الثلاثاء، 1 ديسمبر 2009

سفر برلك

      تابعوا و شاهدوا الجرائم بحق بمدينة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و لنفضح الصوفية و كذبهم و إتهامهم للدولة السعودية السلفية بإنتهاك حرمة المدينة المنورة
((كل ما سيكتب بشهادة اهل المدينة الذين عاشوا الرعب))
==================================


من كتاب
طيبة و ذكريات الأحبة

الجزء الخامس
1427هـ

للأستاذ
أحمد أمين صالح مرشد
(من ابناء المدينة المنورة)
==========================
بسم الله الرحمن الرحيم
و صلوات الله تترى و السلام ما اشرقت شمس و ما غنت على الآيك الحمام ما طاف بالبيت الحجيج و ما دعا فيه الأنام ما رتلوا من آية ما امنوا خلف الإمام ما ردد التكبير فوق مآذن قد عانقت كبد الغمام على النبي المصطفى الهمام ما نزل القطر من الغمام و اختلف الضياء مع الظلام و الآل و الأزواج و الأصحاب و و التابعين من أولي الألباب .


سفر برلك
كلمتين نزلت على أسماع اهل المدينة كالصاعقة خبأت بين حروفها الرعب ...
هذه الحروف السبعة زلزلت اسر المدينة داخل بيوتهم المتحصنين بها خوفاً من الخطف المباغت لم ينج من حممها إلا القليل و هذه الكلمة (سفر برلك ) تعني :
الترحيل الجماعي حسب مفهومها باللغة التركية .


لقد مرت على المدينة أيام قاسية تبعتها أشهر ثم سنة مريرة لجأ فيها الأتراك إلى استخدام كل الأساليب لإخراج أهل المدينة من دورهم ونفيهم إلى خارجها شاءوا أم أبوا بالقوة الإجبارية.
تاريخ أسود ونكبة حلت بأهل المدينة كان بطلها القائد العسكري للمدينة فخري باشا واسمه عمر فخر الدين بن محمد ناهد بن عمر كما أن هناك معلومة تقول إن ناجي كاشف كجمان عُين في حامية المدينة خلال الحرب العالمية الأولى وكتب مذكرات دقيقة عن المدينة أيام فخري وجنوده الذين بلغ عددهم خلال تلك الفترة عشرة آلاف جندي.
فمن كان مولده قبل عام 1334هـ أو بعده سواء كان رجلا أو امرأة أو طفلا أو شيخا مسنا لم يرحمه جنود فخري حيث كان الجنود منتشرين وبعدد كبير داخل أسوار المدينة الثلاثة وبين أزقتها وحاراتها ولم يسلم (حسب قول البعض) إلا من كان يسكن داخل الأحواش التي تتميز بقفل أبوابها المتينة ورغم ذلك فإن كل من حاول الخروج قُبض عليه ورُحل.. وتميز الجنود الأتراك حسب توصية قائدهم بالقوة والصلابة والشدة وعدم التهاون أو رحمة شيخ عجوز يبحث عن قطعة خبز أو امرأة تبحث عن ولدها أو شاب خرج بكل حيوية دافعه البحث عن لقمة عيش لوالديه وإخوانه الصغار..كان القطار يمتد كالثعبان من محطة العنبرية مرورا بالمناخة وحتى آخر شارع العينية يلتهم كل جسد بشري يمر من أمامه أو من خلفه.


الهدف من إنشاء سكة حديد الحجاز
كان الهدف من إنشاء السكك الحديدية لربط أجزاء الدولة العثمانية المترامية الأطراف كسياسة عليا للدولة أما في عهد السلطان عبدالحميد الثاني الذي قرر مده من إسطنبول إلى المدينة المنورة مرورا بالعراق وسوريا والأردن لخدمة حجاج بيت الله الحرام الذين كانوا يلاقون صعوبة كبيرة أثناء تأديتهم لفريضة الحج قبل إنشاء الخط، فطريق الحج العراقي حوالي 1300 كم وتستغرق الرحلة شهرا كاملا وطريق الحج المصري من سيناء حوالي 1540كم ويستغرق أربعين يوما، وطريق الحج الشامي يمتد 1302كم وتستغرق الرحلة خلاله أربعين يوما.
وكانت الدولة العثمانية حريصة أشد الحرص على سلامة الحجاج ذهاباً وإياباً لهذا فإنها لم تتردد في دفع رواتب وعطايا لوقف التهديدات المستمرة على قوافل الحجاج، ولم يشعر الحجاج بالأمان والسلام بشكل لافت إلا بعد أن تولى الملك عبدالعزيز آل سعود حكم بلاد الحجاز واستمرت هذه السياسة حتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله، وقد اهتمت الأسرة السعودية اهتماماً بارزا بمكة المكرمة والمدينة المنورة وإعداد كل ما يلزم لراحة الحجاج والمعتمرين القادمين من أقصى بقاع الأرض.

ومن أجل إقامة المشروع وجه السلطان عبدالحميد نداء إلى العالم الإسلامي عبر سكرتيره "عزت باشا" ولقي هذا النداء تجاوبا من مسلمي العالم الإسلامي وتبرع السلطان بمبلغ (320) ألف ليرة من ماله الخاص وتبرع شاه إيران بخمسين ألفا وساهم خديوي مصر عباس حلمي الثاني بكميات كبيرة من مواد البناء.
تشكلت لجنتان لتنفيذ المشروع الأولى في إستانبول برئاسة عزت باشا والثانية في دمشق برئاسة والي الشام وذلك تمهيدا لتتبع مد خط سكة الحديد على نفس خط قوافل الحجاج.
بدأ المشروع في شهر جمادى الآخرة عام 1318هـ، حيث بدأ العمل في منطقة المزيريب ثم إلى دمشق ودرعا بإشراف بعض المهندسين الأجانب من الألمان ماعدا المسافة التي بين العلا والمدينة فقد أشرف عليها مهندسون مسلمون.

عقبات واجهت المشروع
صادف المشروع عقبات كثيرة، كان على رأسها نقص المياه، وأمكن التغلب على ذلك بحفر آبار وإدارتها بمضخات أو طواحين هواء، وجلبت المياه في صهاريج تسير على أطراف الخط. ولمواجهة نقص العمال وتوفير النفقات استخدمت قوات من الجيش العثماني بلغ عددها زهاء 6 آلاف جندي و200 مهندس كانوا يعملون في الخط بصفة دائمة. كذلك كانت السيول الجارفة إحدى العقبات التي شكلت خطورة كبيرة وحقيقية على الخط الحجازي في مرحلتي البناء والتشغيل، لذلك قام المهندسون بإنشاء مصارف للسيول على طول الخط الرئيسي.
أما الرمال المتحركة التي تعرض صلابة الخط للخطر وتؤدي إلى انقطاع الحركة بتحرك الخط عن مكانه فأمكن التغلب عليها بتغطية منطقة الرمال المتحركة بطبقة من الصلصال، وبني سد حجري ضيق يمتد موازياً للخط الحجازي ليحول دون خطر تغطيته بالرمال المتحركة. أما مشكلة الوقود فتم استيراد الفحم من الخارج وأقيمت مستودعات ضخمه لتخزينه.
وفي عودة لأول الحدث فبعد أن كان أبناء الشريف حسين علي وفيصل على وفاق تام مع فخري باشا تمهيدا للقيام بثورة ضد السلطة العثمانية أو التركية للانفصال عنها كانت هناك مشاورات بين فخري والشريف حسين عن طريق ابنيه علي وفيصل وكان علي متواجدا بالمدينة في عهد حاكمها بصري باشا الذي كان يتضايق من تدخلات الشريف علي في بعض أمور السلطة وقد اشتكى بصري باشا الشريف علي إلى جمال باشا حاكم الشام وقام جمال بمخاطبة الشريف حسين وابنه فيصل الذي كان متواجدا في سوريا، ورحل علي من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة.
شارك في المشروع 6 آلاف جندي و200 مهندس وقد بلغت تكاليف الإنشاء 4.283.000 ليرة عثمانية، وكان العمل ينجز بطريقة سريعة حيث يكون الانتهاء من مد سكة الحديد في السنة الواحدة 182كم.
وبعد الانتهاء من ربط الشام بالمدينة أصبح القطار يقطع المسافة التي تبلغ 1320كم بين دمشق والمدينة في 72 ساعة زد عليها بعض الساعات التي تضيع بين وقوف القطار في المحطات وتغيير القاطرات.

خط سير سكة حديد الحجاز
تبدأ سكة حديد الحجاز بعد محطة مزيريب من (محطة دمشق) وتمر بعدد من المحطات في طريقها ومن أهمها: الديرة - عمان - جزا - عطرانة (القطرانة) - معان - غدير الحج - بطن الغول - مدوارة (المدورة) - تبوك - الأخضر - المعظم - الدار الحمرا - مدائن صالح (الحجر) - العلا - هدية. لتنتهي السكة بمحطة المدينة المنورة. وهناك محطات فرعية أخرى على امتداد طول السكة.
وقد وصل القطار إلى المدينة المنورة في باب العنبرية في 22 رجب 1326هـ. بينما وجد الباحث في مذكرات السيد جعفر حسين هاشم أن وصول الخط الحديدي (الشموندفير) في 16 رجب 1326هـ وفي عام 1329هـ وصل عدد ركاب القطار إلى 119000 ألف.


من ذكريات سكة حديد الحجاز
1. كان (السيد محبوب علي بن السيد فضل حسين)، المولود عام 1307هجرية المتوفى عام 1394هجرية، أصغر كابتن في سكة حديد الحجاز، ولم يكن هناك من يعمل سائقاً للقطار غيره من أهل الجزيرة العربية، إذ إن الباقين أتراك، نعم كان هناك (الشيخ عبدالمجيد خطاب) موظفاً في المحطة، وكان (السيد هاشم رشيد) مهندساً في المحطة أيضاً وكان أحد المهندسين المنفذين للمشروع، وكانت لديه مخططات المشروع محتفظاً بها أخذها منه الكاتب الرحالة (فؤاد حمزة) لأجل أن يستفيد منها في كتابته عن سكة حديد الحجاز ولكنه لم يعدها له، و(السيد هاشم رشيد) هو والد الشاعر(محمد هاشم رشيد)، وكان من النفر العاملين في سكة حديد الحجاز الوافدين على السلطان عبدالحميد العثماني.
2. أما عن الأعمال التي شغلها (السيد محبوب علي) في سكة حديد الحجاز فبدايتها أنه كان الذي يزود مقود القطار بالفحم، ثم إنه وخلال تلك الفترة القصيرة من عمر سكة حديد الحجاز ترقى حتى وصل إلى كابتن.
3. لاشك أن القطار كان طريق سيره في الحجاز شديد الخطورة، وقد انقلب القطار مرتين، مرة بسبب تخريب مفاجئ في موضع من السكة، وكادت رصاصة في هذه الحادثة أن تودي بحياة سائق القطار ولكنها أطارت بطربوشه لما أصابته، والثاني أثناء الحرب العامة.
4. عايش السيد محبوب علي أحداثاً جمة أثناء عمله سائقاً للقطار، منها السياسية والعسكرية والاجتماعية والإنسانية، فقاده القطار إلى زواجه بابنة (البنكباشي علي رمزي) الحاكم العسكري في نابلس إبان تلك الحقبة، وعايش على مضض أحداث (سفر برلك) الصعبة والمؤسفة، حيث كان أهل المدينة المنورة يُكرهون على الخروج منها وبالقوة، فقد كانوا يلوذون بالبادية أو ببعض المدن والأقاليم الإسلامية هرباً من الفتن والجوع، فكان المحظوظ من الأهالي من أقلّه القطار إلى مكان آمن، ومنهم من يضطر إلى قطع المسافات الطويلة على رجليه.
5. حين تعطلت سكة حديد الحجاز عن العمل بفعل الإنجليز إبان الثورة العربية الكبرى، أذن حاكم المدينة فخري باشا للسيد محبوب علي بالسفر إلى الهند حيث هرب أبوه إليها، ثم عادا جميعاً في زمن الشريف علي بن الحسين حيث فوجئ بنهب داره وجميع ماله في داره بحي المغيسلة .تدمير خط سكة حديد الحجاز
كان اكبر تهديد تواجهه سكك حديد الحجاز هو البريطاني توماس إدوارد لورانس و مجموعة المتمردين العرب راكبي الجمال التي قادها و التي كانت تخرب الخط الحديدي بشن هجمات على القطارات التي تحمل الجنود الأتراك .
و استمر خط سكة حديد الحجاز في سيره بين المدينة المنورة و استانبول 9 سنوات حتى تم تدميره بعد بداية الحرب العالمية الأولى في بداية عام 1337هـ - 1919م و أواخر عام 1337هـ ، بمؤامرة من الجاسوس الإنجليزي لورانس و تنفيذ الشريف حسين و مساعدة من الأعراب القاطنين شمال الجزيرة العربية حيث خرب الخط و دمرت بعض جسوره و انتزعت قضبانه في عدة أجزاء منه .
و كانت الذريعة التي سولت للشريف حسين القيام بهذا العمل التخريبي تتمثل في إحتمال قيام "احمد جمال باشا" قائد الجيش العثماني الرابع بإستغلال خط سكة الحديد في نقل قواته لضرب الثورة العربية في عقر دارها .
و يمثل تدمير الخط حلقة البداية لتقطيع أوصال العالم الإسلامي بين المنتصرين في الحرب العالمية الأولى و بخاصة بريطانيا و فرنسا و نهاية للخلافة العثمانية الإسلامية .

جمال باشا يعين فخري باشا حاكماً عسكرياً على المدينة المنورة
عندما اراد الشريف حسين تنفيذ خطته للقيام بثورة خاطب ابنه فيصل بالشام و أخبره بكل التفاصيل و رسم له خطة إنسحابه من الشام ...كان من ضمن الخطة أن يستأن الشريف فيصل من جمال باشا حاكم الشام للذهاب إلى المدينة ليأتي بالمتطوعين من الحجاز إلى سوريا و عندما وصل الشريف فيصل إلى المدينة اجتمع بأخيه الشريف علي و اتفقا على الخروج من المدينة ..و بعد خروجهما ضموا القبائل المحيطة بالمدينة إليهم و عادوا لمحاصرة المدينة .
و عندما ادرك جمال باشا قرب بوادر الثورة و علمه بما وصله من اخبار ، عين فخري باشا حاكماً عسكرياً و بصري باشا حاكماً إدارياً للمدينة المنورة ، و إكمالاً للخديعة فبعد وصول فخري باشا إلى المدينة حاكماً عسكرياً ارسل له الأمير الشريف علي كتاباً نصه :
(بناء على الأوامر الصادرة من أبي، سيقف نقل المتطوعين إلى فلسطين و لهذا عقدت النية على العودة إلى مكة بدلاً من ضياع الوقت هنا و إني اسف لأضطراري إلى الرحيل بدون أن اودعك فالمرجو قبول عذري) .
خرج فخري باشا إلى المكان الذي تجمع فيه جيش الأشراف في الفريش (الموقع : في الجنوب الغربي من منطقة المدينة المنورة و تبعد عن منطقة المدينة : 50 كليو تقريبا) و التي عرفت بإسم (عُرضي الشريف) فلم يجد احداً ، عندها ادرك ان هناك نية من الشريف حسين و ابناؤه لمهاجمة المدينة المنورة بعد جدة و الطائف .
و فعلاً قبل إعلان الشريف حسين الثورة العربية من مكة في 9 شعبان 1334هـ جهز جيشاً بقيادة ابنيه علي و فيصل و معهم الموالون للثورة ، فقاموا بمهاجمة مراكز الجيش العثماني في اطراف المدينة و لكن قوات فخري باشا تصدت لهم و الحقت بهم عشرات القتلى ، تكرر هجوم الأشراف و لكنه فشل للمرة الثانية و عاد الشريف فيصل و و الشريف علي إلى ينبع النخل و لحقه فخري باشا و حاصره فيها و لكن بعض القبائل وقفت ضد جيش فخري إضافة إلى البوارج الإنجليزية التي كانت مساندة للأشراف فأنسحب فخري عائداً إلى المدينة لتحصينها .

و بعد الهزيمة حاول الشريف فيصل بث الروح في جيشه ففكر مع لورانس ثم افتتحا مراكز جديدة لتدريب رجال القبائل على كيفية إستعمال الأسلحة الخفيفة ، و تفجير الديناميت ، و كان الضباط الجدد يساعدونهم في تنفيذ كل ذلك .

ثم كان دور لورنس بعد هزيمة الجيوش العربية و عدم قدرتها على فتح المدينة فقرر الإشتراك شخصياً و التخطيط في الهجوم الثالث الذي تقوم به الجيوش العربية على المدينة و وضع خطة حربية مع ابناء الشريف حسين للهجوم على المدينة .

و إليكم عرضاً موجزاً لهذه الخطة الهجومية الجديدة :
يهاجم الشريف فيصل من ناحية الغرب على رأس جيش قوامه 8000 محارب ، بينما يتقدم الشريف علي نحوها بعد أن ينطلق من ميناء رابغ على رأس جيش قوامه 3000 مقاتل ، و في نفس الوقت كان من المقرر أن يقوم شقيقه الشريف زيد و هو شقيقه من والده بالهجوم على الفرقة التركية المعسكرة بالقرب من بئر عباس ، و بذلك يشغلها عن المعارك الدائرة حول المدينة المنورة . كذلك كان على الشريف عبدالله ان يتقدم بالهجوم على على المدينة من من الشرق على رأس جيش قوامه 4000 محارب و هكذا اصبح الجيش التركي في المدينة كأنه معزول عن العالم الخارجي لأنه سيكون مطوقاً من الجهات الأربع ، و رغم كل تلك الإستعدادت و الكثافة العددية فشلت الجيوش العربية في الدخول إلى المدينة او فتحها و ذلك لبسالة فخري باشا و جنوده الذين واجهوا القوة العربية بكل ضراوة مما ادى إلى ترادعها مرة ثالثة .

و بعد عودتهم إلى مكة قامت الحرب العالمية الأولى و كان هناك تدعيم خفي للشريف حسين من قبل الإنجليز ..و لم تكن زيارة الشريف حسين المتكررة إلى المدينة إلى للإطلاع على القوة العسكرية الحامية للمدينة المنورة ، حيث كان تفكير الشريف حسين و تخطيطه عندما يقوم بالثورة العربية الكبرى أن يضم المدينة إليه .

عاد الشريف علي للمرابطة مع قواته في القرى القريبة من المدينة و في المقابل قام فخري باشا بتعزيز خطوط دفاعاته و عززها بخطوط هاتفية و ضبط الأمن داخل المدينة و صادر معظم المواد الغذائية خاصة الحبوب و خزنها كما استفاد من موسم جني التمور فأمر جنوده بجمعها و ضغطها في قوالب صغيرة للمحافظة عليها و إستخدامها خلال الحصار .

و من اجل تخفيف الضغط على اهل المدينة و من اجل الصمود امام الأشراف قام فخري باشا بمهمة تنبيه اهل المدينة بالرحيل الذي كان في بداية الأمر إختيارياً ثم اصبح إجبارياً .

و من حسنات الشريف حسين عند ترحيل اهل المدينة من قبل جنود فخري باشا في المرحلة الإجبارية لم يتعرض إلى اي قطار يحملهم خلال التهجير في إتجاه تبوك و الأردن او سوريا او العراق او استانبول ، حيث ان هذا الموقف يسجل للشريف حسين و ابنائه خدمة و تقديراً للمجاورين لرسول الله صلى الله عليه و سلم ، و يضمن من جهة اخرى ان لا يكون ضحايا من المدنيين خلال حصاره للمدينة ، و تفيد بعض المعلومات التي سجلتها لكبار السن ممن عايشوا تلك الفترة ان من بقي في المدينة من اهلها 140 رجل و عدة نساء فقط .

بينما تمكن العلامة الشيخ الفا هاشم الأفريقي من إقناع فخري باشا بعدم ترحيل و إخراج جماعته الأفارقة من المدينة ، حيث إستجاب فخري باشا لطلبه على ان يقف الرجال منهم بجانبه خلال الحصار و على ان يتولى الشيخ الفا هاشم إقامة الصلوات في المسجد النبوي الشريف إلا ان هذا الشرط الأخير لم يتمكن الشيخ الفا هاشم من تنفيذه إلا بداية الحصار فقط ، وعندما اشتد الحصار و اتخذ فخري باشا من المسجد النبوي ثكنة للجنود و الأسلحة و اتخذ من منائر المسجد النبوي الشريف ابراجاً للمراقبة ..تعطلت الصلوات و لم يرفع الآذان من المنائر لفترة .

شحت المواد الغذائية و ارتفعت الأسعار و تفشت الأمراض و عاشت المدينة 3 سنوات شديدة من القسوة من شهر شعبان عام 1334هـ و حتى شهر جمادى الثانية من عام 1337هـ عانى فيها اهل المدينة الجوع و المرض و الفقر و لم تقتصر الآثار السيئة للحصار على اهل المدينة فقط بل عانت منها القوات العسكرية التي انتشر بينها مرض الحمى و منهم من هرب ملتحقاً بقوات الشريف ، كما امتدت الآثار السلبية على المجتمع المدني في تناقض الغذاء و رفع الأسعار بحيث اصبح كيس الأرز يعادل قطعة ارض او قيمة بيت او قيمة بيت حيث باع احدهم منزله مقابل كيس رز و وصل الحال في المدينة إلى اكل الحيوانات النافقة و هنا ..كان امامهم خياران ..
إما القبول بهذا الوضع ..
او الهجرة خارجها..
فكان الخروج الإختياري ثم الإجباري عبر قطار الموت كما سماه البعض ..


و قلت انا (الشريف الحنبلي):
كلها هذا الإجرام و الإرهاب من الشريف حسين و ابناؤه و فخري باشا العثماني
في مدينة رسول الله صلى الله عليه و سلم


و نظراً لما اصاب الجند من إحباط واضح ، انشأ فخري باشا سجلاً سماه (سجل إحباء الحجاز) و فيه أخذ العهد على الجنود بالبقاء في المدينة حتى النهاية ، و في محاولة منه لتهدئة نفوس الجند و تقوية عزائمهم عمل على إشغالهم بالبناء و التعمير و شق الطرق و الزراعة و حفر الآبار .. و خلال هذه الفترة توقف النشاط التجاري و حركة البيع و الشراء و قام بعض الجنود من باب العطف احياناً و بالرشوة احيانا اخرى بإخراج ما تبقى من اهل المدينة بطريقة سرية ليلاً .

و بعد قيام الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين ، حيث إستولت قواته على معظم مدن الحجاز ما عدا المدينة المنورة التي ظلت تقاوم حتى بعد الحرب العالمية الأولى بشهرين ..و قام البكباشي(يعني المقدم) الإنجليزي جيرالد ، بتفجير اول قطار في منطقة الطويرة .
تمركزت قوات الشريف حسين في منطقة الفريش (عُرضي الشريف) و كان ذلك في النصف الأول من عام 1334هـ ، و صلت الأخبار إلى فخري بذلك فكان تفكيره الأولي هو إنذار اهل المدينة بالرحيل عنها سلمياً ليتمكن من مواجهة قوات الشريف حسين و من اجل ان لا يتعرض اهل المدينة لأخطار الحرب و الحصار اصدر فخري باشا إعلاناً لأهل المدينة بتركها لحين إنتهاء المواجهة مع قوات الشريف حسين .

و قلت أنا : سبحان الله !!! لمَ لم تنقلوا حربكم مع الشريف حسين لخارج المدينة بدل إستخدام المسجد النبوي الشريف كثكنة عسكرية و تعطيل الصلوات فيه و مزاحمة اهل المدينة في رزقهم !! .

الاســـم: 1328 هـ.JPG
المشاهدات: 29677
الحجـــم: 40.0 كيلوبايت
المسجد النبوي الشريف
عام 1328هـ


من جهة أخرى ..
كانت بريطانيا و تضامنا مع الشريف حسين قد أرسلتن تحذيراً لفخري باشا في 3/2/1337هـ تطلب فيه تسليم المدينة خلال 15 يوماً و إلا تقوم قوات الشريف حسين بمهاجمته و لكن فخري باشا رفض التحذير فأرسلت السلطة العثمانية الرائد ضياء ، الذي وصل المدينة في 11/3/1337هـ لتبليغ فخري باشا بأوامر السلطة العثمانية لتسليم المدينة للأشراف ، و رغم هذا رفض فخري باشا التسليم و كان نتيجة لهذا و لعلم الجنود بإستسلام حكومتهم زادت حالات الهروب حتى ان وحدات و سرايا بأكملها اخذت تسلم نفسها إلى قوات الشريف حسين .

و بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى و سقوط العاصمة العثمانية ظل فخري باشا صامداً و لكن بعد معاهدة الصلح التي وقعتها تركيا مع الحلفاء ارسل وزير الدفاع التركي برقية إلى فخري باشا لتسليم المدينة فرفضها فتم تعيين مصطفى كمال قائداً لحامية المدينة الذي رفض الأمر قائلاً :
(انا لا اخلي المدينة ما دام هناك قائد يتولى الدفاع عنها ، و عليه ان يخليها هو بنفسه) و هنا كان إجراء آخر هو مخاطبة استانبول لبعض الضباط في قيادة فخري باشا و امرهم بعزله و تسلمهم للقيادة .
و قد ضجر الجنود بسبب الجوع الشديد و الحر الشديد و تفشي مرض غريب بين الجنود حيث يظهر في الجندي فجأة و خلال ساعة يكون الجندي جثة هامدة ، و بينما فخري باشا نائم و مطمئن في مؤخر المسجد النبوي الشريف الذي كان مستودعاً للسلاح فإذا بقائد جيشه (و معه كبار الضباط) يوقظه و المسدس على رأس فخري باشا عند صدغه و هو يقول له :
سِيدِي جناب فخري باشا متولي المدينة المنورة !!!
فخري : أفندم !!!!!!!!!!!!!! (متعجباً و مندهشاً) .
القائد : قم و سلم المدينة للشريف !! .
فخري : أفندم !!!!!!!!!!!!!!! .

و يواصل المؤلف: و فعلاً نفذوا الأمر و سلمت المدينة للأشراف في 5/4/1337هـ إلا ان بعض المصادر تقول ان فخري باشا سلم المدينة للأشراف في 19/7/1337هـ .
و يحكي البعض ممن قابلتهم ان فخري كان ينام في مؤخرة المسجد النبوي الشريف و تم القبض عليه من قبل جنود الأشراف بمساعدة احد معاونيه بعد ان طمأن فخري بعدم وضع سلاحه بجانبه كعادته ليفاجأ بدخول الجنود عليه و بعد القبض عليه خيره الشريف فيصل بين البقاء او الرحيل ففضل الرحيل حيث غادر إلى ينبع و منها إلى مصر ثم استانبول .
و يصف : ناجي كاشف كجمان(من مذكراته التي ترجمها أديب عبدالمنان)
عن كيفية إستسلام فخري باشا حيث يقول : طلب فخري بعد إستسلامه و خروجه من المدينة ان يلقي خطبة من منبر المسجد النبوي الشريف ، حيث صعد المنبر و الورقة تهتز بين يديه و خطب في مساعديه و معاونيه و من كان موجوداً من اهل المدينة خطبته اعتذر لهم فيها . !!!!
كما يقول ناجي كاشف : انه في يوم الجمعة 9 يناير 1919م
جهزت سيارة لنقل فخري باشا فاستقلها متوجهاً إلى الفريش(عُرضي الشريف) حيث مخيم الأشراف و منها إلى ينبع حيث واصل سيره إلى جدة ثم إلى مصر ثم إلى استانبول .
 
و قلت انا :
إرهاب و إجرام و وحشية و حصار من 1334هـ إلى 1337هـ و إستخدام الحرم قاعدة عسكرية و تعطيل الصلوات ثم إعتذار من اهل المدينة و الخروج بسلام.

إنتهت اللعبة بين العثمانيين و الأشراف
يا سلام ....هكذا و بكل بساطة .
سنرى إن شاء الله ماذا حدث خلال الحصار
في مدينة النبي صلى الله عليه و سلم
من اتباع الإحسان


و بشهادة اهل المدينة الذين عاشوا الرعب .

حصار و مجاعة اهل المدينة
قبل ان نخوض في ما آلت إليه الأمور ، نذكر ما قام به فخري باشا الذي امر بإلصاق نشرات إعلانية على جدران شوارع و بيوت المدينة جاء فيها :
إن المدينة المنورة أصبحت خاضعة للإدارة العُرفية و أن كل من يتكلم عن الحركات العسكرية يعرض نفسه للعقوبات الشديدة .
و عين لذلك من قام بتخريب البيوت و نفي العائلات و صلب الرجال ، و وضع تحت اياديهم جواسيس من أجناس محتلفة ، و أول عمل صدر من الديوان العُرفي ، نفي 30 من علماء المدينة إلى دمشق ثم أرسلوا إلى ولاية اضنه .
بينما قام فخري باشا بمحاصرة حي العوالي (جنوب المدينة بالقرب من مسجد قباء) و دكها بالقنابل و لم يكتف بذلك بل قام جنوده بهمجية غريبة حيث قاموا بذبح الرجال علناً .
تحصن بعض اهل المدينة في بيوتهم و منهم من رحل قبل التسفير الإجباري إلى الحناكية و ينبع و العلا و تبوك و مكة و منهم من بقي و رفض الخروج فكانت لهم معاناة البقاء داخل منازلهم بقليل من الزاد مع اطفالهم و زوجاتهم و آبائهم كبار السن ..و لكن بعد شعورهم بإنتهاء الزاد بقليل بدأ البعض في الخروج للبحث عن لقمة عيش يسدون بها جوعهم ..و هنا كانت المفاجأة التي اعدها فخري باشا و جنوده .
خلال الإعلان الأول من فخري باشا لأهل المدينة كان له تفكير آخر و هو إيصال سكة الحديد من الإستصيون إلى باب السلام (لنقل موجودات المقصورة الشريفة) و كان الهدف الآخر هو الترحيل الإجباري لمن رفض الخروج من اهل المدينة .
الاســـم: نقل موجودات الحجرة بالقطار.jpg
المشاهدات: 30521
الحجـــم: 114.4 كيلوبايت
القطار و به موجودات المقصورة الشريفة .
و فعلاً اوصل خط سكة الحديد مروراً بشارع العنبرية مروراً بالمناخة قريبة من باب السلام (حيث ذكر ممن قابلتهم و سجلت لهم انه اوصلها إلى طرف شارع العينية الشرقي).

وبعد أن اطمأن فخري على وصول موجودات المقصورة إلى إستانبول ، أمر جنوده بالقبض على كل من يخرج من بيته وإركابه القطار بالقوة الجبرية.. وجهز فخري لهذه المهمة 2000 جندي وبدأ الترحيل فالمرأة التي تخرج للبحث عن ولدها أو زوجها تُرحل والطفل الذي خرج يبحث عن أمه أو أبيه يُرحل والرجل يُرحل والشيخ يُرحل، عدة قطارات تحركت من المدينة مرورا بتبوك والأردن ثم سوريا والمحطة الأخيرة هي إسطنبول ومات من مات خلال رحلة القطار ومنهم من قفز من القطار في تبوك والأردن

ومن بعض العوائل التي لم تُرحل خلال الترحيل الجماعي: مصطفى صيرفي، عثمان حلمي، والشريف أفندي العيتاني ، وإبراهيم خياري، وألفا هاشم، وحسين بن يحيى عقبي، وجعفر فقيه، وبركات أنصاري، إبراهيم جراح، بيت الحلواني ، بيت المدني، بيت السيد البرزنجي، ذياب ناصر، بيت الخريجي، وبعض النساء من أهل المدينة

ومن بعض الأسر التي بقيت في المدينة
السيد أمين مدني، حسن سلكاوي، إبراهيم كعكي ، كما بقي بالمدينة المنورة الشيخ ألفا هاشم وجماعته . وهذه لها قصة عندما تقدم الشيخ ألفا هاشم إلى فخري بطلب بقائه في المدينة هو وجماعته ( الأفارقة) فوافق فخري على أن يقوم جماعة الشيخ والقادر منهم بالدفاع عن المدينة

ومن العوائل التي تم ترحيلها إجباريا إلى الشام وتركيا والأردن ، أسرة الشيخ عبدالحميد عنبر، أسرة علي بن حسين عزي, وعبدالحق نقشبندي، والسيد عمران وأخوه أسعد الحسيني، وأسرة السيد محمود أحمد، وعبدالحق رفاقت علي، وآل الطرابيشي، وبيت الإسكندراني، بيت الحواله؛ سليمان مراد، جعفر الكتاني، بيت جنيد ( جنيد بن فيض)، السيد عبدالله جمل الليل، هاشم خليفة، إسماعيل حفظي، السيد إدريس هاشم، والشيخ محمد الحبيب الجداوي الوهيبي وهو أحد مدرسي المسجد النبوي في الفقه المالكي، و الذي درس على يديه العديد من علماء المدينة المنورة وشيوخها .

ومن الذين هجروا إلى تركيا محمد سعيد مدرس، وأحمد عبدالله ثروت، وعائلة الطوله. وإلى الأردن يعقوب عفيفي، وبيت أبو عوف، وعبد الستار عاشور .

وعدة أسر خرجت من المدينة اختياريا بعيداً عن قطار الموت حيث رحل عباس رضوان إلى مصر، وبيت أبو خضير إلى جدة، وعمر طه إلى جدة. وممن سافر إلى ينبع محمد حسين زيدان، وبيت أبو طربوش، وإبراهيم حسوبه، وعبدالغني مشرف، وإلى مكة رحل بيت الشربيني، وعبدالقدوس الأنصاري، وبيت آل طاهر، والسيد أحمد صقر، وبيت شكري، وأسرة الصفرجي .

ومن الأشعار التي قيلت في الترحيل قال أعرابي
يا الله أسألك القبول لأهل المدينـــة العالية
فخري يسفر في الضعوف خلَّى المنازل خالية

وهنا قصيدة شكري البغدادي يصف فيها حال المدينة وأعمال فخري باشا
بشرى فقد اعطى الأقواس باريها و أسكن الدار بالأمان بانيها
و خائن الدين و لى خائفاً وجلاً و حل في بلدة المختار حاميها
الناس أخرجها والدور هدمها والخلق غادرها تشكو لباريها
قد جوع الجند من بخل ومن حمق ويظهر الفقر والأرزاق يخفيها
التمر صادره والمال جمعه والناس قاست جوعا كفا لايعطيها
كم عالم مات جوعا بعد أن حملت أكتافه من صخور جل باريها
كم حرة نقلت صخرا مبرقعة بقرص خبز من الآفات يعطيهـا
أفعاله السود قد أضحت بلا عدد فليس أوراق هذا العصر تحصيها
يا عباد الله إن الرب وفقكم إلى أمور عظام كـنـت أبغيها
لا يعرف الظلم إلا من يكابده ولا المجاعة إلا من يعانيها

وفي قصيدة للشيخ محمد العمري المدرس بالمسجد النبوي يصف حال المدينة خلال الترحيل
دار الهدى خف منك الأهل والوطن واستفرغت جهدها في ربعك المحن
عفا المصلى إلى سلع إلـى جشم والحرتان ومرأى أرضها الحسن
أقوى العقيق إلى الجمّا إلى أُحدٍ إلى قباء التي يحيا بها الشجن
منازل شب فيها الدين واكتملت آياته فاستعارت نورها الدن
لأي أرض يشد الرحل كاتبه يبغى المثوبة أو يشتاقـه عطن
أبعد روضتها الغنا وقبتها الخضراء يحلو بعيني مسلم وطـن

ويصف السيد أمين مدني المدينة وقد خلت من أهلها فيقول في مذكراته الخاصة : (خلت محلات المدينة وميادينها وأسواقها وأزقتها وأحواشها, وكل دار من دورها من سكانها فتبدل الضجيج بصمت رهيب , فكأن الدور وقد صف بعضها بجانب بعض , ككثبان الربع الخالي لا أنيس بها ولا مسافر, أو كأنها قمم جبل سلع, وأمست في ليلها كأنها مدينة الأشباح التي تبدو في ظلال الليل الحائر كتلا من الظلام على هيئة الجن والأبالسة التي تتحدث عنها العجائز تقفز من سطح إلى سطح , فيفزع إلى حضن أمه مرعوبا يسأل عن الأشباح وعن الصمت والظلام
ويضيف السيد أمين : وبقينا في البيت إلى أن خلت المدينة أو كادت من سكانها, وعند ذلك دعانا العمان السيد عبد الجليل والسيد عبد العزيز ، إلى الانتقال إلى دارهما في حي الشونة - البيت الكبير- وبقينا هناك, وكنا جميعا نطلع إلى بستان المغنية نقضي الصيف هناك, إلى أن دخل الأشراف المدينة, وجلا عنها الجيش العثماني, عدنا إلى دارنا التي في السوق, ولاقينا متاعب مالية عنيفة استمرت حتى بعد عودة الوصي علينا من دمشق وهو كما سبق السيد زين العابدين ، وأعتقد أن في الإشارة إلى عنف ما كنا نقاسيه من متاعب غنى عن تفصيلها ولا سيما في هذا المكان, وبالرغم من كل ذلك كانت الوالدة حريصة على الاحتفاظ بمظاهرنا الخارجية, وإحاطتها بضروب من الوجاهة وحسن البروز على نقيض الواقع الذي كنا نحياه. كان بيتنا مفتوحا للزوار ومجالسنا حافلة بكل ما تطلبه مجالس الأثرياء الموسرين, ولا نتأخر عن المآدب (العزائم) عند كل مناسبة ندعى إليها ولذلك ظن الكثيرون أننا نغترف من معين لا ينضب).
وفي فصول من تاريخ المدينة يذكر السيد علي حافظ أن أحد سكان المدينة باع بيته بكيس أرز , وأما العائلات التي هاجرت رغما عنها فقد أصيبت بالجوع والمرض والبرد وعانوا أشد المعاناة في الذهاب أو حين العودة إلى المدينة المنورة .

قلت : الحمد لله الذي وفق الأستاذ احمد مرشد ، لتوثيق ما سيأتي من مآسي و إلا لدفنت مع اصحابها ، لكن شاء الله عزوجل ان يفضح ادعياء الإحسان فله الحمد و المنة .
يقول الأستاذ احمد : من قصص المجاعة التي سجلتها و المروية عن بعض المعاصرين للأحداث و عن آبائهم
قبل أن نتحدث عن قصص المجاعة التي عانى منها البعض نذكر بعض الروايات التي رواها البعض سواء ممن عايشوا تلك الفترة أو ممن سمعوها من غيرهم



تقول إحدى الروايات:عندما اشتد الحصار ونفدت المؤن حُبس الكثيرون في بيوتهم خوفا من تعرضهم للتهجير خاصة الأطفال والنساء وكبار السن .. فمما رُوي أن أحدهم وهو من سكان زقاق جعفر ولشدة ما تعرض له والداه من الجوع حاول الحصول على طعام يسد به جوع والديه ولكنه فشل .. ولم يجد أمامه بعد تفكير سوى التحرك ليلا ليدخل إحدى فتحات الدبول أو ما تسمى بالخرزة وهي عبارة عن أماكن أو نقاط تمر من خلالها المياه لتغذية عيون حارات المدينة .. تقول الرواية دخل أحدهم من باب الشامي ومشى داخل الدبل رابطا حول بطنه حبلاً حتى خرج من جهة العوالي ليقطف بعض التمرات ويضعها داخل ثوبه من أعلى ويعود مرة ثانية بقوة إرادة رغم وجود العقارب والثعابين ليصل إلى بيته ويطعم والدية بحبات التمر حتى أنه من قلة التمر كان البعض بعد أكل التمرة يجعلون النواة في أفواههم (لعدم نشفان الريق).

قلت : لا حول و لا قوة إلا بالله


ومن البعض من كان يقوم من شدة الجوع بغلي خف الجمل وشرب مائه . حتى أن بعض الروايات تقول إنه خلال المجاعة لم تشاهد الحيوانات داخل المدينة



الاســـم: العم محمد ميكائيل رحمه الله.JPG
المشاهدات: 24999
الحجـــم: 5.0 كيلوبايت
العم محمد ميكائيل رحمه الله
في تسجيله حول المجاعة يقول: خلال المجاعة كنا نخرج ونحن أطفال للبحث عن الطعام ونجري خلف الخيول الخاصة بفخري وكبار أهل المدينة ثم نجمع روث هذه الخيول ونقوم بتنشيفها لنلتقط منها حبات الشعير ونجمعه ثم نغسله ونجففه.
ويقول في إحدى قصصه رحمه الله: أرجو من الله السماح فقد كنا نمسك القطط بأكياس الخيش ونذهب بها إلى أحد الأتراك فوق المدرج بباب العنبرية ليذبحها لنا ولكن شرطه أن يأخذ جزءاً منها..وأقول فليسامحني الله كنا نأخذ أكباد القطط ونبيعها على أنها كبد غنم.
ومن شدة الجوع يذكر أنه في أحد الأيام قام شجار مع أحد أصحابه ( تصوروا على أي شيء) كان الجري ليتحصل أحدهما على تمرة في الأرض وبعد وصولهما وجدا أنها إحدى بقايا روث جمل فحجمها ربما يشبه حبة تمر و خلال المجاعة كنا نجري خلف الخيول الخاصة بفخري ثم نجمع روثها ونجففه لنلتقط منه الشعير.

------

طبعا الحصار بدأ في عام 1334هـ واستمر حتى استسلام فخري في 19 رجب 1337هـ خلال هذه السنوات ولمن بقي في المدينة وعددهم لا يتجاوز في بعض الروايات التي سجلتها 100 شخص.. ومنهم من ذكر أن عدد من بقي 40 رجلا وامرأة.. ولكن خلال تحقيقي حول من بقي في المدينة بعد الترحيل وجدت أنه 145 رجلا فقط وعدة نساء


الاســـم: الشيخ حسن صيرفي رحمه الله.JPG
المشاهدات: 25674
الحجـــم: 10.3 كيلوبايت
الشيخ الشاعر حسن مصطفى صيرفي رحمه الله

ممن روى عن والده حيث يقول
لم يبق في المدينة سوى 140 رجلا وبعض النساء وسمى بعضا منهن .. حيث كان مولد الشيخ حسن عام 1336هـ.. يقول العم حسن خلال الحصار مر على والدي و والدتي شهر رمضان وكان عمري سنتين أو ثلاثاً ويحكي والدي رحمه الله كانوا يتسحرون في بعض ليالي شهر رمضان بالماء فقط لأنهم لا يستطيعون إشعال النار خوفا من تهديد فخري الذي أصدر أمرا خلال الحصار لأمين باشا فوق جبل سلع بمعاقبة كل من يشعل النار ليلا ... ثم جاءت فترة قام والدي وقبل الغروب ولنفاد الفحم قام بتكسير دواليب الملابس وإشعالها قبل الغروب ليتمكن من الطبخ عليها ليلا من بعض اللحم المخزن والذي يعرف بالقديد ، ويضيف والدي الذي كان يعمل صرافا لديه من الجنيهات الذهبية الشيء الكثير ولكن .. أين الأكل ومن أين يشتري ..ليسد به جوع أهل بيته ...فكان له معرفة ببعض جنود القلعة الذين يحتفظون بكميات كبيرة من الأغذية...فكان يشتري قرص العيش الصغير وهو بحجم كف اليد بجنيه ذهب ..وكل مكيال صغير من الحنطة بجنيه وقليل من الزيت بجنيه ، ويضيف أن والده أخبره أن الكثيرين من الذين بقوا داخل المدينة مات بعضهم من الجوع والعطش داخل منازلهم حيث حاصر فخري جميع مصادر المياه مثل عين الساحة وعين أبي بكر وعين باب السلام وجعلها مخصصة لجنده وعساكره.




الاســـم: الشيخ احمد ثروت رحمه الله.JPG
المشاهدات: 28116
الحجـــم: 8.6 كيلوبايت
الشيخ أحمد ثروت رحمه الله
يقول في تسجيله: أمسكوني بالمناخة وعمري ست سنوات فقد أرسلتني والدتي لإحضار بعض الحبوب ولم تفكر أن طفلا في عمري يمكن ترحيله، حملني أحد الجنود فجأة ورغم بكائي سلمني إلى جندي آخر على باب القطار ومضى بي القطار عدة أيام وأنا نائم تحت إحدى كراسيه وعندما وصل إلى دمشق أنزلوا جميع الركاب بحجة أن بهم وباء. ومن لطف الله لم يتنبه إلي أحد وعند وصول القطار إلى إستانبول خرجت من تحت الكرسي ونزلت إلى المحطة ونمت فوق أحد الكراسي الخاصة بالمحطة ومن حسن الصدف أن أخوالي من تركيا وجاءني رجل أظنه عطف علي وسألني من أين أنت؟ فقلت له اسمي واسم أخوالي فعرفهم وأخذني إليهم ومكثت عندهم سنوات حتى تمت عودتي إلى المدينة مع نهاية عهد الأشراف وبداية الحكم السعودي


الاســـم: الشيخ اسعد شربيني رحمه الله.JPG
المشاهدات: 29000
الحجـــم: 13.1 كيلوبايت
الشيخ أسعد حسن شربيني رحمه الله
يقول: رفض والدي الخروج في بداية الترحيل الاختياري وعندما اشتدت الأمور ونفد الغذاء واشتد الحصار خرج والدي و والدتي وهي حامل بي في عام 1336هـ وكان الخروج ليلا من باب العنبرية والتوجه إلى مدينة ينبع حيث كان خارج السور يقف البعض ممن يمتلكون الدواب مستغلين ذلك الظرف ودفع أبي كل ما يملك من أجل الرحيل وقد عانى والدي ووالدتي كثيراً من المشاق حتى الوصول إلى ينبع ، واستقرا هناك حيث كان مولدي في مدينة ينبع في شهر صفر من عام 1337هـ وعاد أبي وأمي إلى المدينة وعمري ستة أشهر في شعبان 1337هـ.. بعد أن استولى الأشراف على المدينة في 19 رجب 1337هـ .


الاســـم: السيد عمران الحسيني.JPG
المشاهدات: 27819
الحجـــم: 9.6 كيلوبايت
السيد عمران الحسيني رحمه الله
يقول في تسجيله: رحلونا مجموعة بالقوة الجبرية بعد أن امتنعنا في البداية من الخروج من المدينة منهم أخي أسعد والسيد محمود أحمد وعائلته والسيد إدريس هاشم وعائلته وكان ذلك في أوائل عام 1335هـ وصلنا دمشق ولم نعرف أين نسكن كان معنا قليل من المال ...درسنا في مدرسة تسمى المدرسة الجقمقية ولكن بعد تدهور حالنا المالي عرضنا منزلنا في المدينة للبيع على أحد أبناء دمشق وهذا حال الكثير ممن رُحلوا واتفقنا على 750 جنيهاً يدفع لنا نصفها في دمشق والباقي في المدينة عند تسلمه البيت وفعلا دفع لنا 375 جنيها وعشنا بها حتى عدنا إلى المدينة عام 1338هـ في بداية عهد الأشراف.
ويضيف أن كثيرا من أهل المدينة باعوا بيوتهم ليضمنوا العيش في الشام ومن آثار هذا انقراض بعض الأسر لوفاتهم بالشام أو خلال الترحيل وأن كثيراً من صكوك البيوت التي بيعت بالشام فقدت خلال التوسعة للمسجد النبوي الشريف. واكتشف بعد ذلك وخلال الهدم أن منها ما هو مدفون داخل الجدار .


وهذه قصة لم يرغب راويها بذكر اسمه:
يقول اشتدت الحرارة ونفد الماء وما كنا نحتفظ به من بقايا الخبز والأرز وبعض قطع اللحم الناشف (القديد) أنظر إلى والدي وهما يصارعان الموت من شدة الجوع والعطش كنت الابن الوحيد بين بنتين وسني آنذاك لم تتجاوز الخامسة عشرة. ظللت على مدى يومين أفكر بالطريقة التي أجلب فيها الطعام ..وأخيرا اهتديت إلى الخروج ليلا والعودة قبل الفجر ..ولكن كان الخوف يداهمني بين فينة وأخرى .. كان أبي يحتضن إحدى أخواتي ووالدتي تحتضن الأخرى فكان هذا المنظر يدفعني بكل جرأة للخروج وجلب الطعام .. سميت بالله وتحزمت بحبل حول بطني وخرجت كاللص أتحسس الطريق في ظلمة الليل وبنور الله وفي بعض الأحيان يضيء لي نور القمر الطريق .. لم يكن أمامي للخروج من أحد أبواب المدينة سوى أن أسلك طريق الدبول تحت الأرض .. من عين أبي بكر دخلت لأسير داخل هذه الدبول باتجاه الجنوب لوجود معظم بساتين المدينة والنخيل المحمل بالثمر .. تمشي خطواتي فوق مياه ضحلة ونسيت وقتها وجود أو مصادفة أي حشرة سواء ثعبان أو عقرب كان تفكيري منصباً على كيفية الوصول لنقطة الخروج خارج الأسوار وبعد ساعتين أطل نور القمر من إحدى فتحات أحد الدبول فقررت الخروج لأجد نفسي أمام بساتين قباء .. وعلى ضوء القمر تسلقت أحد أشجار النخيل أجمع حبات التمر حتى شعرت بثقل الموجود وعدت أدراجي إلى الفتحة التي خرجت منها باتجاه الشمال ووصلت إلى المكان الذي دخلت منه قبل طلوع الفجر وحمدت الله بعد وصولي إلى المنزل لأجد أختيَّ كل واحدة في جهة ووالدي عاصب رأسه ووالدتي تسبح الله وحينما شاهداني كشبح مقبل أدركت عدم معرفتهما بي ولكنني طمأنتهما بقولي أنا فلان وضعت جميع ما حملت من التمر والبلح أمامهما ولم أسمع سوى (صوت دخول الأسنان في حبات البلح) كنت أتحسس من بين ما جمعت الحبات اللينة لإطعام الصغيرتين ..وبدأ نور الصبح ينبثق ويصل إلينا من خلال الروشان ومع طلوع الشمس كانت لدينا كمية طيبة من البلح والتمر تكاد تكفينا فترة من الزمن . وكان لوالدي طريقة في أكله حيث إنه بعد أكل القشر الخارجي تظل النواة في فمه فترة طويلة وهذا ما جعل ما بقي من الثمر يكفينا لفترة أطول خصوصا أن بئر الماء بداخل البيت وهذا بطبيعة الحال طمأن أنفسنا أكثر" .

ا.هـ
----------------------------------
لا يعرف الظلم إلا من يكابده ولا المجاعة إلا من يعانيها
(رحمكم الله و اسكنكم فسيح جناته)

سفر برلك ، قصة لا يعرفها إلا القليل جداً جداً ، فليشهد
كل من يقرأ على جرائم ادعياء الإحسان ، و ليصمت الصوفية
الذين يتبجحون بإستباحة مدينة رسول الله صلى الله عليه و سلم من قِبل السلفيين .


طيبة و ذكريات الإحبة
الأستاذ / احمد امين صالح مرشد .

و الحمد لله رب العالمين .


المصدر

.... مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..