الثلاثاء، 21 أغسطس 2012

الفتوى الإسلامية وتحرير السلفية


إن منهجية تنظيم الفتوى في حياة الإنسان تعتمد في تاريخ التشريع الإسلامي السني على مرتكزين رئيسيين.
المرتكز الأول وضوح المنهج ومصادره، وخضوعه لمعايير قياس واختبار
صحة صارمة لتوثيق ضمان صحة إسناد الخبر لمصدر التشريع في حياة المسلمين، ومطابقة النص مع مجمل وكليات قواعد التشريع وفلسفة الإيمانيات الكبرى ومصالح الخليقة التي قررها المولى الخالق، بحيث تتصل في طريقين متوازيين إلى معدل مرتفع جدا لا مثيل له لدقة النقل والتحقيق في متن النص وسنده.

الفتوى قرار شرعي دون وصاية

والمرتكز الثاني هو فسح المجال أمام النخبة الشرعية أو العلمية أو الباحث الدقيق دون وصاية كهنوتية تدعي لاهوتية لأي بشر بعد النبوة, وتحتكر قضية الفتوى في ضميرها المغيب وترفض أي مراجعة أو مناقشة بادعاء وصولها للكهنوت الأكبر الذي لا يراجع ولا يناقش.
مع العلم أن الحكمة الإلهية الكبرى جعلت لأنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم دلائل يحاجون بها الخصوم لبعثتهم ويقنعون بها العقول ويلهمون بها الصدور قناعة واستقرارا.
الحكمة الإلهية الكبرى جعلت لأنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم دلائل يحاجون بها الخصوم لبعثتهم ويقنعون بها العقول ويلهمون بها الصدور قناعة واستقرارا
ثم يطلب من المؤمن الاتباع لكي يصل إلى مقاصد البلاغ الأكبر للإنقاذ البشري, وذلك بالاجتهاد لمعرفة النص الذي أراده الخالق منعا وجوازا، وهو في مقتضى التعرف الفلسفي المتدرج للإيمان يندرج في مصالح الخلق في تقريراتها الكبرى، لكن بحدود حددها الخالق لا نزوات النفس, وتترك مساحة كبيرة عن عمد تركها الشارع في حكمة بالغة ليتواصل العقل المؤمن مع أحكام الحياة بين راجح ومرجوح لا محرم ومفروض.
العهد السلفي مرجع لكل السنة
وهكذا تلقى علماء التشريع الإسلامي السني هذا المدار منذ صدر الأمة وسلفها, هذا السلف الذي اعتدي عليه فاختطف مصطلحه وشوهت صورته، وهو من أكبر وأعظم فقرات التاريخ التشريعي قبولا للخلاف ورفضا للقسر فيه أو العقوبة عليه، ولم تنكسر هذه القاعدة إلا نادرا لظرف سياسي استغلالي أو حدث مضطرب, ولذلك فإن هذا الحشد الضخم من الأقوال التي تنعت بالضعيفة والمرجوحة والشاذة لم تكن لتتكون لولا هذا الأفق المنهجي والحرية في احترام دلائل الاجتهاد والاستنباط.
وهذا ما يعالج إشكالية تاريخية يرددها البعض حين يرى الصورة من زاوية محدودة في ذكره لقضايا الصراع أو الخلاف العنيف أو الاستعداء في القرون المتقدمة, وهو حصل بموجب تدخل سياسي أو حتى انحراف من عالم أو مدرسة في حقبة زمنية.
لكنه لا يعادل ذلك الحشد من مساحة احترام الخلاف التي ولدت ذلك الفقه التشريعي العظيم وحتى أقوال غالبية العلماء في نعت مخالفيهم أو التشديد على الأحكام المخالفة التي يرونها مناقضة لأصول الاجتهاد هي مواقف في الغالبية الساحقة تقف عند هذا الموقف أو التصريح أو المعاتبة، ومهما قويت في تعبيرها ضد الآخر المجتهد فهي تبقى في دائرة التحرير العلمي ونقاشاته ولا تتعداه إلى مدارات أخرى تلغي هذا العالم فضلا عن تضليله بالجملة.
ولم تعرف مدارس التشريع الإسلامي في كل طبقات المذاهب الأربعة انفصالا عن العهد السلفي الأول، بل كلها كانت تستقي منه أو تشير إليه كدلالة متقدمة, وإن طرأ نقص في الاستدلال أو تغييب الأدلة لدى بعض الجمود التقليدي المذهبي.
لكن اليقين أن السلفية وإن تسمى بها علماء في هذا العهد أو ذاك لم يخلق منها تنظيم بشري ينعت 95% من السنة أو يزيدون بالضلال وأن السلفية التي يعتمدونها ذات حدود تفصلهم كطائفة عن عموم مدرسة التشريع الكبرى, هذا الانتساب حصل مؤخرا أو في محطات من القرون الماضية المتأخرة.
لم تعرف مدارس التشريع الإسلامي في كل طبقات المذاهب الأربعة انفصالا عن العهد السلفي الأول بل كلها كانت تستقي منه أو تشير إليه كدلالة متقدمة, وإن طرأ نقص في الاستدلال أو تغييب الأدلة لدى بعض الجمود التقليدي المذهبي
لكن الأزمة أن هذا الخطاب طور وجرى عليه تضخيم خطير وبنيت عليه مفاهيم مفاصلة استدعت بناء تاريخ تشريعي منتقى ومقتطع عبر مصالح أو تقديرات هذه الجماعة أو تلك بتدخل سياسي أو غلو فئوي فعزل فقه الشريعة الأكبر عن المداولة والاستدلال حتى ترسخ هذا الانحراف الخطير في جسم جماعات معاصرة أو عمق إقليمي فرض معاركه ومفاصلاته.
وهذا الفكر هو الذي قرر ضلال تاريخ التشريع الإسلامي في الأمة وحصر الحق في ذاته وأنصاره, وهذا الانغلاق الخطير اكتسى بالتعريف السلفي الاحتكاري غير المعروف في القرون المفضلة ولا من تبعهم بإحسان, حيث كان السلف وكما قدمنا مظنة الاقتداء للجميع.

ومع تطور روح التصفية للآخر وتنمية الجزم بالراجح دون الرجوع لأقوال أهل العلم ولا التدرب على قراءة الخلاف والاستنباط, سرَت فكرة التكفير الضمني أو العملي أو الكلي, وتطور من خلالها خطاب العنف وشكل أزمة لمناطق صراع العالم الإسلامي مع الاحتلال او الاستبداد.
فعقد ذلك مشاريع المقاومة ونشر فوضى المواجهة، حيث يعلن أنه جسم منفصل عن الدائرة السنية وليس مهمته قيام دول مستقرة ترجِع لشريعة الإسلام بفقه التوازن ومصالح الشريعة التي أقرتها الدلائل النبوية، ولكن من خلال قتال هذه الدوائر السنية حتى إخضاعها لسيف الغلو السلفي, فتفجر مساجد وتقتل مدنيين بالمظنة أو بتأويل فاسد وجهل متجذر لأصول الفقه, وإن كان جناح العنف الوحشي لا يعمم على جميع التيار لكن إشكالية جذور الفكرة المغالية ساهمت في صناعته وتغذيته.

سلفيات راشدة وأخرى منحرفة
غير أن مما يجدر التنبيه له أن ليس كل إعلان لمرجعية سلفية يأخذ زمام المفاصلة مع المجتمع السني -وقلنا السني لأنه من باب أولى أن يتفهم المدارس السنية حتى يحترم الأخرى- بل هناك مدارس ذات نزعة محافظة تقليدية لكنها ليست تكفيرية ترى أن لها حظا من نظرات السلف أكثر من غيرها.
وهناك سلفية ذات بعد إصلاحي وعلمي مفيد جدا لتجديد وتنشيط محاور الاستنباط والخروج من التقليد القاتل, بل العبور إلى مقاصد الشريعة في الإصلاح السياسي وغيره.
المشكلة والأزمة التي باتت تهدد استقرار المجتمعات المسلمة هي هذه السلفية الطائفية, واستقطابها الحاد على المجتمع والحياة الإنسانية ومساهمتها في إعاقة دوران حركة الاستخلاف في ميادين الدنيا لإقامة دول راشدة في حريتها ومدنيتها وإقامة شريعة ربها.
تدريب المفتي ورفض القهر السياسي
وسنقف على قضية مهمة جدا في فلسفة الفتوى، وهي تقعيد المذاهب وتنظيم مراتب النظر وتدريب الساحة العلمية ومناقشاتها, فإن حالة اعتماد العالم ومنزلته وتخصصه تمر بمرحلة دقيقة من النقاش والحوار وتعلم أدب الخلاف وتزكية النفس وتحذيرها من روح الاستعلاء الشخصي والعلمي فضلا عن القبلي أو المناطقي المنبوذ بقوة في أصل صناعة شخصيات الفتوى وأدواتها, وهذا التدريب يشمل أيضا الساحة العامة والجمهور لتنظيم المصادر وفقا لسياقات علمية تشاع في ساحة المعرفة للوصول إلى معرفة الحكم أو العلة أو الفلسفة التشريعية بأدوات فكرية منضبطة تستقر في الضمير الجمعي للأمة.
هناك سلفية ذات بعد إصلاحي وعلمي مفيد جدا لتجديد وتنشيط محاور الاستنباط والخروج من التقليد القاتل, بل العبور إلى مقاصد الشريعة في الإصلاح السياسي وغيره
ولكن وطيلة هذه الفترة وحتى مع حدوث خروقات ورثت الأمة معيارا صارما لرفض الإلزام أو الرابط السياسي أو القامع الأمني حين كان التداول مرهونا بساحتها في جيل السلف الأول ولا يحسب عليها الاختراقات المتأخرة إنما نحن نتحدث عن أصل فلسفة التنظيم للوعي بالعلم الشرعي ومصادره لدى النخبة العلمية وحركة التشريع التاريخية المستقلة.
ولذلك اعتبر موقف الإمام مالك رحمه الله من رفض إلزام الأمة باجتهاده كإجماع وكأنه نص شرعي، لأن الأمة فهمت من أصل المصدر دقة تطابق موقف معارضة الإمام مالك لإجبار الناس على موطئه من السلطة السياسية كمنهج رفض للإلزام والاحتواء أو المصادرة السياسية للساحة الشرعية, فجعلتها قاعدة متمثلة أصلا بتقريرات الشارع لعصمة الكتاب والسنة وتعظيم العقل الاستنباطي وحكمة فلسفة الحياة مع التشريع العدلي الرباني.

ولكون صدر الأمة السلفي -سلفية زمنية لا طائفية- نظم ذاتيا هذه الساحة فإن خشية الأجيال بعدهم من فوضى الاقتحام على مدارات الاجتهاد دون أن يحصل طالب العلم أدواتها الشرعية والعقلية والخلقية جعلتها تتظافر ضمنيا وتتوحد على مدارات المنهجية العلمية الشرعية التي سميت بمدرسة التقليد والتمذهب, ولقد كان سوء الفهم المتأخر لمنهجية التمذهب التاريخية عند أهل السنة سببا مضارا من الجانبين.
الجانب الأول هو من رفضها باعتبارها تحول دون الكتاب والسنة، وهو فهم قاصر، إذ إن مصادر الاستنباط إنما تدور حول النص لا خرقه، وهذه قصة طويلة لسنا بصدد تفصيلها، لكن ما يعنينا هو أن آثار الحملة الضخمة التي شنت على المذهبية السنية أثرت في شارع التدين العام وكانت سببا في اضطراب حركة تحصيل العلوم الشرعية المنضبطة واختراقها.

وبالتالي القفز بالفتوى إلى مدارات فوضى مع ضعف جانب التزكية الذاتية -التربية الروحية- وتواضع طالب العلم ونظره في أقوال المتقدمين التي سادت في الجيل المدرسي الأول، ولماذا قطعوا بشذوذ هذه الفتوى ولماذا رفضوا تلك, لكون المنكر الجديد قد توقر في نفسه انتقاص العلماء وازدراء هذه المنهجية التي انتمى إليها ملايين الفقهاء وطلبة العلم وترقوا في مدارجها بصورة منضبطة وإن وقع لبعضهم خلل هنا أو هناك أو جمود فاقع.
لكن إسقاط هذه المرجعية العلمية الشرعية أثر كثيرا على الساحة الإسلامية، فضلا عن المعارك التي شنت والميزانيات التي رصدت لحربها لدعم منهاج نقض المذاهب الأربعة.
من الخطأ أن تتحول المذاهب إلى قوالب مصمتة لا حراك فيها سوى نقل أقوال المتقدمين أو المتأخرين في تراتيب الطبقات والتهميش عليها
أما الجانب الثاني فهو عدم معرفة أو تقدير بعض أتباع هذه المنهجية وخصومهم كذلك من أن هذه المنهجية هي تنظيم دقيق للوصول لدقة الفتوى لتطورات الزمن واحتياجاته، ومنها تدريب السائر بعد تحصيل المتون الأولية للوصول إلى الترجيح بين الأدلة وبين الأقوال.

ففي ذات هذه المذاهب السنية هناك مدارج وأصول دونت نصا وعلمت كبرنامج يصنف المقلد المطلق عن المقلد الباحث عن مجتهد المسألة عن مجتهد المذهب عن القول خارج قول الإمام الأساسي واعتبار ذلك القول ضمن دائرة أقوال المذهب, فضلا عما يرد أو يستجد من مسائل حديثة أو قضايا تعود للمقاصد لمعرفة تقرير الحكم الشرعي أو توجيهه فيها, هكذا كان فقه المتقدمين للمذاهب.

إذ إن من الخطأ أن تتحول المذاهب إلى قوالب مصمتة لا حراك فيها سوى نقل أقوال المتقدمين أو المتأخرين في تراتيب الطبقات والتهميش عليها والتحشية وهكذا.

وليس مقصودنا نقد مطلق المؤلف المحرر، لكن المعني هو مادته وجدليته العلمية وإعادة ربطه بأصول الاستنباط، والمذاهب أيضا ليست جزرا معزولة وقبائل تتكتل على مذهبيتها إنما هي في أصل فلسفتها مدارس حيوية تنفتح ضمن أصول وضوابط تنظم الوصول لمعرفة الحكم وثقافة التشريع بأجمل وسائط النظر والتعبير لتحقيق مقاصد الشرع ليصل بين قاعدة "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" وقاعدة "الحكمة ضالة المؤمن" إلى مسالك الفتوى لتحقيق التقدم النهضوي بآفاق إسلامية، فالحكمة والحياة الراشدة للإنسان مطلب المؤمن أين وجدها فهو أولى الناس بها.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..