"هاسبارا"[1] الشرح والتحكم في الرواية كأحد عناصر التخطيط الاستراتيجي
_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
تصريحات سفير سابق في مؤتمر جيوبيلي لمجلس السياسة الخارجية والدفاع السفير شاس فريمان (*)
1 ديسمبر 2012 ، موسكو، روسيا – ترجمة موقع اسلام ديلي
خلال الفترة الوجيزة المتاحة لي كمتحدث مشارك في هذا النقاش، تم اقتراح العديد من المواضيع
لمناقشتها في هذه الدورة. وأود أن أقدم بعض الأفكار حول التحكم في سرد الرويات والتلاعب في المعلومات باعتباره عنصرا أساسيا في الحروب الحديثة. الإسرائيليين يسمونها هاسبارا "hasbara" وتعني الشرح او التفسير. ونظرا لأن الإسرائيليين دون شك من أمهر الممارسين المعاصرين لهذا الفن، ولهذا السبب يبدو أنه من المناسب استخدام الكلمة العبرية " hasbara" لهذا الغرض.
منذ حرب إسرائيل الأخيرة (ضد الفلسطينيين في قطاع غزة)، والتي باءت بفشل ذريع، سأذكر لكم بعض الأمثلة من تلك الحرب لتوضيح النقاط الرئيسية فيما أقول ، وقبل أن نتطرق الى التفاصيل، دعوني أقدم لكم وصفا عاما للمقصود بعبارة "hasbara". عادة ما تتم ترجمتها بكلمة "شرح" غير أن هذه ليست ترجمة صحيحة، ولا تفي المصطلح حقه، لأن مفهوم "hasbara" يتعلق بربط المعلومات بالجهود الاستراتيجية التي تبذلها الدولة لتعزيز وحدة الجبهة الداخلية، وضمان الدعم من حلفائها، ولعرقلة الجهود الرامية إلى تشكيل تحالفات معادية، وتحديد الطريقة التي يتم بها تناول القضايا من خلال وسائل الإعلام، والمثقفين، وشبكات التواصل الاجتماعي، ووضع المعايير اللازمة للخطاب السياسي الذي يناسبها، وكذلك نزع الشرعية عن المعارضين والمنتقدين والحجج التي يسوقونها، وتشكيل فهم وتفسير الرأي العام لنتائج المفاوضات الدولية. وكلمة "hasbara"، حمّالة أوجه، ومتوافقة بشكل جيد مع العصر الرقمي. كما أنها تجسد حالة من الشراكة بين القطاعين العام والخاص، تقوم الدولة من خلالها بتوجيه المتطوعين الملتزمين بمتابعة تنفيذ استراتيجية إعلامية معينة. وهذه العبارة في شمولها وتعقيدها، لديها نفس العلاقة التي لدى الدبلوماسية العامة ذات البعد الواحد، وما تفعله الاستراتيجية الكبرى بالتخطيط للحملات الدعائية.
وكلمة "hasbara" لها جذورها العميقة في المفاهيم الدعائية القديمة، كالدعاية السياسية، والرقابية. وهي كما هو الحال في هذه المفاهيم، تسعى للتأثير على الإدراك والسلوك عن طريق التلاعب بالتصورات حول قضية أو موقف معين بحجج أحادية الجانب، ومواد ضارة، ودواعي عاطفية. فكلمة "hasbara" على العكس من مثيلاتها السالفة، لا تسعى فقط إلى تلميع أو تشويه الصور الوطنية من باب الاهتمام أو لتقديم معلومات ملائمة حول أطروحاتها. كما تسعى لغرس قوانين الصواب السياسي داخلياً وخارجياً في وسائل الإعلام والجماهير التي من شأنها تعزيز الرقابة الذاتية من خلالها. وهي بذلك تسعى إلى تقليل رغبة الجماهير في الاطلاع على المعلومات المرتبطة بوجهات النظر، والأفراد، والجماعات غير المقبولة سياسيا ، ومنع تداول المعلومات السلبية في الشبكات الاجتماعية.
الجهود التي ظلت تبذلها الدول لتشكيل الرأي العام المحلي والأجنبي كانت تعتمد على إنتاج معلومات مقنعة وبذل الجهود لحرمان الجماهير من الوصول إلى معلومات متناقضة عن طريق حظرها من خلال الرقابة، التشويش، وغيرها من التقنيات التي تستهدف الحد من تدفقها. وعلى النقيض من ذلك، فإن "hasbara" تفترض التدفق الحر للمعلومات داخل سوق مفتوحة للرأي. وفي هذا السياق تسعى إلى تعزيز الاستماع الانتقائي . بغرض تقليص الطلب على المعلومات، وليس تدفقها. وعلى الرغم من أن "hasbara" تتضمن بذل الجهود لإعاقة الوصول إلى المعلومات من خلال مجموعة واسعة من التقنيات القادرة على التكيف مع التكنولوجيات الجديدة للمعلومات، فهي تركز على الحد من تقبل الجمهور لهذه المعلومات.
وتقر "hasbara" بأن السيطرة على سرد الروايه سلاح قوي. فالسرد من أهم عناصر الخطاب. ويحدد السياق. فعندما يتم فرض سرد معين بنجاح، فهو يمثل أداة انتقاء معرفية. وتقدم هذه السرديات إطارا شاملا لربط وتفسير الأحداث. فهي تقوم بتبرير "التفكير الجماعي" وتحدد الخطوط الأساسية للمطابقة، ومن ثم العزل والاستبعاد.
التصور والإدراك في السياسة حقيقة واقعية، والسرد يقوم بإضفاء الشرعية على بعض المفاهيم و نزعها عن مفاهيم أخرى. ويمكن اللجوء للسرد بقصد تعزيز الصور النمطية من خلال فرض تسميات مواتية أو التقليل من قيمة المعلومات ومصادرها. مثل هذه التسميات تجعل المتلقين لهذه المعلومات على استعداد لقبول بعض الأشياء على أنها ذات مصداقية، وتكذيب أشياء أخرى باعتبار أنها ملوثة أو حتى غير قابلة للتصديق، وبالتالي من الممكن، بل من الواجب استبعادها وتجاهلها. (ليس مصادفة، أن يكون التمسك بالسرديات هو السبب المعتاد لفشل المعلومات الاستخبارية - عدم القدرة على قبول الأدلة أو حتى النظر إليها باعتبارها شيء خارج الإطار المرجعي المعد سلفاً لوقوع الحدث).
كما يتبين من الحرب الأخيرة على غزة، ان الدولة الحديثة تملك تحت تصرفها مجموعة واسعة من وسائل خلق ودعم سرد الرواية. فإسرائيل أعلنت الحرب عبر تويتر. ثم قامت المصادر التي تسيطر عليها أو توجهها إسرائيل بتزويد وسائل الإعلام الأمريكية بكم هائل من النقاط التي تتحدث عنها والتي تمر عادة دون أي اعتراض من الصحفيين الذين تم إعدادهم سلفاً لهذه المهمة. هذا بالإضافة إلى التقنيات التقليدية للدعاية السياسية والتضليل عبر وسائل الإعلام التقليدية. لقد لجأ جهاز "hasbara" الإسرائيلي إلى استخدام كثيف للقنوات وأكثر تركيزا على التواصل المباشر مثل فيسبوك، وتويتر، ويوتيوب. وغمر الجمهور بالمعلومات التي تخدم قضيته وتجاهل المعلومات التي تتناقض مع وجهة نظره. هذا السلوك يعبر عن تخطيط محكم للطوارئ وإعداد دقيق.
لقد أصبح الرأي العام يتشكل وعلى نحو متزايد من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. لقد قامت دولة إسرائيل بتنظيم الوحدات الحكومية المدنية والعسكرية لاستغلال هذه الفرصة، وكذلك إنشاء مواقع وحسابات وسائل التواصل الاجتماعي، والرسائل المنسوبة إلى هويات مزيفة وأسماء مستعارة. وقد تعلمت كيفية التعامل مع وظائف المتصفح، وخوارزميات محرك البحث، والوسائل الآلية الأخرى التي تتحكم في المعلومات التي يتم عرضها على مستخدمي الإنترنت. ويمكن لهذا التلاعب ضمان أن تعليقاً أو معلومات معينة لن تظهر في الإجابات عند البحث عنها في عمليات البحث. بحيث أنها تمنح الفرصة الأكبر للبروز في محركات البحث لمواد قديمة وحرجة من مصادر أو تحليلات إدخلت حديثاً لخدمة غرضهم. كما يمكنها اتخاذ الترتيبات اللازمة لعمليات البحث بحيث يتم العثور على المعلومات والتعليقات الإيجابية فقط أو السلبية فقط حول موضوع محدد.
في بعض البلدان، كالولايات المتحدة مثلاً، يمكن لإسرائيل أن تعتمد على "طابور خامس" من الناشطين المتعاطفين معها لتضخيم رسالتها ولدحض وتكذيب التصريحات التي تتعارض مع الحجج والحقائق والافتراءات، وتطعن في الموقف الأخلاقي لأولئك الذين يطرحون مثل هذه التصريحات. وتقوم إسرائيل باستخدام ذكي للإمكانيات المتاحة للشراكة بين القطاعين العام والخاص في مجال الدعاية. ومن الأمثلة ذات الصلة بهذا الموضوع، قامت الوكالة اليهودية من أجل إسرائيل على الانترنت برعاية دليل "hasbara" للطلاب في جميع أنحاء العالم لاستخدامهم كدعاة لإسرائيل وسياساتها[2].
ويوضح دليل "hasbara" العديد من التقنيات القياسية للدعاية والخطاب المخادع. فهو يردد نوع محدد من الحجج والحجج المضادة والخطوط العريضة لبرنامج تدريبي للدفاع والتفنيد. ويشدد أيضا على أهمية إطلاق "الشتائم" وربط الشخص أو الفكرة برموز سلبية. ويضع الكتيب نفسه في سياق أوسع. وتثني على عمل لجنة "CAMERA " - لجنة الدقة في نقل التقارير من الشرق الأوسط إلى أمريكا - وهي منظمة سيئة السمعة تشتهر بجهودها التي تبذلها لتشويه سمعة الذين ينتقدون إسرائيل أو يقدمون روايات عن الأحداث تختلف عن الرواية الإسرائيلية الرسمية، وتصف اللجنة هذه الاتهامات بأنها "معادية للسامية " أو من "اليهود الكارهين لذاتهم". ويذكر الكتيب أن هذه اللجنة لديها مجلة شهرية مجانية كاملة عن مواد حديثة لـ "hasbara" للطلاب اليهود في الولايات المتحدة. وهناك عدد لا حصر له من المراكز الفكرية الموالية لإسرائيل تتخذ نفس المنحى بتقديم توجيهات مماثلة على شبكة الإنترنت، كما تفعل الشيء نفسه العديد من المواقع في إسرائيل نفسها.
بالإضافة إلى ذلك، هناك العديد من الحاخامات الأمريكيين يرون أن من واجبهم حشد جميع أتباعهم للدفاع عن اسرائيل. وكمثال نموذجي على ذلك، عند بدء الحرب على غزة، أكد أحد الحاخامات لأتباعه في نيويورك أنه "من الأهمية بمكان جعل نفسك مطلعاً بشكل جيد وقادر على التعبير عن قضية إسرائيل بشكل واضح و مقنع... حتى تمر عليه المواد المتحيزة التي تنشرها وسائل الإعلام المطبوعة أو التقارير الإلكترونية التي هي غير متوازنة وغير عادلة .. دون أن يعترض عليها . ...ولابد من غمر الوسائل والأجهزة الاعلامية التي هي عادة معادية لإسرائيل بالرسائل الإحتجاجية والبريد الإلكتروني عندما تنشر مقالاتها وصورها... لرسم صورة معينة لما نعرف أنه ليس كذلك. المحادثات في المسابح، والنوادي الصحية، وخاصة في التجمعات والحفلات التي يتم تنظيمها في العطلات في هذا الوقت من العام، كل هذه هي تحديات تواجهنا. يجب أن تكون مطلعاً .. ومدركاً لما يجري من حولك، لابد من اسماع صوتك"[3].
الدول الأخرى تفتقر إلى الشبكة الخارجية الفريدة من نوعها التي تتمتع بها إسرائيل من الزعماء الدينيين والدورات دراسات مخصصة لتلقين المدافعين عن مواقفها وإعداد أعداد كبيرة من هؤلاء لخنق المعارضين. ولا يزال، من المناسب، وجود جماعة دينية ملتزمة في الخارج ليس من الضروري لشن الهجمات "الغوغائية" لإسكات أولئك الذين تختلف معهم الدولة. فهناك مجموعة واسعة من الاتصالات السلكية واللاسلكية وتقنيات وسائل الاعلام الاجتماعية لتنظيم مثل هذه الحملات في جميع أنحاء العالم.
أثناء الحرب على غزة، سعت إسرائيل كعادتها دائما لتصوير نفسها على أنها ضحية بريئة لعدوان عربي غير عقلاني وحاقد. وقد نجحت في هذا الجهد على الأقل في الولايات المتحدة. على الرغم من حقيقة أن إسرائيل بدأت التصعيد الذي أدى إلى الحرب، وقامت بإلقاء أطنان من الذخائر على غزة تعادل ألف ضعف لما أطلقه سكان غزة على اسرائيل، وهي تواجه خصم لا يملك دفاعات جوية، وهي لديها واحد من القوات الجوية الأكثر تقدما في العالم ضد الصواريخ المحلية الصنع التي أطلقت عليها من غزة، و قتلت 32 ضعف عدد الإسرائيليين الذين قتلهم سكان غزة. وقد دأب معظم الأميركيين التعاطي مع القضية من زاوية حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد هجوم صاروخي. ولم يذكر أحد تقريبا أن غزة كانت تحت الحصار من قبل إسرائيل لمدة ثماني سنوات قبل اندلاع الحرب الأخيرة[4].
وبمجرد أن قام الرئيس المصري محمد مرسي بترتيب هدنة بين إسرائيل وحكومة حماس في غزة، تحركت "hasbaristas" الإسرائيلية لإعادة صياغة حرب غزة من حيث علاقتها مع إيران لم تذكر سابقا ( وهي وهمية تماما)، وقد تناولتها من قبل. وانطلاقا من قناعتهم بأن تنفيذ اتفاقات السلام تشكل حربا بعد حرب، بدأوا أيضا حملة هادئة لضمان أن مواطن الغموض العديدة في الهدنة ستحل لمصلحة إسرائيل.
إسرائيل دولة صغيرة ، محاطة بالأعداء و تعتمد على استمرار المعونات والدعم العسكري من الولايات المتحدة. ومع ذلك إذا ما قام المرء بتقييم الحكمة من سياسات إسرائيل من عدمها، فلن يكون من المستغرب في هذا السياق القول بأن إسرائيل أدركت أهمية حرب المعلومات وتطوير مفاهيم جديدة لكيفية خوض هذه الحرب. وما فعلته إسرائيل، كان يتوقع من البعض الآخر أن يحذو حذوها.
قال اسخيليوس أن "الحقيقة هي الضحية الأولى في الحرب" ولكن، ماذا لو كانت الحقيقة رقمية ومرنة من السهل إعادة تشكيلها، بل وشريكا كاملا في الحرب؟ في الحروب الحديثة، قيادة بيئة المعلومات يمكن أن يكون بنفس أهمية السيطرة على ساحة المعركة. والمفهوم الإسرائيلي لـ "hasbara" يقدم نموذجا لكيفية القيام بذلك في العصر الرقمي. وهو أمر يستحق المزيد من الدراسة.
(*) تشارلز ( " شاس " ) فريمان ، (ولد في عام 1943) وهو دبلوماسي أمريكي ، ومؤلف وكاتب. خدم خارج الولايات المتحدة، بوزارتي الخارجية والدفاع خلال السنوات الثلاثين الماضية. ويقول أن تقرير واشنطن عن شؤون الشرق الأوسط جعل مسيرته "تتغير بشكل ملحوظ " ومن أبرز أعماله أنه عمل مترجما رئيسياً للرئيس ريتشارد نيكسون في زيارته للصين عام 1972،كما عمل سفيراً للولايات المتحدة لدى المملكة العربية السعودية خلال الفترة بين عامي 1989-1992، حيث تعامل مع القضايا المتصلة بحرب الخليج الفارسي.
المصدر:
1 ديسمبر 2012 ، موسكو، روسيا – ترجمة موقع اسلام ديلي
خلال الفترة الوجيزة المتاحة لي كمتحدث مشارك في هذا النقاش، تم اقتراح العديد من المواضيع
لمناقشتها في هذه الدورة. وأود أن أقدم بعض الأفكار حول التحكم في سرد الرويات والتلاعب في المعلومات باعتباره عنصرا أساسيا في الحروب الحديثة. الإسرائيليين يسمونها هاسبارا "hasbara" وتعني الشرح او التفسير. ونظرا لأن الإسرائيليين دون شك من أمهر الممارسين المعاصرين لهذا الفن، ولهذا السبب يبدو أنه من المناسب استخدام الكلمة العبرية " hasbara" لهذا الغرض.
منذ حرب إسرائيل الأخيرة (ضد الفلسطينيين في قطاع غزة)، والتي باءت بفشل ذريع، سأذكر لكم بعض الأمثلة من تلك الحرب لتوضيح النقاط الرئيسية فيما أقول ، وقبل أن نتطرق الى التفاصيل، دعوني أقدم لكم وصفا عاما للمقصود بعبارة "hasbara". عادة ما تتم ترجمتها بكلمة "شرح" غير أن هذه ليست ترجمة صحيحة، ولا تفي المصطلح حقه، لأن مفهوم "hasbara" يتعلق بربط المعلومات بالجهود الاستراتيجية التي تبذلها الدولة لتعزيز وحدة الجبهة الداخلية، وضمان الدعم من حلفائها، ولعرقلة الجهود الرامية إلى تشكيل تحالفات معادية، وتحديد الطريقة التي يتم بها تناول القضايا من خلال وسائل الإعلام، والمثقفين، وشبكات التواصل الاجتماعي، ووضع المعايير اللازمة للخطاب السياسي الذي يناسبها، وكذلك نزع الشرعية عن المعارضين والمنتقدين والحجج التي يسوقونها، وتشكيل فهم وتفسير الرأي العام لنتائج المفاوضات الدولية. وكلمة "hasbara"، حمّالة أوجه، ومتوافقة بشكل جيد مع العصر الرقمي. كما أنها تجسد حالة من الشراكة بين القطاعين العام والخاص، تقوم الدولة من خلالها بتوجيه المتطوعين الملتزمين بمتابعة تنفيذ استراتيجية إعلامية معينة. وهذه العبارة في شمولها وتعقيدها، لديها نفس العلاقة التي لدى الدبلوماسية العامة ذات البعد الواحد، وما تفعله الاستراتيجية الكبرى بالتخطيط للحملات الدعائية.
وكلمة "hasbara" لها جذورها العميقة في المفاهيم الدعائية القديمة، كالدعاية السياسية، والرقابية. وهي كما هو الحال في هذه المفاهيم، تسعى للتأثير على الإدراك والسلوك عن طريق التلاعب بالتصورات حول قضية أو موقف معين بحجج أحادية الجانب، ومواد ضارة، ودواعي عاطفية. فكلمة "hasbara" على العكس من مثيلاتها السالفة، لا تسعى فقط إلى تلميع أو تشويه الصور الوطنية من باب الاهتمام أو لتقديم معلومات ملائمة حول أطروحاتها. كما تسعى لغرس قوانين الصواب السياسي داخلياً وخارجياً في وسائل الإعلام والجماهير التي من شأنها تعزيز الرقابة الذاتية من خلالها. وهي بذلك تسعى إلى تقليل رغبة الجماهير في الاطلاع على المعلومات المرتبطة بوجهات النظر، والأفراد، والجماعات غير المقبولة سياسيا ، ومنع تداول المعلومات السلبية في الشبكات الاجتماعية.
الجهود التي ظلت تبذلها الدول لتشكيل الرأي العام المحلي والأجنبي كانت تعتمد على إنتاج معلومات مقنعة وبذل الجهود لحرمان الجماهير من الوصول إلى معلومات متناقضة عن طريق حظرها من خلال الرقابة، التشويش، وغيرها من التقنيات التي تستهدف الحد من تدفقها. وعلى النقيض من ذلك، فإن "hasbara" تفترض التدفق الحر للمعلومات داخل سوق مفتوحة للرأي. وفي هذا السياق تسعى إلى تعزيز الاستماع الانتقائي . بغرض تقليص الطلب على المعلومات، وليس تدفقها. وعلى الرغم من أن "hasbara" تتضمن بذل الجهود لإعاقة الوصول إلى المعلومات من خلال مجموعة واسعة من التقنيات القادرة على التكيف مع التكنولوجيات الجديدة للمعلومات، فهي تركز على الحد من تقبل الجمهور لهذه المعلومات.
وتقر "hasbara" بأن السيطرة على سرد الروايه سلاح قوي. فالسرد من أهم عناصر الخطاب. ويحدد السياق. فعندما يتم فرض سرد معين بنجاح، فهو يمثل أداة انتقاء معرفية. وتقدم هذه السرديات إطارا شاملا لربط وتفسير الأحداث. فهي تقوم بتبرير "التفكير الجماعي" وتحدد الخطوط الأساسية للمطابقة، ومن ثم العزل والاستبعاد.
التصور والإدراك في السياسة حقيقة واقعية، والسرد يقوم بإضفاء الشرعية على بعض المفاهيم و نزعها عن مفاهيم أخرى. ويمكن اللجوء للسرد بقصد تعزيز الصور النمطية من خلال فرض تسميات مواتية أو التقليل من قيمة المعلومات ومصادرها. مثل هذه التسميات تجعل المتلقين لهذه المعلومات على استعداد لقبول بعض الأشياء على أنها ذات مصداقية، وتكذيب أشياء أخرى باعتبار أنها ملوثة أو حتى غير قابلة للتصديق، وبالتالي من الممكن، بل من الواجب استبعادها وتجاهلها. (ليس مصادفة، أن يكون التمسك بالسرديات هو السبب المعتاد لفشل المعلومات الاستخبارية - عدم القدرة على قبول الأدلة أو حتى النظر إليها باعتبارها شيء خارج الإطار المرجعي المعد سلفاً لوقوع الحدث).
كما يتبين من الحرب الأخيرة على غزة، ان الدولة الحديثة تملك تحت تصرفها مجموعة واسعة من وسائل خلق ودعم سرد الرواية. فإسرائيل أعلنت الحرب عبر تويتر. ثم قامت المصادر التي تسيطر عليها أو توجهها إسرائيل بتزويد وسائل الإعلام الأمريكية بكم هائل من النقاط التي تتحدث عنها والتي تمر عادة دون أي اعتراض من الصحفيين الذين تم إعدادهم سلفاً لهذه المهمة. هذا بالإضافة إلى التقنيات التقليدية للدعاية السياسية والتضليل عبر وسائل الإعلام التقليدية. لقد لجأ جهاز "hasbara" الإسرائيلي إلى استخدام كثيف للقنوات وأكثر تركيزا على التواصل المباشر مثل فيسبوك، وتويتر، ويوتيوب. وغمر الجمهور بالمعلومات التي تخدم قضيته وتجاهل المعلومات التي تتناقض مع وجهة نظره. هذا السلوك يعبر عن تخطيط محكم للطوارئ وإعداد دقيق.
لقد أصبح الرأي العام يتشكل وعلى نحو متزايد من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. لقد قامت دولة إسرائيل بتنظيم الوحدات الحكومية المدنية والعسكرية لاستغلال هذه الفرصة، وكذلك إنشاء مواقع وحسابات وسائل التواصل الاجتماعي، والرسائل المنسوبة إلى هويات مزيفة وأسماء مستعارة. وقد تعلمت كيفية التعامل مع وظائف المتصفح، وخوارزميات محرك البحث، والوسائل الآلية الأخرى التي تتحكم في المعلومات التي يتم عرضها على مستخدمي الإنترنت. ويمكن لهذا التلاعب ضمان أن تعليقاً أو معلومات معينة لن تظهر في الإجابات عند البحث عنها في عمليات البحث. بحيث أنها تمنح الفرصة الأكبر للبروز في محركات البحث لمواد قديمة وحرجة من مصادر أو تحليلات إدخلت حديثاً لخدمة غرضهم. كما يمكنها اتخاذ الترتيبات اللازمة لعمليات البحث بحيث يتم العثور على المعلومات والتعليقات الإيجابية فقط أو السلبية فقط حول موضوع محدد.
في بعض البلدان، كالولايات المتحدة مثلاً، يمكن لإسرائيل أن تعتمد على "طابور خامس" من الناشطين المتعاطفين معها لتضخيم رسالتها ولدحض وتكذيب التصريحات التي تتعارض مع الحجج والحقائق والافتراءات، وتطعن في الموقف الأخلاقي لأولئك الذين يطرحون مثل هذه التصريحات. وتقوم إسرائيل باستخدام ذكي للإمكانيات المتاحة للشراكة بين القطاعين العام والخاص في مجال الدعاية. ومن الأمثلة ذات الصلة بهذا الموضوع، قامت الوكالة اليهودية من أجل إسرائيل على الانترنت برعاية دليل "hasbara" للطلاب في جميع أنحاء العالم لاستخدامهم كدعاة لإسرائيل وسياساتها[2].
ويوضح دليل "hasbara" العديد من التقنيات القياسية للدعاية والخطاب المخادع. فهو يردد نوع محدد من الحجج والحجج المضادة والخطوط العريضة لبرنامج تدريبي للدفاع والتفنيد. ويشدد أيضا على أهمية إطلاق "الشتائم" وربط الشخص أو الفكرة برموز سلبية. ويضع الكتيب نفسه في سياق أوسع. وتثني على عمل لجنة "CAMERA " - لجنة الدقة في نقل التقارير من الشرق الأوسط إلى أمريكا - وهي منظمة سيئة السمعة تشتهر بجهودها التي تبذلها لتشويه سمعة الذين ينتقدون إسرائيل أو يقدمون روايات عن الأحداث تختلف عن الرواية الإسرائيلية الرسمية، وتصف اللجنة هذه الاتهامات بأنها "معادية للسامية " أو من "اليهود الكارهين لذاتهم". ويذكر الكتيب أن هذه اللجنة لديها مجلة شهرية مجانية كاملة عن مواد حديثة لـ "hasbara" للطلاب اليهود في الولايات المتحدة. وهناك عدد لا حصر له من المراكز الفكرية الموالية لإسرائيل تتخذ نفس المنحى بتقديم توجيهات مماثلة على شبكة الإنترنت، كما تفعل الشيء نفسه العديد من المواقع في إسرائيل نفسها.
بالإضافة إلى ذلك، هناك العديد من الحاخامات الأمريكيين يرون أن من واجبهم حشد جميع أتباعهم للدفاع عن اسرائيل. وكمثال نموذجي على ذلك، عند بدء الحرب على غزة، أكد أحد الحاخامات لأتباعه في نيويورك أنه "من الأهمية بمكان جعل نفسك مطلعاً بشكل جيد وقادر على التعبير عن قضية إسرائيل بشكل واضح و مقنع... حتى تمر عليه المواد المتحيزة التي تنشرها وسائل الإعلام المطبوعة أو التقارير الإلكترونية التي هي غير متوازنة وغير عادلة .. دون أن يعترض عليها . ...ولابد من غمر الوسائل والأجهزة الاعلامية التي هي عادة معادية لإسرائيل بالرسائل الإحتجاجية والبريد الإلكتروني عندما تنشر مقالاتها وصورها... لرسم صورة معينة لما نعرف أنه ليس كذلك. المحادثات في المسابح، والنوادي الصحية، وخاصة في التجمعات والحفلات التي يتم تنظيمها في العطلات في هذا الوقت من العام، كل هذه هي تحديات تواجهنا. يجب أن تكون مطلعاً .. ومدركاً لما يجري من حولك، لابد من اسماع صوتك"[3].
الدول الأخرى تفتقر إلى الشبكة الخارجية الفريدة من نوعها التي تتمتع بها إسرائيل من الزعماء الدينيين والدورات دراسات مخصصة لتلقين المدافعين عن مواقفها وإعداد أعداد كبيرة من هؤلاء لخنق المعارضين. ولا يزال، من المناسب، وجود جماعة دينية ملتزمة في الخارج ليس من الضروري لشن الهجمات "الغوغائية" لإسكات أولئك الذين تختلف معهم الدولة. فهناك مجموعة واسعة من الاتصالات السلكية واللاسلكية وتقنيات وسائل الاعلام الاجتماعية لتنظيم مثل هذه الحملات في جميع أنحاء العالم.
أثناء الحرب على غزة، سعت إسرائيل كعادتها دائما لتصوير نفسها على أنها ضحية بريئة لعدوان عربي غير عقلاني وحاقد. وقد نجحت في هذا الجهد على الأقل في الولايات المتحدة. على الرغم من حقيقة أن إسرائيل بدأت التصعيد الذي أدى إلى الحرب، وقامت بإلقاء أطنان من الذخائر على غزة تعادل ألف ضعف لما أطلقه سكان غزة على اسرائيل، وهي تواجه خصم لا يملك دفاعات جوية، وهي لديها واحد من القوات الجوية الأكثر تقدما في العالم ضد الصواريخ المحلية الصنع التي أطلقت عليها من غزة، و قتلت 32 ضعف عدد الإسرائيليين الذين قتلهم سكان غزة. وقد دأب معظم الأميركيين التعاطي مع القضية من زاوية حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد هجوم صاروخي. ولم يذكر أحد تقريبا أن غزة كانت تحت الحصار من قبل إسرائيل لمدة ثماني سنوات قبل اندلاع الحرب الأخيرة[4].
وبمجرد أن قام الرئيس المصري محمد مرسي بترتيب هدنة بين إسرائيل وحكومة حماس في غزة، تحركت "hasbaristas" الإسرائيلية لإعادة صياغة حرب غزة من حيث علاقتها مع إيران لم تذكر سابقا ( وهي وهمية تماما)، وقد تناولتها من قبل. وانطلاقا من قناعتهم بأن تنفيذ اتفاقات السلام تشكل حربا بعد حرب، بدأوا أيضا حملة هادئة لضمان أن مواطن الغموض العديدة في الهدنة ستحل لمصلحة إسرائيل.
إسرائيل دولة صغيرة ، محاطة بالأعداء و تعتمد على استمرار المعونات والدعم العسكري من الولايات المتحدة. ومع ذلك إذا ما قام المرء بتقييم الحكمة من سياسات إسرائيل من عدمها، فلن يكون من المستغرب في هذا السياق القول بأن إسرائيل أدركت أهمية حرب المعلومات وتطوير مفاهيم جديدة لكيفية خوض هذه الحرب. وما فعلته إسرائيل، كان يتوقع من البعض الآخر أن يحذو حذوها.
قال اسخيليوس أن "الحقيقة هي الضحية الأولى في الحرب" ولكن، ماذا لو كانت الحقيقة رقمية ومرنة من السهل إعادة تشكيلها، بل وشريكا كاملا في الحرب؟ في الحروب الحديثة، قيادة بيئة المعلومات يمكن أن يكون بنفس أهمية السيطرة على ساحة المعركة. والمفهوم الإسرائيلي لـ "hasbara" يقدم نموذجا لكيفية القيام بذلك في العصر الرقمي. وهو أمر يستحق المزيد من الدراسة.
(*) تشارلز ( " شاس " ) فريمان ، (ولد في عام 1943) وهو دبلوماسي أمريكي ، ومؤلف وكاتب. خدم خارج الولايات المتحدة، بوزارتي الخارجية والدفاع خلال السنوات الثلاثين الماضية. ويقول أن تقرير واشنطن عن شؤون الشرق الأوسط جعل مسيرته "تتغير بشكل ملحوظ " ومن أبرز أعماله أنه عمل مترجما رئيسياً للرئيس ريتشارد نيكسون في زيارته للصين عام 1972،كما عمل سفيراً للولايات المتحدة لدى المملكة العربية السعودية خلال الفترة بين عامي 1989-1992، حيث تعامل مع القضايا المتصلة بحرب الخليج الفارسي.
المصدر:
[1] المترجم :
هاسبارا تعني "الشرح" بالعبرية، وتتمحور حول الترويج لمواقف الحكومة
الإسرائيلية في العالم. و"مشروع إسرائيل" واحد من المشاريع الكثيرة التي
تهدف إلى نشر رسالة دعم لإسرائيل عبر روايات وآراء عبر التلفزيونات، والصحف
والمدونات. وتعتبر الهاسبارا أساسية لاستمرار الدعم للمواقف الإسرائيلية،
لدرجة أن الحكومة الإسرائيلية عيّنت في شباط/فبراير 2008، ياردين فاتيكاي،
"قيصر هاسبارا"، لتنسيق التغطية الإعلامية. ويدير مشروع إسرائيل مكاتب في
واشنطن والقدس، "تقدم للصحافيين المعلومات والحقائق الضرورية قبل أن يقدموا
مقالاتهم. تحضّر المكاتب لمهرجانات ومؤتمرات إعلامية وتقدم الخلفيات
والمصادر لأكثر من 400 صحافي يعينون مؤقتا في إسرائيل إضافة إلى المئات
الآخرين الذين يرسلون التقارير من إسرائيل في مراحل حساسة من التاريخ".
ويضم مشروع إسرائيل في المجلس الاستشاري شخصيات مختلفة منهم 12 سيناتورا
و10 نواب أميركيين.
[3] الحاخام جيرالد سكولنيك ، مركز فورست هيلز اليهودي، كوينز، نيويورك ، 20 نوفمبر 2012،
http://www.thejewishweek.com/features/rabbis-world/ayin-ltzion-tzofia-feeling-israels-pain .
http://www.thejewishweek.com/features/rabbis-world/ayin-ltzion-tzofia-feeling-israels-pain .
_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..