الثلاثاء، 21 أغسطس 2012

نجد والشرك وعبث الأسئلة

لا تلبث هذه القضية أن تخبو حتى تنبعث مرة أخرى و يحتدم الجدال حولها بشئ كبير من العواطف و التوقعات والتخرصات و قليل من العلمية و المنهجية التاريخية . و عماد هذه القضية السؤالان الشهيران: هل يعقل أن
آبائنا و أجدادنا في نجد و الجزيرة كانوا مشركين  زمن الشيخ محمد بن عبدالوهاب ؟ و هل يعقل أن معاصري الشيخ من العلماء غفلوا عن ذلك حتى جاء هو بتلك الدعوة ؟ و هما كما ترى سؤالان مغلفان بكثير من العاطفة و الاستنكار والرفض المبطن وربما شئ من العنصرية والاعتقاد بوجود جنس بشري غير قابل للشرك ، فالمنهج العلمي يقتضي أن تطرح الأسئلة بالشكل التالي: ما هو حجم المظاهر الشركية في نجد و الجزيرة وقت الشيخ ؟ و ما دور الشيخ التصحيحي مقارنة بمعاصريه من العلماء؟  وجواب هذان السؤالان يقتضي أولا جمع الموارد و الروايات التاريخية المتعلقة بتلك الفترة ثم تصفيتها و نخلها ثم فحص مفاهيمها و دلالاتها بدقة و بصيرة ثم بعد ذلك الإجابة التي تكون أكثر قربا من الصواب إن شاء الله.

و قبل ذلك كله و بعده ، إنه ليس معيبا أبدا أن يكون أحد من الآباء و الأجداد قد وقع في شئ من الشركيات أو تلبس بها فإن آباء النبي الكريم صلى الله عليه و سلم و صحابته الأجلاء و هم أفضل أهل الأرض حتى تقوم الساعة ، هؤلاء الآباء كان فيهم مشركون ضالون حارب بعضهم النبي الكريم صلى الله عليه و سلم و آذاه و سبه و حاربه و لم يكن ذلك لينقص من قدر الصحابة رضي الله عنهم شيئا أبدا فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى . و أيضا فإن أهل نجد و الجزيرة كانوا يقينا مشركين قبل بعثة الرسول صلى الله عليه و سلم ، فأي فرق يكون بين الجد التاسع و الجد التاسع و الأربعين؟ و لماذا تثور الحمية دفاعا عن هذا و تطمئن النفس لشرك ذاك؟ و هذا لا يعني بكل تأكيد أن نتهم أحدا بما ليس فيه ، فالقضية تاريخية المتعين فيها البحث التاريخي الجاد و الحكم المنصف العادل. مع التنبه إلى أن بلاد نجد و حتى القرن الثامن الهجري تقريبا كانت بعيدة عن مذهب أهل السنة و تسيطر عليها و تحكمها المذاهب الباطنية و الرافضية وهي مذاهب تعج بصنوف الشركيات و تقديس البشر و عبادتهم.
 
أضف إلى هذا أن وجود ألوان من الشرك في تلك الفترة لا يعني لزاما تكفير أعيان الناس آنذاك و ترك إنفاذ وصاياهم و قسمة إرثهم لأنه يجوز أن الحجة لم تبلغه للعذر بالجهل و نحوه وهو الغالب عليهم في ذلك الزمان ، و يجوز أيضا أن هذا المعين لم يقع في شئ من الشركيات المنتشرة وقتئذ. فتكفير المعين لا بد فيه من ثبوت ملابسته للشرك ثم قيام الشروط و انتفاء الموانع بينما لا يتطلب ذلك للحكم بأن ذلك الفعل أو القول أو الاعتقاد هو شرك لا بد من تصحيحه و إنكاره باليد و اللسان و القلب بشروطه المعروفة ، لأن الأمر بالتوحيد و النهي عن الشرك هو أول رسالات الأنبياء و أعلى مطالبهم كما قال تعالى :( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون).

إن الحجة الأشهر لمن ينفي شيوع المظاهر الشركية في تلك الفترة هي : وجود مئات الوثائق من الوصايا والبيوع الشرعية و مؤلفات القضاة و العلماء لا أثر فيها لخرافة أو لمعتقد فاسد أو مذهب منحل ، و مادام الأمر كذلك فواقع الناس مشابه أيضا . و قد رد الشيخ بندر الشويقي حفظه الله على هذا بمقال وافٍ بين فيه أن السؤال الصحيح هو: هل يعقل أن بلاد نجد كانت خاليةً من الشرك قبل الشيخ محمد بن عبدالوهاب؟! و ساق النقولات عن مؤرخي مصر و الشام و العراق و اليمن و مكة و اسطنبول و المغرب - وهي حواضر العلم يومئذ - تثبت وجود مئات الأضرحة و المشاهد و المزارات الشركية ، فمالذي يجعل نجدا التي يغلب الجهل في ذلك القرن خالية من ذلك كله؟ هذا و رسائل الشيخ محمد و تواريخ ابن غنام و ابن بشر تثبت ذلك في نجد و تصِفُه بشكل واضح صريح لم ينفه معارضو الشيخ من معاصريه . فمن هذه النقولات قول الأمير الصنعاني رحمه الله في مقدمة كتابه تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد ):
(هذا تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد ، وجب عليَّ تأليفه وتعين عليَّ ترصيفه ، لما رأيته و علمته من اتخاذ العباد الأنداد في الأمصار والقرى وجميع البلاد، من اليمن والشام ومصر ونجد وتهامة وجميع ديار الإسلام، وهو الاعتقاد في القبور وفي الأحياء ممن يدعي العلم بالمغيبات والمكاشفات) .

.وهذا رابط المقال:

الحقيقة أننا نظلم عبقرية الشيخ محمد بن عبدالوهاب كثيرا حين نحاول التقليل من شأن مؤلفاته المتقنة المكتوبة بلغة سهلة يسيرة والمليئة بالآيات والآثار النبوية الكريمة ، والتقليل كذلك من قيمة دعوته وأثرها العظيم في تصحيح عقائد أجيال من المسلمين وحمايتهم من الشرك ، و إن دعوة الشيخ تستحق أيضا دراسات كثيرة حول ثورتها الهائلة الفكرية والعلمية والحضارية التي أحدثت دويا في جنبات العالم الإسلامي ، مؤذنة بعهد جديد من النهضة والتقدم والتنوير الإسلامي الحق بعد قرون من التخلف و الغفلة والرقاد ، يشهد بهذا كبار الكتاب و المفكرين في عالمنا الإسلامي حيث يقول مفكر النهضة الأشهر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله:
(الوهابية الفكرة الإسلامية الوحيدة التي تصلح بما فيها من طاقة متحركة لتحرير العالم الإسلامي المنهار منذ سقوط بغداد).

و يكتب من لبنان الأمير شكيب أرسلان رحمه الله في مقالات للمستقبل:
(إن منزع النجديين في الدين منزع إصلاح و ترقية و تنقية و مشرب بعيد بالمرة عن الخرافات و الأوهام . وهذا المشرب مستحب جدا في العصر الحالي و إذا سألت الأوروبيين قالوا لك إن هذا المشرب هو الذي فك قيود الأفكار و حل عُقُل العقول و كان فاتحة عهد الارتقاء في الغرب).

أما المفكر النمساوي محمد أسد رحمه الله فكتب في الطريق إلى مكة بعد اطلاع واسع على الفكر الإسلامي و الحركات الإسلامية الحديثة :
(في الحقيقة كانت كل الحركات الإسلامية الإصلاحية في العصور الحديثة بدءا من حركة أهل الحديث في الهند ، و الحركة السنوسية في شمال أفريقية ، و أفكار جمال الدين الأفغاني و دعوته ، و أفكار محمد عبده المصري = كانت كلها حركات إصلاحية تستمد قوتها من قوة الدفع الروحية التي انطلقت في القرن الثامن عشر على يد محمد بن عبدالوهاب ) ، ( و شرح لي الدكتور رضا توفيق بك كبير مستشاري الأمير عبدالله بن الحسين المشكلة قائلا : أولئك النجديون الوهابيون أدو دورا في الإسلام لا يقل عن دور الإصلاحيين البيوريتانيين في العالم المسيحي ... و طبقا لما شرحه لي الدكتور فإن وجهات النظر الدينية التي تبناها الوهابيون لا يمكن رفضها لأنهم اقتربوا بالفعل من روح القرآن الكريم و مضمونه أكثر من أي جهات أخرى كانت سائدة في العالم الإسلامي في ذلك الوقت ، و أنها من الممكن أن تؤدي مع مضي الزمن إلى تنقية الفكر الإسلامي من كل ما علق به من شوائب . إلا أن حرصهم الشديد أدى إلى نفور كثير من المسلمين مما تدعو إليه الحركة الوهابية ، و كانت تلك العقبة موضع ترحيب من بعض الجهات التي تخشى التي تخشى عودة اتحاد الشعوب العربية إلى درجة الرعب).
                                                       
و يشرح هذا العلامة المصري محمود شاكر رحمه الله بلغته البديعة في رسالته في الطريق إلى ثقافتنا :
(فهب من جوف الغفوة الغامرة أشتات من رجال أيقظتهم هدّة هذا التقوض ، فانبعثوا يحاولون إيقاظ الجماهير المستغرقة في غفوتها . رجال عظام أحسوا بالخطر المبهم المحدق بأمتهم ، فهبوا بلا تواطؤ بينهم ... أحسوا الخطر فراموا إصلاح الخلل الواقع في حياة الإسلام ... و بأناة و صبر عملوا و ألّفوا و علّموا تلاميذهم و بهمّة و جد أرادوا أن يدخلوا الأمة في عصر النهضة ، نهضة دار الإسلام من الوسن و النوم و الجهالة و الغفلة عن إرث أسلافهم العظام ، من هؤلاء ... محمد بن عبدالوهاب التميمي النجدي في جزيرة العرب ) ، و يقول في موضع آخر :( أما فرنسا فآبت إلى ديارها و جعلت تعد العدة و تفكر في اختراق دار الإسلام في مصر لوأد اليقظة المخوفة العواقب التي بعثها البغدادي و الزبيدي و الجبرتي الكبير في مصر فهي يقظة يُخشى أن تؤدي إلى يقظة دار الإسلام كلها بما فيها اليقظة المتفجرة الجديدة في جزيرة العرب فإذا تم اندماج اليقظتين فلا يعلم إلا الله كيف يكون المصير ؟ ) ، ( و كانت انجلترا و مستشرقوها ما فتئت تخوف الدولة التركية و تؤلبها على مهد اليقظة في جزيرة العرب و التي قام بها و أسسها محمد بن عبدالوهاب ، و استجابت دار الخلافة بغفلتها إلى هذا التأليب ...ثم منذ ولي محمد علي سرششمة جعلت تركية تدعوه إلى تجريد جيوشه لقتال الوهابيين ... فلم يستجب لنداء تركية ، و لكن الاستشراق بقناصله زين أخيرا لمحمد علي أن يستجيب ليحقق مآربه في وأد اليقظة التي كادت تعم جزيرة العرب و أمدوه بالسلاح الذي يعينه على خوض الحرب ... و كذلك أدرك الاستشراق و أدركت المسيحية الشمالية مأربا من مآربها في وأد اليقظة التي كانت تهددهم بها دار الإسلام في جزيرة العرب).
                                                   
و يقول المؤرخ المصري محمد جلال كشك رحمه الله في السعوديون و الحل الإسلامي:
(وهكذا نرى أننا نظلم الشيخ و نظلم دعوته ، بل نظلم السلفية و السلفيين عندما نتحدث عنهم بالمفهوم السوقي الشائع ، بينما فلسفته و تاريخه و ما ترتب على دعوته ، يؤكد أنها كانت ثورة على الواقع ، دعوة للرفض ، دعوة لتحرير الإنسان المسلم ، لتحرير الفكر الإسلامي و إسقاط الكهنوتية عن كل الفكر البشري في عصره ، دعوة للتحرر من التخلف الذي أخفى جوهر الدعوة الإسلامية .. فالثورة تبدأ بالاعتزاز بالتراث ، و جعله قاعدة البناء الحضاري المطلوب ، لا هدمه ولا النوم تحت أنقاضه)، (وكل الثورات الإسلامية في القرنين التاسع عشر و العشرين ضد الغزو الأوروبي ستحمل في طياتها بذرة وهابية).

إنها دعوة جادة لسبر أغوار هذا الجانب المهم من دعوة الإمام العبقري الموفق محمد بن عبدالوهاب و أن نرفع أعيينا إلى السماء و نرتقي بأسئلتنا و أبحاثنا بدلا من التخرصات والأوهام الساذجة البسيطة و السؤالات العبثية العاطفية : هل يعقل أن آبائنا و أجدادنا كانوا مشركين؟ هل يعقل أن الشرك كان موجوداً في بلاد نجدٍ؟ هل يعقل أن الشرك شرك؟

نادر ال عبدالكريم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..