عرض للكتاب
في كتابه الذي وصلت مبيعاته أكثر من خمسين ألف نسخة
الدكتور غازي القصيبي يروي تاريخه الإداري .. كان يعتمد الأسلوب الهجومي في الإدارة
في كتابه الذي وصلت مبيعاته أكثر من خمسين ألف نسخة
الدكتور غازي القصيبي يروي تاريخه الإداري .. كان يعتمد الأسلوب الهجومي في الإدارة
رغم ان الدكتور غازي القصيبي قد ذكر في مقدمة كتابه (حياة في الادارة) ان كتابه موجه إلى فئتين من القراء:
"الفئة الأولى هي أبناء الجيل الصاعد الذي آمل ان يتمكنوا من أن يتذوقوا من خلاله نكهة الثورة التنموية التي عاشتها المملكة والتي كان من قدري أن أعاصرها. أما الفئة الأخرى فهي فئة الاداريين الشباب, في القطاعين العام والخاص, الذين أرجو ان يجدوا في تجربتي الادارية الطويلة بعض الدروس النافعة وأن يستخلصوا منها بعض العبر المفيدة".
رغم ذلك, إلا ان انتشار كتابه امتد ليتجاوز هاتين الفئتين ليشمل فئات مختلفة من المجتمع حقق اقبالها على الكتاب مبيعات فاقت خمسين ألف نسخة وهو عدد ضخم لتوزيع كتاب في عالمنا العربي.
هذا الاقبال الكبير على الكتاب ناتج عن كون مؤلفه هو غازي القصيبي الذي كانت فترة توليه وزارة الصحة عام 1982 (1402هـ) حدثا أثار اهتمام الناس ولازالت تلك الفترة الذهبية عهدا يذكره الكثير من المواطنين بالرضى والاستحسان.
وهذا الاقبال على هذا الكتاب الذي أثار كثيرا من الجدل, لأنه كما يقول د.محمد جابر الأنصاري عنه: (مادة سياسية نادرة, وإضاءات دقيقة حية لا اعتقد أن المؤرخين سيجدونها في أي مصدر آخر للتاريخ السياسي السعودي المعاصر).
وأيا كانت أسباب الاقبال على هذا الكتاب الذي يمثل السيرة الذاتية لحياة غازي القصيبي الادارية, فإن تجربة قراءته ممتعة وقادرة على شد انتباه القارئ من الغلاف إلى الغلاف.
يبدأ الدكتور غازي القصيبي سيرته بلمحات عن حياته المبكرة التي بدأت في الاحساء سنة 1359هـ (1940م) وسـبقت بوفاة جده لوالدته وتـبعت بعد تسعة أشهر من ولادته بوفاة والدته.
لا تحظى السنوات المبكرة وحتى بداية المرحلة الجامعية في حياة غازي القصيبي بأكثر من 9 صفحات في كتابه. فالسنوات الخمس الأولى من حياته تكاد تكون مطموسة في ضباب النسيان ـ على حد تعبيره ـ وقد أشار إلى المرحلة الابتدائية والمتوسطة والثانوية إشارة سريعة لم تخلـ من اضاءات ادارية:
"وإذا كان الطابور الصباحي يكشف للطفل, في أسبوعه الدراسي الأول, عدة نماذج ادارية, فإن الفصول سرعان ما تكمل الصورة. يرى الطفل الشخصية الادارية المتشد دة التي ترفض دخول الطفل الفصل بعد ابتداء الحصة بدقيقة أو دقيقتين, وبقاؤه خارج الفصل له نتيجة محتومة واحدة: خيزرانة المدير. ويرى الشخصية الادارية المتساهلة التي لا ترى ان تأخر بضع دقائق يحول بين الطالب والدخول. يرى الطفل المدرس المبتسم والمدرس العابس, المدرس العصبي والمدرس الهادئ, المدرس الذي يؤمن بالضرب والمدرس الذي يؤمن بالكلمة الطيبة. على ان أهم ما يتعلمه الطالب, وهو درس يبقى معه إلى نهاية دراسته الجامعية وما بعد الجامعية, هو التفرقة بين المدرس قوي الشخصية والمدرس ضعيف الشخصية. المدرس الذي يتمتع بالشخصية القوية يسيطر على الفصل بسهولة ودون وعيد أو وعود. أما المدرس الذي يفتقر إلى الشخصية القوية فإنه يعجز عن السيطرة على الفصل حتى حين يعاقب كل طالب في الفصل. ما هو السر وراء قوة الشخصية؟ هذا سؤال من الأسئلة التي حيرت البرية, ولاتزال تحيرها. ما يهمنا, هنا, هو أن الشخصية القوية تشع إشعاعا لا يخطئه أحد, في الفصل وخارج الفصل, في المدرسة وفي كل مكان, في مهنة التدريس وفي كل مهنة.
وإذا كان المدرسون يمثلون عدة نماذج ادارية في عين الطفل, فإن مدير المدرسة يبدو, أمامه, تجسيدا للغول الاداري. تعاقب على المدرسة خلال دراستي مديران كان أحدهما مشهورا بالشدة المتناهية, وأعقبه مدير آخر كان قبل أن يتولى الادارة مشهورا بطيبته ولكنه ما أن أصبح مديرا حتى سلك مسلكا يفوق في الشدة مسلك سلفه. وهكذا يكتشف الطفل, في سن مبكرة, معنى "تغير القبعة" بتغير الموقع يتغير السلوك, هذه الظاهرة يعرفها الناس منذ الأزل, ويعزوها معظم الناس إلى الغرور الذي يـولد, فجأة, مع الموقع الجديد. قد تكون نظرية الغرور صحيحة في بعض الحالات, إلا ان الأصح هو ان الموقع الجديد يفرض على شاغله سلوكا جديدا ".
والتقى غازي القصيبي (الطالب الجامعي بكلية الحقوق بالقاهرة) لأول مرة بالبيروقراطية الحقيقية حين حاول الحصول على شهادة انتسابه إلى الكلية واستغرقت عدة أيام وعن هذه التجربة البيروقراطية المبكرة تولدت نظرته الحالية التي أوردها في سياق الكتاب:
"إلى ذلك العهد البعيد يعود إحساسي العميق ان الأنظمة المعقدة هي المسئولة عن كثير من الفساد. وإلى ذلك العهد البعيد يعود اقتناعي أن السلطة العامة يجب أن تكون في خدمة الناس بدلا من أن توظف الناس لخدمتها. منذ أن توليت عملا له علاقة بالآخرين وإلى هذه اللحظة لا أذكر أني نمت ليلة واحدة وعلى مكتبي ورقة واحدة تحتاج إلى توقيع, كنت, ولا أزال, أدرك أن التوقيع الذي لا يستغرق من وقت صاحبه سوى ثانية واحدة قد يـعطل مصالح الناس عدة أيام. قيل الكثير عن تجربتي الادارية سلبا وايجابا , على أنه بالغة ما بلغت عيوبي الادارية, وأنا أملك نصيبي منها, فإن أحدا لم يزعم أن البطء أو التعقيد ضمن هذه العيوب".
وغازي الموهوب لدينا في الرواية والشعر والادارة يعترف بأنه لا يملك مواهب تجارية رغم انها عمل أسرته عبر عدة أجيال وجوابه عن سبب ذلك:
"الجواب: ببساطة انني خلقت بلا مواهب تجارية. وكنت على المام تام بهذه الحقيقة. تتضح المواهب التجارية, شأنها شأن معظم المواهب, في سن مبكرة من عمر الإنسان. روى لي تاجر مرموق أنه بدأ تجارته ببيع الدفاتر على زملائه ولم يكن قد بلغ السابعة. وروى لي تاجر مرموق آخر انه كان قبل دخول المدرسة الابتدائية يدخر مصروفه الضئيل ويشتري حلوى يبيعها على الأطفال في الحارة. إنني اعتقد, جازما , انني لو دخلت ميدان التجارة لما حققت أي نجاح. غريزة التملك تضرب بجذورها في أعماق كل إنسان, وأنا لا اختلف في هذا الصدد عن غيري. إلا أني لم أحس, قط بذلك التحرق إلى جمع ثروة طائلة, وهذا التحرق, بالذات هو الذي يحرك كل تاجر ناجح".
ويشير المؤلف إلى ان أهم ما تعلمه أثناء دراسته الماجستير في الولايات المتحدة في تخصص العلاقات الدولية ناتج عن دراسته المعمقة لعالم السياسة الألماني الأمريكي هانس. ج. مورجنثاو الذي كتب عنه رسالة الماجستير والذي يقول عنه المؤلف في الكتاب مسجلا وجهة نظر ادارية لهذا العالم:
"يرى هذا الباحث ان السياسة كانت, منذ الأزل, وتبقى, إلى الأبد, صراعا على القوة وما المقصود بالقوة؟ محاولة اخضاع الآخرين لسلطة المرء. يمضي مورجنثاو فيقول انك لا تستطيع ان تخضع الآخرين لسلطتك, أي تجعلهم ينفذون ما تريد أن ينفذوه ويمتنعوا عما تريد أن يمتنعوا عنه, إلا عن طريق ثلاثة دوافع, الرغبة في الثواب, أو الخوف من العقاب, أو الحب والاحترام. كل هذا يهم عالم السياسة, فماذا عن الاداري؟ الدرس الاداري الكبير الذي تعلمته, وقتها, ولم أنسه حتى الآن, يتعلق بترتيب الأولويات. عليك ان تبدأ بتحفيز الآخرين عن طريق الحب والاحترام, أن تحبهم فتجعلهم يحبونك, وتحترمهم فتجعلهم يحترمونك, وسوف تجد كل رغباتك قد تحققت. عندما يتعذر الوصول إلى الهدف عن هذا الطريق لك أن تلجأ إلى الاغراء بالثواب. عندما يفشل هذا المسعى, وعندها فقط, لك ان تلجأ إلى آخر العلاج, العقاب أو التلويح به. كان هذا هو الأسلوب الذي اتبعته مع أبنائي, وكان هذا هو الأسلوب الذي اتبعته في التعامل مع كل من عمل تحت رئاستي. هناك فرق شاسع بين من يطيعك حبا ومن يطيعك خوفا .
إنني مؤمن ايمانا جازما أن القائد الاداري يخطئ خطأ فادحا عندما يستخدم أسلوبا عنيفا في سبيل الوصول إلى أهدافه إذا كان بوسعه استخدام الرقة. كما أن القائد الاداري الذي يجبن عن استخدام الشدة, حين لا يكون هناك بديل هو إنسان لا يستحق أن يوضع في موضع القيادة. شعرة معاوية الادارية, التي تشد وترخى, هي التي تشكل الفرق بين المدير الضعيف والمدير الفعال والمدير الطاغية.
وغازي الذي يعشق الطموح والانتصار يبين لنا انه لم يكن كذلك في سني شبابه المبكرة:
"أستطيع ان اؤكد انني في تلك المرحلة من العمر, منتصف العشرينات, أي فورة الشباب لم أكن اتحرق على نار الطموح. عبر حياتي الدراسية كلها لم أشعر, قط, ان هناك شيئا في داخلي يحفزني إلى المنافسة والتفوق على الآخرين. عندما رزقني الله بنتا وثلاثة أولاد كنت أقول لهم انني اكتفي منهم بالنجاح ولا أتوقع الامتياز. أرجو ألا أعطي شباب هذا الجيل مثلا سيئا إذا قلت أني لم أكن, في أي فترة من حياتي الدراسية, طالبا مثاليا يعكف على الدراسة آناء الليل وأطراف النهار. كنت أبذل الجهد المطلوب, لا أكثر ولا أقل. ولم يكن للمنافسة دور في تجديد هذا الجهد. المنافسة, حتى في الألعاب لا تستهويني. أقلعتـ عن لعب الشطرنج, وكنت أولعت به فترة, عندما لاحظت ذلك التصميم المتجهم على "قتل" الطرف الآخر. لعبة الملاكمة, في رأيي, ردة وحشية إلى عصور الغاب. عندما أتابع مباراة في كرة القدم, وأنا لا أفعل ذلك إلا نادرا , اتابعها بحد أدنى من الانفعال, إن رغبتي في اتقان ما أقوم به من عمل لم تعن, قط, رغبتي في التفوق على أي انسان آخر. كنتـ, ولا أزال, أرى ان هذا العالم يتسع لكل الناجحين بالغا ما بلغ عددهم. وكنتـ, ولا أزال, أرى ان أي نجاح لا يتحقق إلا بفشل الآخرين هو, في حقيقته, هزيمة ترتدي ثياب النصر".
وعن تجربته التلفزيونية وما حققته من شهرة له, يورد المؤلف مقارنة طريفة بين هذه التجربة وتجربة نشر دواوينه الشعرية:
"بدأت اكتب مقالات نصف شهرية في جريدة "الرياض". وبدأت أعد برنامجا تلفزيونيا أسبوعيا يتابع التطورات الدولية باسم "أضواء على الأنباء". في البداية كان الصديق الدكتور سليمان السليم يشاركني تقديم البرنامج, ثم انسحب وتركني بمفردي. حقق لي هذا البرنامج من الشهرة خلال أسابيع ما لم تحققه ثلاثة دواوين من الشعر خلال أكثر من عشر سنوات. كان الناس حيثما ذهبت, يسألون: "هل أنت فلان الذي نراه في التلفزيون؟" قال اللورد بيروت: "نشرت ديوانا . ونمت. وصحوت فوجدت نفسي مشهورا ". حسنا ! قدمت برنامجا تلفزيونيا . ونمت. وصحوت. فوجدت كل من ألقاه في الشارع يعرفني".
ويستمر المؤلف في سرد سيرته الادارية دكتورا ثم استاذا في الجامعة ثم عميدا لكلية التجارة مسلطا الضوء على مواقف ادارية وذكريات شخصية واسماء تأتي وتغيب بين السطور.
وخلال فترة عمادته تبلورت ملامح أسلوبه في الادارة الذي يسميه بـ(الأسلوب الهجومي) والذي يختلف عن الأسلوب الدفاعي في الادارة ـ وفقا للمؤلف ـ بأن:
"الإداري الهجومي لا ينتظر القرارات ولكن يستبقها, والاداري الدفاعي يحاول أن يبتعد عن اتخاذها. الهجومي لا ينتظر حتى تتضخم المشاكل, أما الدفاعي فلا يتعامل مع أي مشكلة إلا بعد أن تتخذ حجما يستحيل معه تجاهلها. الهجومي لا يدير المؤسسة من مكتبه ويحرص على أن يكون في الموقع أكبر وقت ممكن, أما الدفاعي فلا يغادر مكتبه إلا في المحن والأزمات. الهجومي يعتبر نفسه مسؤولا عن تطوير الجهاز وإصلاحه, أما الدفاعي فلا يرى لنفسه مهمة تتجاوز الادارة اليومية. الهجومي لا يخشى أن يكون موضع جدل, أما الدفاعي فيتجنب كل ما يثير الجدل. الهجومي ينفق كل الاعتمادات ويطالب بالمزيد, أما الدفاعي فيستوي عنده الإنفاق والتوفير. الهجومي لا يسمح للمعارضة أن تثنيه عن موقفه, أما الدفاعي فيتراجع عند اصطدامه بأول جدار. لعل الفارق الكبير أن الهجومي لا يهمه أن يخسر وظيفته أما الدفاعي فكل شيء يهون لديه في سبيل البقاء في موقعه. لا أريد أن يفهم أحد أن الأسلوب الهجومي هو, بالضرورة, أفضل من الأسلوب الدفاعي. هناك مؤسسات لا يمكن أن تدار بأسلوب هجومي, كوزارات المالية والخارجية والتخطيط وأجهزة المراقبة, ومؤسسات ينعشها الأسلوب الهجومي, كوزارات الخدمات بصفة عامة".
ويستمر غازي في التنقل بين المواقع الادارية التي شغلها إلى ادارة سكة الحديد ثم توليه وزارة الصناعة والكهرباء ثم الصحة ثم سفيرا للسعودية في البحرين ثم بريطانيا.
وفي اثناء ذلك ينثر آراءه الادارية في ثنايا هذه المراحل. فعن رأيه في ان يكون المسؤول متخصصا في مجاله الاداري يقول:
"في دول العالم الثالث تسود نظرة تذهب إلى أن الوزير يجب أن يكون من المتخصصين: طبيب لوزارة الصحة, ومهندس كهرباء لوزارة الكهرباء, ومهندس بترولي لوزارة البترول, وهل م جرا. إن التخصص, في غياب الصفات القيادية الثلاث, لا يعني شيئا . بل إني اذهب أبعد من ذلك فأقول ان الوزير المتخصص قد يكون أقل فعالية من الوزير غير المتخصص. لماذا؟ هناك سببان رئيسيان. السبب الأول ينبع من غريزة بشرية متأصلة: الناس أعداء ما جهلوا وأصدقاء ما عرفوا. من هذا المنطلق لا نستغرب إذا وجدنا الوزير المتخصص يركز على تلك الأمور التي يتقنها والتي أفنى زهرة شبابه في دراستها. ينزع وزير الصحة الطبيب إلى الدخول في التفاصيل الطبية الدقيقة وينزع وزير الكهرباء المهندس إلى مناقشة كل صغيرة وكبيرة في المخططات الكهربائية الهندسية. لا ضرر, من حيث المبدأ, في هذا التركيز إلا أنه, في الواقع, يؤدي إلى اهمال الوزير ما هو أهم من التفاصيل الفنية الدقيقة. والسبب الثاني ينبع من حقيقة معروفة: يشكل أعضاء كل مهنة نقابة ـ فعلية أو معنوية ـ يلتزم اعضاؤها بالولاء المتبادل. لا تجد طبيبا ينتقد طبيبا آخر علنا , ولا تجد مهندسا يغض, صراحة, من شأن مهندس آخر. "روح النقابة" هذه تؤثر, بطريقة شعورية أو لا شعورية, على قرارات الوزير المنتمي إلى النقابة. عندما يكون وزير الصحة طبيبا فإنه يجد نفسه مشدودا إلى زملاء مهنته على نحو يصعب معه أن يعاملهم بحياد أو موضوعية. لكل قاعدة استثناءاتها العديدة, إذا تمكن الوزير من الجمع بين التخصص وبين الصفات القيادية فإنه يكون قد جمع المجد من أطرافه".
أما المتابعة الدقيقة لجميع التفاصيل الادارية من قبل المسؤول فإن للمؤلف موقفا معارضا لها:
"كيف يستطيع الوزير الذي يوقع كل يوم عشرات القرارات, وربما مئاتها, بالعمل خارج وقت الدوام أن يقرأ دراسة جدوى اقتصادية من ألف صفحة؟ الجواب أن الذين يوقعون قرارات كتلك لا يقرأون دراسات كهذه.
كنتـ, ولا أزال, أعجب من الوزراء الذين يحصون كل كبيرة وصغيرة في أيديهم لأنني أعلم ان الذي ينفق وقته في التوافه لن يجد متسعا من الوقت للعظائم. كما أنني كنتـ, ولا أزال, أعجب من الوزراء, الذين لا تربطهم بوكلائهم ثقة متبادلة وولاء متبادل لأني لا أعرف, في غياب هذه الثقة وهذا الولاء, كيف يمكن أن تسير الأمور في الوزارة. كنت أعرف أكثر من حالة لوزير لا يرى الوكيل إلا مرة كل بضع شهور وكنت أشعر بالرثاء للاثنين معا ".
ويحكي المؤلف عن معاناته الشخصية متمثلة في الضغط النفسي والجسدي الذي لاقاه أثناء توليه منصب وزارة الصناعة والكهرباء وحين دخوله المستشفى إثر نزيف حاد:
"لم يكن بالامكان أن تمر هذه السنوات المثخنة بالأزمات دون أن تترك بصماتها على الروح وعلى الجسد. أما ألم الروح فحديثه يطول, وليس هذا موضعه, وأما الجسد فقد لقى نصيبه الكامل من العذاب. دخلت المستشفى, مرتين, على إثر نزيف حاد في القرحة. في المرة الأولى كان النزيف خطرا ولم توقفه إلا عملية جراحية عاجلة. دخلت المستشفى بعد ذلك أكثر من مرة بسبب أعراض مختلفة كان الأطباء مجمعين أنها نشأت بسبب الإرهاق. ماذا أقول؟ "لولا المشقة ساد الناس كلهم"!"
وعن مظهر يميز تجربته الادارية وهو (الزيارات المفاجئة) يحكي الدكتور غازي القصيبي تجربة أول زيارة مفاجئة:
"بدأت عهدي في وزارة الصحة بداية مدوية. بدأت بزيارة مستشفى في جدة دون إنذار مسبق. (أعتقد, ولا أعلم, أن الزيارات المفاجئة كانت نادرة الحدوث قبلي). دخلت بدون بشت ـ لم ألبس البشت في أي زيارة ـ ووقفت مع المراجعين. بعد فترة, عرفني أحد المرضى وجاء يسلم علي . تنبه الموظفون وتنبه المدير الذي جاء مسرعا بادي الاستغراب. كان خبر تكليفي بالوزارة أذيع ذلك الصباح, ولم يكن الخبر انتشر. ماذا يفعل وزير الصناعة والكهرباء في المستشفى؟ عندما علم المدير أني وزير الصحة بالنيابة زاد استغرابه. ماذا يفعل وزير الصحة في المستشفى؟ وعندما قلت له إنني أريد أن أزور "كل شبر" في المستشفى وصل الاستغراب حد الذهول.
كانت الأوضاع مزرية: كثير من النوافذ بلا زجاج, وطاولات الكشف مغطاة بالصدأ. كلما سألت المدير عن شيء قال لي: "لا توجد نقود".
عندما دخلت غرفة الغسيل اكتشفت جبالا من الملاءات القذرة, ووجدت أن الغسل يتم بالأيدي, وبالأرجل, بطريقة لم تتغير منذ نصف قرن ـ والمطبخ! حسنا ! لا أود الحديث عن المطبخ! عندما أنهيت الجولة كنت مقتنعا أن المدير كان يرى الكثير من أجزاء المستشفى, كما كنت أنا أراها, لأول مرة. في مكتبه وجدت طقم مفروشات فخما لا تقل قيمته, وقتها, عن عشرين ألف ريال. قلت: "كيف وجدت المبلغ لشراء هذا الطقم ولم تجد ألف ريال لاصلاح النوافد؟". لم يجب. نقلت المدير من موقعه إلى عمل آخر وجازيته بخصم راتب شهرين, ونشرت الخبر في الصحف. يبدو من ردود الفعل الفورية, ان هذه كانت المرة الأولى التي يتخذ فيها اجراء صارم كهذا, أو على الأقل المرة الأولى التي يعرف فيها الناس باتخاذ اجراء صارم كهذا".
ويختتم المؤلف كتابه بتخيل استشرافي للوضع الممكن الاداري بعد عشرين سنة والتحديثات التي سيواجهها مديري المستقبل:
"بعد ثلث قرن سوف يصل عدد سكان المملكة إلى أربعين مليون نسمة. تقديم الخدمات الضرورية لشعب بهذا الحجم, كائنا ما سيكون دخل البترول وقتها, هو تحد ترتعد أمامه فرائص أشجع التكنوقراطيين. أكاد أرى, بعين الخيال, اداريا شابا من اداريي المستقبل يدفعه شغفه بالتاريخ القديم إلى قراءة هذا الكتاب. أكاد أسمعه وهو يقول لزميل له بعد أن ينتهي من القراءة: "كم يهو ل هذا الرجل ويبالغ. المشاكل التي قابلته مقارنة بالمشاكل التي نقابلها لا تعدو أن تكون ألعاب أطفال!" لا أعتقد ان هذا التكنوقراطي الشاب يبالغ عندما يقارن, على هذا النحو, بين تحديات القرن الحادي والعشرين وتحديات هذا القرن الذي يوشك, مثلي, أن يطوي خيامه ويرحل بهدوء في ضباب الزمن.
لقد حاولتـ في كل موقع شغلته أن أخدم مواطني بكل طاقتي. خدمت أبناء هذا الجيل أما أبناء الأجيال القادمة, الذين لن يتاح لي شرف رؤيتهم أو خدمتهم, فلا استطيع أن أقدم لهم شيئا سوى قصة هذه الخدمة, مصحوبة بكثير من المحبة وكثير كثير من الدعاء".
"الفئة الأولى هي أبناء الجيل الصاعد الذي آمل ان يتمكنوا من أن يتذوقوا من خلاله نكهة الثورة التنموية التي عاشتها المملكة والتي كان من قدري أن أعاصرها. أما الفئة الأخرى فهي فئة الاداريين الشباب, في القطاعين العام والخاص, الذين أرجو ان يجدوا في تجربتي الادارية الطويلة بعض الدروس النافعة وأن يستخلصوا منها بعض العبر المفيدة".
رغم ذلك, إلا ان انتشار كتابه امتد ليتجاوز هاتين الفئتين ليشمل فئات مختلفة من المجتمع حقق اقبالها على الكتاب مبيعات فاقت خمسين ألف نسخة وهو عدد ضخم لتوزيع كتاب في عالمنا العربي.
هذا الاقبال الكبير على الكتاب ناتج عن كون مؤلفه هو غازي القصيبي الذي كانت فترة توليه وزارة الصحة عام 1982 (1402هـ) حدثا أثار اهتمام الناس ولازالت تلك الفترة الذهبية عهدا يذكره الكثير من المواطنين بالرضى والاستحسان.
وهذا الاقبال على هذا الكتاب الذي أثار كثيرا من الجدل, لأنه كما يقول د.محمد جابر الأنصاري عنه: (مادة سياسية نادرة, وإضاءات دقيقة حية لا اعتقد أن المؤرخين سيجدونها في أي مصدر آخر للتاريخ السياسي السعودي المعاصر).
وأيا كانت أسباب الاقبال على هذا الكتاب الذي يمثل السيرة الذاتية لحياة غازي القصيبي الادارية, فإن تجربة قراءته ممتعة وقادرة على شد انتباه القارئ من الغلاف إلى الغلاف.
يبدأ الدكتور غازي القصيبي سيرته بلمحات عن حياته المبكرة التي بدأت في الاحساء سنة 1359هـ (1940م) وسـبقت بوفاة جده لوالدته وتـبعت بعد تسعة أشهر من ولادته بوفاة والدته.
لا تحظى السنوات المبكرة وحتى بداية المرحلة الجامعية في حياة غازي القصيبي بأكثر من 9 صفحات في كتابه. فالسنوات الخمس الأولى من حياته تكاد تكون مطموسة في ضباب النسيان ـ على حد تعبيره ـ وقد أشار إلى المرحلة الابتدائية والمتوسطة والثانوية إشارة سريعة لم تخلـ من اضاءات ادارية:
"وإذا كان الطابور الصباحي يكشف للطفل, في أسبوعه الدراسي الأول, عدة نماذج ادارية, فإن الفصول سرعان ما تكمل الصورة. يرى الطفل الشخصية الادارية المتشد دة التي ترفض دخول الطفل الفصل بعد ابتداء الحصة بدقيقة أو دقيقتين, وبقاؤه خارج الفصل له نتيجة محتومة واحدة: خيزرانة المدير. ويرى الشخصية الادارية المتساهلة التي لا ترى ان تأخر بضع دقائق يحول بين الطالب والدخول. يرى الطفل المدرس المبتسم والمدرس العابس, المدرس العصبي والمدرس الهادئ, المدرس الذي يؤمن بالضرب والمدرس الذي يؤمن بالكلمة الطيبة. على ان أهم ما يتعلمه الطالب, وهو درس يبقى معه إلى نهاية دراسته الجامعية وما بعد الجامعية, هو التفرقة بين المدرس قوي الشخصية والمدرس ضعيف الشخصية. المدرس الذي يتمتع بالشخصية القوية يسيطر على الفصل بسهولة ودون وعيد أو وعود. أما المدرس الذي يفتقر إلى الشخصية القوية فإنه يعجز عن السيطرة على الفصل حتى حين يعاقب كل طالب في الفصل. ما هو السر وراء قوة الشخصية؟ هذا سؤال من الأسئلة التي حيرت البرية, ولاتزال تحيرها. ما يهمنا, هنا, هو أن الشخصية القوية تشع إشعاعا لا يخطئه أحد, في الفصل وخارج الفصل, في المدرسة وفي كل مكان, في مهنة التدريس وفي كل مهنة.
وإذا كان المدرسون يمثلون عدة نماذج ادارية في عين الطفل, فإن مدير المدرسة يبدو, أمامه, تجسيدا للغول الاداري. تعاقب على المدرسة خلال دراستي مديران كان أحدهما مشهورا بالشدة المتناهية, وأعقبه مدير آخر كان قبل أن يتولى الادارة مشهورا بطيبته ولكنه ما أن أصبح مديرا حتى سلك مسلكا يفوق في الشدة مسلك سلفه. وهكذا يكتشف الطفل, في سن مبكرة, معنى "تغير القبعة" بتغير الموقع يتغير السلوك, هذه الظاهرة يعرفها الناس منذ الأزل, ويعزوها معظم الناس إلى الغرور الذي يـولد, فجأة, مع الموقع الجديد. قد تكون نظرية الغرور صحيحة في بعض الحالات, إلا ان الأصح هو ان الموقع الجديد يفرض على شاغله سلوكا جديدا ".
والتقى غازي القصيبي (الطالب الجامعي بكلية الحقوق بالقاهرة) لأول مرة بالبيروقراطية الحقيقية حين حاول الحصول على شهادة انتسابه إلى الكلية واستغرقت عدة أيام وعن هذه التجربة البيروقراطية المبكرة تولدت نظرته الحالية التي أوردها في سياق الكتاب:
"إلى ذلك العهد البعيد يعود إحساسي العميق ان الأنظمة المعقدة هي المسئولة عن كثير من الفساد. وإلى ذلك العهد البعيد يعود اقتناعي أن السلطة العامة يجب أن تكون في خدمة الناس بدلا من أن توظف الناس لخدمتها. منذ أن توليت عملا له علاقة بالآخرين وإلى هذه اللحظة لا أذكر أني نمت ليلة واحدة وعلى مكتبي ورقة واحدة تحتاج إلى توقيع, كنت, ولا أزال, أدرك أن التوقيع الذي لا يستغرق من وقت صاحبه سوى ثانية واحدة قد يـعطل مصالح الناس عدة أيام. قيل الكثير عن تجربتي الادارية سلبا وايجابا , على أنه بالغة ما بلغت عيوبي الادارية, وأنا أملك نصيبي منها, فإن أحدا لم يزعم أن البطء أو التعقيد ضمن هذه العيوب".
وغازي الموهوب لدينا في الرواية والشعر والادارة يعترف بأنه لا يملك مواهب تجارية رغم انها عمل أسرته عبر عدة أجيال وجوابه عن سبب ذلك:
"الجواب: ببساطة انني خلقت بلا مواهب تجارية. وكنت على المام تام بهذه الحقيقة. تتضح المواهب التجارية, شأنها شأن معظم المواهب, في سن مبكرة من عمر الإنسان. روى لي تاجر مرموق أنه بدأ تجارته ببيع الدفاتر على زملائه ولم يكن قد بلغ السابعة. وروى لي تاجر مرموق آخر انه كان قبل دخول المدرسة الابتدائية يدخر مصروفه الضئيل ويشتري حلوى يبيعها على الأطفال في الحارة. إنني اعتقد, جازما , انني لو دخلت ميدان التجارة لما حققت أي نجاح. غريزة التملك تضرب بجذورها في أعماق كل إنسان, وأنا لا اختلف في هذا الصدد عن غيري. إلا أني لم أحس, قط بذلك التحرق إلى جمع ثروة طائلة, وهذا التحرق, بالذات هو الذي يحرك كل تاجر ناجح".
ويشير المؤلف إلى ان أهم ما تعلمه أثناء دراسته الماجستير في الولايات المتحدة في تخصص العلاقات الدولية ناتج عن دراسته المعمقة لعالم السياسة الألماني الأمريكي هانس. ج. مورجنثاو الذي كتب عنه رسالة الماجستير والذي يقول عنه المؤلف في الكتاب مسجلا وجهة نظر ادارية لهذا العالم:
"يرى هذا الباحث ان السياسة كانت, منذ الأزل, وتبقى, إلى الأبد, صراعا على القوة وما المقصود بالقوة؟ محاولة اخضاع الآخرين لسلطة المرء. يمضي مورجنثاو فيقول انك لا تستطيع ان تخضع الآخرين لسلطتك, أي تجعلهم ينفذون ما تريد أن ينفذوه ويمتنعوا عما تريد أن يمتنعوا عنه, إلا عن طريق ثلاثة دوافع, الرغبة في الثواب, أو الخوف من العقاب, أو الحب والاحترام. كل هذا يهم عالم السياسة, فماذا عن الاداري؟ الدرس الاداري الكبير الذي تعلمته, وقتها, ولم أنسه حتى الآن, يتعلق بترتيب الأولويات. عليك ان تبدأ بتحفيز الآخرين عن طريق الحب والاحترام, أن تحبهم فتجعلهم يحبونك, وتحترمهم فتجعلهم يحترمونك, وسوف تجد كل رغباتك قد تحققت. عندما يتعذر الوصول إلى الهدف عن هذا الطريق لك أن تلجأ إلى الاغراء بالثواب. عندما يفشل هذا المسعى, وعندها فقط, لك ان تلجأ إلى آخر العلاج, العقاب أو التلويح به. كان هذا هو الأسلوب الذي اتبعته مع أبنائي, وكان هذا هو الأسلوب الذي اتبعته في التعامل مع كل من عمل تحت رئاستي. هناك فرق شاسع بين من يطيعك حبا ومن يطيعك خوفا .
إنني مؤمن ايمانا جازما أن القائد الاداري يخطئ خطأ فادحا عندما يستخدم أسلوبا عنيفا في سبيل الوصول إلى أهدافه إذا كان بوسعه استخدام الرقة. كما أن القائد الاداري الذي يجبن عن استخدام الشدة, حين لا يكون هناك بديل هو إنسان لا يستحق أن يوضع في موضع القيادة. شعرة معاوية الادارية, التي تشد وترخى, هي التي تشكل الفرق بين المدير الضعيف والمدير الفعال والمدير الطاغية.
وغازي الذي يعشق الطموح والانتصار يبين لنا انه لم يكن كذلك في سني شبابه المبكرة:
"أستطيع ان اؤكد انني في تلك المرحلة من العمر, منتصف العشرينات, أي فورة الشباب لم أكن اتحرق على نار الطموح. عبر حياتي الدراسية كلها لم أشعر, قط, ان هناك شيئا في داخلي يحفزني إلى المنافسة والتفوق على الآخرين. عندما رزقني الله بنتا وثلاثة أولاد كنت أقول لهم انني اكتفي منهم بالنجاح ولا أتوقع الامتياز. أرجو ألا أعطي شباب هذا الجيل مثلا سيئا إذا قلت أني لم أكن, في أي فترة من حياتي الدراسية, طالبا مثاليا يعكف على الدراسة آناء الليل وأطراف النهار. كنت أبذل الجهد المطلوب, لا أكثر ولا أقل. ولم يكن للمنافسة دور في تجديد هذا الجهد. المنافسة, حتى في الألعاب لا تستهويني. أقلعتـ عن لعب الشطرنج, وكنت أولعت به فترة, عندما لاحظت ذلك التصميم المتجهم على "قتل" الطرف الآخر. لعبة الملاكمة, في رأيي, ردة وحشية إلى عصور الغاب. عندما أتابع مباراة في كرة القدم, وأنا لا أفعل ذلك إلا نادرا , اتابعها بحد أدنى من الانفعال, إن رغبتي في اتقان ما أقوم به من عمل لم تعن, قط, رغبتي في التفوق على أي انسان آخر. كنتـ, ولا أزال, أرى ان هذا العالم يتسع لكل الناجحين بالغا ما بلغ عددهم. وكنتـ, ولا أزال, أرى ان أي نجاح لا يتحقق إلا بفشل الآخرين هو, في حقيقته, هزيمة ترتدي ثياب النصر".
وعن تجربته التلفزيونية وما حققته من شهرة له, يورد المؤلف مقارنة طريفة بين هذه التجربة وتجربة نشر دواوينه الشعرية:
"بدأت اكتب مقالات نصف شهرية في جريدة "الرياض". وبدأت أعد برنامجا تلفزيونيا أسبوعيا يتابع التطورات الدولية باسم "أضواء على الأنباء". في البداية كان الصديق الدكتور سليمان السليم يشاركني تقديم البرنامج, ثم انسحب وتركني بمفردي. حقق لي هذا البرنامج من الشهرة خلال أسابيع ما لم تحققه ثلاثة دواوين من الشعر خلال أكثر من عشر سنوات. كان الناس حيثما ذهبت, يسألون: "هل أنت فلان الذي نراه في التلفزيون؟" قال اللورد بيروت: "نشرت ديوانا . ونمت. وصحوت فوجدت نفسي مشهورا ". حسنا ! قدمت برنامجا تلفزيونيا . ونمت. وصحوت. فوجدت كل من ألقاه في الشارع يعرفني".
ويستمر المؤلف في سرد سيرته الادارية دكتورا ثم استاذا في الجامعة ثم عميدا لكلية التجارة مسلطا الضوء على مواقف ادارية وذكريات شخصية واسماء تأتي وتغيب بين السطور.
وخلال فترة عمادته تبلورت ملامح أسلوبه في الادارة الذي يسميه بـ(الأسلوب الهجومي) والذي يختلف عن الأسلوب الدفاعي في الادارة ـ وفقا للمؤلف ـ بأن:
"الإداري الهجومي لا ينتظر القرارات ولكن يستبقها, والاداري الدفاعي يحاول أن يبتعد عن اتخاذها. الهجومي لا ينتظر حتى تتضخم المشاكل, أما الدفاعي فلا يتعامل مع أي مشكلة إلا بعد أن تتخذ حجما يستحيل معه تجاهلها. الهجومي لا يدير المؤسسة من مكتبه ويحرص على أن يكون في الموقع أكبر وقت ممكن, أما الدفاعي فلا يغادر مكتبه إلا في المحن والأزمات. الهجومي يعتبر نفسه مسؤولا عن تطوير الجهاز وإصلاحه, أما الدفاعي فلا يرى لنفسه مهمة تتجاوز الادارة اليومية. الهجومي لا يخشى أن يكون موضع جدل, أما الدفاعي فيتجنب كل ما يثير الجدل. الهجومي ينفق كل الاعتمادات ويطالب بالمزيد, أما الدفاعي فيستوي عنده الإنفاق والتوفير. الهجومي لا يسمح للمعارضة أن تثنيه عن موقفه, أما الدفاعي فيتراجع عند اصطدامه بأول جدار. لعل الفارق الكبير أن الهجومي لا يهمه أن يخسر وظيفته أما الدفاعي فكل شيء يهون لديه في سبيل البقاء في موقعه. لا أريد أن يفهم أحد أن الأسلوب الهجومي هو, بالضرورة, أفضل من الأسلوب الدفاعي. هناك مؤسسات لا يمكن أن تدار بأسلوب هجومي, كوزارات المالية والخارجية والتخطيط وأجهزة المراقبة, ومؤسسات ينعشها الأسلوب الهجومي, كوزارات الخدمات بصفة عامة".
ويستمر غازي في التنقل بين المواقع الادارية التي شغلها إلى ادارة سكة الحديد ثم توليه وزارة الصناعة والكهرباء ثم الصحة ثم سفيرا للسعودية في البحرين ثم بريطانيا.
وفي اثناء ذلك ينثر آراءه الادارية في ثنايا هذه المراحل. فعن رأيه في ان يكون المسؤول متخصصا في مجاله الاداري يقول:
"في دول العالم الثالث تسود نظرة تذهب إلى أن الوزير يجب أن يكون من المتخصصين: طبيب لوزارة الصحة, ومهندس كهرباء لوزارة الكهرباء, ومهندس بترولي لوزارة البترول, وهل م جرا. إن التخصص, في غياب الصفات القيادية الثلاث, لا يعني شيئا . بل إني اذهب أبعد من ذلك فأقول ان الوزير المتخصص قد يكون أقل فعالية من الوزير غير المتخصص. لماذا؟ هناك سببان رئيسيان. السبب الأول ينبع من غريزة بشرية متأصلة: الناس أعداء ما جهلوا وأصدقاء ما عرفوا. من هذا المنطلق لا نستغرب إذا وجدنا الوزير المتخصص يركز على تلك الأمور التي يتقنها والتي أفنى زهرة شبابه في دراستها. ينزع وزير الصحة الطبيب إلى الدخول في التفاصيل الطبية الدقيقة وينزع وزير الكهرباء المهندس إلى مناقشة كل صغيرة وكبيرة في المخططات الكهربائية الهندسية. لا ضرر, من حيث المبدأ, في هذا التركيز إلا أنه, في الواقع, يؤدي إلى اهمال الوزير ما هو أهم من التفاصيل الفنية الدقيقة. والسبب الثاني ينبع من حقيقة معروفة: يشكل أعضاء كل مهنة نقابة ـ فعلية أو معنوية ـ يلتزم اعضاؤها بالولاء المتبادل. لا تجد طبيبا ينتقد طبيبا آخر علنا , ولا تجد مهندسا يغض, صراحة, من شأن مهندس آخر. "روح النقابة" هذه تؤثر, بطريقة شعورية أو لا شعورية, على قرارات الوزير المنتمي إلى النقابة. عندما يكون وزير الصحة طبيبا فإنه يجد نفسه مشدودا إلى زملاء مهنته على نحو يصعب معه أن يعاملهم بحياد أو موضوعية. لكل قاعدة استثناءاتها العديدة, إذا تمكن الوزير من الجمع بين التخصص وبين الصفات القيادية فإنه يكون قد جمع المجد من أطرافه".
أما المتابعة الدقيقة لجميع التفاصيل الادارية من قبل المسؤول فإن للمؤلف موقفا معارضا لها:
"كيف يستطيع الوزير الذي يوقع كل يوم عشرات القرارات, وربما مئاتها, بالعمل خارج وقت الدوام أن يقرأ دراسة جدوى اقتصادية من ألف صفحة؟ الجواب أن الذين يوقعون قرارات كتلك لا يقرأون دراسات كهذه.
كنتـ, ولا أزال, أعجب من الوزراء الذين يحصون كل كبيرة وصغيرة في أيديهم لأنني أعلم ان الذي ينفق وقته في التوافه لن يجد متسعا من الوقت للعظائم. كما أنني كنتـ, ولا أزال, أعجب من الوزراء, الذين لا تربطهم بوكلائهم ثقة متبادلة وولاء متبادل لأني لا أعرف, في غياب هذه الثقة وهذا الولاء, كيف يمكن أن تسير الأمور في الوزارة. كنت أعرف أكثر من حالة لوزير لا يرى الوكيل إلا مرة كل بضع شهور وكنت أشعر بالرثاء للاثنين معا ".
ويحكي المؤلف عن معاناته الشخصية متمثلة في الضغط النفسي والجسدي الذي لاقاه أثناء توليه منصب وزارة الصناعة والكهرباء وحين دخوله المستشفى إثر نزيف حاد:
"لم يكن بالامكان أن تمر هذه السنوات المثخنة بالأزمات دون أن تترك بصماتها على الروح وعلى الجسد. أما ألم الروح فحديثه يطول, وليس هذا موضعه, وأما الجسد فقد لقى نصيبه الكامل من العذاب. دخلت المستشفى, مرتين, على إثر نزيف حاد في القرحة. في المرة الأولى كان النزيف خطرا ولم توقفه إلا عملية جراحية عاجلة. دخلت المستشفى بعد ذلك أكثر من مرة بسبب أعراض مختلفة كان الأطباء مجمعين أنها نشأت بسبب الإرهاق. ماذا أقول؟ "لولا المشقة ساد الناس كلهم"!"
وعن مظهر يميز تجربته الادارية وهو (الزيارات المفاجئة) يحكي الدكتور غازي القصيبي تجربة أول زيارة مفاجئة:
"بدأت عهدي في وزارة الصحة بداية مدوية. بدأت بزيارة مستشفى في جدة دون إنذار مسبق. (أعتقد, ولا أعلم, أن الزيارات المفاجئة كانت نادرة الحدوث قبلي). دخلت بدون بشت ـ لم ألبس البشت في أي زيارة ـ ووقفت مع المراجعين. بعد فترة, عرفني أحد المرضى وجاء يسلم علي . تنبه الموظفون وتنبه المدير الذي جاء مسرعا بادي الاستغراب. كان خبر تكليفي بالوزارة أذيع ذلك الصباح, ولم يكن الخبر انتشر. ماذا يفعل وزير الصناعة والكهرباء في المستشفى؟ عندما علم المدير أني وزير الصحة بالنيابة زاد استغرابه. ماذا يفعل وزير الصحة في المستشفى؟ وعندما قلت له إنني أريد أن أزور "كل شبر" في المستشفى وصل الاستغراب حد الذهول.
كانت الأوضاع مزرية: كثير من النوافذ بلا زجاج, وطاولات الكشف مغطاة بالصدأ. كلما سألت المدير عن شيء قال لي: "لا توجد نقود".
عندما دخلت غرفة الغسيل اكتشفت جبالا من الملاءات القذرة, ووجدت أن الغسل يتم بالأيدي, وبالأرجل, بطريقة لم تتغير منذ نصف قرن ـ والمطبخ! حسنا ! لا أود الحديث عن المطبخ! عندما أنهيت الجولة كنت مقتنعا أن المدير كان يرى الكثير من أجزاء المستشفى, كما كنت أنا أراها, لأول مرة. في مكتبه وجدت طقم مفروشات فخما لا تقل قيمته, وقتها, عن عشرين ألف ريال. قلت: "كيف وجدت المبلغ لشراء هذا الطقم ولم تجد ألف ريال لاصلاح النوافد؟". لم يجب. نقلت المدير من موقعه إلى عمل آخر وجازيته بخصم راتب شهرين, ونشرت الخبر في الصحف. يبدو من ردود الفعل الفورية, ان هذه كانت المرة الأولى التي يتخذ فيها اجراء صارم كهذا, أو على الأقل المرة الأولى التي يعرف فيها الناس باتخاذ اجراء صارم كهذا".
ويختتم المؤلف كتابه بتخيل استشرافي للوضع الممكن الاداري بعد عشرين سنة والتحديثات التي سيواجهها مديري المستقبل:
"بعد ثلث قرن سوف يصل عدد سكان المملكة إلى أربعين مليون نسمة. تقديم الخدمات الضرورية لشعب بهذا الحجم, كائنا ما سيكون دخل البترول وقتها, هو تحد ترتعد أمامه فرائص أشجع التكنوقراطيين. أكاد أرى, بعين الخيال, اداريا شابا من اداريي المستقبل يدفعه شغفه بالتاريخ القديم إلى قراءة هذا الكتاب. أكاد أسمعه وهو يقول لزميل له بعد أن ينتهي من القراءة: "كم يهو ل هذا الرجل ويبالغ. المشاكل التي قابلته مقارنة بالمشاكل التي نقابلها لا تعدو أن تكون ألعاب أطفال!" لا أعتقد ان هذا التكنوقراطي الشاب يبالغ عندما يقارن, على هذا النحو, بين تحديات القرن الحادي والعشرين وتحديات هذا القرن الذي يوشك, مثلي, أن يطوي خيامه ويرحل بهدوء في ضباب الزمن.
لقد حاولتـ في كل موقع شغلته أن أخدم مواطني بكل طاقتي. خدمت أبناء هذا الجيل أما أبناء الأجيال القادمة, الذين لن يتاح لي شرف رؤيتهم أو خدمتهم, فلا استطيع أن أقدم لهم شيئا سوى قصة هذه الخدمة, مصحوبة بكثير من المحبة وكثير كثير من الدعاء".
لتحميل الكتاب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..