي أي تجمع كان يعيش، وبذلك يسن القرآن أنه في عالم الإسلام يكون للفرد المسلم الذي يعيش خارج دولة الإسلام نوع ارتباط وانتماء، وحق على الدولة في نصرته والدفاع عنه، عندما يتعلق الأمر بمعتقد المسلم وممارسته الدينية، أي عندما يُضيّق عليه بسبب انتمائه الإسلامي، أو يُحارب ويمنع من حقوقه بسبب انتمائه الديني. هنا تكون الدولة الإسلامية ملزمة بالنصرة والدفاع، إن طُلب منها النصر والمساعدة في الدفاع، عن المسلمين الذين يعيشون خارج رقعة الدولة الإسلامية.
ويستثني القرآن وجوب تلبية طلب النصرة مع الدول والأقوام والأمم، التي بينها وبين الدولة الإسلامية تعاهد وميثاق بالصلح ومعاهدة سلام.
وغير مجهولة قصة ذاك المسلم الذي طلب النصرة للخلاص من تعذيب قريش، بعد معاهدة وصلح الحديبية، ووقوف الرسول مكتوف اليد عن نصرته بسبب هذه المعاهدة والميثاق.
إن الخروج على المواثيق والمعاهدات بين الدول والأمم، سوف يؤدي إلى اضطراب في الأرض، وغياب القواعد والثقة في التعامل الدولي، مما يمنع أي فرصة لبناء علاقة تحفظ قيام مواثيق الصلح والسلام.
القرآن يعتبر الخروج على المواثيق فتنة وفساداً كبيراً. وما نشاهده اليوم في غياب الالتزام الحقيقي للمواثيق والعهود، تحت ذريعة قيام النظام العالمي الجديد، بداية لفساد كبير في الأرض، نجد مفرداتها واضحة بالحروب وعدم الاستقرار والاعتداءات وتجاوز الحقوق.
إننا فعلاً في عصر نعيش فيه الفتنة والفساد الكبير.
هناك آيات كثيرة في كتاب اللّه المجيد تؤكد على الوفاء بالمواثيق والالتزام بالعهود، وكذلك تؤكد الأحاديث هذا السياق.
*(اليهود) نموذج الأمة الفاسدة والمفسدة في الأرض:
(وقالت اليهود يد اللّه مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا... وألقينا
بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها
اللّه ويسعون في الأرض فساداً واللّه لا يحب المفسدين)(6). (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلُنّ علواً كبيراً).
الأمة اليهودية من الأمم الباقية إلى يوم القيامة، كما أشار القرآن الكريم ، ويلحظ في هذه الأمة أنها أمة متمزقة مشحونة بالعداوات والبغضاء، وما يستتبع ذلك من أحقاد وتآمر فيما بينهم. هذا هو الذي يقرره القرآن بحق هذه الأمة، فإذا وجدنا حالة من التماسك والانسجام فيها، فإنها تمثل حالة طارئة سرعان ما سوف ترجع إلى حالة العداوة والبغضاء.
هذه الأمة التي تعيش حالة العداوة فيما بينها، تعيش مع الآخرين حالة العدوان والحرب وتجاوز الحقوق والحدود، فهم يسعون للاعتداء ويؤججون نار الحرب، ويقرعون طبولها ، لكنهم غير قادرين على الاستمرار لنهايتها، وينكصون في نصف الطريق، وقد تكون هذه العداوة والبغضاء سبباً لانطفاء نار تأجيجهم للحروب.
هذه الأمة بهذه المواصفات أمة متمزقة تسود العداوة والبغضاء ما بين أبنائها. أمة نزاعة للحرب والاعتداء على الآخرين. هذه الأمة لا يمكن أن تكون إلاّ أمة فاسدة ومفسدة في الأرض. أمة تثير الحروب وتمزق الروابط وتعتدي على الحقوق ولا تلتزم بالمواثيق. أمة متآمرة حاقدة. هذه الأمة المفسدة ستتمكن من القدرة، وسينال فسادها وإيذائها الآخرين. ستعلو وستحول الأرض إلى صراعات وحروب وتآمر.
وشاء اللّه أن تكون هذه الأمة المفسدة المملؤة عداوة وبغضاء، والساعية إلى التدمير والاعتداء، هي التي تواجه الأمة الناجية والصالحة، وتناصبها العداء، وتحوك ضدها المؤامرات، وتسعى لنقض عهودها معها. هذه الأمة هي التي ستقف لصد نور الحق والعدل والصلاح على الأرض ما دام وجودها قائماً.
أمة اليهود أمة فاسدة ومفسدة في الأرض، واللّه لا يحب المفسدين، فلا يكتب لها النجاح في فسادها، ولا توفق في تحقيق أهدافها، ولن تفلح في الوصول إلى مراميها; لأنها ليست مع الفطرة ولا مع السنة الإلهية، ولأنها عقبة في طريق التكامل، فلابد أن يتم تجاوزها فاللّه لا يحب المفسدين.
والنتيجة التي نخلص إليها بهذا الصدد هي أن الفساد في الأرض المنسوب إلى اليهود، الذي تشير إليه هاتان الآيتان، ينسجم في معناه مع الاتجاه العام الذي يتضمنه معنى الفساد في الأرض، من مجمل آيات الكتاب الكريم. إنه نقض العهود والمواثيق، والاعتداء على حقوق الآخرين ومصالحهم. إنه إضعاف لروابط الناس بعضهم ببعض، وتخريب للأواصر التي تحفظ وحدة المجتمع وتماسكه. إنه إشاعة لكل الآفات والسبل التي تزرع في المجتمع العداوة والبغضاء والحقد والمشاحنات. إنه تأجيج للحروب والاعتداء والقتل بغير الحق . إنه تخريب للإنسان من داخله، وتخريب لمجتمع الإنسان ككل.
*موانع الفساد التدافع بين الأمم:
(فهزموهم فإذن اللّه وقتل داود جالوت وآتاه اللّه الملك والحكمة وعلّمه
مما يشاء ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن اللّه ذو فضل
على العالمين)(7). (أُذن للذين يقاتلون بأنّهم ظلموا وإن اللّه على نصرهم لقدير * الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلاّ أن يقولوا ربّنا اللّه ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبِيَع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم اللّه كثيراً ولينصرنّ اللّه من ينصره إنّ اللّه لقوي عزيز)(8). جاءت هذه الآية بعد آية الجهاد التي أذن فيها للمسلمين بقتال الكافرين، فهي في معرض تفسير وإيجاد إطار وخلفية لهذا الإذن، وبيان ملاكات الحكم بالجهاد والقتال.
فهي إذن متعلقة بالجهاد والصراع والقتال بين أهل الأرض، وبعبارة أدق بين أهل الإيمان والكفر، ولولا هذا الإذن بالجهاد ورد أهل الكفر، لكانت نتيجته أن هدّمت مواطن العبادة والحق والخير في الأرض، فهو إذنٌ عام لكل أهل اللّه ومسيرة الإيمان أن يواجهوا بقتال وسلاح أهل الكفر، الذين تعدوا الحقوق وطردوا المؤمنين وهجّروا أهل الخير وأخرجوهم من بلادهم.
إن اللّه تعالى أذن للجماعة المؤمنة أن ترد الظلم والاعتداء. هذا الإذن ملاكه أنه من أجل حفظ التوحيد والحق والعدالة في الأرض. إنه منع للفساد في الأرض. إنه لصالح الإنسان ولخيره، ولولا هذا الإذن بالتدافع لفسدت الأرض وحل الظلم والخراب فيها.
الدفع هنا معناه اللغوي واضح، وهو دفع أهل الإيمان لأهل الباطل وإبعادهم عن إيذاء المؤمنين، ودفعهم عن منعهم لأن يمارسوا حقّهم في العبادة، وحقّهم في التوجه لأهدافهم ومراميهم ومقاصدهم ودفعهم عن تهديد وجود الأمة وبيضتها ومصالحها.
الدفع هو الإبعاد (دفع اللّه) يشير فيه إلى السنّة والفطرة والقانون الإلهي الجاري بين الناس والأمم. (بعضهم ببعض) أي التدافع الموجود بين البشر عموماً (ما يسمى صراع الإرادات، وصراع المصالح، وصراع الحق والباطل). لولا هذا الصراع، أو لولا هذا الإذن بالصراع الجهادي المسلح -لأن الصراع الفكري كان موجوداً وجارياً فعلاً في مكة منذ أول بزوغ الدعوة- لعم الفساد في الأرض، ولم ترتفع راية الحق، ولساد الظلم على الجميع.
والقرآن يفسر بعضه بعضاً. الآية الأولى تقول: (لولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)، والآية الثانية تقول: (لولا دفع اللّه بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم اللّه كثيرا)، وبالجمع بين الآيتين نصل إلى أن الفساد في الأرض يساوي انهدام مراكز ذكر اللّه، ويساوي انحلال مواقع الداعية لإقامة الخير، ويعادل غياب المؤسسات الداعية إلى الحق والصلاح، ويماثل غياب الصوت الداعي إلى الإصلاح والصلاح في الأرض.
فلابد إذن، عند الاقتضاء من الكفاح المسلح والقتال والجهاد، وما يستلزمه ذلك من تضحية ودماء وآلام ومعاناة وتشريد وهجرة; لإبقاء الأرض صالحة، ولمنع فسادها وخرابها. وهذه هي سنّة اللّه في الأرض، وحكمته التي أجراها فيها وفي عباده وبين الناس.
(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين للّه).
ولعل في جواب اللّه على تساؤلات الملائكة بـ(إني أعلم ما لا تعلمون)، إشارة إلى هذه الحكمة والسنّة، ولعلّ الملائكة الذين استغربوا ذلك الجعل بقولهم : (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)، غاب عنهم أن قسماً من الدماء التي تجري في الأرض من مستلزمات بقاء الأرض والحياة والخير، وأنه لولا هذه الدماء لفسدت الأرض، ولعمّ فيها الخراب والظلم والظلام.
واللّه أعلم. (إني أعلم ما لا تعلمون).
الشيخ همام حمودي
**الهوامش:
(1) لسان العرب 3:335.
(2) معاني القرآن: 379.
(3) القصص: 83.
(4) الأنفال: 73.
(5) راجع الشهيد الصدر في محاضراته القرآنية وفي آثار العبادة على المجتمع.
(6) المائدة:64.
(7) البقرة: 251.
(8) الحج: 39 ـ 40.
المصدر
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..