الجمعة 21 ذي القعدة 1431 هـ - 29 اكتوبر 2010م - العدد 15467
الدين هو جوهر العقيدة ومرتكز الفطرة، والتدين سلوك يفضي في النهاية إلى تحقيق متطلبات العقيدة
والتوازن بين الواجبات والمحظورات الدينية، إما تطبيقاً والتزاماً، أو إفراطاً وامتهاناً، وهناك فرق كبير بين الدين كمبدأ ثابت بتعاليمه وأحكامه وتعاملاته، وبين التدين كسلوك لفهم وتطبيق ذلك، وبالتالي يتفاوت الناس في الالتزام والتطبيق لمتطلبات هذه العقيدة من خلال مفهوم التدين، ومن هنا يبلغ هذا التفاوت درجات مختلفة لمستوى الاقتراب من درجات الورع والنزاهة والزهد والالتزام إلى ضدها من التفريط.
.. لكن الإشكالية أن هناك أشخاصاً نفوسهم مريضة يتمظهرون برداء الدين،
ويتقمصون شخصية المسلم الزاهد التقي الورع، ويعملون على تكريس هذا المظهر،
لدى أوساط العامة ومثلهم الخاصة، وأنهم أهل الدين، وحرّاس الفضيلة، أو أنهم
في أقل الأحوال هم من أصحاب الالتزام الذي لا يقبل الحرام؛ لنجد أنفسنا
أمام صورة مفرطة من صور «التدين المظهري» الذي لا يتجاوز كونه جلباباً أو
رداءً لبسه كل من له غاية مرفوضة، ولنكتشف أن تحت هذا الرداء أو هذا القناع
ما يسوء المراقب وما يندى له الجبين من أناس استغلوا الدين وهو جوهر
الفطرة من أجل غاية أو غايات دنيئة!.
انحراف المتدين إلى التشدد والانغلاق مصادمة صريحة للفطرة والعقل..
ولعله من الواجب، ومن الإنصاف أيضاً أن الغالبية ممن يتسمون بثوب التدين هم أهلٌ للتقوى والخير، ولا نزكي على الله أحداً، ولكننا هنا ننبه عن خطر فئة استغلت الدين باسم التدين، وأفرطت في ذلك الاستغلال إلى درجة الكذب والتدليس على الناس، وهؤلاء القلة لم يخرجوا عن صفة أهل النفاق والمنافقين التي أكدها الإسلام بحق هؤلاء، كاشفاً سترهم، ومحذراً منهم، وأن مآل المنافقين يوم القيامة إلى الدرك الأسفل من النار!.
لقد عانى المجتمع منذ الأزل -ولا يزال يعاني- من هذه المظاهر الخادعة، ومن هذه الوجوه المقنّعة بسمات التديّن.. تلك الوجوه التي خدعت الناس تارة لتستولي على ثقتهم واحترامهم وبالتالي الوصول إلى أموالهم، وتارة إلى تحقيق مكانة جماهيرية مؤثرة؛ توصلهم إلى مآرب وأهداف متعددة، بوسائل غير مشروعة اجتماعياً وربما دينياً..
ولعله من الواجب أن نستشعر وبقناعة تامة أننا جميعاً «مجتمع متدين» ما دمنا نلتزم بالعقيدة والشريعة الإسلامية، ولا نختلف معها أو نخالفها، لأنها في نظرنا ثوابت لا يمكن المساس بها، ولكن الاختلاف هو في سلوك التطبيق، ودوافعه، وخلط الدين بالتدين، إلى درجة أننا أصبحنا نحكم على الالتزام الديني وفق المعايير الشكلية المظهرية السائدة، دون أن نمعن النظر في حال «المضغة» التي إذا صلحت صلح الجسد وإذا فسدت فسد الجسد، أو أن نمنح فرصة لعقولنا لفرز «الصالح من الطالح»، وأن لا نؤخذ في ذلك على حين غرة من حيث لا ندري عبر إجلال تلك الصورة الشكلية للمتدين، والتي استغلها ضعاف النفوس وأساءوا من خلالها لإخوانهم أصحاب الفضل والطاعة والزهد والورع ممن هم يمثلون الشريحة الغالبة من أبناء مجتمعنا المسلم.
لقد أدت لغة الانغلاق، وفكره المتحجر، ولغة الجهل السائدة بسماحة الدين في فترة من الفترات إلى تكريس وتعزيز الصورة الذهنية عن التديّن، وحصره فقط في الجانب الشكلي، رغم ما يختبئ خلفها من خيانة لهذا المظهر الملتزم عند من لم يرعَ مخافة الله، حتى إن هذه اللغة المنغلقة في بعض المواقف قد حقّرت من لم يكن مستجمعاً هذه الصورة الشكلية في شخصيته واعتبرها البعض كبيرة من الكبائر، وذلك حينما وقف الخطيب داعياً من على المنبر في آخر خطبته قائلاً «اللهم قنا الزنا والزلازل والمحن – وحلق اللحى – وسوء الفواحش ما ظهر منها وما بطن ..»، هكذا وبكل بساطة ومن على المنبر صار حلق اللحى في مصاف الزنا وسيئ الفواحش الظاهر منها والباطن!!.
أ.د.يوسف الرميح
تطبيق وممارسة
المعيار الصحيح للتدين هو «المعرفة الصحيحة» بالدين والتمسك بالوسطية
وأكد «د.سليمان بن عبدالعزيز الربعي» -عضو هيئة التدريس في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالقصيم- أن الدين يمثّل أحد أهم مكونات الهوية والمعرفة والسلوك على المستويين الفردي والجمْعي، مشيراً إلى أن الفرق بين الدين والتدين أن الدين علم واعتقاد، في حين أن التدين تطبيق وممارسة، وإذا كان التدين هو التطبيق العملي للدين، فإن المعيار الصحيح فيه هو المعرفة الصحيحة بالدين، ونحن نتكلم هنا عن دين الإسلام تحديداً.
وقال:»من المعرفة الصحيحة بديننا إدراك أن التدين لا يقتصر على فئة أو طائفة أو سلوك أو مظهر بعينه، وإنما هو مفهوم شامل يصدق على كلّ مؤمن بالله واليوم الآخر وهو يعمل الصالحات، وإن تفاوت الناس فيه بقدر تفاوتهم في العلم والمعرفة والعبادة، فالله تعالى يقول:(ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله)، حيث دلت الآية الكريمة على أن المسلمين على درجات ثلاث: ظالم لنفسه بالمعاصي، ومقتصر على الواجبات والانتهاء عن المعاصي، وسابق بالطاعات والمندوبات، لكن يصدق عليهم جميعاً أنهم متدينون؛ لأنهم مشتركون في اصطفاء الله -عزّ وجل- وإن تفاوتوا في قدر الاصطفاء ودرجته».
أفكار خاطئة
وأضاف: إن أكثر ما يؤثر سلباً في التدين الحقيقي شيوع أفكار نمطية وذهنية خاطئة عنه في المجتمع لأسباب متعددة كارتباطه بهيئة معينة دون اعتبارات أخرى، أو أن التدين يعني الانغلاق والتشدد، بما ترتب عليه آثار سلبية كثيرة منها ما يأتي:
الأول- الخطأ المعرفي بقصر مفهوم التدين على الشكل والمظهر، مع أن التدين الصحيح في حقيقته يتجاوز المفاهيم الأولية -على أهميتها- إلى كونه منظومة من القيم العميقة التي تركز على الجوهر بوصفه الأساس الذي ينبني عليه ما عداه في الاعتقاد والشريعة والسلوك.
والنصوص الشرعية المتضافرة تؤكد على أهمية المفاهيم المعنوية في تمثّل التدين وتطبيق حقيقته؛ ومن ذلك أن القلب هو معيار صلاح بقية أعضاء المرء وجوارحه، وأن قول القلب وعمله في الإيمان كعمل الجوارح، وأن المسلم مَن سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن مَن أمنه الناس على أموالهم وأعراضهم، والمهاجر مَن هجر ما نهى الله عنه، والمجاهد مَن جاهد نفسه في طاعة الله.
ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة كثيرة العبادة لكنها تؤذي جيرانها بلسانها أخبر أنها في النار، وحينما سئل عن المرأة قليلة العبادة وتحسن إلى جيرانها أخبر أنها في الجنة. ولعل ذلك راجع -والله أعلم- إلى طبيعة هذا الدين - خاصة في جانب تطبيقاته السلوكية - من حيث إنه قد جاء لسعادة الناس وتحقيق السلام لهم بتلازم الإيمان بالأمن، إضافة إلى أن لتطبيق القيم والمضامين الفاضلة نفعاً متعدياً يعين على تبليغ الدين نفسه وتعميقه في النفوس. والنصوص الشرعية الشاهدة على هذا كثيرة.
سليمان الربعي
د.الربعي: من الخطأ قصر التدين على المظهر وتحميل «زلات المتدينين» على الدين
كذلك فإن ارتباط التدين بالتشدد فكرة ذهنية خاطئة أيضاً؛ لأن التدين الصادق هو الموافق لصحيح الدين القائم على الوسطية في الأمر كله، وكلما زاد الفقه بصحيح الدين كان ذلك أدعى لشيوع التدين بمنهج الوسطية والاعتدال، وكلما ضعف العلم بالدين انشطر التدين إلى مفاهيم متقابلة ومتناقضة تتقابل في الإفراط والتفريط.
الثاني: الخطأ الإجرائي، المتمثل بتعميم ظواهر الخطأ التي تقع من بعض المتدينين على الدين أو على سائر المتدينين، على الرغم من أن أصول العدل في ديننا تؤكد على عدم التعميم في الأحكام والأوصاف، وإنما تلحق الأحكام والأوصاف مَن تحققت فيه، وهو ما يُعبّر عنه ب»المسؤولية الفردية» المستفادة من قوله تعالى:(ولا تَزِرُ وازرةٌ وزرَ أخرى).
نسبة قليلة
ويقول «د.الربعي»: «كما أن في ذلك مجافاة للعدل من حيث الخلل الكبير في الموازنة بين الحالتين المنظورتين؛ فإن النسبة القليلة من الواقعين في الخطأ من المتدينين باسم التدين لا تقارن مطلقاً بالنسبة الكبيرة لمطبقي المفهوم الصحيح للتدين»، وفي المقابل، لا شك أن من عوامل شيوع هذه الأفكار الذهنية والنمطية وتكريسها في المجتمع ما يقع فيه بعض المتدينين من الأخطاء باسم التديّن مع الأسف الشديد.
مظاهر سلبية
وأشار إلى أن من أبرز المظاهر السلبية والسيئة أن يكون التدين مؤسَّساً على فقه معوج خداج، أو فهم عازب عن أصول الاستدلال، أو رأي شاذ لا زمام له، بما يوقع صاحبه في دوائر الخطأ الاعتقادي أو العبادي أو السلوكي الأخلاقي مع اعتقاد أنه يحسن صُنعاً، خاصة عند النّزوع إلى التشدد والغلو، فضلاً عن أثر ذلك السلبي في موقف الآخرين من التدين -كما سلف-، موضحاً أنه لا يمكن أن يوجد تدين صحيح وحقيقي دون الالتزام بمنهج وسطي حقيقي وصحيح، والمنهج الوسطي ليس مرادفاً للتميع والتفريط، كما أنه ليس من مقتضياته التشدد والانغلاق، وإنما هو معرفة شرعية تطبيقية منضبطة تقوم على الأصلين الكبيرين العظيمين: الكتاب والسنة حسب فهم القرون المفضلة، لا وفق الآراء أو العوائد أو الأعراف أو المواقف الشخصية أو النفسية.
منهج التدين
وقال:»لقد ضمن المنهج الوسط فاعلية التطبيق الحقيقي والمثمر لمفهوم التدين المراد لله تعالى، بما تمثّل في مسيرة مضيئة لأهل السنة والجماعة من لدن عصر الصحابة حتى اليوم وإلى قيام الساعة، لكن عندما تنحرف بوصلة الفهم - وما يترتب عليها من الممارسات - عن هذا المنهج لابد أن توجد مظاهر الانحراف باسم الدين والتدين، وهو ما لا تكاد تحصى شواهده ماضياً وحاضراً في مجالات الاعتقاد والعبادة والسلوك».
انحراف المتدين
وأضاف «د.الربعي» أن انحراف المتدين إلى جهة التشدد والانغلاق هو من قبيل مصادمة الفطرة السوية، وممانعة العقل الصريح، ورد الدليل الصحيح، ناهيك عما ينطوي عليه ذلك من آثار سيئة من سوء المآل على الواقع فيه بكونه ينبري إلى ما لا طاقة له به من مشادّة الدين الوسط، ففي الحديث:(إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه).
علاج الانحراف
وأشار إلى أنه يمكن علاج انحراف التدين إلى التشدد إذا كان ناتجاً عن الجهل برفع الجهل عن صاحبه، وإقامة الحجة الشرعية عليه، لكن ما كان منه ناتجاً عن هوى أو غرض باسم الدين والتدين فلابدّ من مواجهته ببيان مفهوم التدين الحقيقي للمجتمع، وهو التدين المستند إلى الوحي بفهم صحيح من جهة كما سلف، ومن جهة أخرى بالتأكيد على المنهجية الواضحة التي يجب اعتمادها في التعامل مع الأقوال والأعيان والتي تتأسس على المبدأ الصحيح بأن الرجال يُعرفون بالحق لا أن الحق يعرف بالرجال.
أهمية التدين
ويقول «أ.د.يوسف الرميح» أستاذ علم الإجرام ومكافحة الجريمة والإرهاب بجامعة القصيم :إن التدين ميزة ميز الله بها أمة من خلقه، وهي خصلة حميدة وطيبة وكريمة، ولكن للأسف الشديد نجد أن من بعض ضعاف النفوس والعقول من يستغل الشكل والمظهر الخارجي للتدين بدون أي معنى للتدين الصادق.
وأضاف أن التدين هو الخوف من الله وطاعته واجتناب معاصيه بكافة صورها، وأن يكون الإنسان مثالاً وقدوة صالحة للآخرين، مشيراً إلى أنه عندما يُستغل الشكل الخارجي للتدين ويلبس هذا الملبس إنسانٌ مخادع غاشّ للناس ومحتال أو نصّاب؛ فهذه فعلاً مصيبة المصائب؛ لأنه يجني على نفسه أولاً، ثم على الناس المتدينين الأخيار الطيبي ثانياً.
كسب رخيص
وأضاف: إنه من المؤسف أن نجد في كل مجتمع - مع قلتهم ولله الحمد - فئة تتسلق الأكتاف، وتتخذ من الدين والتدين وسيلة للكسب الرخيص، ووسيلة للوصول لأهداف سيئة قذرة سرعان ما تنكشف للجميع، ويبدو سواد صاحبها لأن المظاهر الخادعة سرعان ما تخبو ويظهر الباطن الحقيقي الخبيث لهذا الإنسان، مؤكداً على أن هؤلاء قلة ولكن لهم تأثير سلبي، ولكن مما يُحمد أن الغالبية العظمى من أهلنا هم متدينون بالفطرة، وأهل ذمة وهذا هو الشائع والمنتشر بين الناس ولله الحمد.
متشددون يقفون احتجاحاً على عرض «فيلم مناحي» «إرشيف الرياض»
المصدر
التعليق :
------
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
بريدة، تحقيق – منصور الجفن
الدين هو جوهر العقيدة ومرتكز الفطرة، والتدين سلوك يفضي في النهاية إلى تحقيق متطلبات العقيدة
والتوازن بين الواجبات والمحظورات الدينية، إما تطبيقاً والتزاماً، أو إفراطاً وامتهاناً، وهناك فرق كبير بين الدين كمبدأ ثابت بتعاليمه وأحكامه وتعاملاته، وبين التدين كسلوك لفهم وتطبيق ذلك، وبالتالي يتفاوت الناس في الالتزام والتطبيق لمتطلبات هذه العقيدة من خلال مفهوم التدين، ومن هنا يبلغ هذا التفاوت درجات مختلفة لمستوى الاقتراب من درجات الورع والنزاهة والزهد والالتزام إلى ضدها من التفريط.
متدين يقدم وجهاً مشرقاً لمساعدة الآخرين
|
انحراف المتدين إلى التشدد والانغلاق مصادمة صريحة للفطرة والعقل..
ولعله من الواجب، ومن الإنصاف أيضاً أن الغالبية ممن يتسمون بثوب التدين هم أهلٌ للتقوى والخير، ولا نزكي على الله أحداً، ولكننا هنا ننبه عن خطر فئة استغلت الدين باسم التدين، وأفرطت في ذلك الاستغلال إلى درجة الكذب والتدليس على الناس، وهؤلاء القلة لم يخرجوا عن صفة أهل النفاق والمنافقين التي أكدها الإسلام بحق هؤلاء، كاشفاً سترهم، ومحذراً منهم، وأن مآل المنافقين يوم القيامة إلى الدرك الأسفل من النار!.
لقد عانى المجتمع منذ الأزل -ولا يزال يعاني- من هذه المظاهر الخادعة، ومن هذه الوجوه المقنّعة بسمات التديّن.. تلك الوجوه التي خدعت الناس تارة لتستولي على ثقتهم واحترامهم وبالتالي الوصول إلى أموالهم، وتارة إلى تحقيق مكانة جماهيرية مؤثرة؛ توصلهم إلى مآرب وأهداف متعددة، بوسائل غير مشروعة اجتماعياً وربما دينياً..
ولعله من الواجب أن نستشعر وبقناعة تامة أننا جميعاً «مجتمع متدين» ما دمنا نلتزم بالعقيدة والشريعة الإسلامية، ولا نختلف معها أو نخالفها، لأنها في نظرنا ثوابت لا يمكن المساس بها، ولكن الاختلاف هو في سلوك التطبيق، ودوافعه، وخلط الدين بالتدين، إلى درجة أننا أصبحنا نحكم على الالتزام الديني وفق المعايير الشكلية المظهرية السائدة، دون أن نمعن النظر في حال «المضغة» التي إذا صلحت صلح الجسد وإذا فسدت فسد الجسد، أو أن نمنح فرصة لعقولنا لفرز «الصالح من الطالح»، وأن لا نؤخذ في ذلك على حين غرة من حيث لا ندري عبر إجلال تلك الصورة الشكلية للمتدين، والتي استغلها ضعاف النفوس وأساءوا من خلالها لإخوانهم أصحاب الفضل والطاعة والزهد والورع ممن هم يمثلون الشريحة الغالبة من أبناء مجتمعنا المسلم.
لقد أدت لغة الانغلاق، وفكره المتحجر، ولغة الجهل السائدة بسماحة الدين في فترة من الفترات إلى تكريس وتعزيز الصورة الذهنية عن التديّن، وحصره فقط في الجانب الشكلي، رغم ما يختبئ خلفها من خيانة لهذا المظهر الملتزم عند من لم يرعَ مخافة الله، حتى إن هذه اللغة المنغلقة في بعض المواقف قد حقّرت من لم يكن مستجمعاً هذه الصورة الشكلية في شخصيته واعتبرها البعض كبيرة من الكبائر، وذلك حينما وقف الخطيب داعياً من على المنبر في آخر خطبته قائلاً «اللهم قنا الزنا والزلازل والمحن – وحلق اللحى – وسوء الفواحش ما ظهر منها وما بطن ..»، هكذا وبكل بساطة ومن على المنبر صار حلق اللحى في مصاف الزنا وسيئ الفواحش الظاهر منها والباطن!!.
أ.د.يوسف الرميح
المعيار الصحيح للتدين هو «المعرفة الصحيحة» بالدين والتمسك بالوسطية
وأكد «د.سليمان بن عبدالعزيز الربعي» -عضو هيئة التدريس في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالقصيم- أن الدين يمثّل أحد أهم مكونات الهوية والمعرفة والسلوك على المستويين الفردي والجمْعي، مشيراً إلى أن الفرق بين الدين والتدين أن الدين علم واعتقاد، في حين أن التدين تطبيق وممارسة، وإذا كان التدين هو التطبيق العملي للدين، فإن المعيار الصحيح فيه هو المعرفة الصحيحة بالدين، ونحن نتكلم هنا عن دين الإسلام تحديداً.
وقال:»من المعرفة الصحيحة بديننا إدراك أن التدين لا يقتصر على فئة أو طائفة أو سلوك أو مظهر بعينه، وإنما هو مفهوم شامل يصدق على كلّ مؤمن بالله واليوم الآخر وهو يعمل الصالحات، وإن تفاوت الناس فيه بقدر تفاوتهم في العلم والمعرفة والعبادة، فالله تعالى يقول:(ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله)، حيث دلت الآية الكريمة على أن المسلمين على درجات ثلاث: ظالم لنفسه بالمعاصي، ومقتصر على الواجبات والانتهاء عن المعاصي، وسابق بالطاعات والمندوبات، لكن يصدق عليهم جميعاً أنهم متدينون؛ لأنهم مشتركون في اصطفاء الله -عزّ وجل- وإن تفاوتوا في قدر الاصطفاء ودرجته».
أفكار خاطئة
وأضاف: إن أكثر ما يؤثر سلباً في التدين الحقيقي شيوع أفكار نمطية وذهنية خاطئة عنه في المجتمع لأسباب متعددة كارتباطه بهيئة معينة دون اعتبارات أخرى، أو أن التدين يعني الانغلاق والتشدد، بما ترتب عليه آثار سلبية كثيرة منها ما يأتي:
الأول- الخطأ المعرفي بقصر مفهوم التدين على الشكل والمظهر، مع أن التدين الصحيح في حقيقته يتجاوز المفاهيم الأولية -على أهميتها- إلى كونه منظومة من القيم العميقة التي تركز على الجوهر بوصفه الأساس الذي ينبني عليه ما عداه في الاعتقاد والشريعة والسلوك.
والنصوص الشرعية المتضافرة تؤكد على أهمية المفاهيم المعنوية في تمثّل التدين وتطبيق حقيقته؛ ومن ذلك أن القلب هو معيار صلاح بقية أعضاء المرء وجوارحه، وأن قول القلب وعمله في الإيمان كعمل الجوارح، وأن المسلم مَن سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن مَن أمنه الناس على أموالهم وأعراضهم، والمهاجر مَن هجر ما نهى الله عنه، والمجاهد مَن جاهد نفسه في طاعة الله.
ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة كثيرة العبادة لكنها تؤذي جيرانها بلسانها أخبر أنها في النار، وحينما سئل عن المرأة قليلة العبادة وتحسن إلى جيرانها أخبر أنها في الجنة. ولعل ذلك راجع -والله أعلم- إلى طبيعة هذا الدين - خاصة في جانب تطبيقاته السلوكية - من حيث إنه قد جاء لسعادة الناس وتحقيق السلام لهم بتلازم الإيمان بالأمن، إضافة إلى أن لتطبيق القيم والمضامين الفاضلة نفعاً متعدياً يعين على تبليغ الدين نفسه وتعميقه في النفوس. والنصوص الشرعية الشاهدة على هذا كثيرة.
سليمان الربعي
كذلك فإن ارتباط التدين بالتشدد فكرة ذهنية خاطئة أيضاً؛ لأن التدين الصادق هو الموافق لصحيح الدين القائم على الوسطية في الأمر كله، وكلما زاد الفقه بصحيح الدين كان ذلك أدعى لشيوع التدين بمنهج الوسطية والاعتدال، وكلما ضعف العلم بالدين انشطر التدين إلى مفاهيم متقابلة ومتناقضة تتقابل في الإفراط والتفريط.
الثاني: الخطأ الإجرائي، المتمثل بتعميم ظواهر الخطأ التي تقع من بعض المتدينين على الدين أو على سائر المتدينين، على الرغم من أن أصول العدل في ديننا تؤكد على عدم التعميم في الأحكام والأوصاف، وإنما تلحق الأحكام والأوصاف مَن تحققت فيه، وهو ما يُعبّر عنه ب»المسؤولية الفردية» المستفادة من قوله تعالى:(ولا تَزِرُ وازرةٌ وزرَ أخرى).
نسبة قليلة
ويقول «د.الربعي»: «كما أن في ذلك مجافاة للعدل من حيث الخلل الكبير في الموازنة بين الحالتين المنظورتين؛ فإن النسبة القليلة من الواقعين في الخطأ من المتدينين باسم التدين لا تقارن مطلقاً بالنسبة الكبيرة لمطبقي المفهوم الصحيح للتدين»، وفي المقابل، لا شك أن من عوامل شيوع هذه الأفكار الذهنية والنمطية وتكريسها في المجتمع ما يقع فيه بعض المتدينين من الأخطاء باسم التديّن مع الأسف الشديد.
مظاهر سلبية
وأشار إلى أن من أبرز المظاهر السلبية والسيئة أن يكون التدين مؤسَّساً على فقه معوج خداج، أو فهم عازب عن أصول الاستدلال، أو رأي شاذ لا زمام له، بما يوقع صاحبه في دوائر الخطأ الاعتقادي أو العبادي أو السلوكي الأخلاقي مع اعتقاد أنه يحسن صُنعاً، خاصة عند النّزوع إلى التشدد والغلو، فضلاً عن أثر ذلك السلبي في موقف الآخرين من التدين -كما سلف-، موضحاً أنه لا يمكن أن يوجد تدين صحيح وحقيقي دون الالتزام بمنهج وسطي حقيقي وصحيح، والمنهج الوسطي ليس مرادفاً للتميع والتفريط، كما أنه ليس من مقتضياته التشدد والانغلاق، وإنما هو معرفة شرعية تطبيقية منضبطة تقوم على الأصلين الكبيرين العظيمين: الكتاب والسنة حسب فهم القرون المفضلة، لا وفق الآراء أو العوائد أو الأعراف أو المواقف الشخصية أو النفسية.
منهج التدين
وقال:»لقد ضمن المنهج الوسط فاعلية التطبيق الحقيقي والمثمر لمفهوم التدين المراد لله تعالى، بما تمثّل في مسيرة مضيئة لأهل السنة والجماعة من لدن عصر الصحابة حتى اليوم وإلى قيام الساعة، لكن عندما تنحرف بوصلة الفهم - وما يترتب عليها من الممارسات - عن هذا المنهج لابد أن توجد مظاهر الانحراف باسم الدين والتدين، وهو ما لا تكاد تحصى شواهده ماضياً وحاضراً في مجالات الاعتقاد والعبادة والسلوك».
انحراف المتدين
وأضاف «د.الربعي» أن انحراف المتدين إلى جهة التشدد والانغلاق هو من قبيل مصادمة الفطرة السوية، وممانعة العقل الصريح، ورد الدليل الصحيح، ناهيك عما ينطوي عليه ذلك من آثار سيئة من سوء المآل على الواقع فيه بكونه ينبري إلى ما لا طاقة له به من مشادّة الدين الوسط، ففي الحديث:(إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه).
علاج الانحراف
وأشار إلى أنه يمكن علاج انحراف التدين إلى التشدد إذا كان ناتجاً عن الجهل برفع الجهل عن صاحبه، وإقامة الحجة الشرعية عليه، لكن ما كان منه ناتجاً عن هوى أو غرض باسم الدين والتدين فلابدّ من مواجهته ببيان مفهوم التدين الحقيقي للمجتمع، وهو التدين المستند إلى الوحي بفهم صحيح من جهة كما سلف، ومن جهة أخرى بالتأكيد على المنهجية الواضحة التي يجب اعتمادها في التعامل مع الأقوال والأعيان والتي تتأسس على المبدأ الصحيح بأن الرجال يُعرفون بالحق لا أن الحق يعرف بالرجال.
أهمية التدين
ويقول «أ.د.يوسف الرميح» أستاذ علم الإجرام ومكافحة الجريمة والإرهاب بجامعة القصيم :إن التدين ميزة ميز الله بها أمة من خلقه، وهي خصلة حميدة وطيبة وكريمة، ولكن للأسف الشديد نجد أن من بعض ضعاف النفوس والعقول من يستغل الشكل والمظهر الخارجي للتدين بدون أي معنى للتدين الصادق.
وأضاف أن التدين هو الخوف من الله وطاعته واجتناب معاصيه بكافة صورها، وأن يكون الإنسان مثالاً وقدوة صالحة للآخرين، مشيراً إلى أنه عندما يُستغل الشكل الخارجي للتدين ويلبس هذا الملبس إنسانٌ مخادع غاشّ للناس ومحتال أو نصّاب؛ فهذه فعلاً مصيبة المصائب؛ لأنه يجني على نفسه أولاً، ثم على الناس المتدينين الأخيار الطيبي ثانياً.
كسب رخيص
وأضاف: إنه من المؤسف أن نجد في كل مجتمع - مع قلتهم ولله الحمد - فئة تتسلق الأكتاف، وتتخذ من الدين والتدين وسيلة للكسب الرخيص، ووسيلة للوصول لأهداف سيئة قذرة سرعان ما تنكشف للجميع، ويبدو سواد صاحبها لأن المظاهر الخادعة سرعان ما تخبو ويظهر الباطن الحقيقي الخبيث لهذا الإنسان، مؤكداً على أن هؤلاء قلة ولكن لهم تأثير سلبي، ولكن مما يُحمد أن الغالبية العظمى من أهلنا هم متدينون بالفطرة، وأهل ذمة وهذا هو الشائع والمنتشر بين الناس ولله الحمد.
متشددون يقفون احتجاحاً على عرض «فيلم مناحي» «إرشيف الرياض»
المصدر
التعليق :
------
لن اخوض كثيرا في هذا ولكن : . . أليس المجتمع هو من شجع على بروز هؤلاء الذين غلب ظاهرهم الحسن على باطنهم السيء ؟! . ألسنا من قسم المجتمع الى قوالب : شيخ، ملتزم، وطالب علم... ومن سواهم الى : علماني وليبرالي و...؟! . كان جديرا بنا ان نتعامل وفق سلوك واحد ونترك العلاقة بين العبد وربه لتلقي بأثرها الحسن على تعاملنا مع بعض ! اما تقديم هذا والوقفة مع هذا لأن مظهره هكذا( ولو لم يكن معه حق )! فهذه مما لم يأمرنا به الدين فالحق أحق أن يتبع ولو اني أشم رائحة في هذا المقال ! :....
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..