الأحد، 10 أكتوبر 2010

قبسات من تاريخ المملكه العربيه السعوديه المعاصر~نشأتها وتطوراتها

 بسم الله الرحمن الرحيم
تبلغ مساحة المملكة العربية السعودية 1,960,582 كلم مربع، أي أنها توازي نصف مساحة بلدان الاتحاد الأوروبي مجتمعة، أو ربع مساحة الولايات المتحدة الأمريكية بكاملها. وهي تمتد من البحر الأحمر غرباً إلى مياه الخليج شرقاً، وتحاذي كل من الأردن والعراق والكويت شمالاً، واليمن وعمان جنوباً، كما تقع دول الامارات العربية المتحدة وقطر والبحرين على أطرافها الشرقية، ويقدر عدد سكانها بـ 27 مليون نسمة.

تعرف السعودية بقسوة مناخها الصحراوي إذ تكاد تخلو من الأنهار إلا من بضعة جداول صغيرة دائمة، فهي موطن الربع الخالي الذي يعتبر أوسع مساحة صحراوية قاحلة في العالم، كما تشمل سلسلة من الجبال في منطقة عسير يزيد ارتفاعها عن تسعة آلاف قدم.

تتألف العربية السعودية من عدة مناطق أهمها ما يعرف بالمنطقة الوسطى وقد سمّيت تاريخياً بمنطقة نجد وعاصمتها الرياض، وهي العاصمة السياسية والإدارية للمملكة، ومنطقة الحجاز حيث المدينتين المقدستين مكة المكرمة والمدينة المنورة، إلى جانب جدة التي تقع على البحر الأحمر وتعتبر العاصمة التجارية، كما تشمل الحجاز مدينة الطائف. عرفت المنطقة الشرقية تاريخياً بالإحساء وعاصمتها الدمام. أما المنطقة الجنوبية فاشتهرت بلقب عسير وعاصمتها أبهى، بينما تعتبر تبوك من أهم المدن في المنطقة الشمالية.


كانت الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر مقسمة إلى عدة إمارات ومشيخات يهيمن على كل بلدة أو قرية منها شيخ يحكمها ويدير شئونها ويفرض الآتاوة على سكانها ويسعى إلى توسيع رقعة نفوذه على حساب المناطق المجاورة. ويجمع الباحثون على تقسيم التاريخ السعودي في الجزيرة العربية إلى عهود ثلاث :

1- الفترة الممتدة بين عامي 1744 و1817

تقول الحكاية السعودية أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد وصل إلى منطقة الدرعية السعودية بعد ملاحقته وطرده من العينية في اليمن، فأمضى ليلة عند عبد الله بن سويلم أحد أنساب آل سعود، وكان الأمير محمد بن سعود حاكماً شديد البأس، له سطوة على أهل بلدته، وقد خشي ابن سويلم من غضبه، فنقله إلى منزل قريبه وابن عشيرته أحمد بن سويلم، الذي كان على صلة بشقيقي الأمير السعودي ثنيان ومشاري اللذان حاولا إقناع شقيقهما بمقابلة الشيخ الجليل والاستفادة من دعوته الدينية، فأبى.

لجأ الأخوان سويلم إلى زوجة شقيقهم، موضى بنت محمد بنت سويلم، وكانت ذات فطنة وذكاء، فأخبراها بما ينادي به الشيخ وأهداف دعوته، وحين أدركت أهمية هذا الشيخ في توسيع نفوذ زوجها تحدثت معه فقالت : إن هذا الرجل أتى إليك، وهو غنيمة ساقها الله لك، فأكرمه وعظمه، واغتنم نصرته.

قبل الأمير محمد بن سعود نصيحتها وسار إلى منزل أحمد بن سويلم، حيث رحب بالشيخ قائلاً : أبشر ببلاد خير من بلادك، وأبشر بالعز والمنعة. فأجابه محمد بن عبد الوهاب بالقول : وأنا أبشرك بالعزّ والتمكين[1].

ويضيف غسان ابراهيم في جانب آخر من كتابه أن الأمير محمد قال حينها للشيخ : "أبشرك بالنصر لما أمرت به، والجهاد ضد من خالف التوحيد، ولكني أريد أن أشترط عليك اثنتين، الأولى/ نحن إن قمنا بنصرتك وفتح الله لنا ولك البلدان، أخاف أن ترحل عنا وتستبدل غيرنا. والثانية/ إن لي على الدرعية قانوناً آخذه منهم في وقت الثمار (ضريبة يفرضها على موسم الحصاد) وأخاف أن تقول لا تأخذ منهم شيئاً. فأجابه الشيخ : "أما الأولى فابسط يدك، الدم الدم والهدم الهدم. وأما الثانية فلعل الله يفتح لك فيعوضك من الغنائم ما هو خير منها". فبسط محمداً يده وبايع الشيخ مؤيداً حركته التوحيدية.

وهكذا نشأ التحالف الأهم في تاريخ الدولة السعودية الأولى، حيث اعتبر ما عرف باتفاقية الدرعية بين الشيخ والأمير نوعاً من تقسيم السلطات بين دينية ودنيوية فمُنح الشيخ محمد عبد الوهاب مؤسس الحركة التوحيدية المعروفة بالوهابية (تعتمد على كتاب التوحيد للشيخ عبد الوهاب حتى يومنها هذا وقد أصبحت تعرف بالسلفية) السلطة الدينية في المناطق التي يتمكّن منها آل سعود مقابل منح الأمير محمد بن سعود السلطة في جميع المسائل الدنيوية.

وهكذا قدم آل سعود الأرض التي يستولون عليها والأمن لآل الشيخ، وهو الاسم الذي عرفت به عائلة محمد بن عبد الوهاب لاحقاً، مقابل ما قدمه هذا الأخير وحركته التوحيدية (الوهابية) من تغطية شرعية وفتاوى دينية تؤيد حملات آل سعود ضد العثمانيين وغزواتهم على القبائل المنتشرة في أنحاء شبه الجزيرة العربية.

أدى ذلك التحالف إلى اتساع قاعدة نفوذ آل سعود حتى شملت معظم أجزاء الجزيرة العربية الوسطى في غضون عقدين من الزمن، كما يؤكد أيمن الياسيني.[2]

لم يواجه الأمير محمد منافسة تذكر من أبناء أسرته على السلطة لما أحرزه من نجاحات متتالية، فبقي في الحكم حتى عام 1765 حيث تولى ابنه البكر عبد العزيز بن محمد الحكم حتى عام 1803 ليسلمه لابنه سعود بن عبد العزيز الذي بقي في السلطة حتى عام 1814. أي أن أول خلافتين مرتا بسلام، دون أي نزاع داخلي في الأسرة، بل استطاع الخليفتان توسيع رقعة النفوذ السعودي بضم المزيد من أراضي الجزيرة العربية.

كان العثمانيون في تلك الفترة يحكمون منطقة الحجاز ويستمدون شرعيتهم في الخلافة من حماية المقدسات في مكة والمدينة، وقد أساءهم ما يحرزه الموحدون من توسع بتحالفهم مع آل سعود وإجبار القبائل والعشائر على اعتناق الوهابية. إلا أن المواجهات الأولى بين العثمانيين والتحالف السعودي الوهابي لم تكن في صالح السلطنة، التي سرعان ما لجأت إلى حاكمها في مصر، محمد علي باشا وحثته على اجتياح الحجاز لهزيمة الموحدين.

سار سعود بن عبد العزيز على خطى والده وجدّه فجعل ابنه عبد الله ولياً للعهد، وقد نجح هذا بداية في مقارعة المصريين حتى هزم على أيديهم عام 1812 فخسر منطقة الحجاز. وعند وفاة والده بعد ذلك بعامين تولى الحكم من بعده ليواجه تحديات ونزاعات داخلية ومنافسة بين أفراد الأسرة الواحدة على السلطة، أسهمت في زعزعة نفوذه وسقوط الدرعية عاصمة آل سعود عام 1818 حيث أسر عبد الله واقتيد إلى القسطنطينية وقطع رأسه عام 1819.

مع حلول عام 1822 كانت القوات العثمانية المصرية قد واجهت مصاعب قاتلة في صحاري نجد القاسية، ولم يعد للمصرين مصلحة سياسية في البقاء هناك، فانسحبوا من المناطق الوسطى في الجزيرة العربية، كما يرد في كتاب عبد الصالح العثيمين[3].

ويقول جوزيف أ. كيشيشيان[4] إن تلك المرحلة قد شهدت دخول آل سعود في حقبة من النزاعات والتنافس الداخلي الحاد في ظل غياب زعيم واحد أو سيطرة فرع واحد على الأسرة، ما أدى إلى تعاون العديد من المتنافسين مع السلطات المصرية لضرب إخوانهم من الأسرة ذاتها.



2- من 1824 إلى 1891

تشابه نظام الخلافة في الجزيرة العربية في بعض جوانبه مع ما كان متوارثاً من نماذج في العالم الإسلامي حيث لم يتحدد تناقل السلطة بوضوح وفق التسلسل العمودي أو اعتماده على مبدأ البكورة إلا في الظاهر. فغالباً ما كا الابن الأقوى بين الحكام العثمانيين مثلاً على المنافسين من إخوته، ففي عهد محمد الأول (1413-1421) جرى إدخال ما عرف بـ "قانون قتل الأخوة" الذي يخول من يستولي على الحكم قتل سائر إخوته المنافسين للقضاء على أي تمرد محتمل.

وقد اتبع هذا النهج بأبشع أشكاله السلطان محمد الثالث الذي استولى على العرش عام 1595 وقتل 19 من إخوته، كما لم يستثن البالغين من أبنائه بحجة القضاء على احتمالات الثورة ضده. توفي محمد الثالث عام 1603 وله وريثان قاصران هما أحمد ومصطفى، حكما من بعده تقديراً لمكانتهما وليس لقدراتهما. ما شكل تراكماً لإضعاف السلطات العثمانية وتراجعاً في أدائها.

بقي الأمر على هذا المنوال حتى مجيء السلطان أحمدية الذي استبدل مبدأ قتل الأخوة بسجنهم وذلك ضمن ما عرف بنظام "الخفص" أو القفص، وهو يكمن في عزل الأخوة والأبناء وأبناء الأخوة في قصور نائية بعيدة عن القسطنطينية يتم فيها عقم المحظيات لضبط عمليات التناسل حتى تستدعي الحاجة إلى خليفة راشد ليتم إخراجه من هناك وإعداده لتولي الحكم.

وقد تعرضت أعداد كبيرة من السلاطين لهذا النظام الذي لم يقطعه إلا بعض الحكام الدهاة كالسلطان عبد الحميد (1774-1789) الذي أمر بتعليق نظام الخفص لما كان يسببه من اضطرابات شخصية وأمراض نفسية في أوساط الأسر الحاكمة. ويقال إن ابن السلطان عبد الحميد قد تضرر من نظام الخفص، ما أجبره على اختيار ابن أخيه السلطان سليم الثالث (1789-1807)

ليحكم من بعده.


حالات قتل الأخوة من 1516 م إلى 1750 م[5]

السلطان
عدد القتلى
تاريخ القتل
علاقة الأمراء القتلى بالسلطان القاتل

سليم الأول

سليمان الأول

مراد الثالث

محمد الثالث



عثمان الثاني

مصطفى الأول

مراد الرابع

محمد الرابع

عثمان الثالث
1

11

5

21 (19) (2)

1

2

3

1

1
1518 م

1522 – 1560

1974 م

1595 م

1597 – 1603

1621 م

1622 م

1635 – 1638

1648 م

1756
ابن أخيه

ابن الأخ وأولاده، أبنائه، أجداده

إخوته

إخوته

أبنائه

أخيه

أبناء أخيه (عندما أعيد إلى الحكم)

اخوته

أبيه

ابن عمه

السلاطين الذين دخلوا القفص ومدتهم فيه :1517 – 1780 م[6]



السلطان الذي حُبِس في القفص
سنه عند دخول القفص
الفترة التي قضاها في القفص

قبل توليه العرش
بعد توليه العرش
إجمالي الفترة

صطفى الأول

عثمان الثاني

مراد الرابع

ابراهيم

محمد الرابع

سليمان الثاني

أحمد الثاني

مصطفى الثاني

أحمد الثالث

محمود الأول

عثمان الثالث

مصطفى الثالث

عبدالحميدالأول

سليم الثالث
سنه

12

12

05

20

46

06

05

23

14

07

05

14

05

12
شهر سنة

- 14

- -

03 26

- 22


- 30

- 43

- 07

- 16

- 27

- 51

- 27

- 43

- 15
شهر سنة

- 19

- -

- -

- -

- 05

- -

- -

03 -

06 -

- -

- -

- -

- -

- 01
شهر سنة

- 33

03 -

- 06

- 22

- 05

- 30

- 43

03 07

06 06

- 27

- 51

- 27

- 43

- 16

لم تطبق أي من هذه المبادئ بين قبائل الجزيرة العربية، علماً أن معظمها كان معروفاً في أوساط الأسر هناك، وربما حالت مفاهيم الحفاظ على لحمة الجماعة البدوية دون ذلك، إلاّ أن هذا لم يضع نهاية للصراعات الدموية على الخلافة في أوساط جميع الأسر الرئيسة الحاكمة في الجزيرة العربية بما في ذلك آل سعود.

كان تركي بن عبد الله (حفيد محمد بن سعود وعم عبد الله بن سعود) قد استطاع الهرب من المطاردة العثمانية والمصرية في ضواحي نجد الصحراوية القاحلة، وفي آب أغسطس من عام 1824 كما استطاعت الفروع المختلفة من آل سعود استعادة نفوذها في الرياض وفتحها وإعلانها عاصمة جديدة لآل سعود. وقد شكل اعتلاء تركي بن عبد الله أول بديل لفرع عبد العزيز في تولي السلطة.

سرعان ما استطاع عدد من أفراد آل سعود الهرب من مصر والعودة إلى الجزيرة العربية، وكان من بينهم فيصل بن تركي الذي عينه والده ولياً للعهد، لتشهد الأسرة بعد ذلك نزاعات داخلية حادة انتصر فيها تركي بن عبد الله على ابن عمه مشاري بن عبد الرحمن سنة 1831. وبعد سنوات ثلاث (1834) تمكن أحد رجال مشاري من اغتيال تركي، ليشكل ذلك أول اغتيال تم تسجيله داخل الأسرة السعودية منذ قيام سلطتها الأولى عام 1744، كما يرد في كتاب عبد الصالح العثيمين[7].

ويتابع الكتاب أن مشاري لم يبق طويلاً في الحكم فقد تم اغتياله على يد الأمير فيصل، أحد أبناء تركي الذي استولى على الرياض وأعلن نفسه حاكماً على البلاد. ولكن عهد فيصل بن تركي قد انقطع بعودة القوات المصرية عام 1838 إذ قامت بطرده وتعيين خالد بن سعود ليعود بذلك الفرع الذي كان مهيمناً على السلطة في السابق.

ما لبث أن ضغط البريطانيون على محمد علي الذي سحب قواته سنة 1949 ما أدى إلى خلع الأمير خالد بن سعود على يد قريب له هو عبد الله بن ثنيان. ويبدو أن البريطانيين ساهموا في إعادته بعد فراره إلى البحرين من الأسر المصري. فعاد وحكم للمرة الثانية في فترة تعتبر واحدة من الأكثر استقراراً في الجزيرة العربية.

وقد ساهم في هذا الاستقرار، كما يقول هـ. سانت جون فلبي H. St. John Pholby[8]، مجموعة التدابير التي شجع من خلالها الولاء لحكمه من خلال التعيينات وعلاقات المصاهرة، ومنح امتيازات مالية للأعمال الناشئة، ما شكل دروساً لم تنتفع منها الأجيال التالية من آل سعود.

مع وفاة فيصل عام 1865، غاصت الأسرة الحاكمة في حقبة طويلة من النزاعات الدموية التي بلغت حد الصراعات والحرب الأهلية التي اشتعلت شرارتها مع تعيين فيصل ابنه البكر عبد الله ولياً للعهد، حين جوبه من قبل أخيه الأصغر سعود، فكانت النتيجة اشتعال حرب أهلية دامت لأكثر من عشر سنوات، تحالف خلالها الأشقاء مع العثمانيين والبريطانيين لضرب بعضهما البعض حتى نجح سعود بخلع أخيه عبد الله عام 1871.

توفي سعود سنة 1875 فارتقى شقيقه الأصغر عبد الرحمن بن فيصل إلى سدة الحكم. وسرعان ما وقف أبناء سعود ضد عمهم، فقام تحالف ثلاثي بين هذا الأخير مع شقيقه عبد الله في بادية عتيبة وشقيق ثالث لهما لهزيمة أبناء عمهم سعود، وما إن تغلبوا عليهم سنة 1878 حتى تنازع الأشقاء أنفسهم على السلطة في الرياض فخلع عبد الرحمن على يد أخيه وحليفه السابق عبد الله بن فيصل الذي استعاد السلطة بدعم من العثمانيين عام 1889 وبقي فيها حتى وفاته حيث استولى شقيقه عبد الرحمن على مقاليد الحكم ولم ينعم بها إلا بضعة أشهر فقط.

يقول هـ. سانت جون فلبي[9]، أن سلالة آل سعود قد أنهكت من جراء الاقتتال الداخلي الذي استمر عقوداً سفكت خلالها دماء كثيرة، حتى تم الاستيلاء على الرياض من قبل محمد بن رشيد (أحد أجداد محمد بن طلال آل رشيد، جد الأمير فيصل بن مساعد من طرف أمه) وهو من أسرة نجدية منافسة عرفت بعائلة آل الرشيد، وذلك إثر تسلم عبد الرحمن بن فيصل الذي فشل مع غيره في محاولة التمرد على آل الرشيد سنة 1890، فقام هؤلاء بنفيه مع أسرته إلى البحرين حيث غادر منها متوجها إلى الكويت.

3- من 1902 إلى 1932

"لا تنسوا أن ما من رجل منكم إلا وذبحنا أباه أو أخاه أو ابن عمه، وما ملكناكم إلا بحد السيف، ترى صحيح والسيف بيدنا، ولا تظنوا أن لكم قيمة كبيرة عندنا، أنتم عندنا مثل التراب" هذا ما قاله مؤسس الدولة السعودية الثالثة، الملك عبد العزيز أمام حشد من سكان منطقة نجد بعد استيلائه عليها وفق ما ورد في الجزء الثاني من كتاب (ملوك العرب) للكاتب والمؤرخ المعروف أمين الريحاني.

استمر حكم آل الرشيد في الرياض، وبقيت القوات العثمانية في المنطقة الشرقية، وتوزعت بقية المناطق في شبه الجزيرة العربية على أمرائها المتنازعين على النفوذ فيها حتى عام 1902، حين جاء الملك عبد العزيز إلى الجزيرة العربية قادماً من الكويت مستفيداً من احتدام النزاعات الدولية بين العثمانيين والبريطانيين على المنطقة.

تمكن عبد العزيز من احتلال الرياض وقتل حاكمها من آل الرشيد الذين كانوا يحكمون وسط الجزيرة العربية، ثم استولى على وسط نجد عام 1904 وتبعتها منطقة القصيم عام 1908 ثم استولى على الإحساء التي كان يحكمها العثمانيين سنة 1913، حتى اجتاح عاصمة آل رشيد وقضى على دولتهم سنة 1921.

تجدر الإشارة هنا إلى أن النزاعات الدموية العنيفة التي سادت أوساط آل رشيد على السلطة في تلك الحقبة هي التي مكنت آل سعود من اختراقهم واستمالة عدد من زعمائهم الطامعين بالسلطة سعياً إلى مزيد من زرع التفرقة في صفوفهم والتغلب عليهم في آخر المطاف، وقد استطعنا صياغة جدول في أساليب التناوب على السلطة بين أبناء آل رشيد خلال الحقبة التي سبقت هزيمتهم على يد عبد العزيز آل سعود لنبين مستوى إراقة الدماء التي سادت أوساط أسرتهم في تلك الحقبة.
نزاعات آل رشيد حتى هزيمتهم أمام آل سعود

التاريخ
إلى
كيف ترك السلطة
انتقال السلطة من

1847
طلال بن عبد الله بن علي بن رشيد
الوفاة الطبيعية
عبد الله بن علي بن رشيد

1867
شقيقه متعب بن عبد الله بن علي بن رشيد
الوفاة في حادث غامض
طلال بن عبد الله بن علي بن رشيد

1869
ابن أخيه بندر
اغتيال على يد ابن أخيه بندر
متعب بن عبد الله بن علي بن رشيد

1869
محمد بن عبد الله
اغتيال على يد عمه محمد
بندر

1897
عبد العزيز بن متعب بعد صراع دموي على السلطة
الوفاة
محمد بن عبد الله

1906
متعب بن عبد العزيز بن متعب
توفي في معركة أمام عبد العزيز آل سعود
عبد العزيز بن متعب

1907
سلطان بن حمود
اغتيال على يد ابن عمه سلطان
متعب بن عبد العزيز بن متعب

1908
سعود بن حمود
اغتيال على يد أخويه سعود وفيصل
سلطان بن حمود

1919
سعود بن رشيد
اغتيال على يد فرع من العائلة في حائل
سعود بن حمود

1920
عبد الله بن طلال
اغتيال على يد ابن عمه عبد الله بن طلال
سعود بن رشيد

1920
عبد الله بن متعب
اغتيال على يد ابن عمه عبيد بن سعود
عبد الله بن طلال

1921

توفي بعد هزيمته وأسره من قبل آل سعود
محمد بن طلال

تتوافق المراجع التاريخية على أن محمد بن طلال كان آخر أمراء آل رشيد الذي أسره عبد العزيز ونقله إلى الرياض ليتزوج من ابنته جواهر ولم ينجب منها في حين زوّج شقيقتها الصغرى وطفاء لابنه مساعد عام 1944، وقد أنجب منها خالد الذي قتل بتهمة التطرف ومهاجمة محطة تلفزيونية عام 1966، وفيصل الذي قام باغتيال عمه الملك فيصل عام 1975[10].

عام 1922 قام عبد العزيز بالقضاء على حكم آل عائض في منطقة عسير في الجنوب الغربي، وبعد مناورات وتحالفات استطاع السيطرة على منطقة الحجاز التي كانت تحت حكم الشريف حسين بن علي وذلك بعد قتال استمر منذ عام 1919 حتى سنة 1934. وكان عام 1932 قد قضى على حكم الأدارسة في الجزء الجنوبي على الحدود مع اليمن وضمها نهائياً إلى الدولة السعودية ليكتمل بذلك العهد الثالث من تاريخها الحديث.

ويستعرض المؤرخ عبد المنعم الغلامي أمجاد الملك عبد العزيز في كتابه (الملك الراشد المغفور له الملك عبد العزيز آل سعود) فيذكر بالتفصيل اثنين وخمسين واقعة حربية خاضها لتثبيت حكمه في الجزيرة العربية، كما يذكر من بينها غزوات شارك فيها وقاد بعضها الملك فيصل، الذي صحبه والده في غزوة ياطيب عام 1917 وهو في الحادية عشرة من عمره، وأوكل إليه قيادة الجيش الزاحف إلى عسير عام 1922 وهو في السادسة عشرة من عمره.

أما عن كيفية تعامل الملك عبد العزيز مع مسألة النزاعات العائلية على الحكم فيقول هارولد سي. آرمسترونغ Harold C. Armestrong[11] يقول إن الملك عبد العزيز قد رفض محاولات خلافة سعود الكبير والعريف وجلوي عند نهاية القرن، إما من خلال المعارك التي شنها ضدهم، أو عبر المصاهرة والاستمالات المتنوعة. ويضيف في جانب آخر أنه حين عارضه أبناء عمه سعود، ووقفوا وراء انتفاضات وحركات تمرد مسلحة خطيرة حصلت في قبيلتي عجمان والحساسنة عام 1908، استعان عبد العزيز بكل ما لديه من وحدات مسلحة للقضاء على الثورة.

ويضيف الكاتب أن عبد العزيز قام في جولة واحدة بجمع 19 قائداً من الأسرى في مدينة ليلى وقام بتنفيذ إعدام علني مؤثر. بعد سقوط 18 رأساً بضربات السيوف، عفا عبد العزيز عن التاسع عشر و"أطلق سراحه ليذهب ويخبر بما رأته عيناه من انتقام ابن سعود العادل" ويبدو أن هذا المثال الصارم للعدالة قد نشر نفوذ عبد العزيز بين أبناء عمومته ومن قد يقف تسول له نفسه الوقوف وراءها من زعماء القبائل.

وقد عرف عن عبد العزيز لجوؤه إلى سبل التحلفات والمصاهرة والمشاركة في الحكم لاستمالة فروع العائلة التي قد تنافسه على الحكم وتشكل خطراً داخلياً عليه. هذا ما عمد إليه بشكل واضح مع الفرع الرئيسي لعائلة آل سعود وهو سعود الكبير كما يسمى في المراجع التاريخية السعودية بلقب العريف.

كانت هذه الأسرة قد أبدت تحدياً واضحاً في أكثر من مناسبة لنظام الخلافة السائد مرتكزة على تقدمها كفرع رئيسي في العائلة، فأحبط عبد العزيز هذه المحاولة بتزويج إحدى أخواته، نورا، بالمطالب الرئيسي بالحكم، سعود بن عبد العزيز بن سعود الكبير، ليستميل بذلك أسرة عبد العزيز الكبير وكسب تأييدها كما جعلها تشارك في حكم فرعه في العائلة.

كما اتبع هذه الطريقة مع حلفائه الموحدين في أسرة الشيخ محمد عبد الوهاب (الوهابية) وقد سار في هذا المجال على خطى سلفه الأمير محمد بن سعود الذي تزوج من ابنة حليفه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهكذا تزوج عبد العزيز من طرفة ابنة عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، التي أنجبت فيصل بن عبد العزيز موضوع بحثنا.

ولكن هذه الطريقة لم تفلح باستمرار كما يقول الكاتب ألكساندر بلاي Alexander Bligh[12]، خصوصاً على مستوى أسرة آل سعود فالأمور لم تكن على هذه السهولة باستمرار.

ويشير المؤلف[13] إلى أن عبد الرحمن بن فيصل بن تركي، والد عبد العزيز قد أنجب عشرة أبناء منهم بالتسلسل فيصل وعبد العزيز ومحمد وسعد وسعود وعبد الله وأحمد ومساعد وسعد، أي أن محمد يأتي بعد عبد العزيز مباشرة، حتى أنهما ولدا في العام 1880 نفسه.

وقد لعب كل من محمد وعبد الله ومساعد أبرز الأدوار السياسية إلى جانب عبد العزيز، كما شكل محمد وعبد الله، في وقت من الأوقات خطراً على مساعي عبد العزيز تشكيل تسلسل عمودي للخلافة، ينقل من خلاله السلطة بالوراثة إلى أبنائه بدل إخوته.

وينقل ألكساندر بلاي عن أحد التقارير مقتل خالد بن محمد بن عبد الرحمن في حادث صيد غامض بعد أن حاول ابن شقيق لعبد العزيز في مرات متتالية قتل ولي عهده وأول من حكم البلاد من بعده، الأمير سعود بن عبد العزيز.

يقول الأمير طلال بن عبد العزيز أنه حين كان وزيراً للمالية في عهد الملك سعود جاءه رسول من جلالته يقول إن "الملك زعلان لأن هناك إطارات سيارات منعتموها من الدخول عبر الجمارك". فذهب الأمير طلال إلى الملك ليلاً فقال سعود : كيف يا طلال تفعل كذا؟ فأجاب الأمير : يا طويل العمر نظام الجمارك أسسه أبوك ولست أنا، ثم أضاف، ربما كان لديك سيارة واحدة وأخرى احتياط ولكل منها أربعة إطارات ومثلها احتياط، أي ما مجموعه 16 إطاراً أو ربما 26، ولكن الذي جاءكم 40 أو50 اطاراً، وهذا عدد يفوق ما هو مسموح به.

يتابع الأمير طلال بن عبد العزيز هذه القصة التي سردها في مقابلة تلفزيونية أجراها مع محطة الجزيرة قائلاً : أنت الملك يا طويل العمر ويمكنك تغيير القانون إذا شئت. هناك جمارك تفرض. أم تريدني أن أدفعها من جيبي؟ فاقتنع الرجل، ثم أردف الأمير : حين يقول الناس إن الملك دفع جمارك سيكون لهذا الأمر وقعاً عظيماً عندهم، أن سعود دفع جمارك. وكان المبلغ بسيطاً لا يتعدى بضعة آلاف من الريالات. فأجابه سعود : والله عندك حق، قولوا لهم أن يدفعوا[1].



مع استيلاء عبد العزيز على الحجاز عام 1926 أصبح سلطاناً على نجد بموجب معاهدة الحماية التي وقعها مع بريطانيا وجعلت من السعودية محمية بريطانية، ( راجع نص معاهدة الحماية البريطانية من كتاب "جزيرة العرب في القرن العشرين" للكاتب حافظ وهبة) وذلك على غرار بقية المعاهدات التي وقعتها الدولة العظمى حينها مع محميات أخرى في عمان وحضرموت وغيرها، أمّا لقب الملك فكان غنيمة من الملك حسين بن علي بعد الاستيلاء على الحجاز وتوحيد المنطقتين وإعلان المملكة عام 1932.

أدى اتساع رقعة الأراضي التي يسيطر عليها آل سعود إلى حاجة عبد العزيز لأن يمضي فترة إقامة طويلة في كل من مكة التي أصبحت عاصمة للمملكة الجديدة، والرياض عاصمة السلطنة، ونظراً لبعد المسافة وصعوبة التواصل بينهما قام بتنصيب نائب له في كل من المنطقتين فعيّن ابنه سعود ولياً للعهد ونائباً له في نجد، تقديراً لأهمية السلطنة في غزواته اللاحقة، كما اختار فيصلاً لينوب عنه خلال فترة غيابه عن الحجاز، فكانت هذه أولى بذور النزاع على السلطة بين الشقيقين.

توفي عبد العزيز بن عبد الرحمن بن سعود سنة 1953 وسط تفاقم النزاعات على السلطة بين العاهل السعودي الجديد سعود بن عبد العزيز وشقيقه ولي العهد ورئيس الوزراء المعين حينها الأمير فيصل إلى جانب ما شهدته تلك المرحلة من تفاعلات في الظروف الداخلية المتأثرة بنهوض حركات التحرر الإقليمية وأجواء الحرب الباردة على المستوى الدولي.

كانت الحرب العالمية الثانية قد انتهت بانتصار الحلفاء على دول المحور، وكان الملك عبد العزيز قد وقف إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية التي برزت من بين القوى التقليدية العظمى وأبدت اهتماماً حديثاً في المحميات البريطانية السابقة، فوافق على منحها قاعدة عسكرية على أراضي المملكة عرفت بقاعدة الظهران عام 1946 مقابل أجر مالي استمر حتى عام 1962 عند إغلاقها نتيجة الضغوط الداخلية وتنامي الموجة القومية والناصرية في المنطقة.

برغم هزيمة فلسطين عام 1948 شهدت المنطقة إبان تسلم الملك سعود مقاليد الحكم عام 1953 نوعاً من الغليان الإقليمي الذي تمثل في تحرر عدد من الدول العربية المجاورة واستقلالها من الانتداب الفرنسي والبريطاني، كما تبع ذلك عدد من التحولات السياسية التي تمثل بعضها بمجموعة انقلابات وقع أولها في سوريا عام 1949 تبعته أحداث مشابهة ثبت فيها تورط دول عربية في زعزعة استقرار بلدان أخرى وإثارة الاضطرابات الداخلية فيها.

وقد توجت تلك الوقائع بتشكيل تحالفات دولية كحلفي وارسو والناتو، وما تفرع عنهما من أحلاف إقليمية على غرار حلف بغداد وحلف السيانو في آسيا، إلى جانب تجاذبات سياسية أخرى أثارت مخاوف السعودية وغيرها من الدول الخليجية المجاورة لما اعتبرته تهديداً للأنظمة الوراثية السائدة فيها خصوصاً ما يتعلق منها بالطفرة القومية والناصرية التي انتشرت إثر الإطاحة بالملك فاروق بعد انقلاب الضباط الأحرار.

إلا أن هذه الأحداث لم تمنع اعتلاء سعود بن عبد العزيز العرش بشكل سلس ودون أي مواجهة أولية تذكر مع شقيقه الأمير فيصل الذي أصبح ولياً للعهد. وتقاسم الأخوان في السنوات القليلة اللاحقة السلطة والمسؤوليات وفق ما تسنى لهما، فعمل سعود على تعزيز قاعدة حكمه ضمن صفوف العائلة بينما سعى فيصل إلى التركيز على مجلس الوزراء، حتى بدأت تظهر أولى ملامح الانقسام من خلال التعيينات فكان من مؤيدي فيصل الأمير عبد الله وزير الداخلية، وشقيقاه فهد، وزير التعليم، وسلطان وزير المواصلات.

مقابل ذلك عين سعود أبنائه في مناصب قائد الحرس الوطني (سعد) وقائد الحرس الملكي (بندر ومنصور) ووزير الدفاع (فهد ومحمد) وأمير منطقة الرياض بدر، وأمير مكة (عبد الله) ورئيس الديوان وغيرها ما أثار قلق أشقائه إزاء ميل سعود لحرمانهم من المناصب الحكومية البارزة، وقد خشي الكثيرون أن تكون هذه التعيينات إشارة إلى نية سعود نقل الخلافة إلى ذريته بدل أخوته.

ساهم في تعزيز هذه الفكرة عدد أبناء سعود الذي بلغ 53، فقد تفوق في ذلك على والده، إذ انجب عبد العزيز36 ابناً. كما زاد نفوذ أبناء سعود حتى عرفوا بلقب الملوك الصغار، وقد يكون هذا ما يبرر ولو جزئياً الدعم الذي حظي به فيصل من قبل أشقائه في نزاعه مع سعود[2]. جاء رد الأمير فيصل على ذلك بتعزيز استئثاره بمواقع السلطة والقرار، فاحتكر لنفسه مناصب ولي العهد ونائب الملك في الحجاز ورئيس مجلس الشورى ورئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية ووزير المالية والقيادة العليا للجيش إلى جانب تعزيز صلاحياته في مجلس الوزراء على حساب ما يفترض أن يتمتع به الملك سعود قياساً بما كان لدى الملك عبد العزيز من صلاحيات.

اعتبرت تلك النزاعات من أشد أزمات الأسرة الحاكمة تعقيداً وذلك لتعدد أسبابها ونطاقها، علماً أن السبب الجوهري يكمن في المخاوف الأمنية لدى النخبة الحاكمة، إلى جانب ما أشيع حول بذخ وإسراف الملك سعود ومشارفة المملكة على الإفلاس متمثلاً بتنامي مستوى الدين العام وحالة التضخم المالي وانخفاض قيمة الريال السعودي حتى بلغ نصف قيمته الرسمية وما إلى ذلك من ظروف مشابهة اجتمعت كلها برغم ارتفاع إيرادات الدولة النفطية.

أضف إلى ذلك الضغوط الناجمة عن عدد من المقتضيات الإقليمية والدولية، فقد أخذ على سعود إهماله السياسات الرئيسية تجاه العراق والأردن وسوريا ومصر والولايات المتحدة، وارتكاب العديد من الأخطاء الجسيمة في السياسة الخارجية.

من بين المآخذ التي سجلت على سعود اتباع سياسة حياد تجاه الولايات المتحدة، وتشجيع التقارب مع المملكة الأردنية الهاشمية، وتعزيز التقارب مع مصر، حيث كان عبد الناصر يتبنى سياسة مناهضة الاستعمار، هذا إلى جانب اشتعال الأزمة اليمنية التي شكلت معضلة أخرى تواجه الأسرة وتثير مخاوف النخبة الحاكمة على ميراثها في الملك.

1. تعكس مجموعة من الوثائق الأمريكية التي تعود إلى تلك الحقبة ما شهده نزاع الشقيقان فتقول إحداها أن تزايد منزلة فيصل في الحكم قد أزعجت الملك سعود، فبدأ السعي لتعزيز نفوذه بين الزعماء الدينيين والقبائل الشرقية ووسط البلاد، وعمل على كسب بعض العناصر الحضرية والقبائل الشرقية ووسط البلاد حتى العناصر الحضرية الصغيرة عبر تلميحات متكررة برغبته في إنشاء مجلس مستشارين يمثلون فيه، كما استغل احتجاجات بعض أصحاب المصالح لتحريضهم على سياسة فيصل الداخلية[3].

نلاحظ تنامي بوادر صراع على سلطة الذي بدأ ضعيفاً ثم اشتد تدريجياً، وقد بدأت علامات النزاع حينما شكا الملك للسفير الأمريكي أن الميزانية السعودية لم تعد توفر احتياجات كافية لمشروعات التنمية مما سيؤدي إلى نقص مرتبات الموظفين الحكوميين، الأمر الذي يهدد بتعطيل العمل[4].



كما قال الملك إن فيصل كان مهتماً فقط بالنظم الاقتصادية والإصلاح المالي، وأن فيصل قد هدد بالاستقالة في حالة استخدام المملكة القروض الأجنبية من أجل التنمية، وأبدى الملك ملاحظة وهي عدم رضا الدوائر الحكومية العسكرية عن نظم فيصل الاقتصادية وإصلاحاته وأن هذه الملاحظة تشجعه مرة ثانية أن يصبح رئيس الوزراء[5].

ويبدو أن الولايات المتحدة كانت غير راغبة في تشجيع الملك على طلب قروض من الولايات المتحدة ومن ثم فقد ردّت وزارة الخارجية الأمريكية، وأوضحت للملك أن مسألة القروض مستحيلة إلا من خلال وكالتين فقط في الولايات المتحدة وهما بنك الإستيراد والتصدير وصندوق قروض التنمية، الأول يوفر قروضاً بالدولار ترد للحكومات والشركات الخاصة، تتضمن صادرات أمريكية، وأشارت الخارجية إلى أن المملكة سبق وأفادت في الماضي عن مثل هذه القروض، وصندوق قروض التنمية يوفر قروضاً قابلة للسداد بالدولار أو العملة المحلية من أجل التنمية، ولكن لا توجد حالياً أرصدة متاحة، وأكدت وزارة الخارجية الأمريكية أنها متعاطفة، وترغب بتطوير العربية السعودية ومستعدة لمناقشة المشروعات الاقتصادية السليمة مع حكومة السعودية في الوقت المناسب، كما أن وزارة الخارجية تعتقد أن العربية السعودية ستكون في وضع أفضل لتأمين قروض من هيئات القروض الدولية أو الأمريكية، حينما يتوازن وضعها المالي وحين تقوم بسداد التزاماتها المادية، وأوضحت أن المساعدة المتاحة الآن من قبل الولايات المتحدة كحكومة في أزمة السعودية الراهنة هي مد فترة سداد مدفوعات المشتريات العسكرية[6].

أما الملك سعود فمن الواضح أنه كان في تلك الفترة يتهيأ لتولي شؤون رئاسة الوزراء، ففي مناقشة مع السفير الأمريكي ذكر له أنه في حاجة إلى مبالغ طائلة لقروض التنمية قبل أن يتولى دوره كرئيس للوزراء، وكانت نصيحة السفير الأمريكي للملك سعود هي ألا يتولى مقاليد الحكومة[7].

يتضح هنا أن السفير الأمريكي كان يجمع معلومات عن طبيعة العلاقة بين فيصل والملك، فقد ناقش هذا الموضوع مع أحد أعضاء مكتب رئيس الوزراء فيصل، فأجابه المسؤول أن سياسات الإصلاح تخدم العربية السعودية، وأن فيصل لم يكن ضد الأمريكيين، وأنه على الرغم من أن فيصل لم يكن ليطلب أبداً مساعدة للتنمية إلا أنه سيقبلها لو عرضت عليه[8].

وفي جانب آخر من هذه البرقية يتأكد أنه قد وصلت إلى السفير الأمريكي العديد من التقارير، عن خلافات خطيرة بين الملك وولي العهد، وبناء على ذلك فقد طلب السفير الأمريكي لقاء الأمير فيصل، وشرح له الهدف من هذه المقابلة، معتبراً أن السفارة في تلك الأوقات الحرجة كانت حريصة على إرسال تقرير عن الموقف بدقة، وأنها غير قادرة على تقييم هذه الشائعات التي إن صحت فسيكون لها تأثير هام على السياسة السعودية. فأجاب فيصل مباشرة أنه لا توجد خلافات بينه وبين الملك، فكما هو الحال بين الأصدقاء فإننا لا نتفق في الرأي أحياناً، لكننا لسنا أبداً على خلاف مع أحدنا الآخر، مختتماً حديثه بعبارة : "لن يأتي اليوم الذي أقف فيه في مكان والملك في مكان آخر".

اكتفى السفير في تقريره السابق بهذا القدر الذي نفى فيه فيصل أي خلاف بينه وبين الملك سعود ولكن على ضوء تقارير أخرى عن هذا الموضوع فإن السفارة أصدرت حكماً على الموقف بعد دراسة ووصلت فيها إلى الآتي :

1. توجد خلافات خطيرة في الرأي حول سياسة الدولة بين الملك وفيصل، وفيصل لا يريد أن يكشف عنها لأي أجنبي، لا لأنه غير أمين، ولكن لأنه مقتنع بقدرته الذاتية على حلها قبل أن تسبب المتاعب.

2. إن فيصل يرفض أن يدع هذه الخلافات تتطور لتصبح انقسامات مكشوفة (ففي رأيه أن الأمر يستلزم اثنين حتى يتعاركا وهو لن يعارك).

3. إن الولاء للملك والإخلاص لانقاذ الأسرة الحاكمة يحول دون تآمر فيصل ضد الملك.

4. سوف يعمل فيصل بإصرار من أجل الاصلاحات الاقتصادية الداخلية، وتنظيم الحكومة وعدم التورط في الأمور الخارجية حتى يأتي اليوم الذي يختار فيه الملك أن يتصرف ضده.

5. إذا طلب الملك من فيصل أن يترك فسوف يفعل هذا بدون ضجة.

6. إن أفضل وجهة نظر بالنسبة للعربية السعودية أن يظل الملك ملكاً اسمياً وفيصل هو المسيطر فعلياً[9].

وقد بلغ الاهتمام الأمريكي بموضوع الخلاف بين سعود وفيصل، حد الدعوة لعقد اجتماع مجلس الأمن القومي رقم 406 بتاريخ 13 أيار/مايو وأعلن القائم بأعمال مدير المخابرات المركزية الجنرال كابيل عن الخلافات بين فيصل وسعود الواردة في موجز المخابرات الموجز بعنوان (تطورات عالمية هامة تؤثر على أمن الولايات المتحدة).

ويقول التقرير : أنه فيما يتعلق بالخلاف بين الملك سعود وولي العهد فيصل، كانت في أوجها، وقد أعاق الملك برنامج الإصلاح الذي تبناه فيصل، وأضاف التقرير أن ولي العهد على استعداد للاستقالة، وولي العهد ليس في صحة جيدة، ومن غير المحتمل أن يتحدى الملك في صراع كامل، وتبدو الأزمة الحالية نتيجة لرفض فيصل أن تكون ديون الملك التزامات حكومية، وأضاف التقرير أن موقف الأمراء العرب السعوديين تجاه صراع ولي العهد والملك ليس واضحاً.

وكتبت المخابرات المركزية تقريراً حول صراع سعود – فيصل، يبدي تخوفاً من احتمال أن يؤدي الصراع بين فيصل وسعود إلى عدم استقرار سياسي واقتصادي. كما يوضح التقرير، أنه لا يوجد تحدِّ خطير للوضع القائم خارج الجماعة الحاكمة، كما أن هناك عدم رضا كبير بين العناصر الحضرية من المتعلمين والعمال بما في ذلك ضباط الجيش الأصغر سناً وسلاح الجو والخدمة المدنية، ولكن لا يوجد دليل واضح على أية حال، على أن هناك بين هؤلاء الساخطين أية حركة منظمة ضد النظام.

أضاف التقرير أنهم لا يعرفون أي جماعة إصلاحية تتآمر ضد النظام من خارج البلاد، والوطنيون الأكثر وضوحاً الذين يعبرون عن آرائهم، والذين يعتنقون الفكر الناصري قليلون، ولكن هؤلاء متعاطفون مع فيصل لأن فيصل يستمع إلى بعض وجهات نظرهم وأكد التقرير أنه ليست هناك أية دلائل على تشجيع ناصر لتلك العناصر الثورية التي تتطلع إلى زعامته، ويرجع هذا من وجهة نظر التقرير إلى أن عبد الناصر مشغول تماماً مع العراق والشيوعيين في المنطقة، فضلاً عن المشاكل الداخلية التي يواجهها في الجمهورية العربية المتحدة[10].

ولكن واشنطن لم تستطع إخفاء انحيازها إلى جانب فيصل برغم حرصها الشديد على عدم الإيحاء بالوقوف إلى أي من طرفي النزاع. فأرسلت وزارة الخارجية برقية مفصلة إلى السفارة في السعودية منبهة إلى ضرورة مراعاة الحرص البالغ لتجنب أي إيحاء بأن الولايات المتحدة ترغب في التدخل في صراع القوة بين فيصل وسعود لتساند أياً منهما، ولكنها في جانب آخر من الرسالة تقول إن على السفير أن يوضح للجميع بما فيهم الملك أن حكومة الولايات المتحدة تكن أعظم الاحترام لفيصل وأنها مقتنعة اقتناعاً راسخاً بالاصلاحات المالية التي استهلها، وأنها في صميم مصالح العربية السعودية. كما طلبت وزارة الخارجية من السفير أن يأخذ المبادرة بزيارة مبكرة لفيصل[11].

من الواضح أن مرض فيصل قد سبب قلقاً للسفارة الأمريكية والخارجية الأمريكية، حيث اعتبروا أن مرضه الذي لا يعرفون عنه الكثير يمكن أن يسبب مشكلات حقيقية بشأن علاقة الولايات المتحدة في المستقبل مع العربية السعودية، وتخوفت الخارجية الأمريكية من أن يستعيد سعود سلطاته إذا ما أصاب فيصل عجز لأي مدى زمني، واعتبروا أن أية محاولة من الملك للقيام بهذا يمكن أن تؤدي إلى آثار سياسية غير مستقرة في العربية السعودية[12].

ويبدو أن ما أقلق الأمركيين هو ظهور ما عرف بالأمراء السعوديين الأحرار وهي مجموعة من الشبان المتأثرين بالأفكار الناصرية والداعين لإجراء إصلاحات فعلية في البلد. هذا ما ورد في مذكرة رسمية أضافت أنه رغم إقامة سعود بعض الصلات بهم ووعد بمؤازرتهم لكنه تحاشى التعهد بالتزامات محددة نحوهم لخشيته من نفوذ رجال الدين.

كما تأتي المذكرة على الإشارة إلى ما ألمح به الأمير نواف بن عبد العزيز في تصريح له بالقاهرة في مايو/أيار 1960 إلى وجود ميل لإقامة أول جمعية دستورية (وطنية) وإعداد أول دستور للدولة وتأسيس محكمة عليا ولجنة للتخطيط، وتختتم المذكرة أنه في حزيران يونيو 1960 اقترح طلال إقامة نظام ملكي دستوري فرفض فيصل الاقتراح وأبعد عنه طلال وجماعته[13].

يتابع التقرير الأمريكي ذاته اهتمام واشنطن بالنزاع بين الأخوين فيقول أنه بين آب أغسطس ومطلع أيلول سبتمبر عرض الأمراء الشباب مشروع الدستور على الملك فرفضه باعتباره متطرفاً، ولكن حاول الاحتفاظ بصلاته مع المجموعة. وفي أيار مايو 1960 اعتزم فيصل التوجه إلى أوروبا للعلاج، وعين الأمير فهد بن عبد العزيز وكيلاً له، لكن سعود رفض المصادقة على التعيين وأيد عدد من الأفراد فيصل بينما وقف عدد آخر من بينهم طلال ونواف إلى جانب الملك، وأن فيصل لم يجرؤ على مغادرة البلد.

ويضيف التقرير أنه في تشرين الثاني/نوفمبر 1960 أخذ سعود يطالب فيصل بإحاطته علماً بجلسات الحكومة، وعدم تعيين أمراء المناطق والمدن والبلدات والقضاة إلا بموافقته، وبأن يمتنع عن نشر الميزانية دون المصادقة عليها.

ثم تختم الوثيقة الأمريكية بأن الملك طالب بزيادة نفقات البلاط وأن تدفع لأولاده الصغار مخصصاتهم كاملة. وفي 21 كانون أول/ديسمبر قدم فيصل للملك مسودة مرسوم ملكي حول الميزانية، فرفض الملك توقيعه بحجة أنه لا يحتوي على تفاصيل، وفي اليوم عبنه قبل الملك سعود استقالة رئيس الوزراء الأمير فيصل ووزارة فيصل.

في جانب من وثيقة أمريكية أخرى وصف تسلسل الأحداث بالقول إن الملك سعود تولى مهام رئاسة الوزارة بنفسه، وعين وزارة من عشرة أعضاء، تتألف من أربعة أمراء ملكيين، وست من العامة، وتضم وزارة الملك الجديدة رجالاً يتمتعون ببعض الكفاءة ووجهات نظر متحررة نسبياً.

بالنسبة للأمراء الملكيين، ثلاثة من الوزراء في الوزارة الجديدة أشقاء أصغر للملك قد تحددت هويتهم مع من يسمون بالأمراء الليبراليين (الأحرار) الذين كانوا يعارضون فيصل، وهم :

عبد المحسن (الداخلية) محمد بن سعود (الدفاع) هو الابن الثالث والمفضل للملك وهو قدير تماماً، طلال (المالية)، الشخصيات الست من العامة تقنيون أكفاء كان أربعة منهم، عبد العزيز بن حسن (التعليم) ود. حسن نايف (الصحة) وأحمد شطا (التجارة) وعبد الله الرباع (الزراعة) وكلاء وزارات سابقين، وكانوا يقومون حقاً بكل العمل، وكان (سوايل) وزير الخارجية الجديد سفيراً في العراق، وكان قبل ذلك المدير العام لوزارة الخارجية، أمّا الطريقي فقد انطلق بمنصبه من مدير عام إلى وزير البترول.

فيما يتعلق بالوزراء المستبدلين، تقول الوثيقة أنهم كانوا جميعاً باستثناء واحدٍ فقط من رجال فيصل الأقوياء، فقد ظل الأمير مسعد بن عبد العزيز، عم الملك ووزير الداخلية السابق، شوكة في جنب الملك سعود لمدة طويلة. كان القائم بأعمال رئيس الوزراء أثناء غياب فيصل في أواخر 1959 وأوائل 1960، ومنع سعود من تولي الأمور في ذلك الوقت.

وتوضح في جانب آخر منها أن الأمير فهد بن عبد العزيز الشقيق الأصغر للملك ووزير التعليم السابق (كان يشاع عن أنه المرشح المحتمل للعرش السعودي إذا خرج فيصل أو سعود) من المحتمل أن يكون الأمير فهد بن سعود (ابن الملك ووزير الدفاع السابق) قد خرج لأنه يريد الخروج[14].

ومن الواضح أن الملك سعود لم يدخر جهداً في كسب المودة الأمريكية، فقد سافر عام 1957 واستقبل بحفاوة بالغة أعلن خلالها قبوله بإعلان أيزنهاور أو مبدأ أيزنهاور الذي جاء كرد فعل لتداعيات حرب السويس حين أعلن الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور ما عرف بـ “Eisenhower Doctrine”.

يقضي هذا المبدأ الشهير بإتباع سياسة أمنية إقليمية جديدة وكبرى تم طرحها في كانون الثاني يناير 1957 وتم إقرارها من جانب الكونغرس في آذار مارس من العام نفسه. وهي وثيقة تتعهد بأن الولايات المتحدة سوف تقوم بتوزيع المساعدة الاقتصادية والعسكرية على حلفائها، وأنها إذا اقتضى الأمر ستستخدم القوة العسكرية من أجل احتواء الشيوعية في الشرق الأوسط. كما وافق سعود أثناء هذه الزيارة على تجديد عقد إيجار الحكومة السعودية لقاعدة الظهران الجوية.

ولم يكن ولي العهد السعودي الأمير فيصل بعيداً عما يجري في واشنطن بل كان يراقب عن قرب فقام بكتابة رسالة بعث بها إلى كل من الرئيس أيزنهاور ووزير خارجية جون فوستر دالاس يقول فيها " إنني أعلم أن الأمريكيين يعتقدون أن سعود هو صديقهم الوحيد وهذا بالطبع ليس صحيحاً"[15].

يقول الكاتب الأمريكي جوزيف أ. كيشيشيان[16]، الذي سجل مجموعة كبيرة من المقابلات التي أجراها مع أمراء آل سعود في المملكة، أنه أثناء زياراته للمؤسسات الحكومية كان يشاهد صوراً لجميع الملوك السعوديين باستثناء الملك سعود، وهو علل ذلك بحقيقة ما يشاع عن الذمة المالية للعاهل السعودي الراحل، وفساده الإداري.

ويضيف كيشيشيان الذي أمضى سنوات في السعودية لإعداد كتابه أنه لا توجد مصادر سعودية يمكن الوثوق بها وأن الكثير من المصادر الغربية بعيدة عن الصحة، وهذا ما زاد من صعوبة مهمتنا في البحث عن أسباب سياسية فعلية وراء النزاع بين الأخوين فيصل وسعود للاستيلاء على السلطة والحكم.

هذا ما دفعنا إلى اللجوء لبعض المعطيات الرسمية حول تواريخ وإحصاءات تتعلق بعدد من الوقائع التي يمكنها أن تكون دليلاً على ما شهدته السعودية من متغيرات جدية في الفترة الممتدة بين تاريخ تسلم الملك سعود زمام حكمه عام 1953 وتاريخ إجباره على تسليم العرش لشقيقه الملك فيصل عام 1964، عل ذلك يساعدنا في العثور على الأسباب الفعلية الكامنة وراء نزاع الشقيقين على السلطة.

مجمل ما يتهم به الملك سعود أنه بدد عشرات الملايين من الدولارات على نزواته، التي يذكر منها أنه تزوج من النساء أكثر مما فعل والده، أو أنه استخدم 250 ألف لمبة لإنارة قصره المسمى بالجنة الصغيرة وما شابه ذلك من اتهامات قد لا ينجو منها كثيرين من أبناء البلاط الملكي الذي لا يتسم أي من أعضائه بصفة التقشف أو التواضع.

وبما أن العاهل السعودي قد طرد مع أبنائه من البلاد بعد إزاحته عن العرش ومصادرة ممتلكاته وقصوره بحيث لم يعد بالإمكان إحصائها لجأنا إلى تواريخ قيام المؤسسات الحكومية السعودية الأولى والتي قد تكون السبب في تبديد ميزانية المملكة المتنامية من عائدات النفط لنجد أن الوزارات الرئيسية قد تأسست في عصر الملك سعود، وهي كما يلي :

1- وزارة البترول والثروة المعدنية عام 1960.

2- وزارة العمل والشؤون الاجتماعية عام 1961.

3- مؤسسة الضمان الاجتماعي عام 1962.

4- المجلس الأعلى للتخطيط عام 1960، وكان برئاسة الملك وعضوية وزراء المالية والمواصلات والبترول والتجارة والزراعة والصحة.

5- كلية الصيدلة في جامعة الرياض عام 1960.

6- كلية التربية في مكة عام 1963.

7- كلية الهندسة في الرياض عام 1962.

8- كلية البترول والمعادن في الظهران عام 1963. ثم أصبحت تسمى جامعة البترول والمعادن وحين اعتلى فهد على العرش أسماها (جامعة الملك فهد).

9- وكالة البلديات عام 1962.

10- إعداد مشروع الدستور 1961. ورد في بيان الملك سعود عام 1961.

11- مشروع نظام المقاطعات. نصه الكامل في كتاب "رسالة إلى مواطن" للأمير طلال بن عبد العزيز، القاهرة 1962.

12- مشروع نظام العمل عام 1963. يقال إن هذا المشروع حين عرض على فيصل قال إنه لا يساوي عود الثقاب الذي يجب أن يحرق به. ثم أجبر على اعتماده وإلغاء بعض بنوده بعد حملة اعتقالات واسعة في صفوف العمال.

13- إغلاق القاعدة العسكرية الأمريكية عام 1961. وكانت هذه القاعدة قد أقيمت عام 1946 على يد والده عبد العزيز.

14- مشروع التجنيد الإلزامي عام 1961. وقد جمده فيصل وألغاه كلياً.

15- والإنجاز الأهم الذي سجل في عهد الملك سعود هو تنفيذ سياسة عتق العبيد وتحريرهم عام 1962. مع أن هذا قد تم بضغوط من لجان حقوق الإنسان وخطابات عبد الناصر ونداءات الرئيس الأمريكي جون كيندي، وكان صوت العرب يذيع رسائل خاصة حول هذا الأمر. وقد أعتق سعود 1682 عبداً وتكلفت الحكومة بدفع 700 دولار عن كل ذكر وألف دولار عن كل أنثى.

نذكر هنا أن بعض الصحافة الإقليمية اعتبرت هذا العمل إنجازاً لشقيقه فيصل، علماً أن هذا الأخير قد أثار أزمة دبلوماسية عام 1932 حين كان وزيراً للخارجية إذ قام بطرد السفير البريطاني لدى المملكة السير أندريو ريان لاشتراكه في تحرير عدد من عبيد والده استناداً للاتفاقية عام 1927، وقد أعاد التفاوض على اتفاقية معدلة عام 1936 تعترض على إلغاء العبودية في المملكة.

أمّا على الصعيد التربوي فتشير الإحصاءات السعودية الرسمية إلى نمو منقطع النظير في أعداد المدارس والطلاب المنتمين إلى المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية إلى جانب أعداد المدرسين الذين يعملون في المدارس الرسمية، إلى جانب النسبة المئوية لمضاعفة تلك الأعداد. فجاءت على الشكل التالي[17] :



المرحلة الإبتدائية

السنة
1373 هـ /1953 م
83/ 1384 هـ/ 63/ 1964م
النسبة المئوية

عدد المدارس الإبتدائية
196
1173
600 %

عدد الطلاب
23835
192,646
أكثر من 800 %

عدد المعلمين
1000
9682
أكثر من 950 %


التعليم المتوسط والثانوي

السنة
1373 هـ / 1953 م
1376 هـ / 1956 م
النسبة المئوية

عدد المدارس
12
32
أكثر من 250 %

عدد الطلاب
1697
4811
حوالي 300 %

عدد المعلمين
176
357
أكثر من 200 %
السنة
1373هـ /1953 م
83 / 1384 هـ/ 63/ 1964 م
النسبة المئوية

عدد المدارس المتوسطة والثانوية
12
93 مدرسة متوسطة + 21 ثانوية =114 مدرسة متوسطة وثانوية

حوالي 1000 %

عدد الطلاب
1697
14154 طالباً في المرحلة المتوسطة + 3898 طالباً في المرحلة الثانوية = 18052 طالباً في المرحلتين المتوسطة والثانوية


أكثر من 1050%

عدد المعلمين
176
995 معلماً في المرحلة المتوسطة + 160 مدرساً في المرحلة الثانوية = 1155 مدرساً في المرحلتين المتوسطة والثانوية
أكثر من 650 %
يوجز الأمير طلال بن عبد العزيز آل سعود، في كتابه[18]، إنجازات عهد الملك سعود بن عبد العزيز بالقول إنها كانت فترة الفورة التعليمية، كما أعلن سعود خلالها النظام الأساسي للحكم، وقيام المجلس الاستشاري، هذا إلى جانب العديد من التدابير والأمور الإدارية، على غرار ديوان المظالم. (شكل هذا الديوان فيما بعد أساساً لوزارة القضاء والمحاكم المدنية وغيرها).

أما معطيات النزاع بين الأخوين فيختصرها الكاتب السعودي المحامي الشهيدي بحكاية وصول الملك فيصل إلى السلطة عبر مأثرة شبه أسطورية نشرت على موقع منتديات القمة[19] قد تعتبر الأكثر شيوعاً في الأوساط السعودية وهي تقول : وصل الأمر بالملك (سعود) أن حاصر بقوات عسكرية قصر فيصل، ووجه فوهات المدافع على القصر، فما كان منه (فيصل) إلا أن نزل إلى هذه القوات بسيارته - برغم تحذير حاشيته له، وما إن وصل عندها حتى اصطف الجميع لأداء التحية العسكرية، ومثل هذه التصرفات دفعت الأمراء لاقتحام قصر الملك، (...) عام 1964 أجبروا الملك سعود على التنازل تماماً عن العرش، وصار فيصل بن عبد العزيز ملكاً على السعودية.

تستدعي الإضاءة على وقائع الأحداث التي أطاحت بالملك سعود الإشارة إلى القوى التي كانت سائدة في البلد، وهي تتألف من مجموعتين، الأولى تتألف من حفنة ضئيلة من المنظمات والأحزاب اليسارية وضباط الجيش وحركات مطلبية ضعيفة تنوء تحت قوة وضغط وسيطرة المجموعة الثانية التي تألفت بدورها من ثلاث فرق متفاوتة في قوتها، وهي تتألف من

1- الملك سعود وما حوله من (ملوك صغار) كما كان يطلق على أبنائه.

2- الأمراء الأحرار، وهي مجموعة من تسعة أمراء تزعمهم الأمير طلال بن عبد العزيز، لعبت على التناقضات بين الشقيقين فيصل وسعود، وأخيراً فريق ولي العهد فيصل مع مناصريه الذين وصل عددهم في أفضل الأحوال إلى 72 أميراً.

كان الشعب السعودي في بداية الخمسينات مفتوناً بمشاريع عبد الناصر الوحدوية وشخصيته، فقد ظهرت عام 1955 حركة تمرد مؤيدة لمواقف الرئيس المصري في مدينة الطائف، كما ساهم المد القومي واليساري في ظهور مجموعات سياسية مثل حركة نجد الفتاة وحركة تحرير الجزيرة العربية إلى جانب حزب شيوعي صغير هناك.

ولكن الأثر الشعبي البالغ والجاد قد ظهر من خلال حركة عمّالية مطلبية قوية خرجت إلى العلن تحت عنوان اتحاد نقابات العمل في الظهران (مركز النفط السعودي الأبرز حينها)، وقد بلغ عدد العمال المشاركين في التظاهرات ثلاثة عشر ألف عامل، وكان لها نشاطات واسعة النطاق، وكانت الحالة الوحيدة التي شارك فيها عمال محليون وأجانب في الاحتجاج ضد الشركة، والملفت هنا أن هذه الحشود قد تداعت بمناسبة زيارة قام بها الملك سعود إلى تلك المنطقة عام 1953.

وقد تظاهر هؤلاء وأضربوا مطالبين بساعات عمل محددة، وتحسين الأجور، وإلغاء سياسات التمييز التي تمارسها شركة أرامكو ضدهم، إضافة إلى حقوقهم النقابية والسياسية. ولا شك أن الموجة القومية قد أثرت بهؤلاء العمال، كما خشيت حكومة الرياض من تعاطف القوات المسلحة مع قضيتهم، إذ شارك بعض الجنود في التظاهرات والاعتداء على القنصلية الأمريكية[20].

أحرزت هذه الجماعات بعض التقدم في بداية حكم الملك سعود، حيث اضطرت الشركة إلى إدخال بعض الإصلاحات الضريبية وتحسين ظروف العمل، لكن السلطات السعودية أعربت عن اعتراضها على تلبية المطالب لأسباب اعتبرتها أمنية، وما لبثت أن قامت بقمعها عبر إرسال فرق عسكرية. ويقال إن بداية عهد الملك فيصل قد شهدت اختفاء اثني عشر من قادة العمال النقابيين الذين لم يرهم أحد بعدها[21].

ولكن هذا لم يمنع تشكيل تنظيمات سياسية للعمال والطلبة والمثقفين وصغار التجار والكسبة، تعددت أوجه نشاطها بدءاً من التظاهر إلى التفجيرات التي طالت على سبيل المثال محطة البريد الرئيسية في الرياض ومبنى وزارة الدفاع ومكتب المستشار الأمريكي في الرياض وقصر الأمير عبد الرحمن، وقصر قيادة الأمن في الدمّام وعدد من المراكز العسكرية، وخط التابلاين[22].

عام 1954 قرر الملك سعود دعوة بعثة مصرية عسكرية لتحل محل المستشارين الأمريكيين، وبعد أشهر قليلة نظمت مجموعة عرفت "بالضباط السعوديون الأحرار" محاولة انقلابية أفشلتها الحكومة السعودية، وفي ربيع عام 1955 أوقف عدد كبير من الضباط الذين حوكموا وأعدموا بعد أن اتضحت خطتهم بخلع الملك واستبدال الملكية بنظام جمهوري.

وفي العام نفسه وقف اثني عشر من ضباط الجيش السعودي إلى جانب قبيلة الرَث جبل قاها شمال شرق جيزان في مطالبها بمزيد من الحقوق الدينية وحالوا دون قصفها بطائرات القوات الجوية. كما يؤكد جوزيف إ. كيشيشيان أن العناصر القومية في الجيش قد استطاعت الصمود بوجه عمليات التطهير المتكررة.

وفي الفترة الممتدة بين 1957-1959 جرى توقيف آلاف من الضباط وإعدام العديد منهم بتهمة التخريب والتمرد، ومع ذلك ازداد عدد العسكريين المنتمين إلى حركة الضباط الأحرار بين عامي 1958-1962 متأثرين بقيام الجمهورية العربية المتحدة، وقد أدى ذلك عام 1958 إلى خروج تظاهرة من الجنود والضباط احتجاجاً على إنهاء خدمات البعثة العسكرية المصرية في المملكة.

ويقول ف. غريغوري غوس 3 F. Gregory Gause III[23] أنه بين الثاني والثامن من تشرين أول/أكتوبر من عام 1962 انضمت أربع مجموعات من القوات الجوية السعودية إلى مصر محملة بالسلاح للقوات المتمردة في اليمن.

ثم استمر هذا النوع من الحوادث برغم طلب الرياض من واشنطن حراسة المجال الجوي السعودي، حتى توجت في تشرين الثاني/نوفمبر من نفس العام باكتشاف محاولة انقلاب قام بها عدد من طيارين القوات الجوية السعودية ولكنها كانت هذه المرة بقيادة أمراء من الأسرة الحاكمة.

تتوافق كل المراجع على أن النزاع الفعلي على السلطة ما كان ليشمل تلك الحركات الشعبية والنقابية المتواضعة والمهمشة، ذلك أنها لم ترقَ يوماً إلى مستوى العمل المنظم والكفيل بمواجهة أسرة حاكمة بلغ عدد أعضاؤها جذعاً وفروعاً ما يزيد عن عشرة آلاف أمير، وقد لا يبالغ أ. جوزيف كيشيشيان حين يقول أنها قد تصل إلى عشرين ألف يتوزعون مع أنسابهم والمؤيدين والمقربين منهم على مختلف مرافق الحياة السياسية والإدارية والتنفيذية والأمنية والاقتصادية في البلد.

لهذا وبرغم كل ما سبق الإشارة إليه من أسباب بقيت النزاعات الجدية والرئيسية على السلطة ضمن إطار المجموعات الملكية الثلاث المذكورة أعلاه، كما أن الأحداث الرئيسة التي شكلت منعطفات هامة في نزاع الأخوة على السلطة يمكن اختصارها بما يلي :

1- سعي الملك سعود إلى تعيين أكبر عدد ممكن من أبنائه في الوزارات الأبرز كما أشرنا سابقاً؛ ما أثار حفيظة بقية الأشقاء الذين حرموا من حصتهم في السلطة برغم احترامهم لوصية عبد العزيز في عدم المساس بولاية أخيهم سعود على العرش.

2- سعيه للتفرد بأكبر قدر من المناصب والصلاحيات التي شكلت عائقاً أمام ولي العهد شقيقه فيصل الذي عمل بدوره على استقطاب أشقائه المستائين من استئثار سعود وأبنائه الملوك الصغار بمقاليد الحكم.

3- موافقة سعود على إجراء مجموعة من الإصلاحات المتعلقة بوضع دستور وتشكيل ما يشبه البرلمان وتعهده بإدخال سلّة من التعديلات الإدارية التي بدت وكأنها تهدد تفرد آل سعود بزمام السلطة، ما أثار مزيداً من سخط الأمراء الفاعلين في الأسرة.

4- قيام الملك بتشكيل حكومة من أحد عشر وزيراً أشرك فيها ولأول مرة ستة وزراء من غير أبناء عبد العزيز. فمع أنهم اعتبروا من ذوي الكفاءة إلا أن كبار الأمراء في العائلة رأوا في ذلك انتقاصاً لما يعتبرونه حقاً لهم في مناصب الدولة.

5- العامل الأخير في إطار التهديدات التي حشدت طاقات أبناء عبد العزيز ضد أخيهم الملك، والذي قد يمكن اعتباره الأهم والأشد خطورة من بين الأسباب التي أطاحت بسعود، ما أشيع عن سعيه لتنصيب ابنه محمد بن سعود وزير الدفاع آنذاك ولياً للعهد وما كاد يعنيه ذلك من استئثاره بملك أبيه وتحويله لأبنائه بدل أشقائه من بعده.

أما تسلسل الأحداث التي أدت إلى عزل الملك سعود وتولي فيصل السلطة فقد بدأت من اجتماع عقده كبار آل سعود في آذار مارس من عام 1958 اعتبروا فيه أن سعود لم يعد قادراً على القيام بواجباته كحاكم، واتفاقهم على نقل السلطة التنفيذية إلى رئيس مجلس الوزراء ولي العهد فيصل، واحتفاظ سعود بلقب الملك.

يقول الأمير طلال عن تلك المرحلة أن الملك سعود قبل بهذه القرارات حتى العام التالي حين أراد فيصل السفر للقاء نظرائه وزراء الخارجية، ورؤساء الحكومات العرب على هامش اجتماعات هيئة الأمم المتحدة عام 1959، فانتهز الملك سعود تلك الفرصة لاستعادة صلاحياته[24].

ويضيف طلال إن ما عرف بمجموعة الأمراء الأحرار قد انتهزت الفرصة لتعلن أنها ستدعم أي الأخوين الذي يوافق على مطالبها بتأسيس مجلس للشورى ونظام الحكم الأساسي (الدستور) والمجلس العائلي، إلخ. فرفض الطرفين التحدث في هذه المسائل، ما قد يشير إلى أن الشقيقين المتنازعين ما كانا ليؤيدان الإصلاحات المطروحة بقدر إصرار الأول على استعادة صلاحياته وإصرار الثاني على انتزاع السلطة.

ويقول طلال إن كلا الشقيقين حاولا استمالته مع مجموعة الأمراء الأحرار، حتى أن فيصل وعده بتنفيذها وما إن استولى على الحكم حتى تراجع عنها كما يفعل المرشحون للرئاسة حين يقدمون وعوداً كثيرة وعند فوزهم يتخلون عن كثير منها[25].

وهذا ما حصل فعلاً، إذ طرح فيصل حينها ما عرف ببرنامج النقاط العشر للإصلاح الذي كان يتضمن وعداً بوضع الدستور الدائم للبلاد، ومجلساً استشارياً، وتشريع قانون أساسي للحكومة يستقى من القرآن والحديث النبوي وأعمال الخلفاء الراشدين، وتدون فيه تدويناً واضحاً المبادئ الأساسية للحكومة والعلاقة بين الحاكم والحكومة، وتنظيم السلطات المختلفة للدولة والعلاقة بين السلطات، وضمان الحقوق الأساسية للمواطن بما في ذلك حق التعبير الحر عن آرائه ضمن حدود العقيدة الإسلامية والسياسية العامة[26].


أمّا بعد إمساك فيصل بزمام السلطة أصبح تراجعه واضحاً عن كل ما سبق وأعلنه؛ ففي مقابلة خاصة نشرتها صحيفة لوموند الفرنسية، باريس-24/6/66، مع الملك فيصل يقول جلالته : "دستور؟ لماذا؟ إن القرآن الكريم هو أقدم الدساتير وأعظمها كفاية في العالم، انتخابات وبرلمان؟ بعد التجارب السيئة الحظ التي جرت محاولاتها في البلدان المجاورة، من الأفضل أن ننسى موضوع الانتخابات، صدقني إن الإسلام دين مرن مرونة كافية، وهو بعيد النظر بحيث يضمن سعادة شعبنا".

استطاع فيصل الحكم بصلاحيات مطلقة منذ 11 أيار/مايو من عام 1958 حتى 21 كانون أول/ديسمبر من عام 1960 حين أصبح عاجزاً عن مواجهة مطالب سعود بالعودة إليه في جميع القضايا، فقدم استقالته أملاً في مزيد من الضغط على أشقائه ليعززوا صلاحياته أمام إصرار الملك سعود على استرجاعها.

انتهز سعود الفرصة ودعا أشقاءه في مجموعة الأمراء الأحرار ليشكل وزارة من 11 وزيراً تولى الأمير طلال منهم وزارة المالية والأمير محمد بن عبد العزيز وزيراً للدفاع، والأمير عبد المحسن بن عبد العزيز وزيراً للداخلية، والأمير بدر بن عبد العزيز وزيراً للمواصلات، والأمير فواز بن عبد العزيز أميراً للرياض. وكانت تلك الوزارة الأولى كما ذكرنا التي ضمت ستة وزراء من غير أبناء عبد العزيز.

تشير المراجع المختلفة إلى أن ضغوط الأمراء الأحرار بفرض الإصلاحات قد تفاقمت على الملك سعود وكان من بينها إقفال القاعدة العسكرية الأمريكية في آذار/مارس من عام 1961 بضغط من تأثير الموجة القومية والحركة الناصرية على الشارع السعودي، حيث اتهم طلال بالوقوف وراء إلغاء الاتفاقية الأمريكية السعودية بشأن القاعدة واشتهر بعدها بالأمير الأحمر.

علماً أن إقفال القاعدة بدا أكثر ارتباطاً بآثار وتبعات التمرد الشعبي الذي وقع في أيار/مايو من عام 1956 حين قام سعود بزيارة لمنشآت أرامكو بالتوافق مع انتهاء مدة عقد الإيجار الأمريكي في قاعدة الظهران؛ فخرجت تظاهرات سعودية تندد بالامبريالية وتعلن الإضرابات المتعاقبة التي استمرت طوال فصل الصيف لتبلغ أشدها مع زيارة الرئيس جمال عبد الناصر إلى الظهران في أيلول/سبتمبر من ذلك العام، حيث لقي ترحيباً عارماً أثار القلق في نفوس حكام الرياض[27].

لم يستقر تحالف سعود مع الأمراء الأحرار طويلاً، ففي 11 أيلول/سبتمبر من عام 1961 صدر قرار ملكي بإقالة الأمير طلال من منصبه كوزير للمالية، فتبعه في ذلك أشقاؤه في مجموعة الأمراء الأحرار الذين قدموا استقالاتهم مغادرين إلى بيروت حيث انتزعت جوازات سفرهم منهم، فانتقلوا من هناك إلى القاهرة حيث قاموا رسمياً بتشكيل ما عرف بحركة الأمراء الأحرار، وما تبعها من تأسيس جبهة سعودية معارضة أوسع أطلق عليها لقب "جبهة التحرير السعودية".

جاءت تلك الوقائع لتبرز عجز الملك سعود عن الإمساك بزمام السلطة بخاصة بعد أزمة عام 1962 والإطاحة بالحكم الوراثي في اليمن والتدخل العسكري للقاهرة في الأحداث هناك، ما اعتبر معضلة تهدد الكيان السعودي برمته.

يقول جوزيف أ. كيشيشيان في الصفحة 158 من كتابه "الخلافة في العربية السعودية"، أن الدور الذي لعبته مصر في خلع ملك اليمن قد أثار نقاشات حادة في البلاط الملكي السعودي لم يكشف النقاب عنها حتى اليوم، ولكنها انتهت في 17 تشرين أول/أكتوبر من عام 1962 إلى تجريد كبار العائلة في الرياض سعود من السلطة وأوكلوا رئاسة مجلس الوزراء إلى الأمير فيصل.

انتهز ولي العهد تلك الفرصة ليقوم بما يشبه الانقلاب الأبيض على شقيقه، عبر سلسلة من الأعمال التي بدأها بتشكيل حكومة جديدة تكمن مهمتها في تجريده من عناصر القوة التي قد تمكن الملك سعود من استرجاع صلاحياته أو الإطاحة بولي العهد لتعيين ابنه كما بدأ يشاع في تلك الفترة.

استطاع فيصل استثناء أبناء الملك سعود من عضوية حكومته الجديدة، وعين الأمير خالد بن عبد العزيز (الذي أصبح ملكاً من بعده) نائباً لرئيس مجلس الوزراء، ولاحقاً ولياً للعهد. كما أوكل الحقيبتين الوزاريتين الرئيسيتين، الدفاع والداخلية، بالإضافة إلى رئاسة الحرس الوطني، إلى أشقائه المقربين سلطان بن عبد العزيز وفهد بن عبد العزيز، وعبد الله بن عبد العزيز على التوالي.

أراد فيصل من ذلك تغيير بنية الحكم في الأسرة الحاكمة، فعزز هذه التشكيلة الحكومية بإجراءات يبدو أنها اعتبرت ضرورية لسحب أبسط احتمالات الدعم التي يمكن أن يتلقاها سعود من الداخل أو الخارج، فأمر بصرف المستشارين المصريين الذين كانوا يعملون في الدوائر السعودية مزيلاً بذلك مخاطر تأثير التقارب الناصري النسبي مع الملك سعود في تلك الأثناء.

ثم أنشأ دائرة خاصة تابعة لوزارة الداخلية للإشراف على العمال الأجانب (العرب) ضارباً بذلك ما كاد يمكن اعتباره تهاوناً من سعود مع الأرضية الشعبية والعربية في البلد. كما أعاد تنظيم وتعزيز الأجهزة الأمنية في المملكة لضرب الحركات الشعبية المتنامية وتعزيز حكمه.

وأخيراً حصل على موافقة علماء الدين (الوهابيين) لإدخال البث التلفزيوني في البلد لما يعنيه ذلك من دعاية وترويج لسياساته وسلطته، وقد أقيمت محطات البث التلفزيوني برغم اعتراض العلماء الشديد، والذي توج بمهاجمة مجموعة من المتشددين كان على رأسهم أمير سعودي تم قتله على يد رجال الأمن، وكان الأمير هو خالد بن مساعد، شقيق الأمير فيصل بن مساعد الذي قام باغتيال الملك فيصل لاحقاً.

إلا أن هذا كله لم يوقف النزاع على السلطة بين الشقيقين، وكان لدى كل منهما ما يكفي من المناصب السياسية ودعم القبائل وتأييد الوحدات العسكرية بما يشكل شبه توازن في موازين القوى بين الطرفين. ثم بدأت المرحلة النهائية من هذا الصراع تتبدى في الأفق مع حلول موعد إحدى لقاءات جامعة الدول العربية، حيث أصر سعود على تمثيل المملكة في تلك القمة.

اعتبرت تلك الخطوة نقطة تحول رئيسية في الصراع على السلطة بين فيصل وسعود، حيث تمت تعبئة وحدات الحرس الملكي والوطني التابعين للملك إلى حسم النزاع نهائياً. وقد حسمت هذه المسألة حينها بأن أذعن فيصل لحل قضى بتولي الملك سعود تمثيل المملكة في اجتماعات الجامعة العربية، مقابل اكتفاء ولي العهد برئاسة الحكومة[28].

أصبح الشحن والشحن المضاد بين الأخوين على أشده مع بداية عام 1964، وبلغ التوتر حداً دفع مزيداً من الأخوة إلى الوقوف بجانب فيصل من جهة مقابل إقدام أبناء الملك سعود على تحريض والدهم العلني وعلى الملأ إلى تعزيز سلطته وخلع الأمير فيصل من منصبه.

يبدو أن فيصل كان قد تعلم من تجاربه السابقة مع الملك سعود أن عليه الإمساك بزمام المبادرة وتوجيه الضربة الإستباقية لجلالة الملك قبل أن يقوم هذا الأخير بعزله وتعيين ابنه ولياً للعهد مكانه. وفي آذار/مارس من عام 1964 أمر فيصل قوات الأمن الداخلي التابعة لرئاسة الحكومة، بتوقيف قائد الحرس الملكي الذي كان نصيراً وفياً لجلالته، ما أدى إلى إضعاف تلك القوة التي بلغ تعدادها 800 رجل، وتشتت وحداتها بين مؤيد ومعارض، فجرى بذلك القضاء على القوة العسكرية الفاعلة المفترض أن تقف إلى جانب سعود بكاملها.

هنا تتباين المراجع التاريخية بين الحكاية التي أتينا على ذكرها آنفاً للمحامي الشهيدي، من أن الملك قد أرسل وحداته لمحاصرة فيصل في قصره، وحين نزل إليهم سموه الملكي قاموا بتأدية التحية خانعين، ما دفع الأمراء لدعوة الملك إلى التنحي، إلخ،... وبين قصة أخرى تقول عكس ذلك تقريباً، ولكنها أكثر منطقية وانسجاماً مع تسلسل الأحداث.

حين استطاع فيصل وأشقائه تجريد الملك من مصدر قوته العسكرية أو قدرته الوحيدة على المقاومة، والكامنة في عزل قائد حرسه الملكي، قاموا بإرسال وحدات عسكرية تحاصر قصره، ثم دعوا إلى عقد اجتماع لمجلس الأسرة والذي تألف من 71 من الأمراء النافذين في الدولة، ليصدر قراراً بعزل الملك وانتقال العرش رسمياً من سعود إلى شقيقه فيصل. وهذا ما حصل فعلاً في تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1964.

ويقول المؤرخ صلاح سالم زرتوقة في كتابه[29]. أن خلع الملك سعود قد تم بوضعه أمام خيارات ثلاثة، إمّا القبول بعزله، أو اقتياده إلى السجن، أو نفيه إلى خارج البلاد. فما كان من سعود إلا أن رضخ للتهديد وانصاع لقرار أشقائه، ثم غادر البلاد ليتبعه الملوك الصغار من أبنائه.

من الواضح أن الصراع على السلطة لم ينته بعزل الملك سعود ورحيله عن بلاده، إذ إن هذا قد توجه بعد ذلك إلى مصر، تبعه بعد ذلك عدد من أبنائه، كان من بينهم خالد ومنصور وبندر وسلطان، حيث منحهم الرئيس جمال عبد الناصر كل التسهيلات اللازمة لتشكيل معارضة قوية من هناك، بما في ذلك مساحة بث عبر إذاعة القاهرة باتجاه المملكة.

جاء رد فيصل على ذلك بالعمل على إضعاف محاولات سعود اليائسة عبر استعادة أشقائه "الأمراء الأحرار" إلى الوطن كي لا يشكلوا تحالفاً واسعاً مع سعود في الخارج، كما أرضى بعضهم بمناصب من المرتبة الثانية في حكومته. فعين بدراً نائباً لقائد الحرس الوطني 1965 ونوافاً مستشاراً للملك عام 1968، وفوازاً أميراً لمكة عام 1971 وعبد المحسن أميراً للمدينة عام1975.

امتدت محاولات سعود لاستعادة عرشه من عام 1964 حتى نكسة عام 1967، حين راجعت مصر سياستها في الخليج وأوقفت تدخلها في اليمن وفقد الملك سعود دعم القاهرة فغادر مصر متوجهاً إلى اليونان حيث عاش حتى وفاته عام 1969.

أمّا على الصعيد الداخلي فقد سعى فيصل إلى تعزيز حكمه باختيار ولي عهد لا ينافسه على الصلاحيات والحكم فيكرر التاريخ نفسه كما حصل بينه وبين سعود؛ نجح جلالته في اختيار ولي عهد عرف بمرضه في القلب وعدم اهتمامه بالسياسة والحكم، وانكبابه على هواياته في رحلات الصيد الطويلة في قلب الصحراء، فقام بتعيين نائب رئيس وزرائه السابق وشقيقه الوفي خالد بن عبد العزيز ولياً للعهد.

ومع ذلك نجد أنه من أبرز ما ركزت عليه المساحة الإذاعية في القاهرة والصحف المصرية عموماً في تلك الفترة مسألة تفجر النزاعات العائلية على السلطة بين عامي 1966 -1967 حين قام فهد، وزير الداخلية حينها، بدعم من أخويه الأمير سلمان (أمير منطقة الرياض/سديري) والأمير سلطان (وزير الدفاع/سديري) حاول استبدال الأمير عبد الله كقائد للحرس الوطني، لكنه اصطدم بمعارضة كل من فيصل وولي العهد خالد.

يعتبر جوزيف أ. كيشيشيان من أهم المراجع المتعلقة بهذه الحقبة الغامضة إذ يعتمد كما سبق وأشرنا على إجراء مقابلات مطولة مع عدد كبير من أمراء الأسرة المالكة هناك، وهو يقول[30] أن محاولات عزل الأمير عبد الله لم تتوقف، فمع بداية السبعينات طالب الأمراء من فرع السديري مجدداً بتخلي الأمير عبد الله (الملك الحالي) عن قيادة الحرس الوطني.

بينما عملت رموزهم على تعزيز مواقعها العسكرية كما فعل وزير الدفاع الأمير سلطان بن عبد العزيز (ولي العهد الحالي) على تطوير صفوف القوات المسلحة، بينما قام شقيقه وزير الداخلية (السديري أيضاً) الأمير نايف بن عبد العزيز بتعزيز وتطوير الأجهزة الأمنية في وزارته.

من الواضح أن تفجر الخلافات في أوساط العائلة، كان يستهدف بشكل أساسي العمل على تخلي الأمير عبد الله عن قيادة الحرس الوطني، وبالتالي عزله وتنحيته جانباً. وقد يساعدنا على فهم السبب الكامن في مقارعة الأشقاء (السديريين) لقائد قوات الحرس الوطني (الشُمّري) وإصرارهم على تنحيته وعزله منذ تلك الفترة أن ندرك بأن عبد الله يكبر سلطان بعام واحد فقط، إذ ولد عبد الله عام 1923 بينما ولد سلطان عام 1924. ما يعني أنه لو أمكن إزاحة عبد الله عن قيادة الحرس الوطني، لضعفت مكانته السياسية وأصبح لسلطان الحق بأن يكون ولي عهد لفهد وأن يتولى الحكم من بعده.

ولم تتوقف المحاولات عند هذا الحد بل بلغت مستوى توسيع التحالف بين الأشقاء السديريين في سعيهم المباشر لعزل الأمير عبد الله، ففي شباط/فبراير من عام 1977 وحين غادر الملك خالد إلى لندن بشكل طارئ لتلقي العلاج هناك، قام الأمير فهد (ولي العهد حينها) بدعم من أشقائه وحلفائه بمطالبة الأمير عبد الله بالتخلي عن قيادة الحرس الوطني رسمياً.

ولكن يبدو أن التاريخ أعاد نفسه هذه المرة، فعندما حاول سعود تعيين ابنه ولياً للعهد مثيراً بذلك تحالف أشقائه مع فيصل حفاظاً على حقهم في توارث السلطة، وقد تجسدت مخاوف بقية الأخوة من استئثار الأشقاء السديريين بالحكم، فوقف شقيقهم الأكبر محمد إلى جانب عبد الله بدعم من بقية أخوته النافذين والمتضررين من التحالف السديري، وحالوا دون عزله.

هذا ما سنأتي على قراءته ومحاولة التعمق في وقائعه عبر بعض من جوانب الفصل الأخير من هذا البحث، علًّه يساعدنا في استشراف ما أمكن من الآفاق المتعلقة بعلاقة النزاعات الأسرية الداخلية بجريمة اغتيال جلالة الملك المفدى المغفور له بإذن الله خادم الحرمين الشريفين فيصل بن عبد العزيز رحمه الله.

"كنت في بيت طيني قديم، مثل بيت جدي الذي عشت فيه عندما كنت صبياً في الرياض، وكنت في جناح النساء. فتحت باباً، وهناك في إحدى الغرف رأيت جدتي، وأم جدتي التي أستطيع أن أتذكرها، وكذلك نورة، عمتي التي تزوجت سعود الكبير، ومع أنني أعلم أنهن جميعاً في عداد الأموات، فإنني لم أدهش لرؤيتهن جالسات معاً يتجاذبن أطراف الحديث هناك. ولكن كانت هناك امرأة أخرى جالسة معهن ولم أعرفها، مع أنها كانت تتحدث إليهن وكأنها كانت صديقة حميمة، بل وحتى من أفراد العائلة، فإنني لم أعرف من كانت.

بقيت عند الباب، بعيداً عن الغريبة إلى أن لمحتني جدتي فنهضت لتدخلني إلى الغرفة، ثم ابتسمت وقالت : "ما بك يا فيصل؟ لا تكن خجولاً. تعال!! تعال وألق التحية على طرفة. ألا تعرف أمك؟ لقد حان الوقت لتقابلها الآن". وفجأة شعرت بالخوف يتملكني...".
يشاع في بعض الأوساط السعودية أن الملك فيصل أسرّ بهذا الحلم لإحدى عماته في بداية كانون الثاني/يناير من عام 1975، ثم جاءها في نهاية الشهر ذاته أي قبل أسابيع من اغتياله يسرد عليها حلماً آخر فقال :

"كنت واقفاً في الصحراء عندما اقتربت سيارة مني، كانت مكشوفة ومن النوع القديم، وقد جلس فيها جدي الإمام عبد الرحمن، ووالدي عبد العزيز وأخي الأكبر تركي الذي توفي عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري، وعمي سعد الذي قُتل في معركة مع العجمان. كانوا كلهم في السيارة معاً، وعندما رأوني توقفوا ولوحوا لي بأيديهم.

قال والدي : تعال معنا في السيارة يا فيصل.. وخرج ليأخذ بيدي. شعرت بسرور غامر لرؤية أفراد عائلتي الذين توفوا قبل مدة طويلة وخطوت خطوة نحوهم. عندها شعرت بخوف فظيع. أردت أن أستدير وأهرب، ولكن والدي أمسك بيدي، قاومت فشدّني إليه، قاومت أكثر، فخرج الآخرون من السيارة ليساعدوه. معاً جروني إلى الداخل عنوة، وسرعان ما أقفل الباب وتحركت بنا السيارة...".

أسرّ الملك فيصل بهذين الحلمين لعمته في كانون الثاني/يناير 1975، وقال لها إنه لا يستطيع أن يستمد إلا استنتاجاً واحداً منهما : أنه ليس من المقدر له أن يعيش أكثر من بقية السنة.

كان هذا هو الاستنتاج الأهم الذي خرج به فيصل من هذين الحلمين، وقد يبدو أن ما شاهد فيهما من شخصيات تشير إلى أهمية رموز السلطة في عقله الباطني الحالم، إذ شاهد في الحلم الأول والدته وجدته وأم جدته، أي أنه رأى طرفة ابنة عبد الله وأمها زوجة عبد اللطيف وجدتها زوجة عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، وجميعهن من سلالة محمد عبد الوهاب التي لعبت مصاهرة أمراء آل سعود معهم دوراً هاماً في تعزيز مكانة سلطتهم.

كما كانت من بينهن عمته نورا، زوجة سعود الكبير المفترض أن تكون لأبنائه السلطة من بعده لولا انتزاع عبد العزيز لهذا الحق وتوارث السلطة بين أبنائه فتسلمها فيصل عنوة من أخيه سعود كما فعل عبد العزيز من قبله بإخوانه، حين استعان بكل ما لديه من وحدات مسلحة للقضاء على معارضة أبناء عمومته، الذين وقفوا وراء انتفاضات وحركات تمرد مسلحة خطيرة حصلت في قبيلتي عجمان والحساسنة عام 1908 وقتل من قادتهم ثمانية عشر قائداً، كما يشير هذا البحث.

أمّا الشخصيات التي رآها في حلمه الثاني فهي جده عبد الرحمن الذي أورث الحكم لوالده عبد العزيز وشقيقه الأكبر تركي الذي كان يفترض أن يتولى الحكم من بعد أبيه لولا موته وهو في الثالثة عشرة من عمره، فجاء دور أخيه سعود الذي دبر فيصل عملية انتزاع السلطة منه بالتحالف مع أشقائه. ويبدو أن حضور عمه في الحلم الثاني شبيه بحضور عمته في الحلم الأول، فهذا هو سعد يذكرنا بأن الأسرة حاربت إلى جانب عبد العزيز ونالت حصة من غنائم السلطة وبقيت جزءاً من هواجس ورثتها، فيخرجون لهم حتى في الأحلام.

والمثير في الحلم الأخير أن رموز توارث السلطة في الدولة السعودية الثالثة قد ترجلت من السيارة جميعاً وتعاونت فيما بينها على إدخال فيصل في السيارة حتى يساق معها، وكأنها مجموعة من أفراد الأسرة الحاكمة تتحالف فيما بينها لتنحيته عن العرش وإرساله إلى عالم آخر، الحكم فيه والكرسي والعرش لواحد أحد. أما وسيلة النقل التي استعملت في الحلم فلم تكن قافلة جمال أو بعضاً من بهيمة الأنعام، بل هي سيارة قديمة مكشوفة، لا شك أنها من صنع بريطانيا أو ربما وريثتها الأمريكية في المنطقة، فهل يرمز ذلك إلى ما قدمته الدول العظمى من وسائلها الحديثة وأدواتها مساهمة منها في تسهيل انتقال جلالته إلى الرفيق الأعلى؟



أ - اغتيال فيصل، بين الرواية الرسمية والدوافع الذاتية

لو فتحنا أي من المواقع السعودية شبه الرسمية المنتشرة على شبكة الإنترنت لقرأنا فيها ما كتب عن جريمة اغتيال الملك فيصل ووجدنا أنها تجمع في غالبيتها العظمى على رواية مشتركة وكأنها استخرجت من مصدر مشترك، نستطيع القول إنها مصادر رسمية، دون الحاجة إلى الخوض في التمحص والتحليل؛ وهي تسرد القصة في أفضل أشكالها المعتدلة على النحو التالي :

"كان فيصل بن مساعد الأخ الأصغر لخالد بن مساعد، الأمير الذي قتل قبل عشر سنوات من ذلك بعد الهجوم على محطة تلفزيون الرياض، وقد شارك فيصل بن مساعد أخاه حالاته النفسية وأمزجته المتقلبة. إذ انتقل من كلية إلى أخرى في أميركا، ودخّن الحشيش في جامعة باركلي وقبض عليه حاملاً مخدرات في كولورادو واشتبك في شجار واحد على الأقل في أحد البارات مع صديق له. وقد اضطرت وزارة الخارجية الأميركية بذل جهود مضنية لإبقاء الأمير خارج المحاكم. وعندما عاد فيصل بن مساعد إلى بلاده، أمر عمه الملك بإبقائه داخل المملكة لفترة من الزمن. فقد لطخ سمعة العائلة بأفعاله في الخارج، وقال البعض إن هذا الحظر على سفره كان السبب في غضب الأمير الشاب. وقال آخرون إن الدافع كان الانتقام لمقتل أخيه خالد.

مساء 24 مارس [آذار] 1975 جلس الأمير فيصل بن مساعد يشرب الويسكي مع واحد من إخوته، بندر وبعض الأصدقاء، وكانت تلك ليلة اعتيادية مع قارورة شراب للتغلب على سأم الليل، كما يفعل عدد من سكان المملكة يزيد عما يعترفون به. وقد استمر السهر والشرب بالنسبة إلى بندر بن مساعد وأصدقائه حتى الساعة السادسة من صباح اليوم التالي ـ مشاهدة تلفزيون، وشرب ويسكي، ولعب ورق، وشرب ويسكي، وأكل قليل من الطعام، وشرب قليل من الويسكي مرة أخرى حتى كان الجميع ممتدين بُعيد الفجر على الأرائك في جنبات الغرفة. لم تكن حفلة بقدر مما كانت طريقة لصرف الليل لأناس كان النهار حتى أقل عطاء لهم. ولكن كانت لدى فيصل بن مساعد خطط للنهار القادم، وقد شرب الشيء القليل. ذهب إلى حجرته قبل منتصف الليل، وفي الصباح التالي كان في حوالي الساعة العاشرة في قصر عمه الملك ينتظر في الغرفة المجاورة للمكتب الملكي. وكان هناك وفد من الكويت جاء ليناقش موضوع النفط، وكان أحمد زكي يماني قد دخل قبلهم ليطلع الملك على الأمر قبل الاجتماع.

دهش أحمد عبد الوهاب، رئيس البروتوكول للملك فيصل، بوصول الأمير الشاب، الذي لم يعرفه. إذ كانت الاجتماعات العائلية تعقد عادة في منزل فيصل وليس خلال ساعات العمل، وقد دخل عبد الوهاب مع يماني ليعرف ماذا يريد أن يفعل بالنسبة إلى ابن أخيه. في هذه الأثناء اكتشف فيصل بن مساعد أنه يعرف أحد أعضاء الوفد الكويتي، عبد المطلب القاسمي، وزير النفط الشاب، الذي كان قد التقى به خلال إقامته القصيرة في كولورادو، وعندما فتح الباب للترحيب بالكويتيين، دخل الأمير الشاب معهم.

شاهد أحمد زكي يماني، وأحمد عبد الوهاب وفريق تلفزيون كان يصور استقبال الملك لوفد النفط ما حدث بعدئذ وأرعبهم ما شاهدوا. فعندما تقدم الملك فيصل إلى الأمام ليعانق ابن أخيه ويقبله، سحب الأمير الشاب مسدساً صغيراً من جيب ثوبه وأطلق ثلاث رصاصات على الملك فيصل. أصابت الرصاصة الأولى ما تحت ذقنه، ودخلت الثانية عبر أذنيه، ومشحت الثالثة جبهته. ونقل الملك فيصل على عجل إلى المستشفى وهو لا يزال حياً وأسعف بكميات دم كبيرة بينما دلّك الأطباء قلبه. ولكن الشريان الرئيسي في رقبته كان قد مزق فتوفي الملك في غضون ساعة. (انتهى النص المقتبس).

يجمع الشهود من أفراد عائلة فيصل، وتحديداً أبناؤه والمقربون منه، أن الملك أخذ في تلك الفترة يعزل نفسه عنهم. وقد أخذ يذهب إلى المكتب في موعد أبكر، ويبقى فيه لمدة أطول، ويشتغل في أيام العطلة ولا يخلد إلى الراحة. وحتى عندما كان يجلس مع زوجته وأبنائه، كان يبدو وكأنه في عالم آخر، غارقاً في كآبة شديدة لا يمكن اقتحامها.

بقي جلالته على هذا النحو حتى صبيحة الخامس والعشرين من آذار مارس من عام 1975 حين وافته المنية على يد أحد أفراد أسرته، إذ باغته ابن أخيه الأمير فيصل بن مساعد بإطلاق الرصاص عليه من مسدس كان يحمله وذلك أثناء تواجده في مقره الدائم والمعتاد.

صدر أول تعبير عن الرواية الرسمية لهذا الحدث عبر بيان بثته إذاعة الرياض في تمام الثانية عشرة من ظهر الخامس والعشرين من آذار/مارس وهو يقول : "بينما كان جلالة الملك فيصل المعظم يقوم بأعماله الرسمية هذا الصباح، نهض من مجلسه الأمير فيصل بن مساعد بن عبد العزيز، إبن أخ جلالته متظاهراً بالسلام عليه، وعندما اقترب منه، أطلق الرصاص على جلالته عدة مرات فأصابه بجراح".

ثم تابع البيان :..."ومما تجدر الإشارة إليه أن المذكور مختل الشعور، وقام بما قام به منفرداً وليس لأحد علاقة بما أقدم عليه. وقد نقل جلالة الملك فيصل حفظه الله إلى مستشفى الرياض المركزي، والعلاج مستمر لجلالته. منّ الله على جلالته بلباس الصحة والعافية، وطمأن شعبه الوفي ليراه قريباً بصحة وسلام".

ثم جاء البيان الثاني في تمام الواحدة وعشر دقائق بعد الظهر، حين قطعت إذاعة الرياض إرسالها لتذيع بياناً صادراً عن الديوان الملكي يقول : "ببالغ الأسى والحزن، ينعي الديوان الملكي، باسم صاحب السمو ولي العهد، وكافة أفراد الأسرة، ونيابة عن الأمة، حضرة صاحب الجلالة الملك فيصل المعظم، حيث وافاه الأجل المحتوم متأثراً بجراحه، إثر الاعتداء الأثيم الذي قام به الأمير فيصل بن مساعد بن عبد العزيز المعروف باختلاله العقلي، على جلالته".

وتابع البيان :..."فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.. تغمّد الله جلالته بواسع رحمته وغفرانه، وأسكنه فسيح جناته، وخلفه في هذه الأمة بتمسكها بعري دينها القويم، وحفظها به، وجزاه الله عن الإسلام وهذه الأمة وأمة الإسلام عامة خير جزاء".

بعد أربعين دقيقة، وفي تمام الثانية إلا عشر دقائق صدر عن الديوان الملكي البيان التالي : "تقرر إقامة الصلاة على حضرة صاحب الجلالة الملك فيصل المعظم غداً الأربعاء، بعد إقامة صلاة العصر مباشرة في جامع الرياض الكبير. تغمده الله برحمته، وأسكنه فسيح جناته. إنه سميع مجيب، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون".

وبعد ذلك بنصف ساعة وفي تمام الساعة الثانية والثلث صدر البيان الرابع والأخير عن الديوان الملكي ليقول : "قام أفراد الأسرة وفي مقدمتهم، أولاً/ صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد الرحمن. ثانياً/ الأمير محمد بن عبد العزيز. ثالثاً/ الأمير ناصر بن عبد العزيز. ثالثاً/ الأمير سعد بن عبد العزيز. خامساً/ الأمير فهد بن عبد العزيز. قاموا بمبايعة ولي العهد الأمير خالد بن عبد العزيز ملكاً على البلاد".

ثم تابع بيان الديوان الملكي قائلاً :.."وبعد إتمام البيعة أعلن صاحب الجلالة الملك خالد بن عبد العزيز ترشيح صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولياً للعهد. وقد أجمع أفراد الأسرة على ذلك وقاموا بمبايعة سموه".

يختتم البيان بالقول :.."لقد تقرر أن يقوم المواطنون بالبيعة لجلالة الملك خالد المعظم، ولسمو ولي العهد الأمير فهد بن عبد العزيز في قصر الحكم في الرياض غداً الأربعاء، ابتداء من الساعة العاشرة صباحاً.

تتأكد الرواية الرسمية السعودية المعلنة عبر وسائل الإعلام المحلية عبر تصريحات أدلى بها جلالة الملك خالد بن عبد العزيز نشرتها صحيفتي اللواء والأنوار اللبنانيتين في 27 آذار/مارس 1975 وهي تقول : أبلغ الملك خالد بن عبد العزيز رؤساء الدول الذين قدموا إلى الرياض أمس، للاشتراك في تشييع الملك الراحل، تفاصيل وقوع الجريمة.

وتتوافق الصحيفتين على القول : وصف الملك خالد والدموع تترقرق من عينيه كيف غادر الشيخ أحمد زكي اليماني، وزير النفط السعودي، والسيد عبد المطلب الكاظمي، وزير النفط الكويتي، الديوان أيضاً قبل أن يتقدم الأمير فيصل بن مساعد كمن يريد أن يصافح الملك فيصلاً، وعندما مد الملك فيصل يده لمصافحة الأمير فيصل، سحب القاتل مسدسه وأطلق النار، وقتل الملك فيصل فوراً برصاصة في رقبته ورأسه.

جريدة البيرق اللبنانية اعتمدت فيما أوردته صبيحة السابع والعشرين من آذار مارس من عام 1975 على أقوال مراسلها الخاص الذي رافق الوفد اللبناني الرسمي المشارك في التشييع والتعزية والذي تألف من رئيس الوزراء اللبناني السابق رشيد الصلح وضمّ رئيسي الجمهورية الأسبقين كميل شمعون وشارل حلو إلى جانب شخصيات أخرى.

كتب مراسل البيرق أن الرئيس كميل شمعون نقل عن لسان الملك خالد قصة تختلف عما أوردته صحيفتي الأنوار واللواء إذ يقول : إن الأمير فيصل بن مساعد بن عبد العزيز قد دخل الديوان الملكي سراً وخلسة وراء بعض المصورين، ولدى وصوله إلى أمام الملك فيصل، فتح النار فوراً وأطلق ست رصاصات سقط على أثرها الملك مضرجاً بالدماء، واعتقل الجاني بعدما أغلقت الأبواب حتى لا يشيع النبأ وتقع بلبلة. ولم يقل الملك فيصل سوى بضع كلمات سأل فيها عن هوية القاتل. وأضاف الملك خالد إن الحادث قد وقع في الساعة العاشرة والنصف من قبل الظهر.

نلاحظ هنا اختلافاً كبيراً بين رواية بيان الديوان الملكي الذي قال : بينما كان جلالة الملك فيصل المعظم يقوم بأعماله الرسمية هذا الصباح، نهض من مجلسه الأمير فيصل بن مساعد بن عبد العزيز، ابن أخ جلالته متظاهراً بالسلام عليه،إلخ، وما ورد على لسان المغفور له بإذن الله جلالة الملك خالد بن عبد العزيز في الصحف اللبنانية من أن الأمير فيصل قد دخل القصر متسللاً خلسة.

ثم تكررت معلومة التسلل خلسة من جديد على لسان الملك خالد أمام الوفد البرلماني اللبناني الذي ترأسه كامل الأسعد رئيس مجلس النواب، حيث قال، وفق الرواية التي نشرت في صحيفة المحرر اللبنانية في 28-3-1975، أنه التقى بالملك الجديد الذي روى له قصة ما حدث أمام أعضاء الوفد فقال : كان كل شيء طبيعياً، وكان الملك فيصل ينتظر دخول وزير كويتي إلى ديوانه في زيارة رسمية، وقبل دخول الوزير سبقه مصورو الصحف، وإذا بالأمير المجرم فيصل يتسلل مع المصورين إلى ديوان الملك حيث تقدم منه مصافحاً، وعندما هم بتقبيل يده سحب الملك فيصل يده، وبلحظة سحب المجرم مسدسه وأطلق منه عيارين ناريين أصاب أحدهما رأس الملك.

وتابع الملك خالد روايته، وفق صحيفة المحرر بالقول : في هذه اللحظة كان الجميع قد أصبحوا في الديوان بما فيهم الوزير الكويتي، إلخ. وعندما خر الملك فيصل صريعاً على الأرض، كان أحد الموجودين يرمي على الأمير المجرم عباءته، وكان لا يزال حاملاً مسدسه. وتولى آخرون نقل الملك إلى المستشفى. ولكنه فارق الحياة قبل الوصول إليه. ويختتم الملك روايته بالقول : ولدى وصولنا إليه (في القصر) قيل لنا بأن الملك قد أصيب ونقل إلى المستشفى، وتوجهت إلى هناك حيث أبلغت بنبأ وفاته.

في التاسع والعشرين من آذار/مارس 1975 نشرت صحيفة الجمهورية مزيداً من التفاصيل الرسمية المتعلقة بالجريمة، فكتبت تقول : روى الملك خالد بن عبد العزيز "ملك المملكة العربية السعودية" الجديد، ظروف اغتيال شقيقه الملك فيصل في أول حديث له، وقال الملك خالد : "إن الأمير فيصل دخل مكتب رئيس البروتوكول وجلس عبد المطلب الكاظمي وزير النفط الكويتي والشيخ أحمد زكي اليماني وزير النفط السعودي، اللذين كانا ينتظران مقابلة الملك.. وأذن الملك فيصل بدخول الوزيرين، فانتهز القاتل الفرصة ودخل مكتب الملك مع الوزيرين والمصورين.. وتقدم مباشرة في اتجاه الملك فيصل وكأنه يريد تحيته، وتوفي الملك في نفس لحظة إطلاق النار.

ثم تابعت الصحيفة المصرية في جانب آخر منها :... وتمكن أحد الحراس والوزراء والمصورون من السيطرة على القاتل. وقال الملك خالد أنه كان في قصره في ذلك الوقت يحتسي الشاي عندما دق جرس التلفون، بينما كان يرفع قدح الشاي بيده، فسمع من يقول له أنه أعيرة نارية قد أطلقت في مكتب الملك، فأخذ بندقيته الرشاشة وهرع مع رجال الحرس إلى القصر الملكي.

ويضيف الملك خالد حسب صحيفة الجمهورية : طلبت من حراسي أن يظلوا في الخارج، ودخلت إلى المكتب، والواقع أن ما شاهدته أثار اضطراباً عنيفاً في نفسي، لدرجة أنه كان من المتعذر أن أسيطر على نفسي، وتابع الملك مشيراً بوضوح إلى الأنباء التي نشرتها الصحف وجاء فيها أن الملك قد توجه إلى الله ببضع كلمات، قائلاً إن كافة الروايات الأخرى غير صحيحة.

ثم أخذت تفاصيل القصة الرسمية تكتمل مع مرور الأيام والأسابيع، ففي العاشر من نيسان/أبريل من عام 1975 نشرت صحيفة الأنوار الصادرة عن دار الصياد اللبنانية مقابلة أجريت مع أحمد عبد الوهاب رئيس التشريفات في القصر الملكي قال فيها : في كل يوم يجلس الملك في الصالون للقاء العام.. في هذا اليوم بالذات دخل مكتبه ولم يجلس في الصالون، ودخلت لأعلن لجلالته عن وصول الوزير الكويتي عبد المطلب الكاظمي مع أحمد زكي اليماني للسلام..

وتابع أحمد عبد الوهامب حسب الجمهورية : والأمير فيصل بن مساعد. (الأمير فيصل بن مساعد كان زميلاً للكاظمي في الجامعة بأمريكا وكان يتحدث إليه بانتظار الملك) ولعل هذه الصلة، مع مركز الأمير هي التي سمحت بالتغاضي عن العرف الذي يمنع وجود غريب في أثناء اجتماع الملك بضيوف رسميين. ثم يمضي فيقول : المهم تركيز التاريخ في الثواني التالية : الملك يخرج من باب المكتب ويدخل الصالون وهو يكمل كلامه مع أحمد عبد الوهاب قائلاً بتواضعه "أمرك يا سيد" تعقيباً على كلامه من المكتب إلى الصالون.

وتابعت الصحيفة وصف المشهد بالقول : الجميع وقوف، أجهزة التلفزيون تدور، عبد المطلب واليماني يتقدمان، عبد المطلب يصافح الملك. أحمد عبد الوهاب يلتفت ليقدم الوزير. يتقدم القاتل ويمد الملك يده ليصافحه، فيقبض القاتل على يد الملك اليمنى ويخرج مسدساً من عباءته ويطلق ثلاث رصاصات بيده اليسرى فيصاب الملك برصاصتين. كل هذا حدث في ثوان جعلت الأحداث تختلط حتى تصور بعض الموجودين أن الملك قال "أمرك يا سيد" بعد أن أصيب.

علماً أن جريدة اللواء البيروتية كانت قد نشرت في 27-3-75 نقلاً عن الملك خالد تقول : ألقى الملك برأسه إلى الوراء عقب إصابته وتوجه إلى الله بصوت عال (أمرك) ثم انكفأ على مقعده محتفظاً بابتسامته الصافية.

انفردت جريدة الأهرام بعبارة مختلفة نقلت عن الملك فيصل قبل موته تثير من خلالها كثيراً من التساؤلات حول مرتكب الجريمة ومن يقف خلفه والأسباب التي دفعته لارتكاب جريمته؛ فقد نشرت الصحيفة المصرية المعروفة في 27-3-1975 أن الملك فيصلاً قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة قال وهو يعني قاتله : "ارحموه إنني لا أكن كراهية له، إنني أودع المملكة أمانة في أيديكم، احذروا الصدامات والأعداء. حافظوا على وحدة الصفوف. أما بالنسبة لي فإنني أشعر بأنني سأموت ولن أشفى من جروحي".

لماذا طلب جلالته الرحمة لقاتله؟ هل كان يعلم بأسباب قتله؟ هل هو انتقام ندم عليه الملك مدركاً أن وقته قد حان؟ ولماذا حذر أشقاءه من الأعداء؟ ومن كان يقصد بالأعداء؟ هل قصد عدواً خارجياً محدداً تربص به لاغتياله؟ ولماذا دعا إلى وحدة الصفوف وعدم الصدامات؟ هل رأى الملك فيصل في موته عملية داخلية مدبرة؟ هذا ما سنحاول قراءته بين سطور الرواية السعودية الرسمية.

رغم التضارب الطفيف بين ما أوردته الصحف على اختلاف وجهاتها إلا أن أياً منها لم يخرج في تلك المرحلة عن إطار الإعلان الرسمي الذي قال باختصار أن ابن أخ الملك قد أطلق النار عليه في القصر، وأن القاتل مصاب بعقله أو مختل الشعور، وبالتالي فلا أحد ولا أسباب أخرى تقف وراء تلك الجريمة سوى عدم اعتداد القاتل بكامل قواه العقلية.

ويبدو أن معلومات قد تسربت إلى عدد من الصحف اللبنانية في تلك الفترة لدعم وجهة النظر الرسمية المتعلقة بهلوسة القاتل وجنونه، فتحدث بعضها عن إدمان الأمير فيصل بعض من عقاقير الهلوسة في أمريكا، بل وأن الأمر بلغ به حد الإتجار بالمخدرات، وأنه تعرض خلال فترات متعاقبة للعلاج من الإدمان في كل من مشافي لبنان والسعودية وفرنسا.

نشرت صحيفة الأنوار اللبنانية بتاريخ 26-3-1975 خبراً مفاده أن "رسميين في جامعة كولورادو الأمريكية قالوا إن فيصلاً بن مساعد اعتقل في بولبار عام 1970 بتهمة الإعداد لترويج مخدر الهلوسة LSD، وأشارت ملفات الجامعة إلى أن فيصلاً اعتقل، ولكن السلطات اضطرت إلى صرف النظر عن القضية نظراً إلى المشاكل التي قد تنجم عنها.

ثم عززت صحيفة المحرر البيروتية هذه المعلومات بخبر نشرته في 27-3-1975، وتنسب فيه إلى المدعي العام في مقاطعة بولدر قوله : إن السجلات تفيد أن الأمير فيصلاً اعتقل في 30-9-1969 بتهمة توزيع مخدرات خطرة، والاشتراك في توزيع مخدرات خطرة. وأن الأمير لم يعترض على تهمة الاشتراك في التوزيع بينما أسقطت عنه التهمة الأخرى، وظل تحت المراقبة من 17 تموز/يوليو 1970 حتى 19 نيسان/أبريل 1971. وقال المدعي العام أن تهمة المخدرات اشتملت على حيازة 22 حبة من مادة LSD وبعض الحشيش.

تُستكمل هذه الفكرة بخبر نشرته صحيفة النهار اللبنانية في 26-3-1975 ونسبته إلى مصادر دبلوماسية بعضها على اتصال بالأوساط السعودية مفاده : المعروف عن الأمير فيصل أنه مدمن مخدرات، وقد عولج في السعودية مرات، ثم عولج في لبنان فترة من الزمن كما عولج في باريس.

كما تحدثت الصحف في تلك الفترة عن معاناة القاتل من اضطرابات عقلية أو ما يشبه الجنون المتوارث مستقية معلوماتها من مصادر شبه رسمية كتلك التي وردت في مقابلة نشرت في العاشر من نيسان/أبريل من عام 1975 في صحيفة الأنوار الصادرة عن دار الصياد اللبنانية مع أحمد عبد الوهاب رئيس التشريفات في القصر الملكي والتي قال فيها أنه عندما كان يأتي الأمير مساعد، والد الأمير فيصل لزيارة جلالته كان المغفور له الملك فيصل يصر على بقاء أحمد عبد الوهاب إلى جانبه كي لا يختلي بشقيقه على انفراد.

وسرعان ما تناقلت الصحف العربية هذه الأنباء مضيفة عناصر أخرى كتلك التي أوردتها صحيفة الأهرام المصرية في 26-3-1975 حيث روت أن الأمير مساعد بن عبد العزيز : جاء إلى القاهرة مرة على طائرة وهو يلبس ملابس المارشال العسكرية، ويحمل على صدره العديد من النياشين والأوسمة المصنوعة من الذهب الخالص، ووقف على باب الطائرة وهو يضع عصا المارشالية تحت إبطه، وأخذ يسأل أين حرس الله الذي يستقبلني؟ وأدى ذلك إلى إبلاغ سلطات المطار بوصول شخصية عسكرية كبيرة، ثم اكتشف أنه الأمير مساعد بن عبد العزيز.

وتضيف الأهرام في جانب آخر : وفي جدة قام بمحاولة أخرى وقتل أحد الأشخاص ووضع في السجن بأمر من الملك بعد محاكمة عاجلة. وهو الآن محدد الإقامة في قصره، وكثيراً ما وضع تحت إشراف الأطباء لعلاجه من مرض الأعصاب.

علماً أن المراجع السعودية نفسها وفي مقالات مختلفة نشرت على شبكة الإنترنت، تجمع على وصف الأمير مساعد بن عبد العزيز بشخصية متقلبة الطباع، وتقول إن هذا التقلب كثيراً ما يميّز الشعراء جميعاً، وقد عرف عن مساعد بأنه الشاعر الوحيد بين أبناء عبد العزيز حيث وصف شعره بالرقة البالغة. كما عرف أنه فقد البصر وأصبح ضريراً بالكامل لفترة طويلة من الزمن.

برغم كل ما سبق فقد انبرى الأمير نايف بن عبد العزيز (سديري) وزير الدولة للشؤون الداخلية في الثلاثين من آذار/مارس من عام 1975 وفي مؤتمر صحفي تناقلته وكالات الأنباء ونشرته وسائل الإعلام في اليوم التالي حيث قال : إن الأمير فيصل بن مساعد " كان يتمتع بقواه العقلية خلال ارتكابه الجريمة ولا يزال كذلك".

ثم دعم الوزير أقواله التي يناقض فيها بيان الديوان الملكي وتصريحات أدلى بها جلالة الملك خالد بن عبد العزيز فقال : "إن بعض الصحف ووكالات الأنباء في الخارج تناقلت بعد حادثة الاغتيال معلومات وأقوالاً حول المجرم الذي أقدم على جريمته الشنعاء وما عرف عنه من شذوذ في تصرفاته في الداخل والخارج، ومن الاستجواب المبدئي بعد وقوع الجريمة مباشرة ظن من كان في محيط ارتكابها للأسباب الآنفة الذكر، أن من أقدم على الجريمة النكراء مختل العقل. وبفحص المجرم من قبل الأطباء المختصين تبين أنه يتمتع بقواه العقلية خلال ارتكابه الجريمة وما يزال كذلك.

ثم اختتم الأمير نايف تصريحاته التي تبرر وتوضح ما ورد من لغط في بيان الديوان الملكي أو على لسان المسئولين السعوديين فقال : نود أن نؤكد أن ما سبق وأن صدر من الديوان الملكي من وصف للجريمة هو الواقع، وعندما تستكمل الإجراءات اللازمة سيحال المجرم إلى القضاء الشرعي للحكم في جريمته بما تقتضي به أحكام الشريعة الإسلامية السمحاء.

وقد جاءت تصريحات وزير الدولة السعودي للشؤون الداخلية الأمير نايف لتؤكد ما أخذت الصحف العربية والدولية تنشره في هذا المجال فقد كتبت صحيفة روز اليوسف المصرية في 31-3-75 تقول عن الأمير فيصل : وسبق اتهامه بتعاطي عقار الهلوسة LSD ثم ثبتت براءته.

وأضافت الصحيفة في مكان آخر عن لسان أحد أساتذته في جامعة بيركلي وصفه للأمير فيصل أنه : كان يتسم بالأدب الجم، وكان ودوداً وذكياً. كما نقلت صحيفة السفير البيروتية في 27-3-75 عن أليس بنز مديرة الكلية التي درس فيها اللغة الإنجليزية قولها : أنه كان حسن المظهر ودوداً جداً ومهذباً وذا تربية حسنة.

كما نقلت صحيفة اللواء البيروتية عن مالك المنزل الذي كان يسكنه الأمير فيصل في بركلي 28-3-75 أيضاً أنه : كان أهدأ وألطف شخص أقام عندي.. وأن أغرب ما فيه أنه كان يدفع في أغلب الأحيان فواتير ندمائه وكان ذلك شيئاً طيباً لأن ندماءه كانوا من الفقراء، ولم يكن الأمير يهتم كثيراً بالمال.

وفي السابع من نيسان أبريل من عام 1975 نشرت مجلة نيوزويك الأمريكية تقريراً تقول فيه : إن البروفيسور إدوار رزق الذي درّس الأمير الشاب العلوم السياسية في جامعة كولورادو الأمريكية وصفه : بأنه شاب لطيف ومحتشم للغاية وغير دعي (متواضع)، ولم يتصرف أبداً ككونه من الأسرة الملكية.

وأضافت المجلة الأمريكية في جانب آخر منها عن لسان صديقه سام زاخم اللبناني الذي كان ممثلاً رسمياً لجامعة كولورادو : إنه يعتقد أن الأمير فيصلاً لم يكن يستعمل المخدرات، ووصفه بأنه مسلم تقي وسياسي معتدل محب للحياة الأمريكية. وأضاف : إنني أعرّفه أنه ليس مصاب بعقله.

بعد تفنيد اتهامات الجنون ورفع جانب من ادعاءات الهلوسة وتعاطي المخدرات عبر الأدلة وشهود العيان من المقربين الذين عرفوا الأمير فيصل عن قرب أثناء إقامته ودراسته في الولايات المتحدة الأمريكية أو حتى من خلال ما قالته المصادر الرسمية على لسان الأمير نايف بن عبد العزيز حول ما نجم عن فحوص وتحليلات تؤكد صحة المتهم الجيدة وتمتعه بكامل قواه العقلية أثناء ارتكاب الجريمة أو بعد ذلك خلال وجوده في الأسر، تعود الأسئلة لتطرح نفسها مجدداً حول الدوافع والأسباب الكامنة وراء اغتيال جلالة الملك فيصل تغمده الله بواسع رحمته.

يقول الأمير طلال بن عبد العزيز آل سعود[1]: "حينما سمعنا هذا الكلام وقلنا أمريكا لها يد، وأمريكا تنتقم من الملك فيصل من أجل قطع البترول عنها، قيل كلام من هذا القبيل، نقلوه عن الملك سعود حين نحِّي عن العرش، قالوا هذا الأمر تدخل فيه الأمريكيون فخلعوا سعود وجاؤوا بفيصل، وهذا غير صحيح. الذي خلع سعود وعين فيصل هم إخوانه، وهذا من حقهم.

وتابع الأمير طلال في المصدر نفسه : إذا وجدوا أن هذا بديل للآخر وأفضل يتصرفون كيفما يشاؤون وقالوا : انتقاماً.. من قطع سعود للبترول سنة 1956م.. فجاء العام 1973م فقالوا قتلوا الملك فيصل لأنه قطع النفط عن الغرب، لا أبداً، لقد شكلت لجان، وبحثت الأمر، وبأمر من الملك خالد وتأييد من الأمير فهد وإخوانه، وأثبتت أن عملية قتل الملك كانت عملية شخصية".

المؤسف هنا هو أن اللجان التي بحثت الأمر والتي تحدث الأمير طلال عنها والتي أثبتت أن عملية قتل الملك فيصل كانت عملية شخصية، لم تصدر أي تقرير تشرح فيه ما توصلت إليه تلك اللجان، لتوضح على الأقل ما تعنيه بأنها عملية شخصية، وما هي المسائل الشخصية المستعصية بين سمو الأمير وجلالة الملك إلى درجة تستدعي تصفيتها على النحو الذي أودى بحياة العاهل السعودي؟

هذا ما يدفعنا إلى البحث في حياة الأمير فيصل، في محاولة منا للإطلالة على ما يمكن تفسيره بالمسائل الشخصية أو أي جوانب أخرى تكشف لنا عن أسباب أخرى قد يكون لها دور في وصول الأمور إلى هذا المستوى من العنف والحل الدموي بين أفراد الأسرة الواحدة.

ولد الأمير القاتل عام 1950 وهو أحد أبناء الأمير مساعد وهو الابن التاسع لعبد العزيز، إذ ولد عام 1923 في السنة نفسها التي ولد فيها الملك الحالي عبد الله؛ وتشير المراجع التاريخية المتوفرة أن الأمير القاتل هو حفيد الأمير محمد بن طلال، آخر أمراء آل رشيد الذي سبق وتحدثنا عن أسره من قبل عبد العزيز بعد استيلائه على مدينة حائل عاصمة آل رشيد ونقله إلى الرياض ليتزوج من ابنته جواهر دون أن ينجب منها، في حين زوّج شقيقتها الصغرى وطفاء لابنه مساعد عام 1944، وقد أنجبت وطفاء خالد الذي قتل بتهمة التطرف ومهاجمة محطة تلفزيونية عام 1966، وفيصل الذي قام باغتيال عمه الملك فيصل عام 1975.

نشأ الأمير فيصل في أوساط عائلة جده من أمه التي طلِّقت وهو في السادسة من عمره. ويبدو أن أسرة آل الرشيد ما كانت لتخفي أحقادها القديمة على آل سعود، إذ يقال إن محمد بن طلال قام بعدة محاولات لاغتيال عبد العزيز، ويقال أيضاً أن جواهر، خالة الأمير فيصل، التي تزوجها عبد العزيز قد حاولت قتله وأنها تسببت أثناء المحاولة في فقدانه إحدى عينيه. نذكر أن هذه المعلومات ليست موثقة ولكنها تذكر في كثير من المقالات غير الموقعة على شبكة الإنترنت.

تقول صحيفة السياسة الكويتية في 29-3-75 أن فيصل بن مساعد قد سافر إلى الولايات المتحدة لدراسة العلوم السياسية هناك، فالتحق بداية في جامعة سان فرنسيسكو حيث درس اللغة الإنجليزية تمهيداً للدراسة الجامعية، ثم التحق بجامعة كولورادو عام 1967 كما قالت جريدة المحرر اللبنانية في 29-3-1975، ليحصل منها على شهادة الليسانس في العلوم السياسية عام 1971. أي أنه لم يرسب أو يتأخر عاماً واحداً في دراسته.

وقالت صحيفة الفجر القطرية في 5-4-75 أنه التحق في العام نفسه بقسم الدراسات العليا في العلوم السياسية بجامعة كليفورنيا حيث حصل على شهادة بالدراسة العليا عام 1973. وتابعت الصحيفة القطرية في العدد نفسه أنه عاد إلى السعودية عام 1974 حيث عُين أستاذاً في جامعة الرياض.

وأضافت الصحيفة القطرية أن فيصلاً قد فصل من التدريس لعدم انسجام آرائه السياسية مع المسؤولين الجامعيين الذين طعنوا بشهادته العلمية الصادرة عن جامعة أمريكية. علماً أن مكتب وكالة الأسوشياتد بريس الأمريكية للأنباء أصدر تقريراً في بيروت 19-6-1975 يؤكد فيه أن فيصلاً قد تخرَّج من ثلاث جامعات أمريكية.

وعن آرائه السياسية التي يبدو أنها لم تنسجم مع المسؤولين في الرياض فقد اكتسبها كما تقول السفير في 27-3-1975 عبر "وجوده في الولايات المتحدة التي كانت بمثابة فترة يقظة". وأضافت السياسة الكويتية في عدد 29-3-1975 : أن التقارير التي جمعتها من الأوساط المطلعة عن كثب على حياة الأمير فيصل بن مساعد، تفيد أنه بينما أمضى فترة صباه في الولايات المتحدة فقد أقام علاقات مع المنظمات السياسية الراديكالية هناك.

وأضافت السياسة في العدد نغسه أنه : عند انتقاله من كلية ولاية سان فرنسيسكو إلى جامعة كولورادو، عاش هناك مع مجموعة من الطلبة الراديكاليين. وأكدت الصحيفة الكويتية : إن الأمير أصبح أكثر راديكالية بعد انتقاله من "كولورادو" إلى الحرم الجامعي في "بيركلي" التابع لجامعة "كاليفورنيا" عام 1971، بحكم أن بيركلي أرض خصبة للنشاطات الراديكالية في الستينات وأوائل السبعينات.

ويبدو أن هذه الراديكالية أخذت تنعكس على سلوكه الشخصي إذ أكدت جريدة السفير في تقرير لها نقلاً عن صحيفة التايمز اللندنية في 29-3-1975 أن الأمير فيصل : كثيراً ما كان يبدو قلقاً لانتمائه إلى الأسرة الحاكمة في السعودية. وتضيف الصحيفة نقلاً عن النيويورك بوست : إنه دأب على انتقاد سياسات الأسرة المالكة السعودية.

كما تؤكد جريدة السفير نقلاً عن التايمز أيضاً : لوحظ ميل الأمير فيصل نحو اليسار، سيما في العام الأخير له في جامعة بيركلي، وأنه راح يقضي في ذلك العام وقتاً أطول مع الماركسيين العرب، ومؤيدي منظمة التحرير الفلسطينية، وقد كان متطرفاً صلباً بالنسبة للقضية الفلسطينية، وكان معادياً للصهيونية، ويعتقد أن موقف أسرته ضعيف بالنسبة لهذه المسألة.

وتقول صحيفة بيروت في 2-4-75 أن الأمير فيصل : رفض قبول العلاوة السنوية التي تدفع لأمراء العائلة المالكة، وكانت علاوته هذه تبلغ حوالي 15 ألف دولار في السنة.. كما أنه أصبح : لا يحب مصاحبة أفراد الأسرة الآخرين في العائلة المالكة. وتؤكد النهار اللبنانية في 29-3-75 أنه طلب إبدال جواز سفره السياسي بجواز سفر عادي.

أما جريدة الدنيا فقالت في 27-3-75 مؤكدة أنه : معروف بين زملائه من الطلاب بأنه ذو مواقف وطنية ومعارضة للنظام السعودي، بينما تقول السفير في 29-3-75 نقلاً عن التايمز اللندنية قول أحد أصدقائه : أنه غالباً ما كان يردد أن أسرته هي أكبر عقبة في وجه التقدم في العالم العربي، وأن همّ الأسرة الحاكمة في السعودية الوحيد هو التعاون مع شركات البترول الأمريكية وإبقاء الشعب متخلفاً.. ما جعله على خلاف دائم مع سائر أفراد العائلة المالكة بسبب سلوكه واتجاهاته السياسية.. ما دفع أحد الأمراء النافذين لنصحه بتغيير سلوكه.

لا شك أن هذه النصيحة لم تأت من فراغ بعد كل ما ذكر، خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار أن ما نقل عن معارفه قد توج بشهادة خطيرة أكدت سعيه إلى وضع وجهات نظره "المشاكسة" ضمن إطار للعمل الجماعي أو ما يشبه العمل التنظيمي أو الحزبي، وهذا ما أكّدته صحيفة المحرر البيروتية في عددها الصادر في 29-3-1975 من أن فيصلاً : عندما غادر بيركلي كان في حالة اضطراب شخصي، وكان يبحث عن إطار أيديولوجي كما يقول أصدقاؤه ومعارفه.

ويبدو أن هذا المنحى في اقتران التفكير والقناعات بإيجاد السبل الملائمة للعمل على وضع قناعاته قيد التنفيذ بعد عودته إلى السعودية، قد سبب له ردة فعل سلبية من قبل أسرته، إذ قالت صحيفة السياسة الكويتية في عددها الصادر في 29-3-75 : أن الأمير كان ممنوعاً في الفترة الأخيرة من السفر إلى الخارج. وهو ما أكّدته صحيفة بيروت في 2-4-1975 عن محاولات بذلها فيصل بن مساعد لتجديد جواز سفره، للسفر إلى الخارج، ولكنه فشل في الحصول على موافقة ملكية.

نعتقد أن ما قمنا به من استعراض لأفكار ومعتقدات وسلوك الأمير فيصل بن مساعد الشخصي، نقلاً عن معارفه والذين عايشوه أو تعاملوا معه عن قرب منذ خروجه إلى الولايات المتحدة حتى عودته، وما ذكر عن ظروف عيشه في كنف عائلة جده من آل رشيد، إلى جانب ما أوردته الصحف العربية والدولية من تفاصيل أخرى، جرى تداولها حول شخصية القاتل لن يكتمل إلا بقراءة حرفية لبيان الديوان الملكي الذي صدر بتاريخ 18-6-1975، بعد ساعات من إعدام فيصل بن مساعد، لما فيه من اتهامات لم ترد على لسان أي من معارفه ولكنه قد يسلط الضوء على القراءة الرسمية السعودية لدوافع فيصل في قتل عمه الملك.

بني بيان الديوان الملكي السعودي في اليوم التالي من صدوره، أي في 19-6-1975، في صحيفة السياسة الكويتية وقد جاء يفند أسباب الحكم، على نحو يقول : وقد بني الحكم على ثبوت اقترافه جريمة القتل العمد السابق القصد، والإصرار بالأدلة القاطعة الدامغة، وباعترافه الصريح لدى المحكمة الشرعية المنوه عنها، والذي أصر فيه على مبادراته المنحرفة، وعلى رفضه للدين الإسلامي الحنيف وشريعته الغراء وإعترافه بأن الدافع لجريمته هو اعتقاده بأن الفقيد الشهيد فيصل بن عبد العزيز كان هو الزعامة العالمية التي تدعو لاستمرار الدين الإسلامي، ونشره في العالم، وأنه يفضل إنهاء الدين الإسلامي تماماً لأنه يساعد على الاتكالية ويعطل عجلة التطور وأنه أقدم على قتل الملك الشهيد من أجل تغيير الدين الحنيف، وأنه لا يرى داعياً لإقامة الشعائر الدينية كالصلاة والصيام والحج، ويعتقد أن على الدولة أن تمنع الناس من ممارسة الصلاة في المساجد. لكل ذلك أصدرت المحكمة الشرعية حكمها باعدامه حداً إذ وجدته باعترافاته التي أصر عليها محارباً للإسلام، وأن الجريمة التي نفذها هي جزء من أهدافه لمحاربة الإسلام والقضاء عليه، وأنه لذلك يكون من أعظم المفسدين في الأرض المحاربين لله ورسوله، واعتقاداته هذه تخرجه من الإسلام وتبيح دمه. (هنا ينتهي البيان).

وقد تعززت هذه الاتهامات الرسمية التي بني عليها حكم الإعدام بتصريحات كتلك التي أدلى بها وزير النفط السعودي بتاريخ 22-8-1975 إلى مجلة أوربيو الإيطالية بقوله : إن فيصل بن مساعد كان يسارياً، واعتقد انه لم يكن يسعى إلى القضاء على شخص الملك فحسب، بل كان يريد القضاء على النظام.

من مشاكل بحثنا، بل وربما من الأسباب الرئيسية في العمل عليه، أن اللجان التي تحدث عنها الأمير طلال بن عبد العزيز والتي تشكلت بأمر من الملك خالد للوقوف على أسباب جريمة القتل، والتي بينت، كما قال الأمير طلال، أن الجريمة قد وقعت لأسباب شخصية، لم تنشر أي تقرير واضح ومحدد، كما لم تصدر لجان التحقيق مع المتهم أي محضر يذكر من جلساتها معه، ما يثير علامات استفهام يصعب الإجابة عليها.

هذا ما يدفعنا في هذه الحالة إلى الاستعانة بأجزاء من التحقيق الذي أجري مع الأمير فيصل، وقال المعارض السعودي عبد الرحمن ناصر الشمراني[2] أنها قد تسربت بواسطة المقربين من الحكم؛ كما أكدت العديد من المراجع الإلكترونية السعودية صحة ما ورد فيها، ومع ذلك لم نستطع العثور على مصادر أخرى تتقاطع معها لتؤكد دقتها، ولكن أبرز ما يدفعنا إلى الاستعانة بهذا المصدر هو أنه يسلط الضوء على ما قد يكون جزءاً مما أشار إليه الأمير طلال بقوله "أن أسباباً خاصة بالقاتل تكمن وراء عملية الاغتيال".

قال الشمراني أن إفادة فيصل بلغت 18 صفحة هاجم فيها الحكم السعودي ولم يدافع عن نفسه، مصراً على أنه عمل بوعي للمسؤولية وما يمليه عليه ضميره، وأن عجرفة الملك فيصل وكبرياءه تجاه ما قدمه له من نصائح، هي التي دفعته إلى ما أقدم عليه بعد استنفاده كل الوسائل للفت نظر الملك فيصل إلى سوء الأوضاع وضرورة إصلاحها.

قال فيصل بن مساعد في أجزاء التحقيق المسربة أنه تقدم بالنصح للملك فيصل ثلاث مرات، بيّن له فيها أن الشعب غير راض عن سياسته وأن الكثير من أفراد الأسرة الحاكمة يتحدثون عن المصير الأسود الذي ينتظر العائلة نتيجة لسياسته الهوجاء.

وأضاف الأمير أن الملك فيصل كان ينظر بازدراء إلى أقواله ويحسبه طفلاً لا يفقه ما يقول، وأن كل ما فعله الملك تجاه تلك النصائح أن صادر جواز سفره. نلفت النظر إلى أن معلومة جواز السفر هذه تتقاطع مع ما ذكرته الصحف الواردة أعلاه من أنباء عن رفض الملك السماح بتجديد جواز سفره.

في جانب آخر من التحقيق المسرب يرد أن الملك اتهمه في المرة الرابعة بالخلاعة وتعاطي المخدرات والإتجار بها، فأجابه بن مساعد بأنه لا يتعاطى المخدرات ولا يتاجر بها، وأن الذين يتعاطون المخدرات ويتاجرون بها من الأمراء معروفون لفيصل، وأن الملك يتعمد التغاضي عنهم، وهم على بعد أمتار منه.

يظهر في التحقيق المسرب أن الملك فيصل طلب منه لائحة بأسماء من يتعاطى من الأمراء وبعد يوم واحد جاءه بن مساعد بكشف يتألف من سبع صفحات، ما دفع بفيصل إلى اتهامه بالتشنيع على الأسرة ومحاولة هدم كيانها، ثم طرده من مجلسه بصلافة. فلم يجد بن مساعد جدوى من النصيحة فصمم على وضع حد لاستهتاره ونفذ ما اعتزمه بتبصر وتصميم. فتقرر إعدامه.

برغم إخفاء محاضر التحقيق وعدم نشر أي وثائق رسمية تحمل اعترافات القاتل أو إجراءت المحاكمة، إلا أن تنفيذ قرار الإعدام قد تم بعلم أكثر من ستة آلاف شخص وبحضورهم، وقد تم إحضارهم، كما كتبت صحيفة الأنوار في 19-6-75، بواسطة مكبرات الصوت عصر يوم الأربعاء على خلاف ما اعتادت السلطات السعودية على إقامته من مراسم الإعدام ظهيرة أيام الجمعة من كل أسبوع.

وقالت صحيفة السياسة الكويتية في 2-4-1975 أن أوساطاً من الأسرة السعودية حاولت إقناع أبيه وأخوته بأن يتولوا إعدام القاتل بأنفسهم، ولكنها فشلت في ذلك أمام رفض العائلة تحمل مسؤولية قتله. فاقتيد فيصل بن مساعد معصوب العينين حاسر الرأس موثوق اليدين إلى ساحة تقع أمام قصر الحكم في الرياض، كما قالت صحيفة بيروت في 19-6-75، التي أضافت أنه أقعد على الأرض، وكان كما قالت الأسوشياتد برس هادئاً وهو يجثو أمام منصة الإعدام.

ووصفت صحيفة السياسة الكويتية الصادرة في التاريخ نفسه جانباً آخر من المشهد فقالت : أشرع السياف سيفه وهوى به على رقبة فيصل بن مساعد، فسقط جسده وتدحرج رأسه إلى الأمام، وبعد قليل رُفع رأسه على قناة ليراه الناس وعُلق جسمه منكوساً على لوح من الخشب ليكون عبرة لمن يعتبر.

وهكذا نقرأ في ثنايا القصة الرسمية المعلنة بعضاً من التأرجح بين الاتهام بالجنون وتعاطي المخدرات تارة والانتقال من هناك إلى الاعتراف بتمتع القاتل بكامل قواه العقلية تارة أخرى، والتركيز أحياناً على الأسباب الشخصية والأفكار الخاصة بالقاتل، ثم الانتقال منها إلى أسباب قد تكون على صلة بواقع السعودية ومصير الأسرة أحياناً أخرى، بالاضافة إلى ما أحاط ذلك من تقارير صحفية ساهمت في تسليط الضوء على جوانب كثيرة من تلك الواقعة التاريخية التي نحن بصددها.

برغم الترابط النسبي في هذه المجموعة من الوقائع المتناقضة أحياناً والضعيفة أحياناً أخرى، إلا أنها قد تكون مبررة نسبياً، فقد ينبع اتهام القاتل بالجنون بداية من حالة الاضطراب التي أثارها الحادث نفسه، وربما كان التراجع عن اتهامه بالجنون ضروري لمحاكمته وإعدامه، وربما كان التشهير بتعاطيه المخدرات نوعاً من إلقاء اللوم على عوامل ليست بيد المتهم وكأنها أرادت الرأفة به بتحميل مسؤولية ما فعله لهلوسة المخدرات، علماً أن تهمة الإتجار بها كانت أمراً مبالغاً فيه، خصوصاً وأن أميراً يتلقى كل الدعم المالي اللازم قد لايحتاج إلى تجارة من هذا النوع.

وهكذا يمكن اعتبار الرواية الرسمية وما احاط بها من معطيات، قصة مترابطة نسبياً خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار ما قيل عن اعتناق القاتل لأفكار يسارية وقومية كانت تنتشر خلال الستينات وبداية السبعينات في أوساط شبابية اتسمت بالتمرد والعصيان في أمريكا تحديداً لما عرفت فيه تلك الفترة من حركات تحرر فكري وتجمعات احتجاجية مطالبة بالحقوق المدنية ومناهضة للتمييز والحرب في ظل هزائم جرجرت الولايات المتحدة أذيالها في فيتنام وكمبوديا ومناطق أخرى من العالم.

ولكن هذا القول الأخير يذكرنا أيضاً بما أثير في تلك الفترة من اتهامات وجهت إلى واشنطن بارتكاب هذه الجريمة على أثر المواقف الفريدة التي عرف بها الملك الراحل، وتحديداً ما يتعلق منها باستخدام سلاح النفط في حرب أكتوبر من عام 1973، أو ما يتعلق بالجملة الشهيرة التي يقال إن الملك فيصل قد أدلى بها إلى وزير الخارجية الأمريكي حول تقدمه في السن ورغبته الشديدة بالصلاة في المسجد الأقصى، موحياً بذلك إلى إصراره على ممارسة الضغط الأمريكي على إسرائيل كي تنسحب من الأراضي العربية المحتلة.



ب - احتمالات التورط الأمريكي في جريمة اغتيال الملك المعظم

تكثر الروايات السعودية والعربية الداعمة لفكرة التورط الأمريكي في اغتيال الملك فيصل وقد اقتبسنا الأبرز من تلك المنتشرة على شبكة الإنترنت باللغة العربية والتي جاءت على النحو التالي : (بالحرف المائل أصغر) صباح الثلاثاء الموافق 12 ربيع الأول (ذكرى مولد رسول الله) 1395 هـ، 25 مارس 1975م، دخل على الملك أحد أبناء عمومته، وكان بابه مفتوحًا للقريب والبعيد، فدخل الأمير "فيصل بن مساعد بن عبد العزيز"، وكان معروفًا عنه، معاقرة الخمر، فأطلق عدة رصاصات على الملك فيصل، فمات متأثرًا بجراحة. والقاتل هذا تعلّم فى أمريكا فكان هو الأداة التي أطلقتها أمريكا لاغتيال الملك فيصل (رحمه الله ).

فقد غسلوا مخه تمامًا وارضعوه الحقد والغل على الملك فيصل وعندما أعلنها الملك العظيم فيصل للدولة الصليبية الأمريكية أنه مستعد أن يعود للخيام ويستغني عن البترول إذا استمرت أمريكا في مساعدة إسرائيل.

وعندما اجتمع هنري كيسنجر مع الملك فيصل وقال له الملك : ( إن سني قد كبرت وأريد أن أصلى في المسجد الأقصى) لم تطق أمريكا هذا الملك فأوعزت إلى قاتله، فكانت رصاصات الغدر والخسة والنذالة في صدر الملك فيصل ليقابل ربه شهيداً ما أراد وتمنى. ومن هنا نستطيع أن نقول إن القاتل الحقيقي للملك فيصل رحمه الله هي أمريكا عليها لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. (انتهى الاقتباس).

مع انتشار نبأ اغتيال الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود ظهر الثلاثاء 25 آذار/مارس، قال موظف الاستقبال في أحد فنادق بيروت الكبرى : لم يحصل بعد في التاريخ ما حصل في السعودية، ملك كبير مثل فيصل يقتل داخل ديوانه الخاص، وعلى مرآى ومسمع من حراسه ومرافقيه ومعاونيه وزواره، وعلى يد ابن أخيه، ثم يقال إن القاتل مجنون. المجنون وحده هو الذي يصدق مثل هذه الرواية. هذا ما كتبته مجلة الدستور اللبنانية بعيد أيام من موت جلالته في الخامس من نيسان/أبريل 1975.

ولو بحثنا في ويكيبيديا، الموسوعة الحرة على شبكة الإنترنت عن اغتيال الملك فيصل لوجدنا الفقرة التالية : "في يوم الثلاثاء 25 مارس/آذار 1975، قام فيصل بن مساعد بن عبدالعزيز آل سعود باغتياله عن طريق إطلاق النار.. تأكد بعدها من أن المجرم القاتل مدفوع بحقد أمريكي صهيوني شيوعي وهم الأعداء الثلاثة للملك فيصل".

برغم دقة هذا الاتهام الخطير إلا أنه يستدعي التأكد منه وعدم الاستهانة أو الجزم بمعطياته مهما بلغت من وضوح، خصوصاً حيال ما ينتاب المراقب من شك وريبة في السلوك الأمريكي الغامض والمبهم في كثير من هذه القضايا المشابهة، فالمعروف عن واشنطن أنها لا تتردد بارتكاب أي جريمة إذا استدعت مصالحها ذلك، هذا ما تؤكده سياستها الخارجية على مدار القرن الأخير من التعامل مع مختلف الشعوب.

لقد كيلت الاتهامات العشوائية بوتيرة متصاعدة منذ اللحظة الأولى لانتشار خبر اغتيال الملك فيصل على صفحات مختلف وسائل الإعلام العربية من المحيط إلى الخليج، ولو عدنا إلى تقارير وكالات الأنباء الإقليمية على اختلافها لوجدنا عبارات مبهمة تشير إلى وجود مؤامرة ما تحاك ضد الأمة العربية تستهدف الإساءة إلى وحدتها وأن هذه الحادثة تشكل بداية لمؤامرة ستشهدها المنطقة في القريب العاجل وما شابه ذلك من جمل وعبارات موازية.

بعد يومين فقط من وقوع الجريمة وفي 27-3-75 أي قبل انجلاء الصورة عن وقائعها كتبت صحيفة الأخبار المصرية تقول : أن الكثيرين يتساءلون عما إذا كانت توجد مخططات أجنبية وراء الاغتيال المقصود بها التخلص من صديق مصر الذي تعتمد عليه اعتماداً كبيراً. ثم تساءلت صحيفة الرأي العام الكويتية في اليوم نفسه "عما إذا كان اغتيال الملك فيصل قد تم بأيد أجنبية".

والحقيقة أن عبارة الأجنبية هنا لا تعني الولايات المتحدة وحدها بل تشمل الصهاينة أيضاً وهذا ما أوردته صحيفتي المحرر واللواء في 28-3-75 نقلاً عن مصادر سعودية، من حديث عن مؤامرة صهيونية فقالتا : إن بعض السعوديين قد ألمح إلى أن الاغتيال ربما كان له علاقة بالميول اليسارية لدى القاتل، أو أنه جاء نتيجة علاقات صهيونية.

أما السياسة الكويتية فقد نشرت في 1-4-75 مقابلة لشخصية أندونيسية عالمية جاء فيها : اتهم أحمد جايشو رئيس المنظمة الإسلامية الدولية بجاكرتا اليوم الحركة الصهيونية الدولية بأنها المحرض في اغتيال الملك فيصل ملك المملكة العربية السعودية، وقال إن ردود فعل وتعليقات المسؤولين الإسرائيليين تحمل على الاعتقاد أن الصهيونيين شاركوا في تدبير هذا الاغتيال. وأضاف أحمد جايشو أن الملك فيصلاً كان معروفاً بآرائه العنيفة ضد إسرائيل وأنه من المحتمل أن يكون بعض العملاء الصهيونيين قد استغلوا الأمير فيصلاً بن مساعد أثناء وجوده في الجامعة الأمريكية ليكون لعبة في أيديهم.

أثيرت جوانب من هذه المسألة في مجلة الصياد اللبنانية الصادرة في 10-4-75 على نحو يربط الدوائر الصهيونية بالأمريكية فقالت : إزالة الملك فيصل كانت هدفاً مطروحاً في الدوائر الصهيونية والأمريكية منذ حرب أكتوبر. بل يمكن القول إن هذا الهدف طرح كمطلب للتنفيذ منذ حزيران 1967، وقد اكتشفت بالفعل عدة محاولات انتهت كلها إلى خيط أمريكي.. حتى أن الملك استدعى السفير الأمريكي مرة وسأله على طريقته : كيف تفسر كون جماعة المؤامرات والفتن والمنحرفين الذين يظهرون في المملكة هم على صلة بالولايات المتحدة؟

وقد انبرت أقلام جريئة مشهود لها بصدقيتها في الوطن العربي تدافع عن فكرة التورط الأمريكي في اغتيال الملك الراحل، فكتب الأديب المصري الكبير إحسان عبد القدوس في اليوم التالي من وقوع الجريمة 26-3-75 مقالة افتتاحية في جريدة الأهرام تحت عنوان "ماذا بعد فيصل" يقول فيها : منذ سنوات وأحاديث كثيرة تتردد عن صورة الحكم في السعودية بعد فيصل، وترددت بعض هذه الأحاديث كأنها لا خطط قد وضعت للتنفيذ بعد الوفاة - ولم يكن الإغتيال يخطر على بال- وبعضها خطط نسبت إلى جهات أجنبية، وإلى الولايات المتحدة بالذات.

كما كتبت مقالات تحليلية أكثر دقة كتلك التي نشرت في صحيفة المحرر البيروتية في 27-3-75 يتساءل الكاتب فيها قائلاً : بكلام أكثر أمانة وصراحة هل كان فيصل الصغير أداة بلهاء غبية في عملية من "العمليات القذرة" التي احترفتها وكالة المخابرات الأمريكية؟؟ وتضيف الصحيفة أن هذا : مجرد سؤال.. مجرد تكهن، إذ يكاد المريب يقول خذوني، قد سارع كيسنجر يقول سلفاً دون أن يوجه إلى حكومته أو أجهزته اتهاماً صريحاً وواضحاً : إنني واثق تماماً بأنه لا أحد في الولايات المتحدة له مصلحة في اغتيال الملك فيصل.

ووصل الأمر ببعض الصحف أن أشارت إلى إثارة مواضيع محددة اعتبرتها أسباب خلافات دفعت واشنطن للتخلص من فيصل، وهذا ما تناقلته صحف عربية عن رواية نشرت في الجمهورية القاهرية مفادها : أن الخلافات المريرة التي نشبت بين الملك فيصل، ملك "المملكة العربية السعودية" الراحل والولايات المتحدة جعلت الملك يسد الطرق أمام جميع الاتفاقات الاقتصادية والسياسية بين البلدين، وقالت الصحيفة أن الخلافات نشبت أثناء المباحثات التي جرت في واشنطن بين محمد أبا الخيل ووليم سايمون وزير الخزانة الأمريكية.

وأضافت الجمهورية في جانب آخر من المقالة الصادرة في 27-3-75 أن : ثمة مزاعم تفيد بأنه بينما كان جدول الأعمال يضم بنداً بشأن مناقشة استثمار فائض أموال البترول، أصر سايمون على مناقشة المقاطعة العربية، وعندئذ قطع أبا الخيل المباحثات واتصل تلفونياً بالرياض، وتلقى تعليمات بالعودة إلى الوطن فوراً. وتقول الصحيفة المصرية أن فيصلاً شعر بالغضب وأوقف جميع الاتفاقيات مع الولايات المتحدة. بينما أكّدت في جانب آخر منها أن سايمون نفى في واشنطن حدوث أي خلافات سعودية. ولم يقتصر توجيه الاتهامات إلى الولايات المتحدة على الصحف العربية فحسب بل انتقل إلى وسال الاعلام السوفيتية إذ نشرت وكالة رويتر في اليوم التالي من الجريمة برقية من موسكو ذكرت فيها أن الصحف السوفيتية ألمحت بقوة إلى أنها تعتبر وكالة الاستخبارات المركزية لها علاقة باغتيال الملك فيصل. ونسبت إلى وكالة أنباء تاس السوفيتية الرسمية قولها أن : لا حاجة إلى الإشارة إلى من فعل ذلك، إن الأحداث في تشيلي وقبرص تعطي فكرة كافية عمن خطط للجريمة. وهي بذلك تشير إلى تورط الاستخبارات الأمريكية باغتيال الرئيس التشيلي المنتخب سلفادور أليندي والرئيس القبرصي الراحل المطران مكاريوس.

ونسبت جريدة الأنوار في 28-3-75 إلى صحيفة إزفستيا لناطق بلسان الحكومة السوفيتية في مقال بعنوان : من الذي أطلق النار؟ قوله في أن السعودية كانت هدفاً رئيسياً لتدخل عسكري غربي في حال قيام ظروف طارئة جداً. كما نسبت السياسة الكويتية في 1-4-75 إلى صحيفة البرافدا قولها : أن الملك السعودي كان يتبع سياسة موالية لأمريكا غير أن مواقفه الأخيرة في نزاع الشرق الأوسط ومشكلة البترول أكسبته استياء وغضب ما وراء الأطلنطي. وختمت برافدا قائلة : لقد رأى البعض على ما يبدو أن الملك فيصلاً أصبح عقبة كبيرة، وأشارت إلى أن المراقبين الغربيين وجهوا إصبع الاتهام إلى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ولكن بدون تقديم أدلة ملموسة.

قدمت جريدة الدنيا اللبنانية في 28-3-75 معلومات مهمة قالت أنها تلقتها من مصادر موثوقة : تحدثت عن احتمال وجود أصابع للاستخبارات الأمريكية في حادث اغتيال الملك فيصل، وذلك من ضمن اللعبة الأمريكية القائمة على أساس تغيير الرؤوس فترة بعد فترة، انطلاقاً من مبدأ أن الاستقرار الطويل يخلق المتاعب للبيت الأبيض. وتقول معلومات الصحيفة أن الملك الراحل كان يعرف أن الاستخبارات الأمريكية تخطط لاغتياله أو الإطاحة به وأن هناك احتمالاً كبيراً بأن تكون هناك فئة ثالثة قد استغلت صراع الأجنحة داخل المملكة وضربت ضربتها باغتيال الملك.

ثم روت الصحيفة قصة انقلاب عسكري كان المفروض أن يقوم في 26-3 بقيادة فئة من الأسرة المالكة بالاتفاق مع عدد من الضباط. وأضافت أن سفيراً عربياً في بيروت تربطه علاقة وثيقة بأهل الحكم في السعودية قال : أن الملك فيصل قد أسر إليه أن وكالة الاستخبارات الأمريكية تخطط الآن للاطاحة بأكثر من رأس. وتسأل الدنيا : هل يعني ذلك أن رصاصات فيصل بن مساعد قد جاءت من طرف ثالث لقطع الطريق أمام الانقلاب؟

تطرقت مجلة المجالس الكويتية في 29-3-75 إلى جانب آخر من احتمالات تورط واشنطن باغتيال الملك فتساءلت : هل بدأت الاستخبارات الأمريكية في تنفيذ مخططها الاجرامي في المنطقة بعدما يئست من ترتيب الحل الاستسلامي الذي طالما سعى إليه الدكتور كيسنجر؟ وأضافت : يتساءل المراقبون هنا عن أهداف الأمريكيين من تصفية الملك فيصل وهو المعروف بعدائه الشديد للشيوعية وبعلاقاته الطيبة مع الولايات المتحدة.

وأوضحت المجالس أن : الجواب على ذلك بسيط، هو أن الأمريكيين ربما شعروا بأن الملك فيصل بات خطراً عليهم بعد مواقفه الأخيرة، فالموقف الذي اتخذه الملك الراحل في حرب تشرين 1973 وما بعدها كان يشكل موقفاً أكثر عداء للأمريكيين من أي من المواقف الأخرى، لذلك تحركت المخابرات الأمريكية لتنفيذ مخططتها، ووجدت في الأمير المعتوه الحاقد الشخص المناسب لتنفيذ المهمة.

وأكّدت المجالس : من المعروف أن العلاقات ساءت كثيراً بين الملك والولايات المتحدة عندما تأكد أن الأمريكيين قد خدعوه، وتجلت العلاقات السيئة في حرب النفط التي أعلنها الملك.. أما القضية التي كانت بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير فهي إقدام الملك فيصل على تجميد اتفاقية العشرين بليون دولار التي كانت السعودية ستوظفها في الولايات المتحدة من خلال اتفاقية اقتصادية.

وعن توقيت ارتكاب الجريمة أوردت صحيفة السياسة الكويتية في 2-4-75 أن : أوساطا خليجية عديدة وهي تراجع توقيت وظروف اغتيال الملك فيصل، لا تستبعد وجود قوى عالمية وراء القاتل، خصوصاً وأن القاتل قد وصل إلى المملكة قبل ثلاثة أيام قادماً من الولايات المتحدة. ولذلك فهناك خشية بأن يكون القاتل قد أخضع لعملية غسل دماغ سيكولوجية منظمة.

وأوضحت الصحيفة هذا الاحتمال بالقول إنه في علم النفس الجنائي هناك إمكانية لغسل دماغ نوعيات معينة من البشر وإخضاعهم بالتالي لإيحاءات مستمرة، تدفعهم دفعاً شخصياً للقيام بأعمال غير مألوفة. وتستذكر الأوساط الخليجية أثناء استعراضها لهذا الاحتمال كيف أن بعض الصحف الغربية ومنها مجلة النيوزويك قد سبق وألمحت إلى قضية الاغتيالات في قيادات الدول النفطية.

وفي ختام ما نشر عن أسباب احتمال التورط الأمريكي- الصهيوني ودوافعه في اغتيال الملك الراحل، لا بد من التطرق إلى تحقيق مطول نشرته مجلة الصياد البيروتية في 10-4-75 تساءلت في بدايته عن المستفيد من اغتيال جلالته لتجيب بالقول أن : إزالة الملك كان هدفاً مطروحاً في الدوائر الصهيونية والأمريكية منذ حرب أكتوبر، بل حتى يمكن القول إن هذا الهدف طرح كمطلب للتنفيذ منذ حزيران/يونيو 1967، وقد اكتشفت بالفعل عدة محاولات انتهت كلها إلى خيط أمريكي. ثم أضافت أن : استفادة الولايات المتحدة من الاغتيال واضحة، وقد اتجهت كل الأصابع إليها من البرافدا إلى فيكتور مارشيتي عميل المخابرات الأمريكية الأسبق وصاحب كتاب" سي أي إيه وعبادة الذكاء".

وختمت المجلة بالقول إذا صح أن اغتيال الملك فيصل مصادفة فإن إزالته كان هدفاً ترجوه - كما قالت شخصية كبيرة - كل القوى التي ترى أنه قد تحول إلى قوة غير قابلة للاختراق أو المساومة. وروى المحيطون بالملك أنه كان في السنة الأخيرة مستغرقاً في التفكير متشبثاً بالمبادئ التي آمن بها، والتي أثبتت الأيام صحتها في نظره. أصبح، كما تقول الصياد، زاهداً في الدنيا وقد تحول كما وصفه السادات إلى الرجل الموقف أو الشهيد الحي.. كان قليل الكلام، إلا في أمور الدولة، وهجر المخدع الملكي واشترى سريراً من الحديد كان ينام عليه ويتهجد في الليل. (انتهى كلام الصياد).

نقل عن سمو الأمير محمد، ابن الملك فيصل، في تلك الفترة وصفه لأبيه بالقول : "لقد أصبح منغمساً في عمله إلى درجة أنه لم يبق لديه وقت لحياته الخاصة". بينما يتذكر ابنه الأكبر عبد الله تلك الأيام بقوله : "كنا نحس بالألم، ولم نكن نستطيع عمل شيء". ويبدو أن عبد الله قد عزم على أن يجرب مواساته. كانت له فيللا صغيرة عند جدول إلى الشمال من جدة، فدعى والده ليأتي إلى هناك مساء أحد أيام الجمعة قائلاً : "لن يكون عندنا أحد إلا أفراد العائلة سنجلس في هواء الليل ونتحدث". فجاء رد والده بالقول : "شكراً، ولكن لا".

أصر عبد الله قائلاً : "أرجوك! أريدك أن تغير هذا الجو. أريدك أن تسترخي". فجاءه رد الوالد بحزم : "أتظن أنني لا أعرف لماذا تدعوني؟ وهل تظن أنني لا أحبك بسبب ذلك؟ أتمنى لو أستطيع المجيء. ولكن كيف يمكنني أن أشعر بالحرية والسعادة؟ سأظل أفكر في العمل طوال الوقت. لا أستطيع الاسترخاء. لا أستطيع أن أتذوق الحياة نفسها. أقول لك يا عبد الله، إنني لم أعد أفرق بين ما هو بارد وما هو ساخن".

هذه مجموعة من الأفكار التي نشرت في تلك الفترة مدافعة عن احتمال وقوف الولايات المتحدة بأجهزتها الاستخباراتية وأدواتها سيئة السمعة على المستوى العالمي وراء جريمة اغتيال العاهل السعودي جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز، وهي تشكل بمجمل عناصرها وجهة نظر شبه متماسكة نسبياً، خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار التستر المحكم في المملكة العربية السعودية على كل ما يتعلق بتلك الجريمة، بالإضافة إلى التعتيم الأمريكي الكامل على الوثائق المتعلقة بتلك المرحلة من تاريخ الجزيرة العربية.

هذا ما يدفعنا إلى استعراض جانب من العناوين التي اعتبرتها وسائل الإعلام العربية والدولية أسباباً قد تكمن وراء قيام الولايات المتحدة ومن خلالها مجموعات الضغط الصهيونية بجريمة الاغتيال التي راح ضحيتها واحداً من أهم الزعماء الذين عرفتهم الجزيرة العربية بل وحتى العالمين العربي والإسلامي في تلك الفترة.

من وأكثر الاتهامات التي كيلت للأمير فيصل بن مساعد شيوعاً منذ اغتيال الملك فيصل أنه تعرض للتعبئة والتحريض الصهيوني من خلال صديقته في جامعة كولورادو كرستين سورما على مدار السنوات الخمس من دراسته هناك، والتي قيل أنها يهودية الأصل تعمل في خدمة الدوائر الصهيونية في أمريكا.

قد يساعدنا في توضيح هذه المسألة ما نشرته صحيفة السياسة الكويتية في 10-4-75 من أن كرستين سورما ليست يهودية الأصل بل تنتمي إلى الكنيسة المسيحية اللوثرية وقد نشأت في بلدة لابورث بولاية إنديانا، وأن والديها من اللوثريين المتعصبين.

علماً أن اللوثرية من الكنائس العريقة في الولايات المتحدة. وقد تميّزت بمواقفها الأخلاقية من القضايا العامة حيث لا تستثمر في شركات القمار والخمور والسجائر، كما عُرفت بمحاربة الظلم والسعي إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وكانت من الكنائس التي طبّقت المقاطعة الاقتصادية ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

الكنيسة اللوثرية في أمريكا تنتقد إسرائيل على معاملتها للفلسطينيين واضطهادها لهم، وقد اتخذت مؤخراً قراراً بمقاطعة الشركات التي تتعامل مع إسرائيل، كما أصدرت فتوى تحت عنوان "سلام، وليس أسوار"، تتضمن نداءً لإسرائيل لإزالة الجدار العازل في المناطق الفلسطينية المحتلة، وعدم بناء المستوطنات على الأراضي الفلسطينية. مع أن هذا كله قد لا ينفي مسألة غسل الدماغ التي ليس هناك ما يثبت مصداقيتها بعد، خصوصاً وأن القيام بعمليات كهذه عادة ما يستتبع بإخفاء أو تمويه للشخصيات المحيطة بالجريمة وهذا ما لم يحدث لكرستين أو لأي ممن أحاطوا بالأمير القاتل.

على أي حال، لو تخطينا نظرية المؤامرة في محاولة لتلمس الوقائع المحيطة بالحدث قد نحتاج بداية إلى التذكير بسلسلة الوثائق الأمريكية التي استعرضت في الفصل الثاني من هذا البحث لتؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن البيت الأبيض قد وقف في النزاع الدائر بين الملك سعود وولي عهده على السلطة إلى جانب الفقيد الراحل فيصل بن عبد العزيز. كما توافقت معها وجهات النظر البريطانية حول تقدير فيصل لما ورثه عن أبيه من إعجاب ومودة نحو بريطانيا والولايات المتحدة؛ وهو ما نقرأه في وثيقة للخارجية البريطانية تقيم الملك فيصل بالترجمة الدقيقة كما يلي :



رأى الخارجية البريطانية فى "فيصل"، مايو/أيار 1969

فى صيف 1963 أظهرت صحته التحسن لحسن الحظ، وهو الآن، بفضل نظام غذائي حريص، فى صحة معقولة، وإن كان ضعيفاً. لكن ذهنه بقي على حدته، وهو فى غاية الدهاء، وأكثر أفراد العائلة المالكة إثارة للإعجاب، ويشاع عنه أنه فوق الفساد.



إنه أساساً رجل يتمتع بذوق بسيط، بل يقترب من التقشف، ويمقت التزلف الذي كان "سعود" يعشقه، وهو فى تعامله مع الشعب يميل بالفطرة إلى الأسلوب الديمقراطى، فى تناقض صريح مع أسلوب سلفه.



6 - إنه معجب بـ"بريطانيا"، وقد ورث عن أبيه معظم شعوره بالصداقة نحونا، إلا أن مشكلة "البريني" غير المحلولة تكبت تلك الصداقة وتؤثر على أحكامه علينا، أما "الولايات المتحدة" فقد قبلها كحقيقة من حقائق الحياة في السعودية الحديثة، وبرغم أنه يجد الكثير من موجبات الانتقاد في السياسة الأمريكية، إلا أنه يتجنب قدر الاستطاعة جرح مشاعر أقوى أصدقاء السعودية، والحرب العربية الإسرائيلية في يونيو/حزيران من عام 1967 لم تؤثر بشكل جوهري على صداقته لـ"بريطانيا" و"الولايات المتحدة"، ويبقى "ناصر" فى نظره عدواً أخطر من "إسرائيل"..، ومع ذلك فهو يتمتع بمشاعر شديدة القوة حيال "القدس".



7 - على عكس الشائع لدى آل "سعود"، أبقى فى عصمته زوجة واحدة فقط هي "عفت" (سيدة قوية الشخصية تركية الأم)، برغم أنه فيما مضى تزوج من أربع أخريات.

كما يتضح في وثيقة بريطانية أخرى سنوردها كاملة لأهمية ما تعكسه من مدى تورط لندن في التعامل مع فيصل من وراء ظهر الملك سعود في كثير من المسائل الرئيسية والخطيرة كإعداد القوات المؤيدة لفيصل منذ عام 1962 عبر وسيطه وشقيق زوجته كمال أدهم، والحصول على تأشيرات دخول إلى السعودية دون علم الملك، بل يتضح في الوثيقة أنهم كانوا على علم مسبق بالانقلاب الذي يعده ولي العهد فيصل ضد شقيقه الملك سعود.

سرى

القسم العربي

6 يونيو/حزيران 1969

إشارة إلى نصيب "أدهم" في 1964

الحرس الوطني





برجاء الإحالة إلى خطابك 10/1/1 بتاريخ 30 أبريل/نيسان وأي خطاب بتاريخ 20 يونيو/حزيران.



2 - لقد قمنا الآن بالمزيد من الأبحاث، كما اتصلنا بـ"كولين فتزباتريك" و"نايجل برومدج"، وتؤكد قراءتنا لأوراق وزارة الخارجية القديمة أن "كمال أدهم"، عند قيامه بدور الوسيط بيننا وبين الملك "فيصل" وقتها، اضطلع بدور كبير فى إنشاء بعثة الحرس الوطنى، ومع ذلك فلا توجد أدلة على قيامه بأي دور بعد ذلك.



3 - الطلب السعودي الأصلي، بإيفاد 4 أو 5 ضباط بريطانيين يقدمون النصح في تدريب الجيش السعودي (برغم شك "برومدج" فى هذا، قائلاً إن وزارة الخارجية أساءت الفهم، وأن البعثة كانت من البداية للحرس الوطني)، تقدم به "كمال أدهم" عند زيارته "لندن" في خريف 1962.



4 - بحلول فبراير 1963 كان السعوديون قد تخلوا عن تلك الفكرة لصالح الحصول على مستشارين بريطانيين لتدريب "الجيش الأبيض"، واقتُرح ذهاب البريغادير "هوب-طومسون" لمناقشة الأمر مع "فيصل"، فسافر إلى السعودية في مارس/آذار كما تعلم.



5 - فى 24 أبريل/نيسان 1963 قامت "جدة" بالإبلاغ عن اتصال من "أدهم" يقول إن الأمير "عبد الله"، قائد "الجيش الأبيض"، متلهف للحصول على مستشار بأقصى سرعة، وأعقب هذا يوم 11 مايو/أيار طلب آخر من "أدهم" يقول إن كلاً من "عبد الله" و"فيصل" يلحان فى استعجال الطلب بإرسال مستشار على وجه السرعة.



6 - فى 10 مايو/أيار أوصى وزير الخارجية بالتدقيق في اختيار 3 أو 4 من الضباط البريطانيين وانتدابهم لإعادة تنظيم "الجيش الأبيض"، وتخيل أن تلك المهمة ستستغرق حوالى عامين. وافق رئيس الوزراء على الاقتراح في 22 مايو/أيار وفي 24 مايو/أيار تم إطلاع "واشنطن" و"جدة" على القرار ببرقية رقم 5032 إلى "واشنطن"، وفي برقية أخرى بالتاريخ نفسه، برقية وزارة الخارجية رقم 323، كلفت "جدة" بإبلاغ السعوديين باستعدادنا لمساعدتهم ببعثة صغيرة. في 27 مايو/أيار أبلغت "جدة" (برقية رقم 245) بأنها تولت إطلاع "أدهم".



7 - في 3 يونيو/حزيران قام "كولين كرو" بمكاتبة "فرانك برنشلي" مقترحاً بأن الوقت قد حان للتعامل مع السعوديين من خلال القنوات الرسمية، وأنه على "أدهم" أن يختفي من الصورة، وأرفق بهذا مجموعة من مراسلاته مع "السقاف".



8 - كل هذا يتفق مع ما قاله "برومدج"، وقد قال إن "أدهم" أبلغه ذات مرة بأنه، هو وعدد من تجار "جدة"، بمن فيهم آل "على رضا"، ذهبوا فى الأصل إلى "فيصل" وحذروه من خطر الانقلاب وضرورة تجهيز "الجيش الأبيض" بما يليق (وهنا أضاف "برومدج" أن "أدهم كذاب لعين" ولا يصح الاعتماد على ما يقوله). وأكد "برومدج" أن "عبد الله" لم يعرف ببعثة "هوب-طومسون" إلا بعد وصولها بقليل، ويبدو أن "فيصل" هو من أبلغه بأمرها فى "المجلس" فى حضور "أدهم"، الذى يكرهه "عبد الله" بشدة، حسبما يقول "برومدج" أيضاً.



9 - من التفاصيل الشائقة الأخرى التي أطلعنا عليها "برومدج" وأكدتها برقية الخارجية رقم 25 بتاريخ 13 فبراير 1963، أن ترتيبات تأشيرات دخول البعثة تمت كلها على يد "عبد الرحمن الهليسي" سفير السعودية في "روما" وقتها، حيث لم يكن "فيصل" و"أدهم" يأتمنان "حافظ وهبة" على كتمان الأمر عن الملك "سعود". قضى "هوب-طومسون" و"برومدج" ليلة في "روما" في الطريق، وأخذا التأشيرات من هناك.



10 - يوافق "برومدج" على أن "أدهم" لم يقم بدور بعد هذا النشاط المبدئي، ويؤكد "كولين فتزباتريك" على أن "أدهم" لم يقم بأي دور اتصالي خلال وجوده في السفارة.



11 - ما زلت أرى فائدة في أن تخاطب الملك في وجود "أدهم" حسب الاقتراح السابق، فقد نتمكن هكذا من إلزام "أدهم" بنص كلامه، هو و"عبد الله"، لكني أميل إلى أن يسبق هذا أي اتفاق على الاتصالات من خلال "أدهم". إذا لم يسبقه فسوف نعرض أنفسنا لخطر أهداف "أدهم" التجارية والسياسية والشخصية، التي قد لا تتفق دائماً مع أهدافنا أو حتى أهداف الملك، ناهيك عن أهداف "عبد الله". نحن نعرف بحصول "أدهم" على إتاوة بلغ مقدراها ستة أرقام، من صفقة مختلفة تماماً، عام 1964. علينا أن نواصل الاتصال بـ "دونالدسن" كالمعتاد، وإذا وجدنا "عبد الله" يخرج عن السيطرة أو يمكنه إحراجنا، فربما تضطر للتأكد من الملك بين الحين والآخر.



12 - أخشى أننا لم نتمكن من إيجاد معلومات عن الفترة الزمنية المخصصة أصلاً لانتداب البعثة، والتي تشير إليها في الفقرة 4 من خطابك. السطر الذي تستشهد به من خطاب "مورغان مان" يبدو صحيحاً بقدر ما يعنينا الأمر، وأوافقك على غياب الحاجة إلى فتح الموضوع مع "عبد الله".



13 - مرفق نسخ من بعض الأوراق ذات الصلة، حسب طلبك.



("د ج مكارثي")

إلى "و موريس"، "جدة"



ومع هذا فهناك سؤال يتوجب طرحه حول المرحلة اللاحقة بين الطرفين : هل بقيت واشنطن ولندن أو الغرب عموماً على توافق كامل مع جلالته على مدار السنوات الإحدى عشرة من حكمة؟ أم أن لتعاقب الأحداث خلال فترة حكمه دور في تعديل مواقف أجبر على اتخاذها لضغوط داخلية وإقليمية؟

ينقل مؤسس منظمة التحرير الفلسطينية أحمد الشقيري في كتابه "الهزيمة الكبرى" جزءاً من خطاب أدلى به الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في 23-7-1967 قال فيه : "وبعدما حصلت النكسة بيجو ينتقدونا في المملكة العربية السعودية... الجرايد والإذاعة كل يوم تنتقدنا.. جرايد الملك فيصل بتقول ليش ما هاجمتش بالأول؟؟ وهو قاعد هناك بالرياض على بعد خمسة آلاف كيلومتر.. طيب هو الملك فيصل عمل إيه؟؟ كام عسكري بعتهم أثناء المعركة؟؟ ولا عسكري."

يوضح الكاتب والصحافي سعيد أبو ريش تلك المرحلة من دور الملك فيصل في تاريخ المنطقة[3]، حيث يقول : اكتمل انتصار فيصل بهزيمة عبد الناصر أمام الإسرائيليين في عام 1967، وانتهت تهديدات عبد الناصر بشأن الإطاحة بفيصل، ومع الأسف فإن وجود عبد الناصر كان هو الرادع الوحيد لفيصل من التمادي في الاستبداد وسوء استعمال السلطة، وأصبح الأمر الآن متروكاً للمواطنين السعوديين وحدهم.

وتابع أبو ريش : شهدت الفترة بين عامي 1967 إلى عام 1973 أكبر عدد من محاولات الإطاحة بالنظام السعودي، وقد كان فشل هذه المحاولات نتيجة لتدخل أمريكا وتزويدها للسعودية بأجهزة متطورة وفنيين. ومع أن أمريكا حاولت التقليل من شأن القلاقل الداخلية إلا أن فيصلاً لم يقتنع بذلك، وهذا ما انعكس على موقف السعودية من حرب أكتوبر وقرارها بالانضمام إلى المصريين والسوريين في تلك الحرب.

ويرد في كتاب "صعود آل سعود.." أن السؤال الذي حير أمريكا وأربكها بخصوص حظر البترول عنها في عام 1973 هو : كيف يجرؤ صديق لنا على فعل ذلك؟ والإجابة هي أن فيصلاً كان قد لاحظ أن عدم قيامه بمساعدة عبد الناصر قد سبب له سخطاً داخلياً وإقليمياً لذلك أراد الاشتراك في حرب 1973 لكسب رضا مواطنيه والمواطنين العرب.

ولكن هل كانت السعودية في تلك الفترة بحالة من الاضطرابات الفعلية والمخاطر الجدية التي تهدد نظام الحكم في السعودية إلى درجة تجعل فيصلاً بحاجة فعلية إلى إرضاء مواطنيه والمواطنين العرب؟ وما هي الأحداث التي تستدعي من ملك بمستوى فيصل بن عبد العزيز اللجوء إلى قرار كاستخدام الثروة الوحيدة لديه في مقارعة واشنطن التي كانت أبرز حلفائه وأعتى قوة في العالم؟

يقول جوزيف أ. كيشيشيان[4] أن السعودية لم تكن محصنة تجاه الثورات التي كانت تقوم في البلدان العربية الأخرى، كما يتضح من الأحداث التي حلّت بالبلاد في تلك الفترة. فمع انتشار الاضطرابات في المنطقة، تمكن الضباط العسكريون من قلب الأنظمة المحافظة في كل من ليبيا والسودان والصومال.

ويضيف الكاتب : في حزيران/يونيو وتموز/يوليو 1969 اجتمع كل المناصرين العسكريين للجبهة الشعبية الديمقراطية والجبهة الوطنية لتحرير السعودية واتحاد القوات الديمقراطية في المملكة، وقاموا بالتخطيط لانقلاب جديد. وكان من المخططين هذه المرة 60 ضابطاً من القوات الجوية ومدير الأكاديمية العسكرية الجوية في الظهران.

ويقول آفي بلاسكوف أن الخطة كانت تقضي بالهجوم على الملك والأمراء النافذين من خلال قصف القصر الملكي قصفاً جوياً، ثم إعلان قيام جمهورية الجزيرة العربية. وقد كان إلى جانب هؤلاء الضباط عدد من القادة السابقين لمواقع عسكرية. على أثر هذه المؤامرة تم توقيف مئات الضباط، كما شلت حركة الطيران العسكري لعدة أسابيع. كما جرى توقيف حوالى 300 ضابط[5].

ويؤكد ج. ب. كيلي أنه تم إعدام 135 جندياً بين ضباط ومتطوعين في الجيش والقوات الجوية، وحكم على 350 بالسجن المؤبد، كما تلقى 752 ضابطاً وجندياً ومدنياً أحكاماً بالسجن تتراوح بين عشر وخمس عشرة سنة[6].

وقد بلغ تهديد الأسرة الحاكمة في سلطتها مستوى، يقول سعيد أبو ريش[7]، بحيث أن فيصلاً قام ولأول مرة حسب تعبيره بقتل فرد من نخبة الأسرة الحاكمة في محاولة انقلاب عندما أعدم الأمير فيصل بن سعود بن محمد بن عبد العزيزفي قاعدة الظهران العسكرية، وقد نفذت أحكام الاعدام في حق جميع المتمردين بمن فيهم الكولونيل داوود الرومي وسيد العمري اللذين أعدما سنة 1969. وحدث تغيير في طريقة تعيين أفراد القوات الجوية وأصبح اختيارهم يتم وسط العائلة الملكة والأسر المقربة منها. أما المشاركون في أحداث الظهران فلا يعرف بعد مصير الكثيرين منهم.

وكانت أعمال التمرد العسكري المدني الأكبر من حيث الأهمية تلك التي قادها يوسف الطويل عام 1969، وكان والده محمد الطويل قد قام بحركة عصيان في الثلاثينات للإطاحة بآل سعود. ولكن يوسف لم يُقتل خوفاً من ردة فعل أنصاره، بينما توفي الكولونيل سعود ابراهيم المعمر في السجن من جراء التعذيب واختفى 23 من المشاركين في حركة التمرد حسب ما ورد في كتاب سعيد أبو ريش.

وقد بلغ التهديد الذي تعرضت له الملكية في السعودية مستوى من الخطورة جعل الوثائق البريطانية تتحدث عن تلك الفترة معتبرة أن احتمالات حدوث انقلاب عسكري ناجح هناك قد تضاعفت بحيث قد لا يصمد الحكم الملكي أكثر من خمسة أعوام، وكأنها بذلك تتنبأ بجريمة الاغتيال التي تعرض لها جلالة الملك فيصل بعد خمسة أعوام من ذلك التاريخ.

هذا ما ورد في البند السادس من وثيقة بريطانية صدرت تحت عنوان "الورقة الأساسية للسفارة البريطانية عن مبيعات الأسلحة للسعودية"، الموجهة من السفارة في جدة في 11-2-1970، وهي تقول بالترجمة الدقيقة ما يلي :



سرّي

السغارة البريطانية، "جدة"

11 فبراير، 1970

.....

6 - من الاعتبارات السياسية الأخرى ذات الصلة، اعتبار من نوع آخر. في ضوء أحداث الإثني عشر شهراً الأخيرة، نرى أن احتمالات حدوث انقلاب عسكرى ناجح هنا قد تضاعفت. ما زلنا نرى أن النظام قد يصمد 5 أعوام أخرى، إلا أن هناك أخطاراً تبدو لنا الآن أكبر مما كانت قبل عام. إذا وقع الانقلاب فإن كميات الأسلحة العاملة فعلاً قد تصعّب على السعوديين تغيير الموردين فجأة أو على نحو جذري، فهم أشد تورطاً من "ليبيا". لكني واثق من أن أحد الأسباب الرئيسية للمشاعر الثورية سيكون صفقات شراء السلاح السابقة وما أحاط بها من تعاملات فاسدة. والدرس المستخلص من هذا هو أن نتجنب بقدر المستطاع أي التزام يمتد زمنياً أكثر من خمسة أعوام، أو يترك الشركات بدون تدفقات نقدية في تلك الأثناء.



لو رأينا فيما سبق استعراضاً شاملاً لطبيعة الاضطرابات والظروف الداخلية السعودية التي تخللت حكم الملك فيصل بين عامي 1964 و1975، لوجدنا فيها بعضاً من الأسباب التي اضطرته لاتباع مواقف وسياسات محددة لا بد من استكمالها عبر مراجعة تفصيلية أوسع وإلقاء الضوء على ما هو أبرز منها، كما هو حال السلوك الذي اتبعه فيصل في التعامل مع القضايا التي تمسّ المصالح الأمريكية، سنأخذ الأبرز منها وهو ما أثير حول دعم دول المواجهة واستخدام النفط سلاحاً في المعركة، وموقفه من الحل السلمي وغيرها.

"وعدت فصدقت، وتعهدت فوفيت" هذا ما قاله الرئيس الراحل أنور السادات للملك الراحل فيصل بن عبد العزيز وهما واقفان على أطلال خط بارليف الذي دمرته القوات المصرية خلال حرب تشرين أول/أكتوبر من عام 1973. وتقول الدوائر الرسمية السعودية عبر كتاب أصدرته تحت عنوان "آل سعود/ الدولة والموقف" صفحة 110، أن رد الملك فيصل قد جاء على الشكل التالي :

"عبرنا القناة بعد فترة من الوقت لم يكن أحد من أخواننا يتصور أنها كافية لعبورها.. وهذا كان بفضل الله ثم بفضل الرئيس السادات وعمله المشكور.. لا شك أنه من واجب كل عربي وكل مسلم أن يقف بجانبكم للدفاع عن ديننا ووطننا وأمتنا ولرد الاعتداءات التي ارتكبها أعداؤنا".

إلا أن محتوى هذا الحوار يتناقض كثيراً مع ما ورد في مؤتمر صحفي عقده الرئيس أنور السادات ونشرته جريدة السياسة الكويتية في 15-5-1975 حيث سئل السادات : "هل الدعم العربي الذي يقدم حالياً هو بالمستوى المطلوب؟" فأجاب الرئيس المصري بما يلي : "شرحت لأخواني وأريد أيضاً أن أشكر الأخوة العرب جميعاً على كل ما قدموه لنا، ولا يتصور أحد أن إحنا اقتصادنا وصل إلى الصفر فعلاً في سنة 1973 زي ما سمعتموني قلت فعلاً، ونحن الآن نعاني من ضائقة رهيبة يحاول البعض أن يستغلها ويستثمرها، ولكن أفضل أن أتصل بالأخوة العرب فيما بيننا، لأننا عائلة واحدة عن أني أخرج إلى الشارع وإلى الصحف وأقول أنا وأنا وأنا ووضعي وحالتي. أفضل إحنا ولأنه لنا في مصر تقاليد كشعب إنتو عارفينه، نضع المشكلة أمام الأخوة وما نطلبش واحنا نقول عندنا مثل يقول الشكوى لأهل البصيرة عيب".

من الواضح أننا هنا أمام تناقض فعلي بين ما ينشر في الوسائل الرسمية السعودية من حديث جانبي ليس عليه حسيب ولا رقيب وما تنشره وسائل الاعلام عن مؤتمرات صحفية جرت في العلن وأمام وسائل الإعلام المختلفة؛ ومع ذلك فهناك جانب في التناقض الحاصل والذي يتعلق بمصداقية المصدر، وهذه مسألة لا يمكن إثباتها إلا باللجوء إلى الوقائع والأرقام الفعلية التي تتحدث عن مستوى الدعم العربي لدول المواجهة ومقارنته بمكانة الدعم السعودي لتلك الدول.

من جهة أخرى، لا بد من الإشارة أيضاً إلى الدور الذي يمكن لظروف الزيارة التي أحاطت بزيارة الملك فيصل أن تلعبه في التصريحات المذكورة أعلاه والتي أدلى بها السادات. فالآمال التي علقتها الحكومة المصرية على زيارة الملك فيصل تنعكس عبر ما أشارت إليه الصحف المصرية في تلك الفترة من توقعات بأن يتبرع الملك فيصل أثناء زيارته بمليار دولار، ثم سادت الخيبة عندما اقتصر ما قدمه على 300 مليون دولار فقط.

وللوقوف على نسبة هذه الأرقام من مجمل الدعم المطلوب عبر مؤتمرات القمة العربية ومقارنتها مع ما قدمته الدول العربية كل حسب قدراتها الاقتصادية نعود إلى ما نجم عن اجتماع القمة الأول الذي انعقد في آب/أغسطس من عام 1967 أي بعد هزيمة حزيران/يونيو أو ما عرف بالنكسة، حيث صدر قرار بدعم دول المواجهة.

قدمت ليبيا في تلك المناسبة 30 مليون جنيه استرليني، تبعتها السعودية حيث ساهمت بخمسين مليون جنيه استرليني، بينما بادرت حكومة الكويت بمبلغ وصل إلى خمسة وخمسين مليون جنيه. وهذا إن قورن بالثروات والمصادر النفطية لكل من البلدين الأخيرين (الكويت والسعودية) لوجدنا فارقاً كبيراً يدل على عدم انسجام فعلي بين ما هو مقدم فعلياً وما يملكه البلدان، وبالتالي متوجبات كل منهما تجاه الصراع الدائر، ما قد يعيدنا إلى ما سبق من فرضية اتخاذ فيصل القرارات ضمن حدودها الدنيا في محاولة منه لإرضاء المواطن السعودي والعربي قدر الإمكان.

هذا ما تكرر أيضاً في القمة التالية التي انعقدت في الرباط، حيث تقدمت دول المواجهة، والتي كانت تتألف من مصر وسوريا والأردن، بطلب مليارين ونصف المليار دولار، بينما تقرر تقديم مليار وثلاثمائة مليون، دفعت الإمارات منها 300 مليون بينما دفعت الكويت 400 مليون ودفعت السعودية 400 مليون دولار أيضاً أي أن المبالغ المدفوعة قد تساوت هذه المرة، كما ارتفعت بالمقارنة مع ما دفع في القمة السابقة مع أنها بقيت جميعها ضمن تخفيض قارب المليار دولار عن المبلغ المطلوب. علماً أن عائدات النفط السعودية لعام 1974 قد بلغت 28 مليار ونصف المليار دولار.

من الواضح أن الملك فيصل كان يملك رؤياً واضحة للمنحى الذي تسير فيه الأمور إذ يقول ولبير كرين إيفلاند، مسؤول المخابرات الأمريكية في الشرق الأوسط بين عامي 1950-1980[8] أن الملك فيصل قد أنذر رئيس شركة أرامكو الأمريكية العاملة في السعودية بأن حرب أكتوبر كانت وشيكة، محذراً إياه بضرورة أن يتوقع حظر النفط إذا استمرت الولايات المتحدة بدعم إسرائيل.

وأضاف إيفلاند أن السي أي إيه قد أهملت تنبؤات الملك ولكن شركات النفط كانت أكثر تفهماً من الإدارة الأمريكية فأخذت منذ بداية عام 1972 تزيد من حجم إنتاجها بنسب عالية، متوقعة حظراً شرق أوسطياً يسبب زيادة في أسعار الخام. أما مصير تلك العائدات فتقول صحيفة نيوزويك الصادرة في 7-4-1975 أن السعودية تقوم بتكديس فوائض عائداتها بمعدل 20 مليار دولار سنوياً في بنوك نيويورك ولندن، ويقدر ما أودع في الولايات المتحدة وحدها بهدف الاستثمار عام 1974 بما يقارب 15 مليار دولار.

وأضافت الصحيفة على صعيد آخر أن الملك فيصل تمكن من تحقيق فك ارتباط بين أسعار النفط والقوة الشرائية للدولار بعد أن تم ربطهما بموجب اتفاقية طهران عام 1971، كما كان قادرا على منع ارتفاع الأسعار، مع أنه لم يتمكن من الإيفاء بوعده في تخفيضها. وتقول الصحيفة أن فيصل كان يحبذ الأسعار المخفضة للنفط، ولكنه لم يستطع رغم مكانته أن يمنع كليا الارتفاع الذي شهدته الأسعار في السنوات الأخيرة.

نفهم من ذلك أن الملك فيصل قد عمل على الاعتدال في المواقف التي كان يتخذها، وكأنه سعى باستمرار إلى المحافظة على تحالفاته التقليدية مع واشنطن، ضمن إطار سعيه لما سبق أن وصف بالعمل على إرضاء المواطن العربي والسعودي، وسنرى أن هذا ما رافق سياسات جلالته على مدار الفترة التي حكم فيها، وقد نجد المفارقة في أنه لم يستطع إرضاء مواطنيه، وهذا ما شهدناه من اضطرابات شعبية داخلية خلال فترة حكمه، وما قد تشير إليه الوثائق والرسائل المتبادلة بين القيادة السعودية ونظرائها في واشنطن خلال الفترة الممتدة من حرب أكتوبر حتى اغتياله عام 1975.

تفاقم الجدل وتعالت الأصوات المطالبة عبر المنابر السياسية العربية داعية إلى استعمال سلاح النفط من أجل المطالبة بالحقوق العربية، ويقول حازم السامرائي[9] أنه في تموز يوليو من عام 1973 أشار الملك فيصل للمرة الأولى إلى قطع النفط السعودي عن أمريكا إذا هي لم تعدل موقفها من تأييد إسرائيل وانحيازها إليها. وبرغم صداقته الطويلة مع الولايات المتحدة وشركات النفط العاملة في بلاده، فقد صرح في هذا الشأن قائلاً :

"إن دعم أمريكا الكامل للصهيونية ضد العرب تجعل من الصعوبة بمكان علينا أن نواصل تزويد الولايات المتحدة باحتياجاتها من النفط، بل وحتى إقامة علاقات ودية معها". ولما بدأ القتال بين مصر وسوريا من جهة، وإسرائيل من الجهة الأخرى، في تشرين أول/أكتوبر من عام 1973، أعلن الملك فيصل أولاً، خفض عشرة بالمائة من صادرات النفط السعودي الإجمالية، ثم أعلن بعد بضعة أيام وقفاً كلياً لصادرات النفط إلى الولايات المتحدة.

تتضح تفاصيل الظروف التي أحاطت بعملية وقف تصدير النفط من وجهة النظر السعودية عبر وثيقتين بريطانيتين تعودان إلى تلك الفترة سنوردهما كاملتين وبالترجمة الدقيقة للأهمية وقد جاءت الأولى على الشكل التالي :

* الأمير فهد (كان في تلك الفترة نائباً لرئيس مجلس الوزراء) للسفير البريطاني : نريد بياناً واضحاً ولا لبس فيه بأن على إسرائيل أن تنسحب إلى حدود 1967.

* وثيقة رقم 9

* التاريخ : غير واضح

* إلى : الخارجية لندن عاجل جداً وسري، ورداً على برقية 18 أكتوبر/تشرين الأول 1973 المكررة عاجلاً إلى : الكويت، أبو ظبي، طهران، باريس، بروكسل، بون، لاهاي، روما، واشنطن، البعثة البريطانية للسوق الأوروبية، وفد بريطانيا للأوسيد OCDE بباريس، البعثة البريطانية بالناتو، الدوحة، البحرين، كوبنهاغن، طوكيو، البعثة البريطانية بنيويورك، بأسبقية إلى : الجزائر، الرباط، تونس، طرابلس، بيروت، تل أبيب.

الموضوع : برقيتكم 531 : النفط العربي.

1 - في الوقت الذي وصلت فيه برقيتكم لي بالرياض كنت قد شرعت في ترتيبات حية لمقابلة الأمير فهد، فيما كان لزاماً عليّ أن أنتظر محادثة منه عند الساعة الثامنة والنصف من هذا المساء 17 أكتوبر/تشرين الأول.

2 - بدأت بتقديم القضية له كلمة فكلمة كما جاء في الفقرتين 2 و4 من برقيتكم، وتوسعت فقط بإضافة ملخص لمناقشاتي السابقة مع الأمير سلطان (راجع برقيتي رقم 500، ليست معممة للجميع).

3 - أبرز ملاحظات وإجابات الأمير فهد كانت كما يلي :

أ - ليس لدى الحكومة السعودية رغبة في تدمير المصالح الأوروبية ولكنهم وبصراحة يخشون أن يعزلوا أنفسهم عن الرأي العام العربي الحالي، بما فيه الحكومات المتأثرة بالمتطرفين في داخلها.

ب - الحكومة السعودية مقدرة للموقف الذي اتخذته الحكومة البريطانية في الأيام الأخيرة ولكن السعودية تريد ما هو أكثر من ذلك. وإذا كانت الحكومة البريطانية، وهي في عيون السعودية، قائدة السوق الأوروبية المشتركة، قادرة على إصدار بيان واضح ولا لبس فيه من دول السوق التسع بأن على إسرائيل أن تنسحب إلى حدود 1967، فالمملكة العربية السعودية ستشعر بقدرتها على إلقاء ثقلها الكامل لجهة المدى الذي سيمكن به إقناع الحكومات العربية الراديكالية مثل ليبيا والعراق. الأمير فهد شعر بقدر من الثقة في النجاح في هذا لأنه يتجاوب أصلاً مع أمواج العواطف هنا وفي العالم العربي.

ج - الاجتماع الحالي في الكويت منقسم بين أولئك الذين يطالبون بحظر انتقائي ضد أميركا، وبين أولئك الذين يشعرون بأن ذلك غير كاف، وهم يريدون أن يبدأوا بالأوروبيين باعتبار أن الضغط عليهم سيوصلهم إلى أميركا. وكنتيجة لعرضي للقضية قال الأمير فهد إنه سيوجه فوراً وزير البترول السعودي لأن يعمل في الكويت على تفضيل قرار معتدل، وإذا ما فشل في ذلك، فعلى قرار لا يحتاج عملياً إلى تطبيق كامل.

د - إذا تركنا النفط جانباً فالمملكة ستشعر أيضاً بقدرتها على إقناع الاتجاهات المتطرفة في الرأي العام العربي، أكان من ليبيا أم العراق أم الفلسطينيين، لجهة الانضمام لضمانات لوجود إسرائيل وأمن حدودها.

هـ - إذا لم ننضم، نحن والأعضاء الآخرون في السوق الأوروبية المشتركة، لمشاركة السعودية في طريقة تفكيرها، وأن ندفع كذلك بالتأثير الأوروبي لجهة التأثير على سياسات أميركا، فالمستفيدون الوحيدون على المدى الطويل سيكونون الروس والصينيين، وهو الشيء الأخير الذي لا يريده الأوروبيون، والسعوديون متأكدون من ذلك.

و ـ أخيراً انصرفنا، وكان اجتماع لمجلس الوزراء (برئاسة الأمير فهد) على وشك الانعقاد، فيما كان الأمير فهد قد طلب منا (والأعضاء الآخرين من المجموعة الأوروبية) أن ندخل عليه عاجلا وقال : هيا لا مجال لتضييع لحظة زمن.

* توقيع - وولكر، السفير.



نقرأ في هذه الوثيقة مجموعة من العناصر التي لا تدع مجالاً لسوء الفهم أو الالتباس، أهمها أن السعودية ومن وجهة النظر البريطانية قد لجأت إلى هذا القرار مضطرة وكي لا تواجه العزلة نتيجة الضغوط التي تتعرض لها من قبل محيطها العربي، وبالتالي فالموقف لم ينبع من رؤية أو قناعة سعودية تامة، بل فيه الكثير من الرغبة في إرضاء المواطنين العربي والسعودي دون المساس بمصالح أوروبا وأمريكا.

هذا ما يؤكده السفير البريطاني حين يقول إن الأمير فهد قد تعهد له بإقناع العراق وليبيا وغيرهما من الأطراف الراديكالية بمجرد أن تصدر بريطانيا ونظرائها الأوروبيين بياناً يدعو إسرائيل إلى الانسحاب من الأراضي التي احتلتها عام 1967.

وفي دليل آخر أقنع السفير البريطاني بجدية التعاون السعودي تقول الوثيقة أن الأمير فهد سيوجه وزير النفط للعمل على التوصل إلى قرار معتدل أو العمل في أسوأ الأحوال على قرار لا يتطلب الأمر تنفيذه بالكامل. وهذه إشارة ضمنية إلى استعداد السعودية للمهادنة وتمييع قرارات الحظر الصادرة عن الدول العربية تعاوناً مع الدول الأوروبية وأمريكا، وهذا ما سنراه لاحقاً من عمليات اختراقات سعودية للحظر تحدثت عنها وسائل إعلام مختلفة.

وقال السفير البريطاني أيضاً بأن الأمير فهد قد وعده بأن تبذل السعودية جهدها في إقناع الأطراف الراديكالية العربية بضمان أمن إسرائيل وحدودها أو بعبارة أخرى بحق إسرائيل في الوجود، وهو تعهد لو نظرنا إليه في تلك الفترة، أي قبل زيارة السادات إلى الكنيست الإسرائيلي، لوجدنا أنه يوحي بوجود تفاهم ضمني مصري سعودي على هذه الخطوة منذ بداية الحرب، أو ربما قبل ذلك بكثير.

وأخيراً نجد البريطانيين والسعوديون في الفقرة الأخيرة من الوثيقة يلعبون على أوتار الحرب الباردة، عبر التحدث عن مدى استفادة روسيا والصين من قيام العرب بخطوة كهذه، كما يؤكد السفير في الوثيقة إدراك السعوديون وتخوفهم الكبير من تلك المسألة وبالتالي وجود انسجام بين مصالحها والمصالح الأوروبية والأمريكية في هذا المجال.

ثم تأتي الوثيقة البريطانية الثانية لتسلط الأضواء على جوانب أخرى من حيثيات القرار السعودي في الانضمام إلى مبدأ تدخل سلاح النفط في المعركة فتقول بالترجمة الدقيقة :

* وثيقة رقم : (ساقط في التصوير)

* التاريخ : 23 أكتوبر/تشرين الأول 1973.

* إلى : الخارجية، عاجل جداً، وسرّي للغاية.

* الموضوع : برقية جدة رقم 513 (ليست معممة للجميع) : النفط العربي.

1 - أخبرتنا شركة أرامكو هنا أن الحظر السعودي على كل شحنات الخام والمنتجات المرسلة إلى الولايات المتحدة الأميركية وإلى المصافي التي تعمل في النفط الخام لصالح الولايات المتحدة الأميركية والمزودة بخفض 10 في المائة بأمر من الحكومة السعودية، عليها أن تقلل من إنتاجها لشهر أكتوبر/تشرين الأول بمقدار 2.3 مليون برميل في اليوم (الكمية تشكل 26 في المائة من خطة إنتاجية الشهر المعني) و2.6 مليون برميل في اليوم لشهر نوفمبر/تشرين الثاني (تساوي 29 في المائة).

2 - السعوديون أحاطوا الشركة علماً، أنه من الوارد مع كمية الـ 6.5 مليون برميل في اليوم المتبقية، النظر في شأن الدول المعفاة من القرار للتسعة أشهر الأولى لعام 1973، ومن بعد، وبالتوازن، إمداد الدول التي ليست ضمن المحظورة أو المعفاة. بريطانيا وفرنسا ضمن قائمة المعفاة فيما تقع إيطاليا واليابان ضمن الفئة الثانية.

3 ـ هناك إفادات بأن السعوديين قد أنذروا أرامكو بأنهم سيبقون على هذه القرارات والقيود إلى أن تنسحب إسرائيل إلى ما وراء حدود 1967، كما هدد السعوديون أرامكو بأنهم سيمضون قدماً في خطوات تأميم أرامكو في حالة عدم الوصول إلى قرار مقنع.

4 - أرامكو أخبرت الخارجية الأميركية بأن خفضاً كهذا لا بد وأن يقود إلى توزيع كامل لنظام الحصص من قبل أميركا، من وجهة نظر ارامكو.

الملفت في هذه الوثيقة هو أن سقف المطالب السعودية مرتفع بما لا يتناسب مع الوثيقة السابقة، وقد يعود السبب في ذلك إلى أن المعلومات الواردة فيها مستقاة من شركة البترول الأمريكية أرامكو، والتي كان لها مصلحة في الترويج إلى استمرار الحظر وتنامي نسبه حتى انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية وصولاً إلى تأميم الشركة نفسها، خصوصاً وأنها تعزف على مسألة إعادة توزيع الحصص الأمريكية وفق تنامي نسب الحظر الذي سينعكس بالتالي مزيداً من الارتفاع في أسعار النفط.

أما الوثائق الأمريكية المتعلقة بحظر النفط فتعكس لنا مدى الخطورة التي بلغتها العلاقات السعودية الأمريكية ومدى استياء واشنطن والرئيس الأمريكي وهنري كيسنجر على وجه الخصوص المنعكس في اللهجة القاسية والحادة التي استعملت في المراسلات التي جرت بين أعلى المستويات في واشنطن والرياض حول ضرورة رفع الحظر المفروض على النفط مقابل وعود كاد جلالة الملك الراحل أن يقبل بتسويقها بين العرب لولا الدعم العسكري الهائل الذي قدمته أمريكا لإسرائيل في تلك الفترة وانضمام الإمارات العربية المتحدة إلى الحظر كما سنرى لاحقاً.

قمنا باختيار هذه المجموعة من الوثائق لعدة اعتبارات، أولاً لأنها تشرح بشيء من التفصيل بعض الحيثيات المتعلقة بالضغوط التي تعرضت لها السعودية في تلك الفترة، وثانياً لأنها تعكس حجم المأزق الذي بلغته العلاقات الأمريكية السعودية في تلك الفترة، كما نشهد فيها التناوب الحاصل بين لغة المودة والحميمية بين الرئيس وجلالته، ثم تحولها بعد ذلك إلى لغة التهديد بالضغط على إسرائيل كي تستمر في تعنتها. وأخيراً برغم الفترة القصيرة التي تغطيها الوثائق المختارة، 19-11-1973-6-2-1974، فهي تتحدث عن نفسها بوضوح لا يحتاج إلى جهد في التحليل والتعليق، عن أبرز الأحداث التي شهدتها عملية الحظر.



من : برنت سكوكروفت :مستشار الرئيس نيكسون

إلى : الرئيس نيكسون

الموضوع : اجتماع كيسنجر مع الملك فيصل

التاريخ :9/11/1973

وزير الخارجية كيسنجر أرسل هذا التقرير عن اجتماعه مع الملك فيصل في الرياض :

قابلت الملك فيصل لثلاث ساعات في القصر الملكي في الرياض ونقلت له الاتفاقية التي توصلنا إليها بين مصر وإسرائيل لتأكيد وقف إطلاق النار على قناة السويس. وفرح الملك بما سمع.

ثم شرحت للملك الإستراتيجية التي وضعتها أنت (الرئيس نيكسون) للعمل في المستقبل من أجل السلام، في حذر وجدية. وفرح الملك بذلك، وأكد لي مرات كثيرة ثقته فيك، وصداقته لأمريكا...

وتحدثت مع الملك عن تخفيف قطع البترول السعودي عن أميركا، وقلت له أن تفاقم أزمة البترول في أميركا سيؤثر في وضعك أنت كرئيس (نيكسون)، وسيساعد الجماعات الأمريكية التي تعارض حل المشكلة، وتريد التقليل من مكانتك كرئيس (يقصد اليهود)...

وقال الملك فيصل أنه سيسعد بإعادة إرسال البترول إلى الأمريكيين، بل وزيادته، لكنه قال أن هناك ضغوطاً... وأن كل العرب متفقون على الطلب الأساسي. وهو حل المشكلة بين العرب وإسرائيل...



خطاب نيكسون

البيت الأبيض : 3/12/1973

"يا صاحب الجلالة "

الشهران الأخيران شهدا تطورات مهمة في الشرق الأوسط ومهدا لفرصة تاريخية لحل المشكلة و تأسيس سلام عادل ودائم حسب قرار مجلس الأمن رقم 242...

وأنا أتأمل في السنوات الماضية، أتذكر المرات الكثيرة التي كتبت لي فيها عن قلقك عن الوضع في المنطقة، وعن قناعتك بأننا (الأمريكيين) يجب أن نبذل جهداً أكبر لحل المشكلة...

أنت دائماً تقدم لي نصائح حكيمة، وأنا أتذكر الآن، وألاحظ أن نصائحك كانت مفيدة، وكان يجب إتباعها. والحرب الأخيرة، وتأثيرها في علاقتنا مع كثير من أصدقائنا في المنطقة، أوضحت أن الوضع الذي ظل مستمراً في المنطقة خلال كل هذه السنوات يجب ألا يظل بدون حل. وزير الخارجية كيسنجر (خلال زيارته إلى السعودية قبل هذا التاريخ بشهر تقريباً) شرح لجلالتكم تصميمي على التحرك بجدية لحل المشكلة العربية الإسرائيلية. وأنا أفعل ذلك لأنه فيه مصلحة أمريكية، ولكن، أيضاً، بسبب مسؤولياتنا الحقيقية نحو أصدقائنا في المنطقة.

جهودي كانت بدأت قبل الحرب الأخيرة، ثم زادت بعد الحرب، ومع نتائج واضحة، منها اتفاقية وقف إطلاق النار، ثم اتفاقية فك الاشتباك...



من : برنت سكوكروفت، مستشار الرئيس

إلى الرئيس نيكسون

الموضوع :السعودية تغير موقفها

التاريخ :20/12/1973

"وزير الدولة للشؤون الخارجية السعودي، السقاف، قال لسفيرنا في السعودية أن الملك فيصل قرر الآتي :



أولاً :العرب برهنوا على فعالية كلمتهم.

ثانياً : العالم عرف قدرة العرب على استخدام بترولهم كسلاح فعال.

ثالثاً : سبب قطع البترول الضرر الكثير لأصدقاء العرب، ولكثير من الدول البريئة التي لا صلة لها بالمشكلة.

لهذا قرر الملك رفع حظر البترول.

وحسب ما قال الوزير السقاف، سينفذ القرار كالآتي :

أولاً : سينقل السعوديون رأيهم هذا إلى مؤتمر وزراء البترول العرب بعد خمسة أيام

(25/12/1973).

ثانياً : سيقول السعوديون أنك (الرئيس نيكسون) ألتزمت التزاماً حقيقياً بالعمل من أجل السلام وأن الملك فيصل يصدقك في ذلك، ويتمنى لك النجاح.

ثالثاً : سيقول إنك إذا فشلت في تحقيق السلام، سيقطع البترول مرة أخرى، وستكون إسرائيل المسؤولة لا الدول العربية.

رابعاً : يتوقع السعوديون أن تؤيدهما الجزائر ومصر وتعارضهما العراق وليبيا. لكن العراق وليبيا خرقتا الحظر، ولا أهمية لرأيهما. وربما تكون هناك مشكلة بسبب الكويت وأبو ظبي.



من أيكنز، السفير الأمريكي في السعودية

إلى : كيسنجر، وزير الخارجية، واشنطن

الموضوع : خطاب الملك إلى الرئيس

التاريخ : 26/12/1973

الوزير عمر السقاف

أعطاني هذا الصباح خطاباً من الملك فيصل إلى الرئيس. وأضاف الملاحظات التالية :



أولاً : خطاب الملك ودي ودافئ.

ثانياً : يقدر الملك الدور الذي تقوم به أنت (كيسنجر) والرئيس.

ثالثاً : الفقرة الأخيرة في الخطاب، التي تشير إلى : "سحب عاصفة" ستزول مع بداية العام الجديد، المقصود منها رفع حظر النفط، والعودة إلى مستوى سبتمبر/أيلول قبل حرب أكتوبر/تشرين الأول.

رابعاً : ربما سيصدر إعلان برفع حظر البترول في الشهر القادم، يناير/كانون الثاني بعدما يرى العرب حدوث تقدم نحو السلام. هذا سيكون عند بداية فك الاشتباك بين مصر وإسرائيل أو عند مجرد إعلان الاتفاقية.

خامساً : يريد الوزير السقاف أن يذكرك (كيسنجر) بأنه تعهد لك بأن يعمل لرفع حظر البترول، اعتماداً على ما تقوم أنت بتنفيذه. لكن الملك فيصل لم يحدد رأيه النهائي، فهو أحياناً يريد رفع الحظر في الحال، وأحياناً ما يبدو غاضباً ومتشائما.

سادساً : الوزير السقاف قال أن الرئيس المصري السادات قال لك (لكيسنجر) أن لا تتوقع رفع حظر البترول قريباً...،



رد كيسنجر

من : كيسنجر وزير الخارجية، واشنطن

إلى : "أيكنز "، السفير الأمريكي في السعودية

الموضوع : خطاب إلى الوزير السقاف

التاريخ : 28/12/1973



عليك نقل هذه الرسالة في الحال إلى الوزير السقاف :

"عزيزي عمر : السفير أيكنز نقل لي نتائج اجتماعه معك، ومع مسؤولين سعوديين آخرين، حول قرار منظمة الدول العربية المصدرة للبترول (أوابيك) قبل ثلاثة أيام (يوم 25/12/1973). أريد أن أعرب بقوة عن خيبة أملي، وحزني.

يجب أن تعرف أن هذا قرار فيه تفرقة واضحة، لأنه استثنى الولايات المتحدة، وقرر استمرار وقف البترول عنها. مع أننا الدولة الوحيدة التي تحاول بجدية الوصول إلى الحل السلمي الذي يريده العرب.

ولكن المؤتمر قرر زيادة إرسال النفط إلى دول لا تقدر على القيام بأي دور لحل المشكلة.

ما حدث قد وضع الرئيس نيكسون في موقف صعب.

هذا تمييز واضح ضد الولايات المتحدة، لن أقدر على استمرار في جهودي من أجل السلام التي شرحتها لك خلال الأسابيع الماضية...،



خطاب آخر من نيكسون

البيت الأبيض : 28/12/1973

"يا صاحب الجلالة"

....كما تعلمون، نحن حققنا أشياء كثيرة في سبيل السلام، مثل وقف إطلاق النار (بين القوات المصرية والإسرائيلية في قناة السويس)، وبداية مؤتمر السلام في جنيف.

وكما كتبت لك في الماضي، نحن ملتزمون بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242، ونحن نعمل في الوقت الحاضر، على وضع أسس اتفاقية فك الاشتباك بين القوات المصرية والإسرائيلية.

إسرائيل أرسلت عسكريين إلى جنيف، حيث يجتمعون الآن مع عسكريين مصريين للتفاوض حول اتفاقية فك الاشتباك. ونحن وضعنا ترتيبات لوزير الدفاع الإسرائيلي، موشي دايان، ليزورنا في الأسبوع القادم، لمناقشة اتفاقية فك الاشتباك.

كل هذه إنجازات مهمة تحققت بسبب جهودنا نحن فقط (لا جهود دولة أخرى)...،



خطاب كيسنجر

من : كيسنجر إلى أيكنز، السفير الأمريكي في السعودية

الموضوع : خطاب إلى الوزير السقاف

التاريخ : 31/12/1973

عليك نقل الرسالة إلى السقاف بأسرع فرصة ممكنة :

عزيزي عمر : السفير أيكنز نقل لي ما قلت له عن خطاب الرئيس نيكسون إلى الملك فيصل. وأنا أكتب إليك الآن بصفة عاجلة من سان كليمنت (في ولاية كاليفورنيا، حيث المقر الصيفي للرئيس نيكسون) لأنني لاحظت أن هناك سوء فهم لما كتبت أنا في خطابي لك.

خطابي لك كان حسب معلومات شخصية من الرئيس نيكسون، بعدما قال السفير أيكنز أنك قلت للسفير أن الرئيس المصري السادات قال لك أنني قلت للسادات أننا لن نعارض تأخير رفع حظر البترول عنا. أنا قلت للرئيس نيكسون أنك وعدت ببذل كل ما تستطيع لرفع حظر البترول عنا، لهذا نحن حريصون على رفع حظر النفط...

لهذا، ومهما قال لك الرئيس السادات عن رأينا في توقيت رفع حظر البترول، فإن حديثي مع الرئيس السادات كان مختلفاً عما نتحدث عنه الآن...،



خطاب آخر من كيسنجر

من : كيسنجر، وزير الخارجية، واشنطن

إلى : أيكنز، السفير الأمريكي في السعودية

الموضوع : خطاب إلى الوزير السقاف

التاريخ : 9/1/1974



أرجو نقل هذه الرسالة الشفهية مني إلى الوزير السقاف :

أود أن أبلغ جلالة الملك فيصل أننا سوف نعلن منتصف هذا اليوم خبر سفري ليلة الخميس القادم إلى مصر وإسرائيل لوضع الترتيبات النهائية لاتفاقية فك الاشتباك بين البلدين. وأنا قلت لك، خلال آخر زيارة للرياض، أنني سأضاعف جهودي في سبيل السلام في الشرق الأوسط بعد الانتخابات في إسرائيل والآن أعتقد أن اتفاقية فك الاشتباك ستكون خطوة مهمة وستمهد لمرحلة جديدة لإجراء تغييرات كبيرة في الوضع الحالي. أعتقد أن اتفاقية فك الاشتباك ستعلن في المستقبل القريب. وفي الوقت نفسه، أريد أن أنقل مسبقاً لك، ولجلالة الملك، خبر سفري إلى مصر وإسرائيل لأن التركيز في الوقت الحالي هو على اتفاقية فك الاشتباك.

وبسبب ضيق وقتي، سأقتصر جولتي هذه على مصر وإسرائيل، لا أنوي زيارة السعودية، أو أي دولة أخرى في المنطقة، إلا إذا رأى جلالة الملك أن أزور السعودية.

وفي الختام تقبل تحياتي الشخصية.



رد السقاف

من : أيكنز، السفير الأمريكي في السعودية

إلى : كيسنجر، وزير الخارجية، واشنطن

الموضوع : رد الوزير السقاف

التاريخ : 11/1/1974



هذا هو الخطاب الذي تسلمته من وزير الدولة للشؤون الخارجية، السقاف، بالترجمة الإنجليزية التي قامت بها السفارة هنا. النسخة الأصلية سترسل في حقيبة دبلوماسية :

عزيزي هنري : أنا آمل في الخلاص، استمرار جهودكم من أجل السلام في الشرق الأوسط، مثل نجاحكم في عقد مفاوضات جنيف (بين العسكريين المصريين والإسرائيليين لتنفيذ فك الاشتباك في سيناء). وأن يكون ذلك بداية انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة.

موقفنا لا يزال هو انسحاب إسرائيل إلى ممر متلا، في سيناء. وأن هذا يجب أن يكون بداية انسحاب كامل من الأراضي العربية المحتلة.

ومنح الفلسطينيين حق تقرير المصير. ونحن نرى هذا ضرورياً لرفع حظر البترول، بعد تهيئة الأجواء في المنطقة.

نحن نعرف الضغوط التي يتعرض لها الرئيس نيكسون من جانب الذين يعارضونه في الكونغرس وخارجه (يقصد اللوبي اليهودي).

ونرى أن سرعة الرئيس نيكسون في الوصول إلى حل عادل لمشكلة الشرق الأوسط ستعجل بتهميش هذه الأصوات المعارضة...



كيسنجر الغاضب

من : كيسنجر وزير الخارجية

إلى : أيكنز، السفير الأمريكي في السعودية

الموضوع : خطاب إلى الوزير السقاف

التاريخ : 21/1/1974



الإشارة إلى خطاب الوزير السقاف لي، الذي أرسله عن طريقكم، عليكم إبلاغه الآتي:

أولاً : نحن سنطلب من إسرائيل عدم الانسحاب من الأراضي المصرية حسب اتفاقية فك الاشتباك إذا لم يرفع حظر البترول مع وقت الانسحاب.

ثانياً : إذا لم يرفع حظر النفط سنضطر لوقف جميع جهودنا لتحقيق السلام في الشرق الأوسط.

ثالثاً : نحن نفذنا كل ما وعدناكم به.

رابعاً : الآن الدور على السعودية وبقية الدول العربية لتنفيذ ما وعدت به.

.... وعليك أن تكون قوياً جداً في إبلاغ هذه النقاط للوزير السقاف...،



خطاب نيكسون

من : كيسنجر، وزير الخارجية، واشنطن

إلى : أيكنز، السفير الأمريكي في السعودية

الموضوع : خطاب الرئيس إلى الملك فيصل

التاريخ : 24/1/1974



عليك نقل هذه الرسالة من الرئيس إلى الملك فيصل في الحال :

يا صاحب الجلالة :

سعدت لما نقل إلي السفير أيكنز عن اجتماعه الطويل والمفيد مع جلالتكم يوم 23 يناير/كانون الثاني.

ويسعدني دائماً أن نقدر على تبادل الآراء في ظل الصداقة العميقة والقوية بين بلدينا في جو من الاحترام المتبادل، وأن نقدر على تبادل الآراء عندما تظهر خلافات بيننا وأن تتغلب على هذه الخلافات.

في خطابات سابقة لجلالتكم قلت إن الأحداث برهنت على حكمة نصائحكم عبر السنوات الماضية. وقلت إن حكومتي ملتزمة بتحقيق سلام عادل وشامل في الشرق الأوسط.

وأول إنجازات هذا الالتزام هي اتفاقية فك الاشتباك بين مصر وإسرائيل التي وقعت يوم الجمعة الماضي، والتي نأمل أن تكون الخطوة الأولى نحو حل نهائي حسب قرار مجلس الأمن رقم 242...



خطاب الملك فيصل

الرياض : 3/2/1974



صاحب السعادة الرئيس ريتشارد نيكسون، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، واشنطن :

نحن أبلغنا سفيركم في المملكة العربية السعودية أننا بدأنا اتصالاتنا مع الدول العربية المصدرة للبترول (أوابيك)، ووجدنا أن معظم هذه الدول ترفض رفع حظر النفط عن الولايات المتحدة حتى يتم التوقيع على اتفاقية فك الاشتباك بين القوات السورية والإسرائيلية في مرتفعات الجولان. ونحن فهمنا من الرئيس السوري حافظ الأسد أن السوريين أعطوا وزير الخارجية كيسنجر اقتراحات لفك الاشتباك لكنهم، حتى الآن لم يتسلموا الرد على اقتراحاتهم.

يوم 14 فبراير (بعد عشرة أيام) سيعقد وزراء البترول العرب مؤتمراً في طرابلس (في ليبيا)، ولكن مناقشة موضوع رفع حظر البترول لن تكون إيجابية إذا لم توقع اتفاقية فك الاشتباك بين سوريا وإسرائيل وإذا لم يبدأ تنفيذ الاتفاقية.

لهذا نأمل، وبقوة، أن تحاولوا تحقيق هذا الهدف قبل اجتماع طرابلس...

وأرجو يا صاحب السعادة، قبول أطيب أمانيّ لكم بالصحة والعافية.



تحريض ضد سوريا/ وحرب باردة

من : كيسنجر، وزير الخارجية، واشنطن

إلى : أيكنز، السفير الأمريكي في السعودية

الموضوع : سوريا وحظر البترول

التاريخ : 6/2/1974



عليك نقل النقاط التالية إلى الملك فيصل وكبار المسؤولين السعوديين :

أولاً : علمنا من مصادر ممتازة أن روسيا وليبيا وراء المواقف السورية الأخيرة. هذه المواقف هي :

إصرار سورية على الربط بين فك الاشتباك مع القوات الإسرائيلية ورفع حظر البترول. وأيضاً تحرك القوات العراقية إلى داخل سورية.

ثانياً : نحن نرى أن هدف هذه المواقف هو إفشال مساعي السلام في الشرق الأوسط.

ثالثاً : نحن نريد من الملك فيصل أن يضع هذا بالاعتبار، وأن يتأكد أن مصلحة السعودية لا تجيز منح سورية حق الفيتو على سياستها، كما أن هذا يخدم المصالح الروسية في المنطقة.



يبدو أن الملك فيصل كان يدرك خطورة مقارعته للولايات المتحدة الأمريكية كما توحي صيغة إلقاء اللوم على الضغوط العربية واستعداده الدائم لإسداء النصح والوساطة اللازمة لاختصار المدة التي يطبق فيها الحظر، والإيحاء الدائم إلى حرصه على الصداقة مع واشنطن والمودة تجاه زعمائها كما رأينا في تبادل الرسائل بينه وبين الرئيس نيكسون.

أما على الأرض فقد بذلت السعودية ما أمكن للتقليل من حجم الاجراءات المعادية لأمريكا في المنطقة، هذا ما نراه في مقالة نشرتها مجلة النفط والعالم في عدد تشرين الأول 1975 حيث تؤكد أن مجلس وزراء الدول العربية المنعقد في الكويت في تشرين الأول من عام 73 طرح مشروعاً يقضي بقطع النفط عن الدول المعادية للعرب والمؤيدة للعدو الصهيوني وسحب الأرصدة المالية منها، غير أن السعودية رفضت المشروع برمته وقدمت بدلاً عنه مشروعاً تختصره جريدة الشرارة اليمنية في 31-10-1973 بخفض إنتاج النفط بنسبة خمسة بالمئة.

بينما تقول أسبوعية الحرية اللبنانية أنه عندما بادرت الإمارات العربية المتحدة بمفردها إلى قطع النفط عن أمريكا وهولندا ثم تبعتها الكويت أحرج فيصل وأعلن حظر النفط عن أمريكا وهولندا وكأنه في ذلك يسعى كما تقول المجلة إلى ذر الرماد في العيون والكسب الإعلامي فقط.

أما الممارسات السعودية على الأرض بشأن حظر النفط:

فقالت جريدة الثورة العراقية في 18-10-1973 أن بغداد أممت في اليوم الثاني من الحرب حصة أمريكا في شركة نفط البصرة، ما أبقى ناقلات مجموعة موبيل الأمريكية والتي جاءت تحمل النفط متوقفة في خور العمية من الميناء بانتظار ما يمكن أن تفعله؛ وتقول الصحيفة أنه في اليوم التالي من التأميم أرسلت برقية إلى الناقلات تطلب منها التوجّه إلى ميناء رأس تنورة في السعودية والتزود بحمولة نفط كاملة من هناك عوضاً عن الحمولة التي كان من المفترض أن تأخذها من نفط البصرة.

كما نقلت صحيفة المحرر البيروتية عن جريدة هيرالد تريبيون الأمريكية قولها إن فيصلاً ملك السعودية تعهد سراً لأمريكا بإنهاء الحظر على النفط المصدّر إلى الولايات المتحدة، وقد أكد نيكسون أن حظر النفط العربي سيتوقف بعد أمد وجيز. وفي خبر آخر نقلته السياسة الكويتية عن الوول ستريت جورنال في 31-1-74 أن إحدى الشركات البترولية الأمريكية الكبرى التي ترتبط باتفاق طويل الأمد مع العربية السعودية، قد ضمنت تجهيز الولايات المتحدة بدءاً من أواخر الشهر القادم.

وعلى صعيد تخفيض أسعار النفط نقلت مجلة الأيام الكويتية في 31-1-1974 ما قاله وزير النفط السعودي من "أن بلاده تريد تخفيض أسعار النفط رغم اعتقاده بأنها عادلة ومقبولة.. وأن الملك فيصلاً سيتخذ خطوات مهمة بهذا الشأن". أما جريدة الجزيرة السعودية فنشرت حديثاً لوزير النفط السعودي في 22-1-74 أدلى به لمجلة باري ماتش الأسبوعية الفرنسية قال فيه: "إن أي زيادة جديدة بأسعار النفط ستؤدي إلى انهيار الاقتصاد العالمي، ولذلك سأحارب بكل قوة أي محاولة تستهدف رفع أسعار النفط".

وهكذا نجد أن السعودية في عهد الملك فيصل بذلت ما بوسعها لخلق نوع من التوازن بين الضغوط السائدة على مستوى الشارعين العربي والسعودي، والحفاظ على حسن علاقاتها التقليدية والإستراتيجية مع الولايات المتحدة والمصالح المشتركة التي تربط البلدين. وكثيراً ما أخفقت تلك السياسة على المستويين العربي والأمريكي، فالشارع العربي كان دائماً يطلب المزيد من الاجراءات المعادية لأمريكا بينما سعت أمريكا لطلب المزيد من السعودية، أما الرياض فيبدو أنها دأبت باستمرار على سياسة تدعو إلى الحفاظ على شعرة معاوية بين الطرفين حفاظاً على مجازية المثل القائل : دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر.

يبدو أن فيصلاً كان على قناعة تامة بنجاحه في اتباع تلك السياسة، فقد أبقى على خفض أسعار النفط حتى مماته (حيث ارتفعت أربعة أضعاف) ما أوضح للأمريكيين أهمية الدور الذي كان يلعبه فيصل، كما أدركوا بلا شك بعد رفع حظر النفط عليهم، أهمية أن يسود حكماً مستقراً في أهم دولة مصدِّرة للنفط في الجزيرة العربية، ولكن هل أدركت واشنطن أن فيصلاً هو أفضل ما هو متوفر في أوساط الأسرة السعودية؟

هذا ما سنحاول الإجابة عنه عبر تعقب مزيد من الوقائع التي ميزت العلاقة بين العاهل السعودي الراحل والقيادة الأمريكية المتمثلة حينها بالرئيس نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر. وبعد أن قرأنا في الوثائق الأمريكية مستوى التوتر الذي بلغته تلك الروابط، واطلعنا على ما بذلته الرياض من محاولات للتخفيف من وطأة الإجراءات والمواقف التي اتخذتها القيادة السعودية بدافع من ضغوط الشارع العربي والسعودي، سنحاول إلقاء نظرة على ما انتهت إليه الأمور بين قيادتي واشنطن والرياض بعد انتهاء حرب أكتوبر ورفع حظر النفط العربي.

تفاقمت المواجهة بين واشنطن والرياض إثر قيام نيكسون بتقديم مساعدات عسكرية لإسرائيل تقدر بملياري دولار وسط ما كان يعانيه من أزمة داخلية حادة نجمت عما عرف حينها بفضيحة ووتر غيت واستقالة نائبه أجنيو. إلا أن كيسنجر استطاع خلال تلك الفترة العمل وخلال زياراته المكوكية الشهيرة على إيجاد مخرج يحفظ ماء الوجه للطرفين، دون أي تنازل يذكر من قبل الولايات المتحدة، وذلك انطلاقاً من مبدأ كيسنجر القائل بأن "الأزمات تفسح المجال أمام فرص كبيرة".

في شباط/فبراير من عام 1974 أعلنت الولايات المتحدة عن "موافقتها" على بيع السعودية أسلحة تشمل طائرات ودبابات وحاملات بحرية، متخطية بذلك الحظر الذي كان مفروضاً على بيع الأسلحة إلى بلدان الشرق الأوسط، علماً أن بريطانيا كانت تستثني السعودية من هذا الحظر. ثم أوضحت للرياض أنها لن تقدم تنازلاً أكبر من هذا.

يقول سعيد أبو ريش[10] أن الملك فيصل سافر في شباط/فبراير لحضور المؤتمر الإسلامي في باكستان حيث استقبل كالأبطال، وكأنه شعر هناك بأن سلاح الحظر قد أدى دوره ولم يعد هناك فائدة من استمراره، فأعلن في 19-3-1974 قرار إلغائه، دون حصوله على أي من السقفين اللذين وضعا لحظر النفط، والمرتكزان على انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي التي احتلتها عام 1967 ومنح الفلسطيين حق تقرير المصير.

يبدو أن هذا قد أعاد المياه إلى مجاريها بين واشنطن والرياض إذ إن عاماً كاملاً من الجولات المكوكية التي قام بها رئيس الدبلوماسية الأمريكية هنري كيسنجر بين القاهرة وتل أبيب أوشكت أن تتوج بعد أن حصل كيسنجر على وعد الملك فيصل بدعم مبادرة السلام الأمريكية في المنطقة كما يقول ولبير كرين إيفلاند[11]، مسؤول المخابرات الأمريكية في الشرق الأوسط بين عامي 1950-1980.

وأكد إيفلاند[12] أن فيصلاً أعطى موافقة على عقد صلح منفرد بين مصر وإسرائيل كخطوة أولى على طريق السلام العادل بين العرب وإسرائيل. فهل يمكن لكل هذا التوافق في وجهات النظر في السياسات النفطية والإقليمية تجاه المنطقة أن يلغى لمجرد رغبة أمريكية في الانتقام؟ أم أن الولايات المتحدة استطاعت كما يقول البعض العثور على بديل يقدم لها مزيداً من التنازلات، وليس مضطراً لاسترضاء الرأي العام في الشارعين العربي والسعودي على حسابها؟

وما زال اغتيال الملك الراحل يتأرجح بين القائلين بأن جلالته قد سقط شهيد قطعه النفط عن الغرب وإبلاغ واشنطن برغبته في الصلاة في القدس، ومن يتهمون واشنطن وكيسنجر بالتخلص منه لعثورهم على من يقبل بتواجد نصف مليون جندي أمريكي على أقدس أراضي المسلمين، كما حدث في عصر جلالة الملك فهد. فهل كانت واشنطن هي المستفيدة الوحيدة من غياب الملك فيصل؟ أم أن هناك أطرافاً أخرى لها مصالح مباشرة في رحيله؟؟



ج - بصمات نزاع على السلطة وراء اغتيال فيصل

في الخامس والعشرين من آب/أغسطس من عام 1975، بعد أقل من خمسة أشهر على رحيل الملك فيصل كتبت مجلة البلاغ اللبنانية في عددها 188 تقول إن "الأمير فهد يتعامل ويعامل على أنه الملك الفعلي في البلد.. فعلى الصعيد الداخلي يجمع ولي العهد بين يديه وأيدي إخوانه (الملقبين بالمجموعة السديرية)، أكبر قدر من السلطة والإشراف والتوجيه في مجالات الأمن والجيش والاقتصاد، وعلى الصعيد الخارجي، أصبح ينظر إليه عربياً ودولياً، باعتباره الملك الفعلي.

برغم صدور الصحف الأمريكية من وراء المحيط الأطلسي فهي مع بعدها الجغرافي كثيراً ما تبدو أقرب إلى حقيقة واقعنا من وسائل إعلامنا العربية التي أصبحت تفاخر في مصداقية مصادرها الصحفية الأمريكية الموثوقة. من الواضح أن مجلة نيوزويك الأمريكية كانت أقرب إلى الأسرة المالكة من زميلاتها العربية، فقد كتبت في 7 نيسان/أبريل 1975 تقول : "إن اختيار الرجل الذي جاء بعد فيصل في السعودية كان بعيد الاحتمال، (تقصد الملك خالد) ولو أنه كان ولياً للعهد طوال عشر سنوات، فقد اعتاد الاختباء وراء الكواليس وهو لطيف غير معادي لأي جماعة نفوذ في العائلة، وهو غير سليم صحياً، فقد أجريت له عملية قلب مفتوح قبل سنوات ثلاث ويكرس معظم أوقاته للصيد وسباق الإبل.

وتضيف المجلة الأمريكية : أما الأمير فهد فإن شخصيته السياسية أقوى من شخصية خالد، وقام هو بالذات بإجراء المفاوضات الثنائية التي تمت العام الماضي 1974 حول اتفاقية التعاون مع الولايات المتحدة، والذي أصبح الرئيس المشارك في اللجنة المشتركة للتعاون الاقتصادي مع سكرتير الخزانة وليم سايمون.

وتتابع نيوزويك تحت عنوان فرعي يحمل عبارة "السديريون" فقالت إن السديريين السبعة يتمتعون بنفوذ كبير جداً في البلد، وأن لا شيء يمكن أن يحدث في السعودية دون استشارة هؤلاء السبعة. وتختتم الصحيفة أن الملك الجديد يفضل حياة الصيد على قاعات البلاط الملكي، على خلاف ولي العهد فهد الذي يعتبر من دهاة السياسة، والمسيّر الفعلي للسياسة السعودية. وأن أول ما حصل بعد تولي العرش الجديد هو تأكيد سلطة السديريين السبعة.

تعتبر أسرة آل السديري من أبرز حكام المناطق في شبه الجزيرة العربية، أما أحمد بن محمد السديري 1869-1936 فهو خال الملك عبد العزيز كما أنه من أعرق أجداد الأسرة الذين وقفوا إلى جانب مؤسس الدولة السعودية الحديثة وكان نصيراً سياسياً قديماً له. نذكر من أبنائه خالداً الذي كان حاكماً على نجران، وتركياً الذي كان حاكماً على جيزان، وقد عين ابنه محمداً بن تركي حاكماً على جيزان عام 1989.

ومن الحكام السديريين الآخرين أبناء أخوان محمد، ونذكر من بينهم عبد العزيز وسعوداً. أما جيل السديريين الحالي فهو حاضر في عدد من الوظائف الرسمية للحكومة المركزية والمناطق، وهم يلعبون أدواراً سياسية بالغة الأهمية يعتبر توحيد المناطق والقبائل من أبرزها.

يضاف إلى مساهمة السديريين في الوظائف الرسمية وحكم المناطق منذ زمن بعيد، فإن عدد النساء اللواتي تزوجن بأفراد من الأسرة الحاكمة قد يفوق العدد الذي نجده في أي من العائلات السعودية الأخرى. فوالدة الملك عبد العزيز كانت من آل السديري، كما أن عبد العزيز نفسه قد تزوج بثلاث نساء من تلك العائلة، كانت حصة بنت أحمد السديري من بينهن، وقد أنجب منها الملك الراحل فهد بن عبد العزيز وولي العهد الحالي سلطان بن عبد العزيز وخمسة أمراء آخرين.

يقول موقع الإدارة العامة للتربية والتعليم في محافظة الطائف أن حصة بنت أحمد السديري هي ابنة خال الملك عبد العزيز، وقد أنجبت له سعداً وتوفي صغيراً، ثم طلقها، فتزوجها أخوه محمد بن عبدالرحمن، فولدت له عبد الله بن محمد بن عبدالرحمن، وطلقها، فتزوجها الملك عبدالعزيز ثانية.

وأنجبت حصة للملك كل من : فهد وسلطان وعبد الرحمن وتركي (الثاني) ونايف وسلمان وأحمد وفلوة (توفيت صغيرة) وشعيع (تصغير شعاع) توفيت صغيرة وموضي (توفيت شابة) ولؤلؤة، التي تزوجها فيصل بن تركي بن عبد الله بن سعود الفيصل، ولطيفة، التي تزوجها عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن الفيصل وطلقها، فتزوجها خالد بن تركي السديري (ابن خالها) والجوهرة، التي تزوجها خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الفيصل. وجواهر، التي تزوجها محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الفيصل.
وقد عمرت حصة بنت أحمد السديري بعد الملك عبد العزيز، وتوفيت في أواخر عام 1389هـ/1969م.

أما الزوجتان الأخريان فهما الشقيقتان جوهرة وأختها هيا ابنتا سعد السديري، وقد أنجبت الأولى الأمراء سعد ومساعد وعبد المحسن؛ بينما أنجبت الثانية الأمراء بدر وعبد الإله وعبد المجيد على التوالي؛ وقد كان لكل من هؤلاء وما يزال أدوار هامة في الحياة السياسية والعامة في المملكة العربية السعودية.

أضف إلى ذلك أن عدداً من أبناء عبد العزيز قد تزوجوا من نساء أسرة السديري، وكان من بينهم الملك فيصل على سبيل المثال لا الحصر، وقد تزوج من سلطانة بنت أحمد السديري التي أنجبت له ابنه البكر الأمير عبد الله بن فيصل. كما تزوج الأمير ناصر بن عبد العزيز من ابنة أخرى من بنات أحمد السديري وأنجبت له خمسة أبناء هم خالد وعبد الله وفهد وتركي وأحمد، يعتبر اثنان منهم من كبار ضباط القوات المسلحة السعودية.

وقد كان لأركان هذه الأسرة دور كبير في اشتداد أجواء النزاع على السلطة التي سادت إبان اغتيال الملك فيصل، كان من أبرزها محاولات الأخوين فهد وسلطان (سديريين) إلغاء ما يعرف بالحرس الملكي، أو إبعاد عبد الله بن عبد العزيز عن قيادته، في محاولة لإضعاف نفوذه أعوام 1966-1967- 1975 وبعد ذلك عام 1977، كما سبق وأشرنا في جانب سابق من البحث، ثم وصلت المواجهة عام 1979 حد الاشتباكات المسلحة بين وحدات الحرس الوطني التي قادها عبد الله وقوات الجيش التي يقودها الأمير سلطان.

إذ تؤكد مجلة النداء الأسبوعي البيروتية، في 27-5-1979 في مقالة تحت عنوان : "الخلافات ما زالت قائمة داخل العائلة الحاكمة"، أن مواجهة عسكرية وقعت في نيسان/أبريل من عام 1979 بين الطرفين بحصول اشتباكات بين وحدات من الحرس الوطني وقوات الجيش أسفرت عن مقتل ستة عشر شخصاً وجرح حوالى ثلاثين. وأضافت الأسبوعية أن هذا ما دفع الأمير عبد الله إلى تعزيز دور الحرس الوطني وتكثيف وحداته على مداخل المدينة بينما أبقي على قوات الجيش داخل الرياض.

ويبدو أن علاقة ما قد نشأت بين الأمير فيصل بن مساعد والأشقاء السديريين الأبرز، أي سلطان وسلمان وربما فهد أيضاً، إذ أكدت صحيفة الأنوار في عددها الصادر في 28-3-1975 أن الأمير فيصلاً قد استدعي من قبل عمه الأمير سلطان للتحدث معه في مناسبات متعددة قبيل خمسة أشهر من وقوع الحادث، وكان يسأله باستمرار عن أسباب متاعبه.

كما نشرت مجلة الصياد في 10-4-1975 خبر اجتماع الأمير سلمان لمحاورته، وأكدت المجلة أن الأمير سلمان قد استدعاه أيضاً، وأن كلا الأميرين قد حاوراه في أكثر من مناسبة، وأنه أعلن لهما رغبته في الزهد. كما أكد الكاتب السعودي عبد الرحمن الشمراني أن حصوله على معلومات تؤكد اجتماع فيصل بالأمير فهد في أوروبا.

كما ينقل الشمراني خبراً شائعاً مفاده أن شقيقة الأمير فيصل بن مساعد قد أعلمت الأمير سلطان بن عبد العزيز بأن أخاها ينوي "شراً بالملك"، فتجاهل سلطان كلامها، وقال إنه لم يحمله على محمل الجد باعتباره "كلام أطفال". علماً أن لقاءات الأمراء الثلاثة بالقاتل على مدار الأشهر الخمسة التي سبقت وقوع الجريمة، والاستماع إليه ومحاورته تكفي لتحميلهم مسؤولية ما جرى.

قد يقول البعض أنه من الطبيعي والعادي أن يلتقي العم بابن أخ له عدة مرات في الشهر، ولكن التساؤلات التي تطرح نفسها هنا كثيرة أهمها أن عدد أبناء عبد العزيز بلغ 36 ولكل من هؤلاء أعداد كبيرة من الأبناء، فهل كان الأشقاء الثلاثة يلتقون بكل منهم لمناقشة مشاكله ومتاعبه؟ أما السؤال الأهم فهو أنهم سمعوا عنه كما سمعوا منه أشياء تثير القلق، بالإضافة إلى التحذير الصادر عن شقيقته بما يضمره الأمير الشاب لعمه الملك، أما كان من الحري بهم أخذ الحيطة والحذر وهم معنيون بحماية رأس الدولة؟؟

ألا تحتمل هذه اللقاءات المتكررة مع القاتل من قبل عمومته المتنفذين الثلاثة تأويلاً يدخلها في إطار النزاع الأسري القائم على السلطة؟ ألا يمكن أن يصدق ما تروجه بعض المواقع الإعلامية على شبكة الإنترنت من استغلال الأشقاء الثلاثة لتذمر الأمير الشاب وميوله القومية واليسارية المغامرة كي تطمئنه على حقه بارتكاب جريمته؟

يقول أحمد عبد الوهاب رئيس التشريفات في القصر الملكي في مقابلة نشرت في 28-3- 1975 في جريدة الأنوار اللبنانية، واصفاً حادثة الاغتيال أنه "بعد أن أطلق الأمير فيصل النار على عمّه ألقى مسدسه ببرود عجيب" وهو تصرف يوحي بأن القاتل كان بالغ الطمأنينة والثقة بنفسه. أما كان يجدر به أن يحاول الفرار، إن كان عمله شخصياً بهدف الانتقام لشقيقه خالد؟ أو أن يطلق النار على جميع من حوله لو كان مجنوناً؟؟

يقول أحمد عبد الوهاب في مقابلة نشرت في مجلة الصياد اللبنانية في 10-4-1975، أن "أحد الحراس قد ضرب فيصلاً بالسيف وهو في غمده، بينما كان القاتل يبدي دهشته من تدخل الحرس"، فهل أبدى الأمير الشاب دهشته من حارس يتطاول على سيده الأمير؟ أم أنه استغرب ردة فعل حارس كان يتوقع منه تغطية ما ربما وعد بها من قبل من أعربوا عن تضامنهم معه؟؟

وكان ما يعرف بالأخوة السديريين لحظة اغتيال الملك فيصل ممسكون بالأمن والاستخبارات وأجهزة التجسس في البلد. فقد كان فهد بن عبد العزيز حينها وزيراً للداخلية، وكان شقيقه سلطان وزيراً للدفاع، وشقيقهما سلمان أميراً لمنطقة الرياض، ونايف نائباً لوزير الداخلية، وهم الأربعة أشقاء من أم واحدة هي حصة، والأهم أنهم يعتبرون من الناحية الإدارية والتنفيذية المسؤولون بالدرجة الأولى عن أمن السلطة والملك والبلد برمتها.

وتابع أحمد عبد الوهاب روايته في الصياد بالقول "حمل الأمير سطام (نائب سلمان، أمير منطقة الرياض) وبعض الموجودين الملك وسارعوا به إلى المستشفى المركزي.. وقد أدرك كبار الأمراء الموقف فبادروا إلى التصرف على أساس وقوع القضاء، وتمت السيطرة على الوضع، وخلال أقل من ساعة تأكدت الطبيعة الفردية للحادث، فاتجه الاهتمام لمنع استغلاله. وكان الأمير سلمان أمير الرياض الأسرع في التحرك، واستطاع أن يؤمن الموقف تماماً قبل نقل جثة الملك من المستشفى إلى القصر.

في هذه الأثناء كان الأمير سلطان في جدة، على مقربة من مراكز القوات السعودية المتواجدة هناك وفي عاصمة الحجاز، كما توجه الأمير نايف على الفور إلى المنطقة الشرقية قبل إذاعة الخبر وانتشاره. وصدرت أوامر بإغلاق أبواب القصر ومنع الاتصالات الهاتفية واستنفر الجيش وأجهزة الأمن التابعة للداخلية بالدرجة القصوى.

أما عن مصير القاتل، فلم يتم تركه لحظة واحدة بعيداً عن أعين السديريين وحمايتهم ومرافقتهم، فقد بقي فيصل بن مساعد بحوزتهم وعلى مقربة تامة منهم ولم يسلم إلى السلطات أو القضاء بل أصروا على "استضافته" في منزل واحد من أبرز الأشقاء السديريين، وقد بقي هناك طوال فترة الأشهر التي مضت بين لحظة ارتكاب الجريمة وحتى إعدامه فيما سعرف بساحة الجمعة.

وأكّدت صحيفة البيرق الصادرة بتاريخ 27-3-1975 أنه "على أثر الاغتيال اصطحب الأمير سلمان فيصلاً بن مساعد معه إلى قصره، حيث وضع تحت حراسته، وأجري تحقيق معه بإشراف الأمير فهد ولي العهد". بينما قالت صحيفة الشعب الصادرة في 27-3-1975 "أن الأمير القاتل موجود في الآن في قصر الأمير سلمان بن عبد العزيز حاكم الرياض، وسوف يستجوبه عمومته وأبناؤهم عن الدوافع التي حملته على ارتكاب جريمته النكراء".

من جهة أخرى لوحظ إمعان في النزاعات الداخلية على السلطة حتى في تلك الأوقات الدقيقة، فقد صدرت إيحاءات إثر عملية الاغتيال تلقي اللوم على الأمير عبد الله، (الملك الحالي) باعتباره مسؤولاً عن الحرس الملكي، حيث جرى تجميد دور الحرس الملكي مباشرة في تلك اللحظات الحاسمة والعصيبة، كما تقرر إثرها فصل أفراد الحرس الملكي الذي كان منوطاً به حراسة الملك فيصل عند وقوع الجريمة، وتقرر إعادتهم إلى الصحراء من حيث أتوا بعدما استغني عن خدماتهم، وفق تأكيدات العديد من الصحف المحلية والعربية حينها.

علماً أن الأمير عبد الله، قائد الحرس الملكي، كان خارج البلاد يقوم بزيارة إلى بيروت في تلك الأثناء، وكان شقيقه بدر بن عبد العزيز نائب رئيس الحرس الوطني قد تولى المسؤولية خلال فترة غيابه، (وهو فرع سديري آخر، والدته هيا بنت سعد السديري) فاقتصر واجبه في تلك المرحلة الهامة من حياة الأمة على إعلان استنفار وحدات الحرس الوطني.

لا شك في الأهمية الملفتة لما قاله رئيس التشريفات الملكية أحمد عبد الوهاب في المقابلة التي أجراها مع الصياد 10-4-75 من أنه "خلال أقل من ساعة تأكدت الطبيعة الفردية للحادث.. وكان الأمير سلمان أمير الرياض أسرع الجميع للتحرك واستطاع أن يؤمن الموقف تماماً قبل نقل الجثة من المستشفى إلى القصر".

وهكذا، بعد ساعة فقط أوصدت الأبواب وأثناء انشغال سطام والآخرون بمرافقة الجثمان إلى المستشفى وغياب عبد الله في لبنان، واتفقوا فيما بينهم على اختيار خالد بن عبد العزيز ملكاً، ولم يكن في ذلك أي إشكالية باعتباره كان ولياً للعهد في عصر الملك فيصل الذي عينه كما سبق وأشرنا لعدم اهتمامه بالحكم وكي لا يكرر تجربته مع شقيقه سعود، إلا أن تعيين فهد ولياً للعهد هو ما يثير التساؤلات.

تكمن المفارقة الأولى في مصادفة وقوع حادثة الاغتيال أثناء وجود عبد الله الشخصية المنافسة الأبرز على السلطة في بيروت كما نقرأ الكثير في تخطي القاعدة التي تنص على اختيار من هم أكبر سناً لتولي العرش وولاية العهد، فقد عين فهد ولياً للعهد برغم أن ثلاثة من أبناء عبد العزيز يكبرونه سناً وهم سعد وناصر ومحمد، ولا شك أن مكانته السياسية وتحالفاته مع أشقائه المتنفذين في الأجهزة المسلحة الأبرز، (الداخلية والدفاع وإمارة الرياض) قد مكنه من ذلك.

مسألة غياب عبد الله بحد ذاته عن الاجتماع الذي "بويع" فيه الأمير خالد ملكاً، وعين فهد ولياً للعهد مسألة تثير الانتباه، فهل كان عبد الله سيقبل بمنح ولاية العهد للأمير فهد؟ خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار ما شهدته مرحلة حكم فيصل وما سبقها من نزاعات بين الأخوة السديريين وعبد الله بدأت منذ الستينات ولم تنته بوصولها حد الاشتباكات العسكرية المسلحة وسقوط عشرات القتلى بين الطرفين.

القضية الملفتة الثالثة وقد لا تكون الأخيرة هي الاستعجال التي شهدته تلك الجلسة في تعيين ولياً للعهد، وهذه مسألة كانت تحتمل الانتظار أو التأجيل حتى قدوم عبد الله، (وقد عاد فعلاً بعد سويعات، ولكنه وصل بعد التعيين بلحظات) وجمع بقية الأطراف الفاعلة في الأسرة؛ ما يجدر ذكره هنا هو أن منصب ولي العهد ظل شاغراً في عهد الملك فيصل قرابة عام كامل، أي أن تعيين ولي العهد لم يكن ضرورة عاجلة إلى هذا الحد.

هذا ما أدى بين مسائل أخرى إلى ما لاحظه المراقبون في مختلف الصحف من مسارعة عبد الله إلى إرسال برقية التأييد والطاعة مباشرة إلى الملك الجديد، إلا أنه تخلف أكثر من خمس ساعات في إرسال برقية مشابهة لولي العهد، بينما بعث بقية الأمراء البرقيتين في آن واحد. ما يوحي بأن عبد الله ربما فضل الانتظار ولو لبعض الوقت حتى يرى إن كان أمامه خيار آخر للحؤول دون ذلك.

قد يرى المراقب للوهلة الأولى أن صيغة الاغتيال-الانقلابية هذه، لو صدقت، لاعتبرت أغرب عملية انقلاب في التاريخ، إذ إنها، كما يبدو، لا تستهدف الوصول إلى الموقع الأول في السلطة كبقية الانقلابات، وهو في هذه الحالة العرش الملكي لأغنى دولة في المنطقة، بل توحي الفكرة بأن الانقلابيين هنا قد تحالفوا فيما بينهم لمجرد الوصول إلى ولاية العرش، وهي مرتبة قابلة للتغيير كما حصل في الأردن قبيل وفاة الملك حسين الذي خرج من المستشفى ليخلع شقيقه الأمير حسن من ولاية العهد ويعين ابنه عبد الله، ثم عاد إليها ليموت مطمئناً.

لكن الحقيقة مغايرة تماماً لما تبدو عليه في الظاهر، فالمعطيات الأولية تؤكد أن هذا الانقلاب له بعدين اثنين يتعديان مجرد الاستيلاء على السلطة لمرة واحدة، فهو اعتلاء للعرش أولاً وربما نقله في البعد الثاني من سلالة عبد العزيز وفق التسلسل المعهود لتركيزه في أيدي مجموعة قوية من أبنائه، الذين بدأ نفوذهم بالتنامي منذ استيلاء فيصل على السلطة من شقيقه سعود، وما زال في تصاعد مستمر حتى يومنا هذا، كما يوحي بالسير في هذا الاتجاه أكثر فأكثر مع مرور الزمن، وهذا ما سنحاول تبيانه لاحقاً.

لا بد من التذكير هنا مجدداً، وفي سياق التبرير للبعد الأول أن فيصلاً عندما اختار شقيقه خالداً ولياً للعهد، اعتمد في ذلك على مرضه وعشقه للصيد وعدم اهتمامه بالمنافسة على السلطة. أما وقد أصبح خالد ملكاً بعد فيصل فما كان لينافس فهد على السلطة حتى لو كان يجلس على العرش، ويبدو أن هذه مسألة أصبحت شائعة بعد أيام فقط من عملية الاغتيال السياسية وتولي الملك خالد زمام الحكم في الرياض.

ففي السابع والعشرين من آذار/مارس 1975 كتبت جريدة اليوم تقول إن "كثيرين من السعوديين يعتبرون أن الحكم كان في يد الملك فيصل، أما الآن فقد أصبح ثنائياً بيد الملك خالد وأخيه الأمير فهد المعروف بصداقته للغرب وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية".

وذهبت الكفاح العربي في توضيح مسألة (ازدواجية) امتلاك السلطة السعودية إلى ما هو أبعد من ذلك بقولها في 28-3-1975 أنها "علمت من مصادر مطلعة قريبة الصلة ببعض الدوائر الغربية في بيروت، أن الملك السعودي الجديد خالد بن عبد العزيز قد يتنازل عن العرش خلال الشهور المقبلة لصالح ولي عهده وشقيقه الأمير فهد.

وأضافت الكفاح العربي أن "المصادر الغربية نفسها تعزو موقف الأمراء السعوديين من التمسك بالملك خالد كخليفة للعاهل الراحل وعدم المجيء بالأمير فهد مباشرة إلى العرش لتحويل الأنظار عن الصراع السائد على السلطة في المملكة عن الأذهان، وإبراز حادثة الاغتيال على أنها مجرد عمل فردي طائش، لا خلفية وأبعاد سياسية ولا دوافع له، إلى جانب التمسك بالشرعية الدستورية، وعدم تسجيل سابقة في تجاوز ولي العهد تحت أي ظرف كان".

هناك وجه أكثر وضوحاً في هذا المجال كشفت عنه لاحقاً مجلة ميدل إيست ماركتس الصادرة في نيويورك عن تشيز مانهاتن بنك في 7-5-1975 حيث ذكرت أن "مرسوماً ملكياً قد صدر الشهر الماضي أعطيت بموجبه جميع صلاحيات الملك خالد الخاصة بصنع القرارات في الشؤون الداخلية للأمير فهد".

كما نشرت المجلة فقرات من المرسوم الذي قالت أنها حصلت على نسخة شبه سرية منه، وأنه قد وزع على وزراء الحكومة السعودية في الثالث من نيسان الماضي ولم يتم توزيعه علناً. وقد جاء في المرسوم : "نود إعطاءك جميع الصلاحيات الخاصة بتسيير الشؤون الداخلية والخارجية وإصدار القرارات الوزارية طبقاً للسياسات المعمول بها في البلاد بعد التشاور معنا".

سنكتفي بهذا القدر لتبيان حقيقة أن السلطة بعد مقتل فيصل قد آلت فعلياً ومنذ الأيام أو ربما الأشهر الأولى إلى الملك فهد، نكون قد أوفينا البعد الأول حقه، والقائل بأن عملية الاغتيال قد شكلت بهذه الحالة استيلاء شبه كامل على السلطة وليس ولاية العهد فقط، خصوصاً وأن العرش قد انتقل رسمياً بعد وفاة الملك خالد إلى فهد في سلاسة لم تشهد الأنظمة الوراثية مثيلاً لها.

أما البعد الثاني والمتعلق بنقل السلطة في سلالة عبد العزيز من تسلسل البكورة المعهود بين الأشقاء لتركيزه في أيدي فريق محدد من أبنائه، الذين بدأ نفوذهم بالتنامي منذ استيلاء فيصل على السلطة من شقيقه سعود عام 1964، وما زال في تصاعد مستمر حتى يومنا هذا، وهو ما يستدعي منا أولاً القيام باستعراض مبسط لمبدأ الخلافة في المملكة العربية السعودية وما شهده من تحولات منذ رحيل مؤسسها.

من الخطأ الادعاء أن أبناء عبد العزيز يشكلون كتلة واحدة ضمن مؤسسة متماسكة منذ رحيل والدهم عام 1953، فهناك عناصر مختلفة تؤثر في حق كل فرد منها وقدرته على امتلاك السلطة بعيداً عن المزايا الشخصية أو الكفاءة الإدارية والاتجاهات العقائدية والنظرة الاقتصادية التي يتمتع بها كل منهم، وهي تعتبر بمجموعها من المسائل الأبرز والأكثر أهمية لضمان الإمساك بمقاليد الحكم السعودي.

1-مبدأ خلافة البكر

2- النسب والعشيرة التي تنتمي إليها الأم

3- عدد الأشقاء من جهة الأم

4- دور الأبناء من الجيل الجديد في السلطة

5- النفوذ السياسي والعسكري في الدولة



1- مبدأ خلافة البكر

برغم إدراكنا بتكريس هذا المبدأ كشرط سياسي رئيسي للخلافة، لا بد من التذكير بأن وفاة الملك فيصل عام 1975 قد بدأت عهداً من تخطي هذه الميزة عبر تنازل الأمير محمد بن عبد العزيز عن الحكم "طوعاً" لصالح شقيقه خالد الأصغر سناً، كما تكررت هذه الحالة مجدداً عام 1982 عندما تخطى الملك فهد شقيقيه الأميرين ناصر وسعد، بينما لم يتخطَّ عبد الله أحداً لأن منصور، الشقيق الذي يكبره سناً كان أول وزير دفاع سعودي توفي عام 1951، حتى سلطان الذي عين ولياً للعهد فقد تخطى بذلك شقيقه بندر الذي يكبره بعام على الأقل. (أنظر ملحق علاقات الأخوة بين أبناء الملك عبد العزيز من جهة الأم).



2- النسب والعشيرة التي تنتمي إليها الأم

نفهم من ذلك أن مبدأ البكورة رغم أهميته، أصبح قابلاً للانتهاك انطلاقاً من العوامل الأخرى المبينة أعلاه، إذ يمكن القول أن لمكانة الأم والعشيرة التي تنتمي إليها تأثيراً هاماً في ارتقاء بعض الأمراء على حساب أشقائهم ولو كانوا أكبر سناً، فعندما تخطى خالد شقيقه محمد فقد فعل ذلك مع شقيق له من أمه، جوهرة بنت مساعد، وهي من عشيرة جلوي الواسعة النفوذ والتي تعتبر من أبرز العائلات المشاركة في النزاع على السلطة هناك؛ المهم أن لتخطي محمد صلة بما تمتع به من نفوذ وسلطة في أوساط العائلة واضطراره للتنازل "طوعاً" لصالح خالد بناء على رغبة فيصل وإصراره على اختيار الشقيق الأقل سلطة ونفوذاً.

أما تخطي فهد لناصر فنجد أنه يعود أولاً لوقوفه إلى جانب سعود في نزاعه مع فيصل، إلى جانب ماضيه الموسوم بعدد من الفضائح، وربما كان لكونه ابن محظية مغربية لا مكانة لها في بنية عشائر وقبائل الجزيرة ونفوذها. وبخصوص شقيقه سعد فصحيح أنه ابن جوهرة بنت سعد السديري، الأرملة السابقة لشقيق عبد العزيز، إلا أنه لم يتول أي منصب رسمي ولم يلعب أي دور في السياسة.

وما كان لأحد أن يتخطى عبد الله ليس لنفوذه السياسي ووقوفه على رأس الحرس الوطني فحسب برغم أهمية هذه المسائل التي سنأتي على ذكرها لاحقاً، بل ولكونه ابن فهدة بنت عاصي الشمّر، ابنة قبيلة آل شمّر التي تزوج منها عبد العزيز ليفوز بدعم فريق رئيسي من آل الرشيد المنافسة في حائل، ما قد يجعل أمه من نسب عريق برغم ضعفه نسبياً بالمقارنة مع المرتبة التي يحتلها في العائلة.



3- عدد الأشقاء من جهة الأم

لا بد من التنويه أيضاً إلى أنه ليس لعبد الله من أشقاء يعززون مكانته، وهذا جانب آخر يجب إبرازه، إلا أن شقيقتاه نوفاً وصيتة لعبتا دوراً هاماً من وراء الكواليس كما يؤكد جوزيف إ. كيشيشيان[13]، حيث دبرت الأميرة نوف زواج جوهرة بنت عبد الله بن عبد الرحمن من وزير الخارجية سعود بن فيصل الذي أصبح يحسب مع أشقائه منذ سنوات على الفريق المؤيد للملك الحالي.

برغم كل ما ذكر حول عناصر الضعف المحيطة بعبد الله فقد استطاع جلالته ردمها بعلاقات وثيقة مع أشقائه من أبيه وأبناء إخوانه الذين لا إخوة أو حلفاء أو دعم سياسي لهم في أوساط النفوذ البارزة في الأسرة، أي أنه تحالف مع من لا أمهات أو أشقاء أو نفوذ لهم، بل ويبدو أنه تعمق في سيره على هذا النهج عبر توسيع رقعة نفوذه لتطال المجتمع السعودي فقام في تشرين أول/أكتوبر من عام 1999 بالتجوال في بعض الأحياء الفقيرة أكثر من مرة كما سار وسط المجمعات التجارية في الرياض حيث تحدث إلى المتسوقين وتناول الوجبات السريعة مع الناس، وفق ما أكّده أنور عبد المجيد الجبريتي في مقالة "الأمير عبد الله والسوق" التي نشرت في الصفحة 23 من صحيفة الحياة 24-10-1999.

من الواضح أنه بعد عهدي فيصل وسعود اللذين لم يكن لهما أشقاء لجهة الأم بل اعتمدا على ما اكتسباه من نفوذ عبر تعيينهما في مناصب هامة مختلفة من قبل مؤسس الدولة الملك عبد العزيز، أصبحت التكتلات التي يشكلها الأشقاء من أبرز العناصر التي تكوِّن التحالفات القائمة في كنف الأسرة الحاكمة، وهذا ما ينطبق تحديداً على ما يعرف بالأشقاء السبعة وهي ظاهرة تكشف لنا أهمية هذا الجانب في بلوغ السلطة وهي تستحق بالتالي التوقف عند خصائصها.

يجمع المراقبون للداخل السعودي أن هذه المسألة لا تنطبق على السديريين فحسب، فقد كان الملك خالد وشقيقه الأكبر محمد متفقين على مختلف القضايا السياسية والإدارية في البلد، كما اتفق فهد وسلطان على مجمل القضايا منذ أواسط الخمسينات حيث وقف الاثنان مع فيصل في نزاعه مع سعود، كما تعاونا في عهد الملك خالد على الحد من نفوذ عدد من الأمراء المنافسين على السلطة، خاصة تأثير الأمير عبد الرحمن بن عبد العزيز[14].

وهذا ما نراه أيضاً في التكتل الذي شكله الأمراء منصور ومشعل ومتعب، أبناء عبد العزيز من محظية أرمنية اسمها شهيدة، فحين كان منصور أول وزير دفاع في السعودية، قام بتعيين شقيقه الأصغر مشعل نائباً له، وما إن توفي منصور عام 1951 حتى حل شقيقه مشعل محله، ثم قام هذا الأخير بتعيين شقيقهما الأصغر متعب في منصب نائب الوزير. وقد أُبعد كلاهما عن الوزارة إبان عهد الملك سعود، ثم أعيدا إلى السلطة على يد الملك فيصل الذي أوكل إليهما منصبي أمير ونائب أمير مكة على التوالي.

كان الأشقاء السبعة الذين انجبتهم حصة بنت أحمد السديري (والذين أصبحوا خمسة بعد وفاة فهد وعبد الرحمن) يشكلون تحالفاً مذهلاً ضمن سلالة آل سعود، وهم يحتلون مناصب رئيسية في البلد، إذ إن سلطان كما ذكرنا أصبح ولياً للعهد ووزيراً للدفاع، وكان عبد الرحمن يتولى شؤون العائلة المالية، ونايف وزير الداخلية، وتركي الذي كان نائباً لوزير الدفاع ثم استقال عام 1979 بعد فضيحة زوجية، ليصبح من كبار رجال الأعمال وأبرز الوسطاء في صفقات التسلح[15]، (أنظر فصل الفضائح في ملف التسلح) وسلمان أمير منطقة الرياض، وأحمد نائب وزير الداخلية.

نلاحظ هنا أن هذه أهم المناصب في أي دولة كان، والأهم من ذلك أن النفوذ السياسي الخاص بهؤلاء الأشقاء متشابك جداً، إذ نرى على سبيل المثال أن الأمير سلطان قد عمل على تعيين شقيقه الأصغر تركي نائباً له عام 1969؛ وهذا هو حال الملك الراحل فهد حين كان وزيراً للداخلية، فقد عين الأمير نايف نائباً له عام 1970، وهو ما ينطبق على أصغر الأشقاء، الأمير أحمد، الذي ارتقى ليشغل منصب نائب وزير الداخلية حال تسلم شقيقه نايف تلك الوزارة عام 1975.



4- دور الأبناء من الجيل الجديد في السلطة

يعتبر أحفاد عبد العزيز فريقاً متميزاً في الأسرة المالكة، فهم الجيل الصاعد الذي يتمتع بمستوى تعليمي متقدم ويتأثر بالأفكار المنفتحة نسبياً، ولكنهم ينقسمون فيما بينهم إلى جماعات يتلقون فيها الدعم المباشر من آبائهم عبر تولّي المناصب من خلالهم، وبالتالي فهم يتأثرون بمدى نجاح أو فشل آبائهم، وهم في الوقت نفسه يشكلون بالمقابل دعماً سياسياً لنفوذ آبائهم عبر المناصب التي يشغلونها.

هذا ما رأيناه في فصل سابق من تعيين سعود لأبنائه في المناصب البارزة، فوضع فهد ومحمد في وزارة الداخلية، وعين سعد رئيساً للحرس الوطني، وبندر ومنصور في رئاسة الحرس الملكي، وعين بدر أميراً على الرياض، وعبد الله أميراً على مكة؛ وقد بلغ هؤلاء مستوى عالياً من النفوذ حتى أصبحوا يعرفون كما أسلفنا بالملوك الصغار، ولكنهم سرعان ما جردوا من مناصبهم حين تم خلع والدهم عام 1964، ولم يتول أي منهم منصباً يذكر حتى اليوم.

ينطبق ذلك على أبناء الملك فيصل الذين تمت ترقيتهم سريعاً بعد توليه الملك عام 1964 وما زال اثنان منهما يلعبان دوراً هاماً في الشأن السعودي المعاصر، هما سعود الذي أصبح نائباً لوزير النفط ثم مديراً تنفيذياً للمجلس الأعلى للبترول، فوزيراً للخارجية منذ عام 1975، حيث جاء تعيينه بعد مقتل والده وكأنه نوعاً من التعويض والترضية، ويبدو أن الملك خالد أراد من ذلك تعزيز التوازن في موازين القوى المتصارعة على السلطة، خصوصاً وأن سعود الفيصل كان مقرّباً جداً من قائد الحرس الوطني والعاهل الحالي عبد الله بن عبد العزيز[16].

تولى تركي الفيصل منصب نائب لمدير المخابرات قبل ارتقائه إلى منصب مدير لشؤون هذه الهيئة، فقائدٍ للقوات السعودية في مكة عام 1979. وقد عين في منصب مدير المخابرات من قبل الملك عبد العزيز بالهدف نفسه المتعلق بتوازن القوى المتصارعة على السلطة بين السديريين وعبد الله. ويبدو أن الملك فهد استطاع بعد تسلم السلطة اختراق هذا الحصن بتعيين ابنه الأمير سعود بن فهد نائباً لتركي الفيصل، فشكل حضوره ضمانة لإطلاع جلالته على كل شاردة وواردة، إلى جانب تعديل موازين القوى لصالح السديريين مجدداً.

أما أبناء عبد الله بن عبد العزيز، فهم الأمراء خالد ومتعب وتركي وفيصل وعبد العزيز ومشعل، وقد شغل ثلاثة منهم مناصب هامة في الحرس الوطني. علماً أن متعب الابن البكر لعبد الله يعتبر الأبرز من بين أبنائه إذ لعب دوراً هاماً في أوساط زعماء القبائل وشيوخها الذين يحبونه ويتوددون إليه، حالهم كحال كبار الضباط والمجندين في الحرس الوطني الذي يلعب دور حماية الأسرة المالكة وحفظ التوازن القبلي في المملكة لما يضم في كنفه من عناصر تنتمي إلى العشائر الموثوقة والمنتشرة في أرجاء البلاد.

وحين ارتقى فهد بن عبد العزيز على العرش أخذ يعزز من مكانة أبنائه ليميز من بينهم الأميرين محمد وعبد العزيز، إذ يعتبر الأول من أبرز رجال الأعمال السعوديين بامتلاكه عدد كبير من الشركات العالمية، نذكر منها شركة البلاد التجارية الضخمة، وهي عبارة عن تكتل لمشاريع الاستيراد والتصدير والأعمال المتنوعة الأخرى إذ قامت إحداها في إدارة مشروع تطوير أنظمة الهاتف في المملكة، بالتعاون مع بيل كندا وفليبس هولندا، وبلغت قيمتها عشرة مليارات دولار[17].

على هامش الصفقات التجارية فقد أوكل جلالة الملك المرحوم فهد إلى ابنه محمد حكم المنطقة الشرقية الحرجة، والتي تعتبر، وفق المعايير السعودية من أصعب المناطق الإدارية في المملكة، لما تتصف به من معضلات طائفية، خصوصاً وأن الغالبية العظمى من سكّانها ينتمون إلى الطائفة الشيعية التي يجمع المراقبون على تعرض سكانها لمعاملة المواطنين من الدرجة الثانية في أحسن الأحوال.

اعتبر عبد العزيز الابن المفضل لدى فهد، إذ كان الأمير الشاب يرافق والده في جميع وفوده الرسمية وغالباً ما كان يجلس خلف الملك مباشرة في كافة المناسبات العامة. وفي العام 1999 جرى تعيينه في منصب وزير دولة للشؤون الحكومية، وفي مراحل متقدمة من مرض الملك عبد العزيز عمل الأمراء سلطان وسلمان ونايف في إطار حملات توسيع دائرة التضييق على ولي العهد الأمير عبد الله، جرى تعيين عبد العزيز أميناً عاماً للحكومة، حيث عمل على تأكيد استمرارية والده الفاعلة في السلطة عبر توقيع المراسيم الملكية الهامة من قبل جلالته[18].

خالد بن سلطان هو ابن ولي العهد الحالي سلطان بن عبد العزيز، وقد عين قائداً لسلاح الدفاع الجوي عام 1986 وجرت ترقيته إلى رتبة قائد، ثم نُصب إثر الاجتياح العراقي للكويت عام 1990 قائداً لكافة القوات العربية والمسلمة على أرض السعودية، ما أكسبه شهرة ونفوذاً كبيرين. وهو يلعب دوراً مؤثراً على الرأي العام السعودي، فبعد خروجه من السلك العسكري استملك صحيفتي الحياة والشرق الأوسط الصادرتين في لندن، كما نشر كتاباً حول الدور الذي لعبه في حرب الخليج، يكشف من خلاله تصميمه على بلوغ السلطة، وذلك وفق ما يؤكده باتريك سيل[19].ووووإلى إذ إ

في 17-1-2001 صدر أمر ملكي بتعيين الأمير خالد معاوناً لوزير الدفاع والطيران في الشؤون العسكرية، مع رتبة وزير. ويقول جوزيف إ. كيشيشيان[20] أن عودة خالد لتولي هذا المنصب الوزاري قد رسخت موقع الأمير سلطان بن عبد العزيز في العائلة، وذلك من خلال تعزيز حلف الأب، وعزز مكانته السياسية ليقترب أكثر فأكثر من العرش.

الأمير بندر بن سلطان هو الابن الرابع لولي العهد الحالي الأمير سلطان، وقد زوجه الملك فيصل رحمه الله إحدى بناته ثم دفعه إلى العمل الدبلوماسي؛ شغل عام 1983 منصب سفير للسعودية في الولايات المتحدة، كما أوكل إليه الملك فهد مهمات أخرى تتجاوز منصبه الرسمي، كان من بينها ما نشرته وسائل الإعلام الأمريكية عن تورطه فيما عرف بفضيحة إيران كونترا والمتعلقة بتمويل صفقات أسلحة أمريكية لإيران مقابل تقديم الدعم للعصابات المعادية للحكومة الساندينية المنتخبة في نيكاراغوا[21].

لحاكم الرياض الأمير سلمان عدة أبناء برز من بينهم الابن الرابع عبد العزيز ورجل الفضاء سلطان. شغل عبد العزيز منصب نائب وزير النفط السعودي المستحدث عام 1996 بعد أن كان على خلاف دائم مع وزير النفط السابق هشام ناظر. وهو يتمتع بشعبية كبيرة كما تحيط به حاشية واسعة من المستفيدين الذين ينعمون بسخائه كونه يطل بحكم وظيفته على الجانب الأهم من موارد الدخل الرئيسي في المملكة.

سلطان بن سلمان، رجل فضاء سعودي طار على متن مكوك الفضاء الأمريكي ديسكوفري عام 1985، وبرغم عدم توليه مناصب حكومية إلا أنه يلعب دوراً هاماً في الرأي العام السعودي لما لديه من دور تربوي وانكبابه على رسم جذور آل سعود ومنشئها وسعيه الدائم في هذا الإطار إلى تشبيه والده، الأمير سلطان بجده عبد العزيز، وهو يكتب مقالات مؤثرة في الصحف المحلية، كثيراً ما ينتقد فيها بعض المسؤولين كما حدث عندما حذر وزير الإسكان من إمعانه في تبذير ميزانية الوزارة ومصاريفها.

ويقول الكاتب والصحافي مرتضى السيد في مقالة ينشرها موقع قضايا الخليج على الإنترنت تحت عنوان (ملاحظات وقضايا الجيل الثالث وقضايا الإصلاح في السعودية) أن الأمير نايف من جهته منح ابنه محمد صلاحيات واسعة في وزارة الداخلية، تحت مسمّى مساعد وزير الداخلية للشؤون الأمنية، فأصبح الرجل الأول بعد أبيه، وكثير من أعمال أبيه أوكلت إليه، فهو من الناحية الفعلية رجل الوزارة الأبرز، متخطيّاً في ذلك عمّه الأمير أحمد نائب وزير الداخلية، كما تخطّى كلّ الضباط الذين استاؤوا من تعيينه، وبينهم رئيس المباحث السابق صالح الخصيفان.



5- النفوذ السياسي والعسكري في الدولة

نرى من خلال ما سبق أن الوزارة التي يتولاها كل من أبناء عبد العزيز تصبح نوعاً من دائرة النفوذ الحصرية الخاصة به وبأشقائه من والدته ثم بأبنائه من قبلهم أو من بعدهم، أي أن الابن قد يكون نائباً للأخ، كما أنه قد ينافس عمه على الصلاحيات والمنصب كما حصل بين الأمير محمد بن نايف وعمه الأمير أحمد بن عبد العزيز، أصغر السديريين السبعة[22].

وبرغم ما تكشفه هذه الحالة من أن السديريين لا يشكلون كتلة بالغة الصلابة في التماسك، وأن هناك بعض التباينات السائدة بين الأشقاء أنفسهم أو بين أبناء العم أو حتى بين أبناء الجيلين من الأحفاد والأبناء، فإن هذه لا تبلغ حد الخلاف بل يمكن اعتبارها قائمة ضمن مبدأ المثل العربي القائل : أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب.

كما نقرأ مما سلف أن الوزارات والمؤسسات التي تحولت إلى ما يشبه قواعد النفوذ الشخصي لكل من الوزراء، تشكل في توزيعها نوعاً من الآلية اللازمة لحفظ التوازن بين القوى المتصارعة، والتي يتم العمل الدؤوب على ضربها بين الحين والآخر، إما من خلال تعزيزها داخلياً عبر الأشقاء والأبناء، أو بتمديدها نحو وزارات أخرى توسع نفوذ الفئات المتصارعة على السلطة، كما فعل فهد عبر تعيين ابنه الأمير سعود نائباً لابن شقيقه تركي الفيصل في جهاز الاستخبارات.

لا شك أن التفاعلات التي وقعت بين الأطراف المتنازعة قد جرت كما رأينا في الوزارات الحاسمة باستمرار، كما اتضح لدينا أنه برغم إمساك السديريين بوزارات السلطة الرئيسة وهي الداخلية والدفاع والأمن وإمارة الرياض، فقد حاولت منذ أواسط الستينات حتى اللحظة الأخيرة من مرض الملك فهد وإصابته بما يشبه الموت السريري، حاولت إطلاق الحملات تلو الأخرى لتقويض نفوذ ولي عهده الملكي الأمير عبد الله، دون أن توفر اللجوء إلى الاشتباكات المسلحة لتحقيق هذا الهدف.

ويبدو أن قدرة الطرفين على استخدام القوة المسلحة، وانتشار الطرفين على أوسع نطاق ضمن العناصر الفاعلة في الأسرة، يدفعهما إلى التخفيف من احتدام النزاع وتأجيل الخصومات الأسرية لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه العائلة المالكة برمتها وتجعل كل منهم يستمر بالعمل التراكمي لإيجاد الظروف المؤاتية التي تضمن استيلاءه الكامل والنهائي على السلطة.

علماً أن الفرقاء المتصارعة على السلطة انتقلت منذ مقتل الملك فيصل إلى نوع من الصراع من أجل البقاء، فهي في بعض من جوانبها تعيد إلى الأذهان المخاوف التي أثارها سعود بن عبد العزيز لدى أشقائه حين قام بتعيين أبنائه في المناصب الرئيسية للحكم، وأوشك على تسمية ابنه ولياً للعهد، ما شكل تهديداً بحرمان أشقائه من حقهم في توارث السلطة مقابل خطر الإطاحة به وخلعه عن العرش ونفيه.

صحيح أن السديريين الآن في مكانة لا تقل تحصيناً من الحكم السعودي نفسه، ولكن هذا ما أوحت به مجموعة السديريين عبر توليها المناصب الرئيسية الأبرز للحكم، وسعيها الدائم لإبعاد جميع العناصر المنافسة لها عن مناصب النفوذ، كما هو حال محاولاتها المتكررة لخلع عبد الله وإبعاده عن قيادة الحرس الوطني لما تشكله قوته العسكرية من عماد أساسي للتوازن الحاصل بين القوى المتصارعة على السلطة.

ولكن لو استثنينا ما آلت إليه الأمور اليوم بعد إعتلاء أحد الأشقاء على العرش، (فهد) وتولي آخر (سلطان) ولاية العهد من بعده، وترشح ثالث (سلمان) تولي السلطة من بعده ( وهذا ما سنأتي على توضيحه لاحقاً) وتمسكهم مع أبنائهم بالحقائب الرئيسية في الحكم السعودي، لو استثنينا كل ذلك، يبقى هناك سؤال يطرح نفسه بإلحاح لارتباطه العضوي في جوهر هذا الملف : إلى أي مدى نستطيع القول إن الظروف التي كانت سائدة عام 1975 تستدعي من السديريين تحفيز الاستفادة من جريمة اغتيال الملك فيصل، أو ربما احتمال وقوفهم وراءها؟

إلى جانب مجموعة المعطيات والدلائل التي قدمت في سياق البحث والمتعلقة باللقاءات المتكررة للأمراء السديريين سلطان وفهد وسلمان المسبقة بالجاني، ومسؤولياتهم غير المباشرة عن موت العاهل السعودي، باعتبارهم المعنيين بحماية أمن الحكم والحاكم كوزراء للدفاع والأمن الداخلي والعاصمة الرياض على التوالي، بالإضافة إلى ما رافق الجريمة من إجراءات احترازية مباشرة كالاستنفار الفوري وإمساك الوزراء الثلاثة بزمام الأمور في البلد، ناهيك عن وقوع الجريمة أثناء غياب خصمهم الرئيسي عبد الله، والإصرار على احتجاز القاتل في منزل الأمير سلمان تحت إشراف الأشقاء أنفسهم..،إلخ.

أضف إلى ذلك، وبعد ما قدمناه من شروط أساسية متعارف عليها لتولي السلطة في السعودية، كمبدأ البكورة ونسب الأم وعدد الأشقاء وتنصيب الأبناء وما يتمتع به المرشح من قوة ونفوذ سياسي عبر المنصب الذي يتولاه، نجد أن هذه الشروط بمجملها لا يتمتع بها أحد من أبناء عبد العزيز بقدر ما يمتلكه الأشقاء السديريين؛ وقد لا يخطئ من يقول أن هذه الشروط مجتمعة أصبحت اليوم حكراً عليهم وحدهم، وقد لا يستثنى من هذه القاعدة إلا جلالة الملك عبد الله وأبناء الملك فيصل رحمه الله.

لو عدنا للتأمل مجدداً في ملحق علاقات الأخوة بين أبناء عبد العزيز من جهة الأم لوجدنا أن أصغر أبناء عبد العزيز قد ولد عام 1947، أي أنه أصبح اليوم في الستين من عمره، وهو نفس العمر الذي كان عليه الملك فهد عندما تولى العرش بعد وفاة شقيقه الملك خالد بن عبد العزيز عام 1982، وهو عمر الملك فيصل حين تولى الحكم من أخيه عام 1964، الاستثناء الوحيد كان للملك سعود الذي كان في الخمسين من عمره تقريباً حين أصبح ملكاً، وهو عمر مناسب للتمتع بالسلطة، ولكنه استثناء لن يتكرر مع أي من الأبناء.

الأعمار بيد الله، وكم من عفي رحل عن هذه الدنيا قبل العليل، وكم من شاب غادرها قبل ذي شيب، إلخ، ومع ذلك لو انتظر الأمير حمود، آخر أبناء عبد العزيز، دوره في الحكم بغض النظر عن كونه ابن وحيد لأمه فطيمة، المحظية اليمنية التي لا مكان لها وسط تحالفات العشائر السعودية ولا يمسك هو بأي وزارة ذو وزن وبالتالي لا يتولى أي من أبنائه مناصب يعتمد عليها، لو تغاضينا عن كل ما سبق، لكان عليه الانتظار حتى يحكم 27 من أشقائه الباقين، ثم يأتي دوره في الحكم، هذا إن كان حينها ما زال على قيد الحياة، والأعمار بيد الله.

ولو تابعنا هذه الفرضية الهادفة سنجد أنه إذا تنازل جميع أشقائه الذين يسبقونه عن حقهم في الملك لصالحه، كما حصل مع فهد حين تنازل له أشقائه محمد وناصر وسعد، لن يكون عليه بعد ذلك إلا أن يعمل على تقوية عضد أبنائه حتى يتسلموا الحكم من بعده كونهم أحق من أبناء أشقائه، وليس في الأعراف السعودية الراهنة ما يحول دون ذلك، مع أنه قد يجد معارضة من أحد أبناء من سبقوه في الملك.

هذا لو انطلق من نص الميراث الذي تركه الملك عبد العزيز واعتماده على مبدأ البكورة في الخلافة دون أن يترك مجالاً للالتباس، حيث أصدر قبل شهر من وفاته أي في تشرين الأول/أكتوبر من عام 1953، مرسوماً ملكياً يقضي بتشكيل مجلس للوزراء، وعين ولي العهد ابنه الأكبر سعود رئيساً للمجلس، ثم قام سعود مباشرة بتعيين فيصل نائباً لرئيس مجلس الوزراء، فاعتبر القرارين تعزيزاً لحق سعود الأخ الأكبر بتولي العرش وتمهيداً لاعتبار شقيقه التالي فيصل ولياً للعهد، وهكذا دواليك..

إلا أن فرص الأمير حمود وغيره من الأشقاء قد أصبحت على "كف عفريت" بعد المرسوم الملكي الذي أصدره الملك فهد في آذار مارس من عام 1992 والذي ضم مجموعة من الوثائق الهامة كالنظام الأساسي للحكم والقوانين المرعية في تشكيل مجلس الشورى الحديث وقانون المناطق وغيرها من تلك التي قد تؤلف بمجموعها نوعاً من نشوء آلية مؤسساتية شبه واضحة، جاءت انعكاساً لتبعات حرب الخليج وتنامي أصوات المعارضة والاحتجاج.

المهم أن النظام الأساسي للحكم قد انقسم إلى تسعة أبواب رئيسية تناولت المبادئ العامة ونظام الحكم ومقومات المجتمع والمبادئ الاقتصادية والحقوق والواجبات وسلطات الدولة والمالية والرقابة والأحكام العامة. وقد تمتع الباب الأول منه، أي النظام الأساسي بأهمية كبيرة إذ يحتوي الباب الثاني منه على قسمين احتويا على النقطة الأكثر وضوحاً وغموضاً في آن معاً مع ما يعنيه المرسوم من انقلاب ثوري بكل ما في الكلمة من معنى.

ينص البند (ب) من المادة الخامسة في النظام الأساسي على أن "يكون الحكم في يد أبناء الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود وأبناء الأبناء.. ويبايع الأصلح منهم للحكم على كتاب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم".

يكمن الوضوح والغموض هنا تحديداً في عبارة "يبايع الأصلح منهم للحكم" فهي عبارة مبهمة غامضة مليئة بمساحات ضبابية تترك مجالاً للتأويل والالتباس. فلا أحد يعرف ما هي المقاييس والمعايير التي يمكن الاعتماد عليها في تحديد من هو "الأصلح منهم" إلا إن كان المرسوم واضحاً في تقديره إلى بديهية أن يكون الأصلح هو الأكثر تمرساً في السلطة والذي له باع طويل في دهاليز السياسة ودهاقنتها، وهذا ما لا ينطبق إلا على أشقائه السديريين وأبنائهم بشكل أساسي.

أما البند (ث) من المادة الخامسة لنظام الحكم الأساسي فهي تنص على أن "الملك يختار ولي العهد ويعفيه بأمر ملكي"، ويبدو أن هذه العبارة قد جاءت لتهدد سلطة ولي العهد حينها الأمير عبد الله بن عبد العزيز، برغم أنها اتبعت بطمأنة الملك فهد لولي عهده بالمحافظة على موقعه، كما أنها جاءت لتهدد كذلك ميزان القوى السائد، وتلغي مع سابقتها مبدأ البكورة كلياً، ولا تبقي أي مجال للشك في ترك الأمور المتعلقة بالسلطة كي تحسم على الأرض بين مجموعات القوى والموازين السائدة بينها.

وقد جرى كل ذلك وسط اتفاق شبه ضمني بين كافة الأمراء البارزين على خلافة الأمير سلمان بن عبد العزيز لشقيقه سلطان، خصوصاً وأن سلمان عرف بدور الوسيط الذي لعبه بين فهد وعبد الله، كما أنه يجمع في إدارته لمنطقة الرياض كما يبدو للعيان بين الحداثة والتقليدية وتكيفه مع مقومات القبائل واحتياجاتها، كما عرف الكثير عمن يحيطون به من خبراء وتكنوقراطيين شبان من خريجي الجامعات ذوي الكفاءة العالية.

إلا أن اقتراب سلمان من الحكم يشكل بحد ذاته خطوة أخرى على طريق المادة الخامسة من النظام الأساسي للحكم والمشار إليها سابقاً. إذ أن ذلك يشكل تخطياً لإثني عشر أميراً يكبرونه سناً، والأخطر من ذلك أن هناك أربعة من هؤلاء يتمتعون بحق المطالبة بالعرش وبالنفوذ معاً، وهم عبد المحسن وبدر، وهما من المقربين إلى الملك عبد الله، والأمير متعب الذي تجمع المراجع على قوة نفوذه وصلابته، وأخيراً الأمير نايف السديري الذي برز كوزير للداخلية وعرف بخلافه الدائم مع عبد الله.



تحياتي

_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..