الأحد، 19 أبريل 2015

قلعة وادرين في بلغاريا وليست في تبوك

يتردد على ألسنة عامة الناس تعبير «قلعة وادرين» أو «روح بقلعة وادرين» أو «بقلايع وادرين»، وهو تعبير قديم، يقصد به: «فلتذهب إلى مكان بعيد لا رجعة منه»، ويمثل دعوة تُطلق على الشخص على سبيل
القصد أو المزاح.
وقد انتشر استخدام هذه العبارة في أنحاء عدة من الجزيرة العربية خلال الفترة العثمانية، وهي كثيرة الاستخدام في المملكة العربية السعودية والكويت على نحو خاص، حتى أصبحت لفظًا شعبيًا دارجًا على ألسنة الناس.
وهذا اللفظ له أصل تاريخي، إذ كانت الدولة العثمانية تلجأ إلى نفي الأشخاص الذين يتعارض وجودهم مع مصالح العثمانيين بسبب قوة تأثير هؤلاء الأشخاص في مناطقهم.
ولم يكن هذا الأسلوب مخصوصًا بمنطقة دون غيرها من ولايات الدولة العثمانية - آنذاك - بل طبق على الجميع، وكثر استخدامه في الجزيرة العربية التي شهدت معارضة كبيرة تجاه العثمانيين، وخصوصًا خلال فترة القرنين الثامن عشر، والتاسع عشر، ومطلع القرن العشرين. وقد نُفِي حكام وأمراء من وسط الجزيرة، إلى بورصة وإسطنبول، كما نُفِي بعض أهالي نجد إلى مدينة «قونيا» وسط الأناضول، وبعض أهالي المدينة المنورة وأشرافها وعلمائها إلى مصر (سهيل صابان، من تاريخ الجزيرة العربية الحديث: بحوث ودراسات من الأرشيف العثماني، ص: 154 – 156).
وأسلوب النفي من الأوطان كان مطبقًا في الدولة العثمانية منذ عهودها الأولى، فكانت الدولة العثمانية تتخذ هذا الإجراء للتخفيف من تأثير الأشخاص غير المرغوب فيهم، فشيخ قبيلة ما - كان ينفى بقصد ترهيبه، وكسر وحدة القبيلة، أو منح زعامة القبيلة لشيخ آخر موال للعثمانيين بعد نفي الشيخ المعارض إلى جهة بعيدة (صابان، ص155).
وغالبية المنفيين من الجزيرة العربية كان يتم نقلهم إلى الولايات الأوروبية التي تحتلها الدولة العثمانية التي عرفت باسم «الروملي»، مثل «سلانيك» و«جزيرة رودوس» في اليونان، و«يانيه» في ألبانيا و«نيش» في صربيا الحالية و«قلعة وِيدِين» الواقعة في بلغاريا الحالية على نهر الدانوب، (محمد آل زلفة، محاضرات في تاريخ المملكة، ص184).
وقلعة وِيدِين هي التي تعنينا في هذا الموضوع، فقد نطقها العامة في جزيرة العرب بـ«قلعة ودرين» أو «وادرين» تخفيفًا، وهي في الواقع أحد أبعد تلك المنافي. كما نفي بعض الأشخاص إلى إسطنبول. (صابان، ص: 156 - 163، الأرشيف العثماني تصنيف: 7، 44، 53، 72).
وفي الآونة الأخيرة كُتِبَتْ مقالات في صحف السعودية وفي الصحف الكويتية عن عبارة «روح بقلعة وادرين» وتضمنت تفسيرًا للمثل، وتحديدًا لقلعة وادرين مرة على أنها القلعة العثمانية بتبوك، ومرة أخرى على أنها مباني سكة حديد الحجاز بتبوك. وأول من كتب من هؤلاء قسيمة السالم تحت عنوان: أمثال الشعر «يا قلعة وادرين» وذلك في جريدة «الرياض» بتاريخ 17 / 12 / 1429هـ (15 / 12 / 2008م) وذكرت أنه مثل قديم، كثيرًا ما يرد على لسان البعض عند الغضب ومعناه الذهاب بلا عودة. وأضافت أن وادرين اسم لقلعة تقع في مدينة تبوك بناها الأتراك ثم وصفت القلعة. وبعد هذا المقال تداولت مواقع الإنترنت ما ذكرته الكاتبة من أن قلعة وادرين تقع في مدينة تبوك.
وفي جريدة «الوطن» الكويتية نشر الدكتور يوسف الغنيم بتاريخ 19 / 6 / 2011م مقالاً عن تعبير «روح بقلعة وادرين» وذهب إلى أن معناه اذهب إلى المكان الذي يذهب إليه المُودَرُون أي (المبعدون)، معتمدًا على ما ورد في معاجم اللغة اشتقاقًا من اللفظ وَدَر أي أبعد، وأنها ليست قلعة بعينها، ثم رد عليه بتاريخ 21 / 6 / 2011م في جريدة «القبس» الكويتية الكاتب محمد يعقوب البكر، وأشار إلى أن حمد السعيدان في الموسوعة الكويتية الميسرة (ج 3 ص 1216) ذكر أن قلعة وادرين تقع في أرض الأناضول بتركيا، وأنه يرجح ذلك، وأنه سمع من بعض كبار السن أن راكان بن حثلين شيخ العجمان وضع في قلعة وادرين عندما أسره الأتراك.
ثم رد الدكتور يوسف الغنيم في جريدة «الوطن» الكويتية بتاريخ 23 / 6 / 2011م على ما ذكره البكر، وتمسك برأيه وأكد أنه على اطلاع على ما يتردد في الإنترنت عن أن قلعة وادرين تقع في تبوك، وأنه لم يقتنع بذلك لأن الباحثين الذين يعتد بهم في جغرافية الجزيرة العربية وتاريخها وأسماء الأماكن مثل الشيخ حمد الجاسر في كتابه «في شمال غرب الجزيرة» الذي تحدث عن تبوك، وفي معجم المواضع - قسم شمال غربي المملكة، لم يذكر أن هذه القلعة تقع في تبوك، وكذلك بحث الشيخ محمد صالح العبودي الذي نشرت له دارة «الملك عبد العزيز» كتابًا بعنوان «كلمات قضت» تحدث عن قلاع وادرين وذكر أنها الأمكنة البعيدة، من «ودّر» بمعنى (أبعد) ولم يأت على ذكر لقلعة وادرين.
ثم كتب علي العليان في جريدة «اليوم» السعودية بتاريخ 20 / 7 / 1431هـ مقالاً عن قلعة وادرين وذكر أنها قلعة تبوك، وأنه استقى معلوماته من الشبكة العنكبوتية. ثم قامت قناة «إم بي سي» ببث تقرير تلفزيوني عن مباني سكة حديد الحجاز بمدينة تبوك وذكرت أنها قلعة وادرين الواردة في المثل الشعبي، فأصبح بذلك موقعان لقلعة وادرين في تبوك: القلعة العثمانية، ومباني سكة حديد الحجاز.
وبتاريخ 27 / 3 / 1434هـ نشر حمود الضويحي في جريدة «الرياض» مقالاً بعنوان «قلاع تاريخية دافعت عن الموت» تناول فيه عددا من القلاع في شمال المملكة، مثل قلعتي مارد وزعبل بمنطقة الجوف، وذكر قلعة وادرين وقال إنها تقع في مدينة تبوك، ووصف القلعة العثمانية بتبوك التي بناها السلطان العثماني سليمان القانوني، غير أن الصور التي نشرها في مقاله كانت لخزان مياه وأحد مباني سكة حديد الحجاز بتبوك.
والواقع أن الذين ذكروا أن قلعة وادرين تقع في تبوك استقوا معلوماتهم من الشبكة العنكبوتية وبالتحديد من الموسوعة الحرة «ويكيبيديا»، التي يبدو أنها من أوائل من ذكر أن قلعة وادرين تقع في تبوك، ثم تناقل المتصفحون من بعضهم البعض.
وقد اختلط الأمر على الناقلين من مواقع الإنترنت حيث يوردون وصف القلعة العثمانية بتبوك وصور محطة سكة حديد الحجاز التي ليست قلعة أصلاً، ووقع في هذا الخطأ من أعد تقارير إعلامية نشرت في قناة «إم بي سي». وقد حجبت موسوعة «ويكيبيديا» ما ذكرته عن قلعة وادرين بتاريخ أغسطس (آب) 2012م، إلا أن المعلومات نفسها موجودة ضمن معلومات الموسوعة عن مدينة تبوك.
وفي الشبكة العنكبوتية ربطوا الاسم بخرافة تدور حول امرأة من القصيم تدعى وادرين، والأعجب من ذلك كله وجود دليل لمنطقة تبوك على شبكة الإنترنت يذكر أن قلعة وادرين الشهيرة تقع في مدينة تبوك.
ولم ترد في كتابات الرحالة الغربيين الذين زاروا شمال غربي المملكة إشارة إلى قلعة وادرين أو ما هو مقارب لهذا المسمى، كما أن أعمال المسوحات الأثرية والدراسات البحثية عن الآثار الإسلامية في شمال غربي المملكة التي قام بها عدد من الباحثين السعوديين لم توضح وجود هذه القلعة، بالإضافة إلى المراجع والمصادر التي تحدثت عن تاريخ طرق التجارة والحج القادمة من الشام ومصر عبر منطقة تبوك سواء ما كتب باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية وجميعها لم يرد فيها ذكر لهذه القلعة.
وفيما يخص القلاع التي يعود إنشاؤها إلى العصر العثماني في منطقة تبوك الساحلية منها والداخلية فإنها موثقة علميًا وتاريخيا.
وكذلك محطة سكة حديد الحجاز بتبوك التي افتتحت في العام 1907م، ولم يكتمل بناء مسار السكة إلا بعد وصول القطار إلى المدينة المنورة في العام 1908م، ولم يدم استخدام السكة والمحطة طويلاً، حيث لم يتجاوز ذلك عشر سنوات، إذ فُجِّر مسارها خلال الحرب العالمية الأولى، ثم توقف الجزء الواقع في المملكة العربية السعودية إلى اليوم.
خلاصة القول
أن قلعة (وادرين) قلعة حقيقية ولكنها ليست في تبوك بل في بلغاريا، وقد نُفِي إليها شخصيات من الجزيرة العربية خلال العصر العثماني، ويؤكد ذلك وثائق الأرشيف العثماني المشار إليها في هذا التوضيح، وهذه القلعة التي يتداول اسمها في الأمثال والمنتديات باسم «وادرين» أو «ودرين» في الأصل تنطق «ويدين» وتكتب في الدراسات الأوروبية والتركية «Vidin»، وتقع على نهر الدانوب في بلغاريا «إحدى الولايات الأوروبية للدولة العثمانية». وهناك دراسات علمية وتاريخية وأدبية موسعة عن قلعة «ويدين - Vidin» والمنطقة التي تقع فيها وخصوصا من الفترة المبكرة للعصر العثماني وحتى القرن الـ 19.



د. علي إبراهيم الغبان
* نائب رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار، والمشرف على برنامج العناية بالتراث الحضاري للسعودية
الأحد - 1 رجب 1436 هـ - 19 أبريل 2015 مـ رقم العدد [13291]
  Send by email


مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..