السبت، 5 يوليو 2014

بعض ما قاله يوسف القرضاوي في مذكراته عن الاخوان المسلمين

أثناء قراءتي لمذكرات الشيخ يوسف القرضاوي، ألفيت له تعليقات ونقد على الاخوان المسلمين وطريقة تعاملهم مع من يختلف معهم في الرأي ، حتى لو كان من منسوبيهم..والكلام منصف من الشيخ وعدل ،
أحببت نقله في المجموعة ..أخوكم:عبدالله الشرقاوي

يقول الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه: ابن القرية:
(حادث المنشية تمثيلية أم خداع؟
ذكرت ما كنت أعانيه من قلق وحيرة وأسى، نتيجة الانقسام الحاد في صفوف الجماعة التي عشنا فيها شبابنا، ونذرنا لها حياتنا، وقد علمنا من كتاب الله تعالى، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن وقائع التاريخ: أن شر ما تصاب به الجماعات هو انقسامها على أنفسها، وتفرق أبنائها فيما بينهم.
قرأنا في القرآن قوله تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال:46) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} (آل عمران:100) أي بعد وحدتكم متفرقين، وبعد أخوتكم متعادين، كما تبين أسباب النزول للآيات.
وقرأنا قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: "لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا" وقرأنا في التاريخ أن معظم ما أصاب المسلمين من هزائم وانكسارات كان سببها افتراق أمرائهم وملوكهم فيما بينهم.
وطالما ذكرّنا الإخوان بقول إمامهم الشهيد: أنا لا أخاف عليكم من الإنجليز ولا من الأمريكان ولا من غيرهم، إنما أخاف عليكم من أنفسكم: أن تعصوا الله فيتخلى عنكم، أو أن تتفرقوا فلا تجتمعوا إلا بعد فوات الفرصة.
وشاء القدر الأعلى أن يخرجنا من هذه الحيرة والأسى الذي أرق جفوننا؛ حادث خطير، اهتزت له أركان مصر عند إذاعته على الهواء، وقدر لنا أن نسمعه أول ما أذيع، ألا وهو (حادث المنشية) الشهير، ومحاولة اغتيال عبد الناصر أثناء خطابه في ميدان المنشية الشهير بمدينة الإسكندرية، وأذيع أن الذي حاول الاغتيال من أعضاء الجهاز السري للإخوان المسلمين.
وهنا دخلنا في مرحلة جديدة، فقد أصبح الإخوان ـ وبخاصة من كان له منهم نشاط معروف ـ مطلوبين للثورة، وقد ذكرت أني اعتقلت من قبل في ليلة الامتحان، ولولا شفاعة الأستاذ البهي ما خرجت، والآن لم تعد تنفعنا شفاعة الشافعين، ولا عاد في مقدور أحد أن يشفع لأحد، والرحى دائرة، والوطيس حامٍ.
وقد منح هذا الحادث كل الفرصة لعبد الناصر، ليضرب بيد من حديد، ويأخذ الإخوان كلهم بجريرة هذا الحادث الذي اتهم جماعة الإخوان وقيادتهم بتدبيره.
أما كيف تم هذا الحادث؟ ومن المسؤول عنه؟ وما مدى مسؤولية الجماعة وقيادتها ومرشدهم العام عن هذا الحادث؟
فيلزمنا أن نقف هنا قليلا ـ بل طويلا ـ لننظر في تسلسل الأحداث، وكيف مضت في تسارعها، قبل أن نسارع بتصديق الاتهام أو تكذيبه.
ولا نزاع أن الجو كان مكهربا، والعلاقة كانت متوترة، بل مشتعلة بين الإخوان والثورة منذ مدة، وزادها اشتعالا وتوترا اختفاء المرشد العام الذي طال نسبيا، وإصدار النشرات السرية التي كانت باستمرار تنتقد الثورة، أو قل تهاجمها بعنف في سياستها، وتتهمها بأشياء يصعب على الثورة أن تسكت عنها، وقد فشلت كل الجهود التي حاولت التقريب والمصالحة بين الطرفين، مثل محاولة الأخ الأستاذ محمود عبد الحليم التي قدم فيها مذكرة، وحكاها بتفصيل في كتابه: "الإخوان المسلمون: أحداث صنعت التاريخ" الجزء الثالث ـ وقد أشرنا إليها من قبل.
تسلسل الأحداث:
ونذكر هنا ما رواه د.ريتشارد ميتشل في كتابه عن (الإخوان) حيث يقول عن تلك الفترة:
(في 4 أكتوبر زار "يوسف طلعت" الهضيبي في الإسكندرية، وأخبره بوجود الكثير من البلبلة واللبس الفكري في الصفوف حول أفضلية ما يجب عمله ونوع ذلك العمل، وطلب من المرشد أن يخرج على الناس، حتى يوضح الأمر، ويرفع من الروح المعنوية المتدهورة للجمعية، وقد أجاب الهضيبي أن مكتب الإرشاد يرغب في أن يبقى مختفيا، كما أخبره أنه أحس بالقلق في الأيام القليلة الماضية من خشية احتمال وقوع عنف واغتيال، وأضاف: "إذا أردتم القيام بمظاهرة تؤيدها جميع طبقات الشعب، فذلك هو الصواب"، ومع ذلك فيجب أن تقتصر المظاهرة على المطالبة "بحرية الصحافة، وبمجلس نيابي، وبعرض اتفاقية الجلاء على الشعب"، كما يجب أن تكون "مظاهرة شعبية"، وأكد: أنه يرفض قبول أي "عمل إجرامي"، مؤكدا أنه يعتبر نفسه "بريئا من دم أي شخص كان".
بهذا الوضوح الذي يضاهي شمس الضحى في الظهور، كان جواب المرشد العام الأستاذ الهضيبي عليه رحمة الله، وكان رجلا مستقيم الفكر والسلوك لا يعرف الالتواء، ولا اللعب بالألفاظ، فلا يمكن أن ينسب إليه أحد من المفترين أنه وافق على أي خطة فيها اغتيال. وقد وضح الصبح لذي عينيين.
في هذا الوقت كان هناك شخص واحد، يفكر وحده في علاج هذه القضية ـ قضية علاقة الإخوان بالثورة ـ بطريقته الخاصة. هذا الشخص هو هنداوي دوير المحامي.
وأنا أعرف هنداوي دوير وأعرف نوع تفكيره، فقد لقيته عدة مرات بالمحلة الكبرى، إذ كان يعمل في مصنعها قديما قبل أن يحصل على ليسانس الحقوق، وينتقل إلى القاهرة، ومن عرف "دوير" عرف أنه رجل ذكي، ورجل مغرور، ورجل متحمس عجول. كما أنه رجل مخلص للدعوة لا يمكن أن يتهم بخيانة أو عمالة للخصوم.
تفكير هنداوي دوير يقوم على أن هذا النظام يعتمد في بقائه على شخص واحد، هو سنده وعموده الأساسي، فإذا سقط هذا الشخص سقط النظام كله، هذا الشخص هو جمال عبد الناصر، وكيف يذهب أو يسقط عبد الناصر عمود النظام الثوري؟ إنه أمر في غاية السهولة: رصاصات يطلقها رامٍ ماهر في صدره، فيخر صريعا، ويخر معه نظامه أيضا.
فهل عجزت جماعة كبرى كالإخوان أن يكون فيها رام ماهر؟ كلا. بل هو موجود، بل هو أقرب ما يكون إليه. إنه في شعبته نفسها. إنه الشاب الرامي الحاذق (النشانجي) محمود عبد اللطيف السباك أو السمكري المعروف.
ما أبسطه من حل، وما أسهله من علاج، لا يحتاج إلى جماعات مسلحة، ولا إلى تدبير انقلاب على نظام الحكم، وما يحتاج إليه من إمكانات وتدبيرات، وما يحوط به من محذورات وتخوفات. بخلاف هذا الحل الذي يقوم على مجرد يد رامية ماهرة وعدة رصاصات!!
ولم يفكر المحامي الذكي المعجب بنفسه: ما العمل إذا أخفق هذا الحل، وفشلت هذه الخطة؟ لم يسمح لنفسه أن يفكر في الوجه المقابل؟ بل افترض النجاح أبدا.
اختار هنداوي دوير محمود عبد اللطيف، وأوهمه أنه مكلف من قيادة الإخوان باغتيال عبد الناصر. ودوير هو رئيسه في شعبة إمبابة، وله عليه حق السمع والطاعة. وكما يقول ريتشارد .ن- ميشل: أمهله ثلاثة أيام ليتخذ قراره.
وفي 19 أكتوبر ـ وهو اليوم الذي أمضى فيه عبد الناصر المعاهدة مع بريطانياـ قبل عبد اللطيف مهمة اغتياله بسبب "ارتكابه الخيانة" بإمضاء المعاهدة التي "ضيعت حقوق البلاد"، ووضعت الخطط للقيام بهذا العمل في نفس اليوم، إلا أن الظروف التي أحاطت بعبد الناصر في الاجتماعات العامة لم تساعد على تنفيذ الخطة بنجاح، وبناء على ذلك فقد أجّل تنفيذها لوقت أكثر ملاءمة.
وفي 24 أكتوبر قام كمال خليفة -وكان من أكثر أعضاء مكتب الإرشاد احتراما- بزيارة لجمال سالم نائب رئيس الوزراء، وقدم التهنئة للحكومة على إكمالها المفاوضات وإمضائها للمعاهدة، وشاع من مصادر يعتد بها أن الهضيبي قرر إصدار بيان جديد يبين فيه انطباعه الحَسَن عن المعاهدة، على خلاف انطباعه عن الخطوط الرئيسية السابقة للاتفاق، واستمرت "لجنة الاتصال مع الحكومة" في جهودها لرأب الصدع. وفي عصر يوم 26 أكتوبر كان أحد أعضاء مكتب الإرشاد، في مكتب أنور السادات ليطلب تحديد موعد مع رئيس الوزراء لحل بعض المشاكل القائمة، وفي نفس الوقت زار عبد العزيز كامل أحد الأعضاء البارزين في الجماعة ورئيس قسم الأسر منزل صديقه هنداوي دوير[1]الذي كان زميلا له في شعبة إمبابة بقسم القاهرة، ولم يذكر دوير لعبد العزيز كامل آنئذ أنه عمل على إرسال عبد اللطيف إلى الإسكندرية في صباح ذلك اليوم كجزء من المؤامرة الإرهابية.
وفي المساء حيث وقف عبد الناصر[2] أمام جموع حاشدة، ليذكر مصر وجهوده الوطنية الشخصية، وليحتفل بنتائجها التي تجلت في اتفاقية الجلاء، أطلقت عليه النار ثماني مرات، وتوقف رئيس الوزراء لحظةً ستظل ذكراها الحزينة باقية لأمد طويل، وقطع خطابه حينما دوت الطلقات النارية، ثم استأنف الكلام، وقد تمكن وحده من حفظ النظام حينما اخترق أثر هذه الرصاصات نفوس الجماهير، ولم تمض ساعات حتى أذيعت كلمات عبد الناصر في تلك اللحظة وتكررت إذاعتها في القاهرة ومنها إلى سائر العالم العربي. قال عبد الناصر:
"أيها الشعب ... أيها الرجال الأحرار... جمال عبد الناصر من دمكم، ودمي لكم، سأعيش من أجلكم، وسأموت في خدمتكم، سأعيش لأناضل من أجل حريتكم وكرامتكم. أيها الرجال الأحرار... أيها الرجال... حتى لو قتلوني فقد وضعت فيكم العزة، فدعوهم ليقتلوني الآن، فقد غرست في هذه الأمة الحرية والعزة والكرامة، في سبيل مصر وفي سبيل حرية مصر سأحيا، وفي خدمة مصر سأموت"[3].
لم يُصَبْ رئيس الوزراء، فأتم خطابه، واستأذن من الجماهير منصرفا. لقد أمده هذا الحادث بفرصة العمر الوحيدة التي تمتع بها ذلك الوقت في صراعه العدائي الذي تميزت به علاقته مع الشعب الذي حاول أن يحكمه، كما أمده دون جدال بفرصة الإجهاز على الإخوان المسلمين. وفي 9 من ديسمبر اللاحق شُنق ستة من الإخوان وكان قد اُعتقل آلاف منهم، وقضي على الجماعة قضاء مبرما. وبهذه الأحداث ينتهي هذا الفصل.ا هـ.
أما القضاء المبرم على الجماعة، فهو أمر توهمه عبد الناصر ومن معه يوما، ثم تبين لهم أنهم واهمون، وأن الإخوان أرسخ جذورا، وأعمق امتدادا مما ظن الظانون، ورغم ما حشده عبد الناصر ورجاله من كل أدوات التعذيب البدني والنفسي، فإن الدعوات الربانية لا يقضى عليها بالسجون تفتح، ولا بالمشانق تنصب، ولا بالسياط تلهب، ولا بالأموال تصادر، بل ربما زادها ذلك يقينا وثباتا.
 ومن الذكريات المؤلمة التي لا أنساها: أن الإخوان كانت لهم نشرة سرية تصدر في هذا الوقت تحت عنوان (الإخوان في المعركة) تهاجم الثورة ورجالها بعنف، وتتضمن المنشورات الثورية التي تصدر عن قيادة الإخوان مثل منشور عنوانه: "هذه الاتفاقية لن تمر" يعني: الاتفاقية التي عقدت مع الإنجليز، وآخر بعنوان: "خمسة وعشرون مليونا يباعون في سوق الرقيق". وكان ينسب إلى الأستاذ سيد قطب أنه محرر هذه المنشورات الثورية بقلمه.
وقد أذاعت هذه النشرة نبأ قالت فيه: إن القرضاوي والعسال قد مَرَقَا من الدعوة، وانضما إلى ركب الخونة، وعلى الإخوان أن يحذروا منهما! وقد استجاب الإخوان لذلك حتى قابلني بعض الإخوة الذين كانوا يعتبرون من تلاميذي، فأعرضوا عني، ونأوا بجانبهم: وبعضهم قال لي: لم يعد بيننا وبينك رباط.
وهذا أمر شائع في الإخوان، أذكر أنه حين صدر أمر بفصل الشيخ الغزالي والأستاذ صالح عشماوي، والدكتور محمد سليمان، والأستاذ أحمد عبد العزيز جلال، وكنا في معتقل العامرية، وكنت أتحدث مع أحد وعاظ الإخوان المعروفين، وجاء ذكر الأخ الشيخ الغزالي، فقال: الغزالي لمْ يَعُدْ أخاً لَنا، لا هو ولا إخوانه المفصولون من الجماعة.
قلت: لم يعد أخا لنا في الجماعة، ولكنه بقي أخا لنا في الإسلام.
قال: إن عمله فصل ما بيننا وبينه.
قلت: هل يهدم تاريخ الشخص وجهاده كله بزلة واحدة يزلها؟ إن الله سبحانه لو عامل الناس بهذه الطريقة لدخلوا جميعا جهنم.
إن الرسول الكريم علمنا أن الإنسان تشفع له سوابقه، وتغتفر له بعض سيئات حاضره من أجل مآثر ماضية، وقد قال لعمر في شأن حاطب بن أبي بلتعة، وقد ارتكب ما يشبه الخيانة للرسول وجيشه: "ما يدريك يا عمر، لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فإني قد غفرت لكم".
من أجل جهاده في بدر غُفر له ما اقترفه في فتح مكة!
وأقول بأسف: لقد كان رجال المباحث أصدق في الحكم علينا من إخواننا الذين عرفونا وعرفناهم، وعايشونا وعايشناهم، فلم تخدعهم هذه المعارضة الظاهرة عن قراءة ما تكنه صدورنا من ولاء وعداء، أو حب وكره. ولهذا لم يترددوا في القبض علينا في أول فرصة، وتقديمي للمحاكمة.
وهذا ما يعاب على الإخوان: أنهم إذا أحبوا شخصا رفعوه إلى السماء السابعة، وإذا كرهوه هبطوا به إلى الأرض السفلى. والمفروض في الإنسان المؤمن -ولا سيما الداعية- الوسطية والاعتدال في الحكم على الناس، في الرضا والغضب، والمحبة والعداوة، فإذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق، وإذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل، وإذا أحب لم يحابِ من يحب بالكذب، وإذا عادى لم تبعده عداوته عن الصدق، كما قال تعالى: "وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى" (الأنعام: آية 152)، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ" (النساء: آية 135)، "وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: آية 135).
وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم "وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا".
على أن الكراهية هنا لا ينبغي أن يكون لها مورد، فإن اختلاف الناس في السياسات والمواقف كاختلافهم في الأحكام والفقه، والواجب هنا: أن تختلف الآراء ولا تختلف القلوب، وأن يعذر الإخوة بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه.
والمختلفون هنا يقال فيهم: مصيب ومخطئ، لا مؤمن ومنافق، أو صالح وفاسق، إذا حسنت النيات، وصفت القلوب، وهذا ما يظن بأهل الدعوة إلى الإسلام، وإن اختلف بعضهم مع بعض.. فالمصيب منهم مأجور، والمخطئ معذور. بل المصيب مأجور أجرين، والمخطئ مأجور أجرا واحدا، إذا كان خطؤه ناشئا عن اجتهاد.
ولقد نهى السلف -رضي الله عنهم- عن الإسراف في الحب والبغض، وقالوا: لا يكن حبك كلفا، ولا يكن بغضك تلفا.
وفي الأثر: "أحبب حبيبك هونا ما، عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما، عسى أن يكون حبيبك يوما ما".
وفي القرآن الكريم: "عَسَى اللهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (الممتحنة: آية 7) وهذه وردت في شأن المشركين المعادين، فما بالك بالمسلمين الموالين؟!
ولقد بينت الأيام فيما بعد أن لله حكمة في فصل الغزالي من الإخوان؛ فقد قدر الله تعالى له بهذا أن ينجو من المحنة التي أصابت الإخوان في سنة 1954م وما بعدها، وأن يبقى حرا طليقا يتجول في أنحاء مصر داعيا إلى الله وإلى دينه القويم.
وظل الغزالي طوال سنوات المحنة لسان الدعوة الناطق بالصدق، الصادع بالحق، المقاوم لأباطيل الماركسيين والعلمانيين. ولم يكن أحد يجرؤ على أن يتهمه بمعاداة الثورة، أو بموالاة الإخوان، وقد فصلوه رسميا من جماعتهم. وقديما قالوا: رب ضارة نافعة. وقال تعالى: "فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا" (النساء: آية 19).
وقد كنت في هذه الأيام الساخنة المتوترة أتهيأ للامتحان في الفصل الثاني والنهائي في تخصص التدريس.
وقبل أول أيام امتحاني في تخصص التدريس حدث حادث مهم بالنسبة لي؛ فقد فتشت المباحث شقتنا التي نسكن فيها بشارع راتب باشا بشبرا، واعتقل زميلي الذي يعيش معي في حجرتي، وهو الأخ محمود نعمان الأنصاري، الطالب بكلية الآداب الذي ضبط بحوزته كمية من المنشورات المحظورة، وكانت الشقة تتكون من أربع حجرات كل حجرة يسكن بها شخصان. وكان محمود زميلي في نفس الحجرة فلما قبض عليه وسألوه: لمن هذا السرير في حجرتك؟ فقال: هو لفلان.
فانتظروني حتى عدت في المساء؛ ليسوقوني إلى قسم روض الفرج الذي نتبعه، وأنا لا أعلم شيئا عن المنشورات التي ضُبطت عند زميلي محمود. وهذه الأيام في غاية الأهمية عندي؛ لأنها أيام الامتحان النهائي لإجازة التدريس، بعد دراسة سنتين.
وقد أوصيت بعض زملائي في الشقة أن يتصلوا بأستاذنا البهي الخولي ليتوسط في الإفراج عني لأداء الامتحان، وأن يتم ذلك على وجه السرعة؛ فالامتحان في الساعة الثامنة صباحا.
وقضيت هذه الليلة الليلاء ساهرا، لم يغمض لي جفن، لا من أجل عشق ليلى وسُعدى، كما قرأنا للشعراء العشاق، ولكن خوفا على الامتحان الذي لو ضاع فربما لا أعوضه إلا بعد سنين أو ربما لا أعوضه أبدا؛ فقد كنا مهددين بالاعتقال ما بين حين وآخر. وإن كنت في ذلك الوقت محسوبا على جناح المعارضة الذي يمثله الأستاذ البهي ومن معه، ولكن أجهزة المباحث تعرف جيدا أن ولاءنا إنما هو للدعوة قبل كل شيء، بغض النظر عما يحدث بين قادتها من خلاف. وهذا ما كان يخيفني ألا تنجح وساطة أستاذنا البهي في الإفراج عني، ولكن القوم كانوا أذكى وأدهى، ويريدون للخلاف أن يتعمق وتمتد جذوره في الجماعة، فقبلوا الوساطة، ولا سيما مع إلحاح الأستاذ البهي.
وحوالي الساعة السابعة والنصف صباحا نودي علي بالإفراج، ولم أكد أغادر باب القسم، حتى ركضت ركض الفرس، لأصل إلى شارع شبرا، لآخذ أول سيارة أجرة (تاكسي)، لأصل بها إلى مقر الامتحان في (الدَّرَّاسة)، وقد دق الجرس، فظللت أعدو، حتى دخلت الفصل وأنا ألهث وأتصبب عرقا، وسمح لي بالدخول بعد مرور عدة دقائق. وأديت الامتحان على ما يرام، وقد شعرت بتوفيق الله تعالى لي في إجابتي عن الأسئلة، رغم أرقي الطويل تلك الليلة.
وربما كان ذلك هو الشيء الوحيد الذي كسبته من وراء الخلاف الذي حدث بين الإخوان، وإن كان الخلاف كما قال ابن مسعود شرا، ولكن كما قال تعالى: "وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ" (البقرة: آية 216)
فترة قاسية علينا:
كانت تلك الأيام من أشق الأيام علينا، أنا وأخي أحمد العسال، وبعض شباب الدعوة، المتأثرين بالأستاذ البهي وشيوخ الدعوة المعروفين أمثال الشيخ محمد الغزالي، والشيخ عبد المعز عبد الستار، والشيخ سيد سابق وأمثالهم، وقد كانت عواطفنا معهم من ناحية، يؤكدها عاطفة الإشفاق على الدعوة ومستقبلها: أن تدخل معركة غير متكافئة مع ثورة عسكرية متجبرة، معركة لا يعلم مصيرها إلا الله. فلو أمكن الصلح بين الجماعة والثورة، واللقاء في منتصف الطريق، بدل الصدام المجهول النتائج ربما كان ذلك خيرا.
وقد حاول الإمام الشهيد حسن البنا بعد حل الإخوان سنة 1948م أن يسلك كل السبل ليجنِّب الإخوان الصدام الدامي مع الحكومة، ولو تنازل عن بعض الأشياء في سبيل هذا الهدف، حتى إنه قَبِلَ أن يترك السياسة في تلك الفترة، ويتفرغ للتربية ونشر الدعوة.
وكان سيدنا محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في غزوة الحديبية: "والله لا تدعوني قريش إلى خطة فيها صلة رحم وحقن للدماء إلا أجبتهم إليها".
وكان عمر رضي الله عنه قبل أن يتهيأ لفتح بلاد الروم يغريه القواد بما وراءها من مغانم ومكاسب، فيقول: "والله لمسلم واحد أحب إلي من الروم وما حوت".
كان الحرص على حقن دماء الإخوان، والضن بهم أن يدخلوا معركة غير معروفة المصير، هو الذي يسيطر علينا في تلك الفترة العصيبة.
وإن كانت عقولنا تقول لنا: هل صحيح أن الثورة تريد صلحا وتقاربا مع الإخوان؟ أو هي تريد شق صفهم وتمزيق جماعتهم، وضرب بعضهم ببعض؟
إن الذي يبدو من ظواهر الأمور أن الثورة تريد أن تنفرد بالسيطرة على مصر، وألا يشاركها في ذلك أحد، وأنها لا تقبل أن يكون للإخوان ولا غيرهم وجود مؤثر، إلا أن يصدِّقوا دعواهم، ويؤمِّنوا على دعائهم، ويمشوا في ركابهم، وهذا ما لا يرضاه أبناء الدعوة جميعا




اختيارات: عبدالله الشرقاوي

وهذا ما يعاب على الإخوان: أنهم إذا أحبوا شخصا رفعوه إلى السماء السابعة، وإذا كرهوه هبطوا به إلى الأرض السفلى. والمفروض في الإنسان المؤمن -ولا سيما الداعية- الوسطية والاعتدال في الحكم على الناس

القضاء المبرم على الجماعة، فهو أمر توهمه عبد الناصر ومن معه يوما، ثم تبين لهم أنهم واهمون، وأن الإخوان أرسخ جذورا، وأعمق امتدادا مما ظن الظانون، ورغم ما حشده عبد الناصر ورجاله من كل أدوات التعذيب البدني والنفسي، فإن الدعوات الربانية لا يقضى عليها بالسجون تفتح، ولا بالمشانق تنصب،

مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..