التنبيه الثاني :في أهمية معرفة الكيفيات ،
والهيآت التي مر بها الغناء قبل الإسلام ، وعند مجيء الإسلام ، وبعد مجيئه ،
في تصور مدى ما كان عليه الموقف الشرعي تجاه هذه القضية ، فموقف الشرع
تجاه الغناء حينما كان بغير الدفوف ، ليس كموقفه من الغناء مع الدفوف .
وموقف الصحابة بعد وفاة النبي - ‘ – من الغناء بآلات اللهو والمعازف ليس
كموقفهم من الغناء مع الدف ، أو من غير دف ، وكذلك التابعين من بعدهم .
وهذه المواقف الشرعية من النبي- ‘ - ومن صحابته تجاه الغناء المتغايرة بحسب
تغاير هيئات الغناء وأحواله هي التي أحدثت الفجوة - إما بغير قصد ، وإما
بقصد وهوى ، وإما بتقليد - في فهمها عند المبيحين للغناء بإطلاق .
فخلطوا بين هذه المواقف الشرعية من الغناء ، و بين النصوص الأخرى والوقائع
العينية المتعددة الاحتمالات ، واستغلوها – شعروا أم لم يشعروا - في تأييد
رأيهم بإباحة الغناء مطلقاً .
ولذا فإن الحديث عن مراحل الغناء سيكون عبر ثلاث نقاط :
النقطة الأولى : المرحلة التي مر بها الغناء قبل الإسلام .
كان الغناء قبل الإسلام معروفاً عند أهل المدن والعمران الذين عاشوا حياة
الترف وانهمكوا في الملذات ، وانغمسوا في الشهوات بعد أن توفرت لهم أسباب
المعيشة الهنيئة ، ومقومات الحياة الأساسية ، كما هي العادة في النفس
البشرية حين يكثر عندها الفراغ ولم تشغل بالطاعة وبما يعود عليها بالنفع في
دينها أو دنياها ، حينها تكون النتيجة الطبيعية وهي الانشغال بغير ذلك مما
قد يكون له الأثر السلبي على الدين أو الدنيا .
ولذا كثر الغناء والتفنن فيه وبآلاته ومعازفه عند فارس والروم ، ولم يكن
للعرب آنذاك اهتمامٌ يذكر بالغناء وآلات الملاهي سوى البدائي منها كالدف
والمزمار لانهماكهم في طلب المعيشة ، ومقومات الحياة الأساسية ، ولانشغالهم
كذلك بالحروب الطاحنة بينهم في جزيرة العرب ( ) .
إذاً فالغناء الذي كان عند العرب قبل الإسلام :
هو الغناء البدائي من الحداء والنصب من غير آلات طرب ومعازف ، أو مع
البدائي منها كالدف والمزمار. فالغناء عندهم يشمل النوعين السابقين .
النقطة الثانية : المرحلة التي مر بها الغناء عند مجيء الإسلام .
في هذه المرحلة يغنينا عن الكلام فيها ما سطره يراع الحافظ ابن رجب - رحمه
الله - حيث يقول : " ولا ريب أن العرب كان لهم غناء يتغنون به ، وكان لهم
دفوف يضربون بها ، وكان غناؤهم بأشعار الجاهلية من ذكر الحروب وندب من قتل
فيها ، وكانت دفوفهم مثل الغرابيل ، ليس فيها جلاجل ، كما في حديث عائشة ،
عن النبي - ‘ - : " أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغربال " خرجه الترمذي
وابن ماجه ، بإسناد فيه ضعف .
فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرخص لهم في أوقات الأفراح ، كالأعياد
والنكاح وقدوم الغيّاب في الضرب للجواري بالدفوف ، والتغني مع ذلك بهذه
الأشعار ، وما كان في معناها .
فلما فتحت بلاد فارس والروم ظهر للصحابة ما كان أهل فارس والروم قد اعتادوه
من الغناء الملحن بالإيقاعات الموزونة ، على طريقة الموسيقى والأشعار ،
التي توصف فيها المحرمات من الخمور والصور الجميلة المثيرة للهوى الكامن في
النفوس ، المجبول محبته فيها ، بآلات اللهو المطربة ، المخرج سماعها عن
الاعتدال ، فحينئذٍ أنكر الصحابة الغناء واستماعه ، ونهوا عنه ، وغلظوا فيه
.
حتى قال ابن مسعود - _ - : الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل . وروي عنه مرفوعاً . ( )
وهذا يدل على أنهم فهموا أن الغناء الذي رخص فيه النبي- صلى الله عليه وسلم
– لأصحابه لم يكن هذا الغناء ، ولا آلاته هي هذه الآلات ، وأنه إنما رخص
فيما كان في عهده ، مما يتعارفه العرب بآلاتهم .
فأما غناء الأعاجم بآلاتهم فلم تتناوله الرخصة ، وإنْ سمي غناء ، وسميته
آلاته دفوفاً فإن غناء الأعاجم بآلاتها يثير الهوى ، ويغير الطباع ، ويدعو
إلى المعاصي ، فهو رقية الزنا ( ).
وغناء الأعراب المرخص فيه ، ليس فيه شيءٌ من هذه المفاسد بالكلية البتة ،
فلا يدخل غناء الأعاجم في الرخصة لفظاً و لا معنى ؛ فإنه ليس هنالك نصٌ عن
الشارع بإباحة ما يسمى غناء ولا دفاً ، وإنما هي قضايا أعيان ، وقع الإقرار
عليها ، وليس لها من عموم .
وليس الغناء والدف المرخص فيهما في معنى ما في غناء الأعاجم ودفوفها
المصلصة ؛ لأن غناءهم ودفوفهم تحرك الطباع وتهيجها إلى المحرمات ، بخلاف
غناء الأعراب ، فمن قاس أحدهما على الآخر فقد أخطأ أقبح الخطأ ، وقاس مع
ظهور الفارق بين الفرع والأصل ، فقياسه من أفسد القياس وأبعده عن الصواب "
أ.هـ ( )
إذاً فالغناء الذي كان في عهد النبي - ‘ – هو الغناء البدائي من الحداء
والنصب من غير آلات طرب ومعازف ، أو مع البدائي منها كالدف والمزمار .
ومع هذا فقد كان مستقراً عند الصحابة أن الدف والمزمار من لهو الشيطان وأنه
باطل يصد عن سبيل الله كما قال أبو بكر - _ - حينما دخل علي رسول الله صلى
الله عليه وسلم وعنده جاريتان ، تغنيان بغناء الأنصار يوم بُعَاث ، والنبي
صلى الله عليه وسلم متغَشٍّ بثوبه ، فانتهرهما وقال : أمزامير الشيطان في
بيت رسول الله - ‘ - ؟ !.
فكشف النبي - ‘ - عن وجهه فقال : دعهما إن لكل قوم عيداً ، وهذا عيدنا ، فلما غفل غمزتهما فخرجتا " ( ).
قال ابن رجب – ’ - : " وفي الحديث ما يدل على تحريمه في غير أيام العيد ؛
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم – علل بأنها أيام عيد ، فدل على أن المقتضي
للمنع قائمٌ ، لكن عارضه معارضٌ وهو الفرح والسرور العارض بأيام العيد .
وقد أقر أبا بكر على تسمية الدف مزمار الشيطان ، وهذا يدل على وجود المقتضي لولا وجود المانع " أ.هـ المراد من كلامه ( ).
وكذلك عمر – _ - : " كان إذا استمع صوتاً أنكره وسأل عنه ، فإن قيل : عرسٌ
أو ختان ، أقره " أخرجه عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، و البيهقي ( ).
وكذلك كان بقية أصحاب رسول الله - ‘ - ، فعن عامر بن سعد البجلي قال : "
دخلت على أبي مسعود ، وقرظة بن كعب ، وثابت بن يزيد - رضي الله عنهم -
وجوار يضربن بدفٍ لهن ، ويغنين ، فقلت : تقرون هذا وأنتم أصحاب رسول الله -
‘ - ؟
قالوا : أنه رخص لنا في الغناء في العرس ".
وهذا هو الذي يتوافق مع الأحاديث التي جاء فيها تنظيم الغناء ، وضبطه
بالضوابط الشرعية ، كالأحاديث التي جاء فيها الرخصة بإباحة الغناء بالدفوف
للجواري في العيد ، والأعراس ، والختان ، وعند قدوم الغائب.
النقطة الثالثة : المرحلة التي مر بها الغناء بعد مجيء الإسلام .
والمراد بهذه المرحلة هو الحديث عن التطورات التي طرأت على الغناء الذي كان معروفاً عند الصحابة في جاهليتهم ، وفي صدر الإسلام .
وبيان ذلك أن المسلمين وبعد انفتاح بلاد فارس والروم وما استولوا عليه من
الممالك رأوا من أنواع الغناء وآلاته ومعازفه ما لا معرفة لهم به من قبل ،
فظهرت مواقف عديدة من الصحابة متمثلة في إنكارهم ما رأوه من أنواع الغناء
وآلاته ومعازفه ، وأنه ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل .
ثم ما لبث الحال حتى انخرط عدد من المغنيين من الفرس والروم في المسلمين
وأصبحوا موالي للعرب في الحجاز وغيرها فخلطوا غناءهم بغناء العرب ، ولحنوه
بألحانهم ، وضربوا عليه بآلاتهم ومعازفهم .
ثم ما لبث الحال أيضاً حتى دخل الغناء بلاط الحكم عند بعض الأمراء والولاة ( ).
واستمر الوضع على هذا الحال مع ما يكون عادة من التطور والتفنن عبر الزمان
حتى كان آخر المائة الثانية فحدثت بدعة السماع عند الصوفية .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -’- : " فاعلم أنه لم يكن في عنفوان القرون
الثلاثة المفضلة لا بالحجاز ، ولا بالشام ، و لا باليمن ، ولا بمصر ، ولا
المغرب ، ولا العراق ، ولا خراسان ، من أهل الدين والصلاح والزهد والعبادة
من يجتمع على مثل سماع المكاء والتصدية ، لا بدف ، ولا بكف ، ولا بقضيب ،
وإنما أحدث هذا بعد ذلك في أواخر المائة الثانية ، فلما رآه الأئمة أنكروه
" ( ) .
وأنبه إلى أهمية بعض الحواشي وستكون مثبتة في الملف المرفق - إن شاء الله - .
التنبيه الثالث :
أن مما لا يعرفه كثير ممن قلد ابن حزم في تضعيفه للأحاديث الواردة في تحريم
الغناء أنه يجريها على أصله في هذا الباب وهو عدم القول بتقوية الأحاديث
بالشواهد والمتابعات ، فقد نقل الزركشي في النكت على ابن الصلاح : ( 1 /
322 ) عنه ما يلي : ( ولو بلغت طرق الضعيف ألفاً لا يقوى ، ولا يزيد انضمام
الضعيف إلى الضعيف إلا ضعفاً ) أ.هـ ، وتطبيقاته العملية في مؤلفاته خير
شاهد ، وينظر كتاب " الحديث الحسن لذاته ولغيره " : ( 5 / 2356 - 2360 )
للشيخ الدكتور / خالد الدريس . ( ).
فهل من يقلده ويقول بقوله في هذا الباب يطرده في بقية أبواب العلم ؟!!
التنبيه الرابع :
إن في معرفة أقسام الغناء ، وما قد يصحب هذا الأنواع من ملابسات وأحوال ،
تساعد في فهم كلام العلماء الكثير حول هذا الموضوع ( ) ، و وضع كلامهم في
موضعه ، وحمله على محمله الذي ورد فيه ، إذ جاء عن بعضهم مثلاً حكاية
الإجماع على تحريم قسم من هذه الأقسام ، فيظن أن كلامه غير صحيح لأن في
المسألة خلافاً ، وبضده جاء من أبطل هذا الإجماع ( ) ، أو تجد أحدهم يبيح
قسماً من هذه الأقسام وهو صحيح ، ويظهر لمن لم يعرف أنواع الغناء وأقسامه
أنه يبيح الغناء بجميع صوره وأمثال ذلك .
وفي هذا يقول ابن الجوزي – ’ - : " وقبل أن نتكلم في إباحته ، أو تحريمه ،
أو كراهته ، نقول : ينبغي للعاقل أن ينصح لنفسه وإخوانه ، ويحذر تلبيس
إبليس في إجراء هذا الغناء مجرى الأقسام المتقدمة التي يطلق عليها اسم
الغناء ، فلا يحمل الكل محملاً واحداً فيقول : قد أباحه فلان وكرهه فلان " (
)
لذا فإن للغناء أقسام عديدة ، واعتبارات متنوعة ، ويمكن حصرها فيما يلي :
أولاً : بالنظر إلى ما يشتمل عليه الغناء من كلام ، يكون كالتالي :
لا يخلو الغناء من أن يكون بكلامٍ مباح ، بل ربما كان فيه إعانة على فعل الخير والجهاد ( ).
أو يكون بكلام فيه فحش وتشبب ، ودعوة إلى الرذيلة ، وما شابه ذلك .
فهذان قسمان من أقسام الغناء من حيث النظر إلى ما يشتمل عليه الكلام المغنى .
ثانياً : من ناحية النظر إلى ما يكون مع الغناء من الآلات والمعازف ، فهو
لا يخلو من أن يكون معه شيء منها ، أولا يكون معه شيء منها ، فهذان قسمان
وإن كان معه شئٌ منها فلا يخلو من ثلاث حالات :
الأولى : أن يكون غناء معه الدف فقط .
الثانية : أن يكون معه الدف وغيره من آلات المعازف .
الثالثة : أن يكون بآلات المعازف والطرب من غير غناء .
ثالثاً : بالنظر إلى الدافع للغناء وآلات الطرب فهو لا يخلو من ثلاث حالات :
الأولى : أن يكون الدافع للغناء وآلات الطرب ، طلب اللهو والترفيه .
الثانية : أن يكون الدافع للغناء وآلات الطرب ، قصد القربة لله تعالى ، والتدين بذلك .
الثالثة : أن يكون الدافع للغناء وآلات الطرب طلب الاستشفاء والعلاج .
رابعاً : بالنظر إلى جنس المغني من ذكر أو أنثى ، وكونه مستمعاً ، أو سامعاً فهو أربعة أقسام .
خامساً : وبالنظر إلى ما يترتب عليه من آثار فهو لا يخلو من ثلاثة أحوال :
الأول : أن يترتب عليه ترك طاعة واجبة ، أو فعل معصية محرمة .
الثاني : أن يترتب عليه ترك مستحب ، أو فعل مكروه .
الثالث : أن لا يترتب عليه شيءٌ من ذلك .
وعدة هذه التقسيمات أحد عشر قسماً على وجه الإجمال ، وأكثر من ذلك على وجه التفصيل .
وهذه الأقسام منها ما هو مباح بإجماع ، ومنها ما هو محرمٌ بإجماع ، ومنها ما قد اختلف فيه .
فأما الغناء المباح بإجماع فهو الغناء بكلامٍ مباح خالٍ من المعازف ، وآلات اللهو .
وكذلك من الغناء المباح بإجماع الغناء بكلامٍ مباح مع الدف فقط في الأعراس والأعياد .
وأما المحرم بإجماع فهو الغناء بكلامٍ فيه فحش وتشبب ، ودعوة إلى الرذيلة ،
وما شابه ذلك ، سواء أكان ذلك مصحوباً بآلات اللهو والمعازف ، أم من دونها
.
وكذلك من الغناء المحرم بإجماع ما ترتب عليه فعل معصية أو ترك واجب .
ومن الغناء المحرم بإجماع غناء المرأة الأجنبية عند الرجل الأجنبي عنها ،
سواء أكان غناؤها مصحوباً بآلات اللهو والمعازف ، أم من دونها ، وسواء أكان
غناؤها عند الأجنبي بكلام مباح ، أو بكلام محرم .
قال أبو بكر الطرطوشي : " وأما سماعه من المرأة فكلٌ مجمع على تحريمه " ( ) .
التنبيه الخامس :
بما
أن الغناء له أنواع عديدة منها الجائز ومنها المحرم ، وبما أنه جاء في
موضوع الغناء العديد من الأحاديث والآثار والتي جاء في بعضها الإباحة
والرخصة فيه في أوقات مخصوصة ، وجاء في مقابلها المنع والتحذير منه فعليه
فإنه ينبغي وضع كل حديث أو أثر موضعه اللائق به .
وبعدم مراعاة هذه القاعدة حصل كثير من الخلط والتناقض مما نتج عنه ما يلي :
1 ) القول بإباحة الغناء بإطلاق .
2 ) نسبة أقوال للأئمة والعلماء لم تكن مرادة لهم ألبته .
التنبيه السادس :
وهو
عدم التفريق بين السماع والاستماع عند الكثير ، و التفريق بين السماع
والاستماع من الأمور المهمة جداً ، وفهمه واستحضاره يعين على فهم كثيرٍ من
النصوص ، والوقائع العينية ( ) .
والفرق بين السماع والاستماع جليٌ للغاية ، فالسماع يكون من غير قصد للإنسان ، والثاني بقصد من المستمع وإصغاء ( ) .
يقول ابن قدامة في رده على ابن الحنبلي : " أخطأتم النظر وجهلتم الفرق بين
فعل النبي وفعلكم فإن المنقول عن النبي السماع له ، وأنتم تفعلون الاستماع
والسماع غير الاستماع "
ثم قال : " وأعجب مما عجب منه إمام مدرس مفت لا يفرق بين السماع والاستماع
ولا بين الغناء والحداء ، ولا بين حكم الصغير والكبير " ( ) .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في إيضاح الفرق بين السماع ،
والاستماع وبأيهما يتعلق الحكم الشرعي : " والأمر والنهي إنما يتعلق
بالاستماع ، لا بمجرد السماع كما في الرؤية فإنه إنما يتعلق بقصد الرؤية ،
لا بما يحصل منها بغير الاختيار .
وكذلك في اشتمام الطيب إنما ينهى المحرم عن قصد الشم ، فأما إذا لم يقصده
فإنه لا شيء عليه ، وكذلك في مباشرة المحرمات كالحواس الخمس من السمع ،
والبصر ، والشم ، والذوق ، واللمس إنما يتعلق الأمر والنهي من ذلك بما
للعبد فيه قصد وعمل ، وأما ما يحصل بغير اختياره فلا أمر فيه ولا نهي "
أ.هـ ( ) .
إذاً ما حصل للمسلم من سماع للأغاني والموسيقى من غير قصد فإنه لا يؤاخذ
عليه ، ولكن ينبغي له محاولة دفعه ما استطاع ، أو أن يكون بمنأىً عنه لكي
لا يعلق بقلبه شيءٌ من اللهو والباطل فيعسر عليه دفعه بعد وقوعه في قلبه ،
والوقاية خير من العلاج .
التنبيه السابع :
حول
ما ذكره الشيخ عبد الله الجديع في كتابه : " الموسيقى والغناء في ميزان
الإسلام " ص 10 حيث قال : ( قضية ( الغناء والموسيقى ) – موضوع هذا البحث –
قضية خلافية ، يجب على المتكلم فيها أن يراعي أدب الخلاف ، والبحث العلمي
يثبت أن الخلاف في مثلها معقول مقبول ، لا يوجب حكماً لمخالف على مخالفه ،
بل كل مختلفين في مثله في حاجة إلى أن يعذر أحدهما الآخر ، إذ هي من باب : (
رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب ) ، وغاية الحسن من
المجتهد في هذا المقام أن يكون قد سعى لإصابة الحق بأسبابه ، فإن وفق
للصواب في علم الله أو لم يوفق ، فقد أتى بالممكن له ، و لا يكلف الله
نفساً إلا وسعها ) أ.هـ .
أحب أن أقول أولاً : إن المسائل التي اختلف فيها أهل العلم وتجد لهم فيها
أكثر من قول ، لا تخلو من أن تكون مسائل خلافية ، أو مسائل اجتهادية ولكلٍ
منهما أحكام .
و الشيخ عبد الله الجديع قد خلط هنا بين أحكامهما ، ولا أدري لماذا ؟
ولبيان الفرق بينهما أقول :
إن المسائل الاجتهادية هي المسائل التي ليس فيه نص من الكتاب ، أو السنة ،
أو إجماع ، أو فيها نصٌ ولكن متردد بين احتمالين أو أكثر مثال ذلك حينما
قال النبي – صلى الله عليه وسلم – للصحابة لا يصلي أحدكم العصر إلا في بني
قريضة ، حيث اختلف الصحابة حين دخل وقت العصر ، فقال بعضهم إنما أراد النبي
– صلى الله عليه وسلم – منا الاستعجال في المسير إلى بني قريضة ، لا عدم
الصلاة إذا دخل وقتها ، فصلوا .
وأخذ آخرون بظاهر اللفظ فقالوا : إن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمرنا أن
لا نصلي العصر إلا في بني قريضة وإن تأخر وقتها فلم يصلوا حتى وصلوا بني
قريضة فلما بلغ النبي – صلى الله عليه وسلم –لم ينكر على أحد من الفريقين
صنيعه .
ومثله الخلاف في معنى القرء في قوله تعالى : ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) أهو الحيض ، أم الطهر .
وأما المسائل الخلافية فهي التي قام الدليل عليها من كتاب ، أو سنة ، أو
إجماع ، أو قياس ظاهر جلي ، فهذا النوع لا تسع المخالفة فيه لأحد من الناس
كائناً من كان وهذا هو الذي جرى عليه عمل الصحابة ومن تبعهم من السلف حيث
كثر إنكار بعضهم على بعض في مثل هذه المسائل ( ).
وقد بوّب ابن عبد البر لهذا المسألة في كتابه الماتع : " جامع بيان العلم
وفضله " ( 2 / 913 ) باب : " ذكر الدليل من أقاويل السلف على أن الاختلاف
خطأ وصواب يُلزم طالب الحجة عنده ، وذكر بعض ما خطّأ فيه بعضهم بعضاً
وأنكره بعضهم على بعض عند اختلافهم ... " فذكر جملة وافرة من إنكار السلف
بعضهم على بعض ( ) .
و يقول الإمام الشافعي في بيان أنواع المسائل التي حصل فيها خلافٌ والفرق
بينهما : " ... قلت الاختلاف وجهان ، فما كان لله فيه نص حكم ، أو لرسوله
سنة ، أو للمسلمين فيه إجماع لم يسع أحداً علم من هذا واحداً أن يخالفه ،
وما لم يكن فيه من هذا واحد كان لأهل العلم الاجتهاد فيه بطلب الشبهة ( )
بأحد هذه الوجوه الثلاثة ، فإذا اجتهد من له أن يجتهد وَسِعَهُ أن يقول بما
وجد الدلالة عليه ، بأن يكون في معنى كتاب ، أو سنة ، أو إجماع .
فإن ورد أمر مشتبه يحتمل حكمين مختلفين فاجتهد ، فخالف اجتهاده اجتهاد غيره
، وسعه أن يقول بشيء وغيره بخلافه ، وهذا قليل إذا نظر فيه ... " ( ) .
ثم أخذ يستدل لهذا التأصيل من الكتاب والسنة والإجماع ، فانظره إن رمت ذلك في موضعه .
وتلخيصاً لما سبق أذكر أهم الفوارق بين المسائل الخلافية والمسائل الاجتهادية :
1 – أن المسائل الخلافية هي التي جاء فيها نصٌ من كتاب ، أو سنة ، أو إجماع ، أو قياس واضح جلي .
أما المسائل الاجتهادية فهي نوعان :
النوع الأول : مسائل فيها دليل ولكنه إما محتمل لوجهين أو أكثر من غير
مرجحٍ قاطع ، أو يكون الدليل حديثاً مختلفاً في ثبوته والاستدلال به .
النوع الثاني : مسائل لا نص فيها بعينها من كتاب أو سنة وهي تتأرجح بين أصلين أو أكثر من أصول الشريعة .
2 – أن المخالفة في المسائل الخلافية مذمومة لظهور الحكم فيها ، ولما فيها من معارضة الشريعة بالآراء .
أما المخالفة في المسائل الاجتهادية فلا يلحقها مذمة مالم يكن فيها إتباعٌ للأهواء ، أو العقول ، أو التشهي .
3 – أن من علم بالحجة والدليل في المسائل الخلافية ثم لم ينقد إليها يكون مخطأً يجب عليه الرجوع عن خطئه .
أما من لم يتبين له وجه الحق في المسائل الاجتهادية فلا يلزمه الرجوع والانصياع .
4 - أن المخالف في المسائل الخلافية يعتبر مخطأ ويوصف بأنه مخطئ ، ويجب
بيان خطئه وكشفه كما هو صنيع السلف ، وقد يوصف بأكبر من وصفه بالخطأ حسب ما
يحتف بالمسألة من أحوال ، وعلى حسب حجم المخالفة .
أما المخالف في المسائل الاجتهادية فلا يعد مخطأً بل يعد مجتهداً حاز أجراً وفاته آخر .
5 – أن الحكم في المسائل الخلافية الذي وافق الدليل القاطع يعد علماً يقينياً ويعد مقابله جهل وخطأ .
أما الحكم في المسائل الاجتهادية فيعد ظنياً في كلا الجانبين .
إذا تبين لك هذا علمت أن الخلاف في مسألة الغناء من الخلاف المذموم ، وأن
المؤلف قد خلط في الفرق بين المسائل الخلافية ، وبين المسائل الاجتهادية
وبيان هذا من عدة وجوه :
الوجه الأول :
أنه قال ص 10 : " قضية ( الغناء والموسيقى ) – موضوع هذا البحث – قضية خلافية .. " فهو هنا اعتبرها من المسائل الخلافية .
ثم قال في السطر السادس من نفس الصفحة : " وغاية الحسن من المجتهد في هذا
المقام .. " وهنا اعتبر الناظر في هذه المسألة مجتهد ومعلومٌ أن الاجتهاد
لا يكون إلا في المسائل الاجتهادية .
الوجه الثاني :
حين قال : " والبحث العلمي يثبت أن الخلاف في مثلها معقول مقبول ، لا يوجب حكماً لمخالف على مخالفه "
قلت : بل الصواب أن البحث العلمي يثبت أن الخلاف في مسألة الغناء والموسيقى
غير معقول ولا مقبول ، إذ كيف يعقل أو يقبل رد النصوص الواضحة الدلالة على
تحريم الغناء بالمعازف ، وآلات اللهو ، والتمسك بالمتشابه من الوقائع
العينية ونحوها ؟
و كيف يعقل أو يقبل تأويل هذه النصوص الواضحة ، والانسياق وراء تأويلات في غاية الضعف ، والسقوط ؟
و كيف يعقل أو يقبل رد ما عليه الإجماع في بعض ذيول هذه المسألة ، بدعوى عدم حجيته ؟
و كيف يعقل أو يقبل رد القياس الجلي ، والمناط المتحقق في المسألة ، والأخذ
بقياس الشبه الذي هو من أفسد الأقيسة عند الأصولين ، والذي استدل به
المشركون على حل الربا ، حين قالوا : ( إنما البيع مثل الربا ) ؟ ( ) .
يقول ابن عبد البر : " أما علم الموسيقى واللهو فمطرح ومنبوذ عند جميع أهل الأديان على شرائط أهل العلم والإيمان " ( ) .
الوجه الثالث :
حين قال : " لا يوجب حكماً لمخالف على مخالفه ، بل كل مختلفين في مثله في حاجة إلى أن يعذر أحدهما الآخر "
حيث أراد المؤلف – هداه الله – أن يصل من خلال هذا الكلام إلى عدم وجود
مسوغ للحكم على الآخر بالخطأ وأنه قد ضل في هذه المسألة ، فضلاً عن الإنكار
و الرد عليه ، وهذا خلاف ما أجمع عليه أهل العلم قال ابن عبد البر بعد أن
ذكر جملة وافرة من الأدلة والوقائع التي حصل فيها إنكار السلف بعضهم على
بعض في المسائل الخلافية : " ... وفي رجوع أصحاب رسول الله – صلى الله عليه
وسلم – بعضهم إلى بعض ورد بعضهم على بعض دليل واضح على أن اختلافهم عندهم
خطأ وصواب ؛ ولولا ذلك كان يقول كل واحد منهم : جائزٌ ما قلت أنتَ ، وجائزٌ
ما قلت أنا ، وكلانا نجمٌ يهتدى به ، فلا علينا شيءٌ من اختلافنا .
قال أبو عمر : والصواب مما اختلف فيه وتدافع وجهٌ واحد ، ولو كان الصواب في
وجهين متدافعين ما خطأ السلف بعضهم بعضاً في اجتهادهم وقضاياهم ، وفتواهم ،
والنظر يأبى أن يكون الشيء وضده صواباً كله " ( ) .
وقال شيخ الإسلام : " وقولهم مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح ... " ( ) .
قال ابن القيم : " ... وهذا يرد قول من قال : لا إنكار في المسائل المختلف
فيها ، وهذا خلاف إجماع الأئمة ، ولا يعلم إمام من أئمة الإسلام قال ذلك " (
) .
ومازال الصحابة ، ومن بعدهم من التابعين ينكر بعضهم على بعض ، ويخطأ أحدهم
الآخر في المسائل الخلافية ولو ذهبت أسوق ما في ذلك لطال الكلام .
وبهذا التنبيه ينتهي ما أردت من التنبيهات ويليه - إن شاء الله - القسم الثاني في ذكر القواعد .
القسم الثاني في ذكر القواعد :
القاعدة الأولى :
أن الغناء - باستقراء النصوص والآثار والوقائع - اسم جنس يدخل تحته أنواع
كثيرة فليس هو الغناء من غير آلات لهو ومعازف أو معها بل يشمل النوعين وما
يدخل تحتهما من حداء ونصب وتغبير وسماع ، سواء أصحب ذلك آلات لهو ومعازف أم
لا .
القاعدة الثانية :
تكلم كثيرٌ من أهل العلم في موضوع الغناء بالنظر إلى جهتين :
الأولى : غناء على وجه التسلية واللهو .
الثانية : غناء على وجه التقرب إلى الله وهو ما اصطلح عليه باسم السماع عند الصوفية وغيرهم .
ويدخل في كل جهة ما سبق ذكره في القاعدة الأولى من أن الغناء تارة يكون بآلات لهو ومعازف وتارة بدونها .
القاعدة الثالثة :
نظراً لتعدد أنواع الغناء وكثرة النصوص الواردة فيه والتي جاء في بعضها
الإباحة والرخصة في أوقات مخصوصة وجاء في مقابلها وهو الأكثر المنع
والتحذير منه لزم منه وضع كل حديث أو أثر موضعه اللائق به وإلا حصل ما
سأذكره في القاعدة التالية .
القاعدة الرابعة :
وهي مبنية على عدم مراعاة القاعدة السابقة حيث حصل بسبب الإخلال بها كثرة
التناقض والخلط في موضوع الغناء والخطأ في فهم الحديث أو الأثر وعدم وضعه
الموضع اللائق به ، مما تمخض عنه نسبة أقوالٍ وآراءٍ لبعض الأئمة والعلماء
لم تكن مرادة لهم ألبته.
القاعدة الخامسة :
أن النصوص الشرعية في موضوع الغناء جاءت وافرةً وفرةً هائلة خصوصاً
الأحاديث والآثار حيث بلغت الأحاديث في موضوع الغناء بأنواعه ما يربو على
مائة حديث بما فيها الصحيح والضعيف .
القاعدة السادسة :
أن الغناء بأنواعه من النوازل المتكررة في كل زمن وهي في تطور مقيت ولم يكن
أهل العلم بمعزلٍ عنه بل صدر منهم العديد من الفتاوى الشفوية والمكتوبة ،
وهذا تراه مبثوثاً في كتب الفقه والفتاوى والمجاميع وغيرها ، فينبغى حين
النظر في كلامهم عدم إهمال القواعد السابقة واللاحقة .
القاعدة السابعة :
بما أن كلام أهل العلم حول الغناء كثير ومن ضمن كلامهم حكاياتهم الإجماع
على بعض أنواعه دون بعض فالحذر من تعميم تلك الحكايات على جميع الأنواع
والذي بسببه كثر الخلط والخطأ عند بعض المؤلفين في هذا الباب .
القاعدة الثامنة :
وقع بعض المؤلفين في موضوع الغناء بسبب عدم مراعاة ما سبق في خطأ كبير
حينما نفى الإجماع في تحريم بعض أنواع الغناء بسبب ما حكي عن بعض الأئمة
والعلماء من القول بجواز بعض أنواع الغناء بينما نجد عند التحقيق أن
الإجماع المحكي هو في نوع والقول المنسوب لأحد العلماء أو الأئمة بالجواز
هو في نوع آخر . فتنبه لمثل هذا !!
القاعدة التاسعة :
نظراً لأن أهل العلم لم يكونوا بمعزل عن موضوع الغناء بأنواعه كما سبق في
القاعدة السادسة وقد تركوا لنا ثروة هائلة تربو على الخمسين كتاباً وهذا
سوى ما هو منثورٌ في ثنايا الكتب والمجاميع والفتاوى .
وعليه فإن العجب لا ينقضي لمن يذهب بعد هذا إلى النظر في مؤلفات لا خطام
لها و لا زمام ، ومؤلفوها كانوا و لازالوا محل ريبة عند أهل العلم وسأشير
إلى كتابين ( ) كثر النقل عنهما :
الكتاب الأول : " الأغاني " لأبي الفرج علي بن الحسين بن محمد الكاتب
الأصفهاني الأموي ( ت 356هـ ) ، فمع ما في كتابه من لمسات أدبية إلا أن
الرجل ثبت في حقه ما يلي :
1) الكذب وفي كثيرٍ من شيوخه الذين يروي عنهم .
2) بذاءة لسانه وفحش ما يكتبه .
3) الاستهزاء والاستهانة بالصحابة - رضي الله عنهم - .
4) الوساخة والقذارة في ملبسه ومعاشه ولا يخفى أنها ليست من الإسلام في شيء .
وقد ذمه وذم كتابه عددٌ من العلماء والمؤرخين كابن الجوزي ، وابن تيمية ، وابن كثير وغيرهم .
وما كان في من مدح فهو في الجانب الأدبي لكتابه فحسب .
و لا يهولنك كتاب شفيق جبري : " دراسة الأغاني " الذي حاول على إظهار ما
فيه على أنه حق وصدق ، وحسبك أن تعلم أنه ألف كتابه بتشجيع من شيخه طه حسين
!!
ولمزيد بسط ينظر ما يلي :
1) " السيف اليماني في نحر لأصفهاني صاحب الأغاني " لوليد الأعظمي .
2) " جولة في آفاق الأغاني " لنذير محمد مكتبي .
3) " كتب حذر منها العلماء " : ( 2 / 24 - 43 ) لمشهور حسن سلمان .
وحسبك أن تعلم أخيراً أن كتاب الأغاني كان تكأةً لمن أراد الطعن في الإسلام
وتاريخه من الشانئين الحاقدين حيث قدم لهم الأصفهاني خدمةً لم يحلموا بها
!!
الكتاب الثاني : " العقد الفريد " لأحمد بن محمد بن عبد ربه الأندسي
( 328هـ ) ،" كتب حذر منها العلماء " : ( 2 / 44 - 45 ) .
وبهذا
ينتهي ما أردت من التنبيهات والقواعد وستجد في الملف المرفق البحث بحواشيه
مع ملحق في حكم رواية إبراهيم النخعي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..