النسخ يعني:
رفع حكم شرعي سابق، بدليل شرعي لاحق، وهو
محل إجماع بين المسلمين من قَبل ظهورِ أبي مسلم الأصفهاني ومَن تابعه، مِن
حيث جوازه عقلاً، ووقوعه شرعًا، فالله - سبحانه وتعالى - أقام شريعتَه على
الحكمة البالغة، والمصالح المتجددة، ومِن حكمته أن يأذن ببعض الأحكام في بعض الأوقات؛ لملاءمتها لها، وتناسقها معها، على أن يجعل لها أمدًا محدودًا، ونهاية مقدَّرة، لتحل في محلها أحكامٌ مخالفة لأوقات متجددة، وتكون أكثر صلاحية، وأعظم نفعًا، حسب ما جرت به سنة الله في خلقه، من إرادة الخير، واليسر، والصالح العام، وصدق الله - تعالى - حيث يقول: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 220].
فالنسخ في واقعه ما هو إلا انتهاءٌ للحكم الأول على ميقات معلوم عند الله، وليس معلومًا لنا مِن قبل؛ ولكن الله أعلَمَنا به حين أعلمنا بالناسخ، والقرآن الكريم يقرر ذلك في قوله - تعالى -: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106].
فالمفهوم من هذه الآية الكريمة أن كل آية يذهب الله بها على مقتضى حكمته، إلى بدل عنها، أو إلى غير بدل - فإن ما يلحق من ذلك لا يقل عما ذهب أجرًا ونفعًا، فالبدل إما مماثل لما ذهب في الثواب، وإما متفوق عليه ثوابًا ومصلحة؛ ولذلك لم يقع النسخ - ولن يقع - إلا في فروع العبادات والمعاملات، أما غيرها من العقائد الثابتة، وأصول الأخلاق الخالدة، ومفاهيم القصص والأخبار الماضية، وأصول المعاملات، والأخبار بما وراء الحياة، مما هو ظهر الغيب مِن بعث ونشور، وحشر وحساب، وما إلى ذلك، وليس في شيء من هذا مجالٌ للنسخ؛ لأنها أمور تحكي حقائقَ، والحقائقُ لا تَقبَل التغيير ولا التبديل، ولا تختلف باختلاف الزمان والمكان والأقران؛ وفي ذلك يقول الله - تعالى -: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13].
ولنضرب بعض الأمثلة على الناسخ والمنسوخ، على رأي جمهور العلماء، مما جاء في الكتاب العزيز:
الحكمة البالغة، والمصالح المتجددة، ومِن حكمته أن يأذن ببعض الأحكام في بعض الأوقات؛ لملاءمتها لها، وتناسقها معها، على أن يجعل لها أمدًا محدودًا، ونهاية مقدَّرة، لتحل في محلها أحكامٌ مخالفة لأوقات متجددة، وتكون أكثر صلاحية، وأعظم نفعًا، حسب ما جرت به سنة الله في خلقه، من إرادة الخير، واليسر، والصالح العام، وصدق الله - تعالى - حيث يقول: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 220].
فالنسخ في واقعه ما هو إلا انتهاءٌ للحكم الأول على ميقات معلوم عند الله، وليس معلومًا لنا مِن قبل؛ ولكن الله أعلَمَنا به حين أعلمنا بالناسخ، والقرآن الكريم يقرر ذلك في قوله - تعالى -: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106].
فالمفهوم من هذه الآية الكريمة أن كل آية يذهب الله بها على مقتضى حكمته، إلى بدل عنها، أو إلى غير بدل - فإن ما يلحق من ذلك لا يقل عما ذهب أجرًا ونفعًا، فالبدل إما مماثل لما ذهب في الثواب، وإما متفوق عليه ثوابًا ومصلحة؛ ولذلك لم يقع النسخ - ولن يقع - إلا في فروع العبادات والمعاملات، أما غيرها من العقائد الثابتة، وأصول الأخلاق الخالدة، ومفاهيم القصص والأخبار الماضية، وأصول المعاملات، والأخبار بما وراء الحياة، مما هو ظهر الغيب مِن بعث ونشور، وحشر وحساب، وما إلى ذلك، وليس في شيء من هذا مجالٌ للنسخ؛ لأنها أمور تحكي حقائقَ، والحقائقُ لا تَقبَل التغيير ولا التبديل، ولا تختلف باختلاف الزمان والمكان والأقران؛ وفي ذلك يقول الله - تعالى -: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13].
ولنضرب بعض الأمثلة على الناسخ والمنسوخ، على رأي جمهور العلماء، مما جاء في الكتاب العزيز:
1- يقول الله - تعالى -: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}
[البقرة: 217]، فالآية تفيد حرمة القتال للمشركين في الأشهر الحرم
الأربعة؛ وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، وقد روى ابن جرير عن
عطاء بن ميسرة: أنها منسوخة بقوله - تعالى -: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}
[التوبة: 36]، ونقل أبو جعفر النحاس إجماعَ العلماء على ذلك، ما عدا عطاء،
وبيان ذلك أن الآية الثانية قد أفادت عموم قتال المشركين، المستلزم لعموم
الأزمان، ومما يدعم هذه الإفادةَ ما جاءت به كتبُ السيرة أن رسول الله -
صلَّى الله عليه وسَلَّم - قاتَلَ هوازنَ بحُنَيْن، وثقيفًا بالطائف في
شوال وذي القعدة سنة ثمانٍ من الهجرة، وذو القعدة أحدُ الأشهر الحرم، وما
جاء كذلك في سبب نزول هذه الآية، كما أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم،
والطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "سننه"، عن جندب بن عبدالله: أن رسول
الله - صلَّى الله عليه وسَلَّم - بعث رهطًا، وبعث عليهم عبدالله بن جحش،
فلقُوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أن ذلك اليوم الذي قتلوه فيه، هو من
جمادى أو من رجب، فعيَّرهم المشركون، وقالوا للمسلمين: قتلتم في الشهر
الحرام، فأنزل الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217] الآية، فلما نزلت فَهِم بعض المسلمين أنها لرفع الوزر، لا لثبوت الأجر.
فنزل بعد ذلك قوله - تعالى - عقيب تلك الآية: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218]، وأخرجه ابن منده في "الصحابة"، عن طريق عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس، وإذا تتبعنا مكان الآية الثانية وجدناها متممة لآية الأشهر الحرم، هكذا: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36]، فتكون حرمة الأشهر الحرم لا تزال باقية، هي في الامتناع عن المعاصي عمومًا؛ لأنها فيها أشد وزرًا، وأعظم نُكرًا منها في غيرها، وقتال المشركين ليس من قبيل المعاصي، وقيل: إن النسخ وقع بقوله - تعالى -: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، وأيًّا ما كان القول، فقد وقع النسخ، وانتهى حكم سابق، اقتضت الحكمة بقاءه فترة من الزمان، ثم اقتضت تلك الحكمة إنهاءَ الحكم المؤقت، وإعلان حكم جديد لعهد جديد.
2- يقول الله - تعالى -: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً * وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 15، 16]، فإنها منسوخة بآية النور، وهي: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، وذلك بالنسبة إلى البكر، رجلاً كان أو امرأة، أما الثيب من الجنسين، فقد نُسخ الحكم الأول بالنسبة إليهما، وأبدل به الرجم، الذي دل عليه رجم ماعز والغامدية في حياة الرسول - صلَّى الله عليه وسَلَّم - كما دلت عليه آية نُسخت تلاوةً لا حكمًا، وهي: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم"، ومعنى الآية الأولى والثانية - كما جاء في "تفسير الجلالين" (النساء آية 15، 16) -: أن مَن يأتي فاحشةَ الزنا مِن النساء، وشهد بذلك أربعة من رجال المسلمين، فاحبسوهن في البيوت حتى الموت، أو إلى أن يجعل الله لهن طريقًا إلى الخروج.
وكان ذلك في أول الإسلام، ثم جعل الله لهن هذا الطريقَ، حين قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسَلَّم - كما في رواية مسلم: ((خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً))، وبيَّن ذلك السبيلَ بأنه جلد البكر مائة، وتغريبها عامًا، ورجم المحصنة والمحصن، ولما بيَّن حكم النساء، تعرَّض لحكم الرجال الذين يرتكبون نفس الخطيئة، سواء كانت زنًا أو لواطًا، بأنهم يَلحقهم الأذى بالسبِّ والضرب بالنعال، حتى يتوبا، ويصلحا العمل، فلا يلحقهما الأذى بعد ذلك، وكان ذلك في مطلع الدعوة الإسلامية، أخذًا بسياسة التدرُّج في التشريع، والانتقال بالناس إلى طريق الشريعة المحكمة رويدًا رويدًا، ودرجة درجة، حتى يسلس قِيادُهم، وتَلِين قناتُهم، فكان للحكم الأول المقرر في آيتي النساء فرصةً زمنية محددة في عِلم الله قبل أن تتحدد في علمنا، ثم تحددت في علمنا بعد أن أطلعَنا اللهُ عليها بالناسخ الحديث في إثر المنسوخ القديم، وهو أمر تنظيمي حكيم، لا يتنافى مع قدرة الله العليم: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39].
3- يقول الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65]، فإنها منسوخة بقوله - تعالى -: {الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66]، ووجه النسخ أن الآية الأولى خبرٌ بمعنى الأمر؛ أي ليقاتِلِ العشرون منكم المائتين منهم، والمائة بالألف، وعلى الواحد أن يَثبُت أمام العشرة ولا يَفِرَّ، فإن فرَّ فهو ممن تولَّى يوم الزحف مرتكبًا كبيرة من الكبائر، ومعرِّضًا نفسه لسخط الله ومقته، فلما كثر المسلمون خفَّف الله عنهم، وشرع لهم هذا الحكمَ الميسر، الذي لا يشق كثيرًا على نفوس المجاهدين، ولا يحملهم على ركوب الأهوال في القتال، فأفادت الآية الثانية وجوبَ ثبات الواحد للاثنين، فإن فر أمامهما دخل تحت الوعيد الشديد، وإن فر أمام أكثر منهما فهو معذور، لا جناح عليه، ولا تقصير منه، وإن كان يؤذَن له في الثبات لأي عدد كان، ويكون آخذًا بالعزيمة بدلاً من الرخصة التي شرعها الله له؛ لطفًا به، وتخفيفًا عنه، والله مع الصابرين بعونه وتأييده، ونصره وتوفيقه، أخرج إسحاق بن راهويه في "مسنده"، عن ابن العباس في سبب نزول الآية، قال: لما افترض الله عليهم أن يقاتِلَ الواحدُ عشرةً، ثقُل ذلك عليهم وشقَّ، فوضع الله ذلك عنهم إلى أن يقاتل الواحدُ الرجلين، وأنزل قوله - تعالى -: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ} [الأنفال: 65].
وهكذا نرى أن النسخ ليس إبطالاً للأحكام الشرعية؛ ولكنه توقيت لبعضها ببعضها الآخر؛ حتى تظهر حكمة الله في شرعه، ورحمته بعباده، وأنه - سبحانه وتعالى - قبل هذا كله فعَّال لما يريد، لا يُسْأَل عما يفعل، وأفعاله - سبحانه وتعالى - هي عين الحكمة، وهي جوهر الإصلاح، وقد تسعفنا عقولُنا وأفكارنا بإدراك جوانبَ منها، وقد تعلو حكمتها فوق آفاق عِلمنا، وعلينا في كل حال أن نُقر أولاً بالعجز بين يديه، وأن نثبت له القدرة بلا نهاية، والعلم بدون حدود، إن الله على كل شيء قدير.
4- يقول الله - تعالى -: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284]، فإنها منسوخة بقوله - عز من قائل -: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا} [البقرة: 286]، وبيان ذلك أن الله - سبحانه وتعالى - قد تجاوز لهذه الأمة عمَّا حدَّثت بها نفسَها، ما لم تقل أو تفعل، كما جاء في الحديث الشريف الصحيح.
أي إن كل ما يعتلج في خاطر المرء من شر، وما تهجس به نفسُه من معانٍ وصور وأخيلة، وأحاديث النفس، وأحلام يقظة - كلٌّ داخل في دائرة العفو الإلهي، ما لم يصل إلى درجة العزم المصمم، فإنه يُكتَب على صاحبه سيئةً واحدة، وهذا من فضل الله - تعالى - على عباده، ورحمته الواسعة بهم، وتسامحه فيما هو من طبائع النفس البشرية، التي لا حيلة للإنسان في دفعها، أو الخلاص منها إلا بمنتهى العسر، ولعل ما قرره علماء النفس حديثًا يلقي أضواء على العقل الباطن، وفكرة اللاشعور، فإن الشعور عندهم واللاشعور يشكلان العقل في الإنسان، والثاني يختزن المعلومات التي تَرِدُ إليه عن طريق الحس، ثم هي تحاول دائمًا الظهور في بؤرة الإدراك، ولكن حالة الشعور والوعي تمنعها، فإذا تراخى الشعور نتيجة هدوء وانسجام، أو راحة أو غفلة، أو نحو ذلك - ظهرت أفكار اللاشعور في البؤرة، وصاحَبَها غالبًا أحلامٌ لليقظة، يحدِّث فيها الإنسان بأحاديثَ قد تغلب عليها نزعة الشر أو اللذة، وقد تفضَّل الله - سبحانه وتعالى - فعفا عن تلك الأحاديث والهواجس أخيرًا، بعد أن كان يؤاخذ الله بها العبادَ حين نزلت الآية الأولى، وفي كتاب "لباب النقول في أسباب النزول": "لما نزلت آية البقرة: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284]، شكا المؤمنون من الوسوسة، وشقَّ عليهم المحاسبةُ بها، فنزل قوله - تعالى -: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]؛ أي تسعه قدرتها، {لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة: 286]؛ من الخير، {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]؛ أي وزر الشر، ولا يؤاخَذ أحد بذنب أحد، ولا بما لا يكتسبه مما وسوست به نفسه".
وأما ما نُقل عن السدي في تعريف الصغيرة: "هي الخطرة من الذنوب"؛ فقد عقب عليه الزمخشري بقوله: وكأنه يعني أن حسناتِ الأبرار سيئاتُ المقربين؛ إذ إن خطرات الذنوب في القلوب جزء من أحاديث النفس، وهي عفو لهذه الأمة، ولا مؤاخذة فيها، ما لم تقترن بقول أو عمل، وهذا هو رأي الجمهور في الآيتين.
أما القول بأن الأولى محكَمة، وأنها خاصة بكتمان الشهادة وإظهارها – فمردودٌ؛ بأنه لا دليل على هذا التخصيص، وقول بعضهم أنها محكمة، وباقية على عمومها، وأن المعنى: أن الله يحاسب المؤمنين والكافرين، فيغفر للأولين دون الآخرين - مردودٌ أيضًا؛ بأن {نفسًا} في قوله - تعالى -: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] نكرةٌ في سياق النفي، فتفيد العموم للمؤمن والكافر على السواء، ولا دليل على الخصوص.
ومما جاء ناسخًا ومنسوخًا قول الله - تعالى -: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، قال السيوطي: ليس في آل عمران آيةٌ يصح فيها دعوى النسخ، إلا هذه الآية، فإنها منسوخة بقوله - تعالى -: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وبيان ذلك: أن الآية الأولى بظاهرها قد أمرتْ بأن يُتَّقى الله حقَّ التقوى، وتركَتِ البابَ مفتوحًا أمام فهم هذه الآية والعمل بها؛ حتى يشحذ كلُّ مؤمن همَّته لبلوغ أقصى ما يمكن بلوغُه من أعمال التقوى، وهي غير محددة تحديدًا يسهل حصره والإحاطة به، وإدراك أبعاده وأعماقه بيسر ووضوح، وحتى الآثار الواردة في تفسير هذه الآية يبدو عليها العموم والشمول، ولا يتيسر فيها التحديد والإلمام، فقد قيل في تفسيرها: ((أن يُطاع فلا يُعصى، ويُشكَر فلا يُكفر، ويُذكَر فلا يُنسى))، فقالوا: "يا رسول الله، ومَن يقوى على ذلك؟"، فنُسخ بقوله - تعالى -: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقد ورد في تفسيرها كذلك: أن يحفظ الإنسان رأسَه وما وعى، وبطنَه وما حوى، ويَذكُرَ الموت والبلى، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جُبير، قال: لما نزلت آية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} اشتدَّ على القوم العملُ، فقاموا حتى ورمتْ عراقيبُهم، وتقرحت جباههم، فأنزل الله تخفيفًا على المسلمين: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}.
وها هو ذا الرسولُ - صلَّى الله عليه وسَلَّم - يضرب للناس مثلاً في أصول التدين المتوازن، بقوله وفعله، فيقول: ((لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمَن رغب عن سنتي فليس مني))؛ رواه الشيخان.
فنزل بعد ذلك قوله - تعالى - عقيب تلك الآية: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218]، وأخرجه ابن منده في "الصحابة"، عن طريق عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس، وإذا تتبعنا مكان الآية الثانية وجدناها متممة لآية الأشهر الحرم، هكذا: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36]، فتكون حرمة الأشهر الحرم لا تزال باقية، هي في الامتناع عن المعاصي عمومًا؛ لأنها فيها أشد وزرًا، وأعظم نُكرًا منها في غيرها، وقتال المشركين ليس من قبيل المعاصي، وقيل: إن النسخ وقع بقوله - تعالى -: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، وأيًّا ما كان القول، فقد وقع النسخ، وانتهى حكم سابق، اقتضت الحكمة بقاءه فترة من الزمان، ثم اقتضت تلك الحكمة إنهاءَ الحكم المؤقت، وإعلان حكم جديد لعهد جديد.
2- يقول الله - تعالى -: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً * وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 15، 16]، فإنها منسوخة بآية النور، وهي: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، وذلك بالنسبة إلى البكر، رجلاً كان أو امرأة، أما الثيب من الجنسين، فقد نُسخ الحكم الأول بالنسبة إليهما، وأبدل به الرجم، الذي دل عليه رجم ماعز والغامدية في حياة الرسول - صلَّى الله عليه وسَلَّم - كما دلت عليه آية نُسخت تلاوةً لا حكمًا، وهي: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم"، ومعنى الآية الأولى والثانية - كما جاء في "تفسير الجلالين" (النساء آية 15، 16) -: أن مَن يأتي فاحشةَ الزنا مِن النساء، وشهد بذلك أربعة من رجال المسلمين، فاحبسوهن في البيوت حتى الموت، أو إلى أن يجعل الله لهن طريقًا إلى الخروج.
وكان ذلك في أول الإسلام، ثم جعل الله لهن هذا الطريقَ، حين قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسَلَّم - كما في رواية مسلم: ((خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً))، وبيَّن ذلك السبيلَ بأنه جلد البكر مائة، وتغريبها عامًا، ورجم المحصنة والمحصن، ولما بيَّن حكم النساء، تعرَّض لحكم الرجال الذين يرتكبون نفس الخطيئة، سواء كانت زنًا أو لواطًا، بأنهم يَلحقهم الأذى بالسبِّ والضرب بالنعال، حتى يتوبا، ويصلحا العمل، فلا يلحقهما الأذى بعد ذلك، وكان ذلك في مطلع الدعوة الإسلامية، أخذًا بسياسة التدرُّج في التشريع، والانتقال بالناس إلى طريق الشريعة المحكمة رويدًا رويدًا، ودرجة درجة، حتى يسلس قِيادُهم، وتَلِين قناتُهم، فكان للحكم الأول المقرر في آيتي النساء فرصةً زمنية محددة في عِلم الله قبل أن تتحدد في علمنا، ثم تحددت في علمنا بعد أن أطلعَنا اللهُ عليها بالناسخ الحديث في إثر المنسوخ القديم، وهو أمر تنظيمي حكيم، لا يتنافى مع قدرة الله العليم: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39].
3- يقول الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65]، فإنها منسوخة بقوله - تعالى -: {الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66]، ووجه النسخ أن الآية الأولى خبرٌ بمعنى الأمر؛ أي ليقاتِلِ العشرون منكم المائتين منهم، والمائة بالألف، وعلى الواحد أن يَثبُت أمام العشرة ولا يَفِرَّ، فإن فرَّ فهو ممن تولَّى يوم الزحف مرتكبًا كبيرة من الكبائر، ومعرِّضًا نفسه لسخط الله ومقته، فلما كثر المسلمون خفَّف الله عنهم، وشرع لهم هذا الحكمَ الميسر، الذي لا يشق كثيرًا على نفوس المجاهدين، ولا يحملهم على ركوب الأهوال في القتال، فأفادت الآية الثانية وجوبَ ثبات الواحد للاثنين، فإن فر أمامهما دخل تحت الوعيد الشديد، وإن فر أمام أكثر منهما فهو معذور، لا جناح عليه، ولا تقصير منه، وإن كان يؤذَن له في الثبات لأي عدد كان، ويكون آخذًا بالعزيمة بدلاً من الرخصة التي شرعها الله له؛ لطفًا به، وتخفيفًا عنه، والله مع الصابرين بعونه وتأييده، ونصره وتوفيقه، أخرج إسحاق بن راهويه في "مسنده"، عن ابن العباس في سبب نزول الآية، قال: لما افترض الله عليهم أن يقاتِلَ الواحدُ عشرةً، ثقُل ذلك عليهم وشقَّ، فوضع الله ذلك عنهم إلى أن يقاتل الواحدُ الرجلين، وأنزل قوله - تعالى -: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ} [الأنفال: 65].
وهكذا نرى أن النسخ ليس إبطالاً للأحكام الشرعية؛ ولكنه توقيت لبعضها ببعضها الآخر؛ حتى تظهر حكمة الله في شرعه، ورحمته بعباده، وأنه - سبحانه وتعالى - قبل هذا كله فعَّال لما يريد، لا يُسْأَل عما يفعل، وأفعاله - سبحانه وتعالى - هي عين الحكمة، وهي جوهر الإصلاح، وقد تسعفنا عقولُنا وأفكارنا بإدراك جوانبَ منها، وقد تعلو حكمتها فوق آفاق عِلمنا، وعلينا في كل حال أن نُقر أولاً بالعجز بين يديه، وأن نثبت له القدرة بلا نهاية، والعلم بدون حدود، إن الله على كل شيء قدير.
4- يقول الله - تعالى -: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284]، فإنها منسوخة بقوله - عز من قائل -: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا} [البقرة: 286]، وبيان ذلك أن الله - سبحانه وتعالى - قد تجاوز لهذه الأمة عمَّا حدَّثت بها نفسَها، ما لم تقل أو تفعل، كما جاء في الحديث الشريف الصحيح.
أي إن كل ما يعتلج في خاطر المرء من شر، وما تهجس به نفسُه من معانٍ وصور وأخيلة، وأحاديث النفس، وأحلام يقظة - كلٌّ داخل في دائرة العفو الإلهي، ما لم يصل إلى درجة العزم المصمم، فإنه يُكتَب على صاحبه سيئةً واحدة، وهذا من فضل الله - تعالى - على عباده، ورحمته الواسعة بهم، وتسامحه فيما هو من طبائع النفس البشرية، التي لا حيلة للإنسان في دفعها، أو الخلاص منها إلا بمنتهى العسر، ولعل ما قرره علماء النفس حديثًا يلقي أضواء على العقل الباطن، وفكرة اللاشعور، فإن الشعور عندهم واللاشعور يشكلان العقل في الإنسان، والثاني يختزن المعلومات التي تَرِدُ إليه عن طريق الحس، ثم هي تحاول دائمًا الظهور في بؤرة الإدراك، ولكن حالة الشعور والوعي تمنعها، فإذا تراخى الشعور نتيجة هدوء وانسجام، أو راحة أو غفلة، أو نحو ذلك - ظهرت أفكار اللاشعور في البؤرة، وصاحَبَها غالبًا أحلامٌ لليقظة، يحدِّث فيها الإنسان بأحاديثَ قد تغلب عليها نزعة الشر أو اللذة، وقد تفضَّل الله - سبحانه وتعالى - فعفا عن تلك الأحاديث والهواجس أخيرًا، بعد أن كان يؤاخذ الله بها العبادَ حين نزلت الآية الأولى، وفي كتاب "لباب النقول في أسباب النزول": "لما نزلت آية البقرة: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284]، شكا المؤمنون من الوسوسة، وشقَّ عليهم المحاسبةُ بها، فنزل قوله - تعالى -: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]؛ أي تسعه قدرتها، {لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة: 286]؛ من الخير، {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]؛ أي وزر الشر، ولا يؤاخَذ أحد بذنب أحد، ولا بما لا يكتسبه مما وسوست به نفسه".
وأما ما نُقل عن السدي في تعريف الصغيرة: "هي الخطرة من الذنوب"؛ فقد عقب عليه الزمخشري بقوله: وكأنه يعني أن حسناتِ الأبرار سيئاتُ المقربين؛ إذ إن خطرات الذنوب في القلوب جزء من أحاديث النفس، وهي عفو لهذه الأمة، ولا مؤاخذة فيها، ما لم تقترن بقول أو عمل، وهذا هو رأي الجمهور في الآيتين.
أما القول بأن الأولى محكَمة، وأنها خاصة بكتمان الشهادة وإظهارها – فمردودٌ؛ بأنه لا دليل على هذا التخصيص، وقول بعضهم أنها محكمة، وباقية على عمومها، وأن المعنى: أن الله يحاسب المؤمنين والكافرين، فيغفر للأولين دون الآخرين - مردودٌ أيضًا؛ بأن {نفسًا} في قوله - تعالى -: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] نكرةٌ في سياق النفي، فتفيد العموم للمؤمن والكافر على السواء، ولا دليل على الخصوص.
ومما جاء ناسخًا ومنسوخًا قول الله - تعالى -: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، قال السيوطي: ليس في آل عمران آيةٌ يصح فيها دعوى النسخ، إلا هذه الآية، فإنها منسوخة بقوله - تعالى -: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وبيان ذلك: أن الآية الأولى بظاهرها قد أمرتْ بأن يُتَّقى الله حقَّ التقوى، وتركَتِ البابَ مفتوحًا أمام فهم هذه الآية والعمل بها؛ حتى يشحذ كلُّ مؤمن همَّته لبلوغ أقصى ما يمكن بلوغُه من أعمال التقوى، وهي غير محددة تحديدًا يسهل حصره والإحاطة به، وإدراك أبعاده وأعماقه بيسر ووضوح، وحتى الآثار الواردة في تفسير هذه الآية يبدو عليها العموم والشمول، ولا يتيسر فيها التحديد والإلمام، فقد قيل في تفسيرها: ((أن يُطاع فلا يُعصى، ويُشكَر فلا يُكفر، ويُذكَر فلا يُنسى))، فقالوا: "يا رسول الله، ومَن يقوى على ذلك؟"، فنُسخ بقوله - تعالى -: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقد ورد في تفسيرها كذلك: أن يحفظ الإنسان رأسَه وما وعى، وبطنَه وما حوى، ويَذكُرَ الموت والبلى، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جُبير، قال: لما نزلت آية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} اشتدَّ على القوم العملُ، فقاموا حتى ورمتْ عراقيبُهم، وتقرحت جباههم، فأنزل الله تخفيفًا على المسلمين: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}.
وها هو ذا الرسولُ - صلَّى الله عليه وسَلَّم - يضرب للناس مثلاً في أصول التدين المتوازن، بقوله وفعله، فيقول: ((لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمَن رغب عن سنتي فليس مني))؛ رواه الشيخان.
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..