الأربعاء، 5 يناير 2011

أولوية الحرية على الشريعة : ما حظ هذا الإتجاه من الحقيقة والحكمة.


         أولوية الحرية على الشريعة عنوان إتجاه فكري إصلاحي تبنته تيارات إسلامية معاصرة ودعا إليه رموز علم ودعوة معتبرين من مثل الإمام القرضاوي وغيره. مهمة هذه المقالة المتواضعة هي محاولة البحث
عن أرصدة الحق أو الحكمة أو كليهما مما يمكن أن يتوفر لذلك الإتجاه الفكري الإصلاحي المعاصر أو أرصدة الخطإ فيه.

ما هو المقصود بأولوية الحرية على الشريعة إبتداء.
  قالت العرب قديما : الحكم على الشيء فرع عن تصوره. فلا يرقب حوار جاد في هذا الموضوع دون التشبع من منطلقات ذلك الإتجاه ومقاصده ووسائله ويكفينا في ذلك دعوة الحق سبحانه : „ ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا”.

المقصود بالأولوية : أولوية ترتيبية تقدم هذا وتؤخر ذاك إعتمادا على قرائن معينة وليس المقصود أولوية تفاضلية مطلقة صالحة لكل زمان ولكل مكان من جهة ولا أولوية تفاضلية تقدم هذا وتعدم ذاك بالكلية من جهة أخرى. ترجم الإمام إبن القيم لمصطلح الأولوية المعاصر بمصطلح أشد ضبطا وهو ( مراتب الأعمال) ولكن لا عبرة بإختلاف المباني عند إدراك المعاني ولا مشاحة في المصطلح كما قرر الأقدمون بحق. أولوية الجماعة على الفرد ـ مثلا ـ في فريضة الجهاد ـ سيما الدفاعي منه ( المقاومة ) ـ ليست مطلقة إذ تقابلها أولوية مضادة وهي أولوية الفرد على الجماعة في قضية الدية المستحقة من الجماعة لأولياء القتيل الغريب. في الأولوية الأولى تضحي الجماعة بالفرد لحفظ الجماعة ( دينا وأمة وأرضا ) وفي الأولوية الثانية تضحي الجماعة لأجل الفرد تضحية مالية مرهقة إذا عفا أولياء القتيل.

المقصود بالحرية : يستوي التعبير هنا أن تقول ( حرية ) أو تقول ( تحرر) أو ( تحرير) ولا عبرة هنا بلغط اللاغطين بسبب أن المفردات الثلاث من أصل جذري لغوي واحد حميمي وليس الفرق بينها سوى فرق إشتقاق وتصريف. إذا إصطلح الناس اليوم على أن الحرية تكون من قبضة الحاكم الظالم ويكون التحرر من قبضة المحتل فبها ونعمت وإن إصطلحوا على ضد ذلك بالتمام  والكمال فبها ونعمت مرة أخرى. المقصود بالحرية هنا أو التحرر أو التحرير هو إستعادة الناس حرياتهم الأساسية فرادى وجماعات في البلد الواحد بفعل إرتخاء القبضة الأمنية للدولة العربية لأي سبب من الأسباب بما يعيد للمجتمع مسؤوليته على آماله وآلامه أو إستعادة البلد المحتل من مثل فلسطين مثلا لإستقلاله وتحرره وحريته وبالنتيجة فإن منتهى الحرية أو التحرر أو التحرير واحدة ولا يشغب على ذلك أن يكون التحرر نسبيا أو تدريجيا توافقا مع السنن والأسباب الماضية الغلابة.

المقصود بالشريعة : تطبيق الشريعة الإسلامية ولكن المقصود هنا تحديدا تطبيق جانبها الجزائي والعقابي منها إحلالا للعدل والقسط محل الظلم والجور. ليس المقصود منها ـ هنا وليس في كل المواضع والسياقات ـ تطبيق بقية جوانبها بسبب أن جوانبها السياسية والإقتصادية وما في حكمهما هو المقصود أساسا وأصالة من شعار ذلك الإتجاه الفكري الإصلاحي المعاصر أي : أولوية الحرية ( أو التحرر ) على الشريعة.

مصطلح الأولوية هو مفتاح المعادلة إذن.

لولا مصطلح الأولوية ـ هنا أساسا ـ لفهم الناس خطأ أن الحرية والشريعة خصمان لدودان لا يلتقيان. البحوث المقاصدية المعاصرة أجمعت أو تكاد على أن حرية الناس ـ كل الناس ـ هو المقصد الأسنى من الإسلام. لم يكن ذلك إكتشافا جديدا في الحقيقة ولكن الجديد فيه هو صياغة تلك البحوث من لدن أصحابها ( الإمام القرضاوي والدكتور الريسوني والدكتور النجار ومن قبلهم جميعا الإمام إبن عاشور والسياسي المصلح الكبير علال الفاسي وآخرون لا يتسع لهم المقام ذكرا ) بصياغات معاصرة أصلها الأصيل خلاصة مقاصدية شرعية إسلامية لئن نسبت إلى الإمام إبن عاشور فإن بعضهم إرتد بها إلى قرون ماضية بعيدة .. أصل تلك البحوث المقاصدية التي تجعل الحرية هي مقصد الإسلام الأسنى من تشريعاته هي : „ الإسلام متشوف إلى الحرية”. عبارة إستخدمها الإمام إبن عاشور في كتابه المقاصدي العلم المعروف في هذه الموضوع. أما الإمام القرضاوي فقد أصل لقيمة الحرية في الإسلام بما لم يكد يسبق إليه وذلك من خلال تفكيكه للبنية اللغوية للآية الشريفة التي تعد مرجعا وموئلا في موضوع الحرية في الإسلام ( لا إكراه في الدين ) إذ تبين للإمام القرضاوي بأن نفي الإكراه ـ وهو لغة ضد الحرية عندما تكون الحرية هي الإختيار ـ أعزم وأنفذ في إستجلاب الحرية والإختيار والإرادة  من مجرد تأكيد تلك القيم ثم إستدل على ذلك بالنظم اللغوي الذي إمتشقته كلمة التوحيد الإسلامية العظمى ( لا إله إلا الله ) بما يفيد بنية لغوية عربية ودلالة معنوية رمزية وحقيقية في الآن ذاته أن أيسر طريق وأقصره وأشد ضمانة لإستجلاب الحرية هو البداية بنفي أضدادها من إكراه وغير ذلك. وبذلك لم يكن حظ الذين بحثوا عن كلمات الحرية والتحرر والتحرير في الكتاب والسنة فلم يظفروا بشيء سوى حظا عاثرا وهو حظ عاثر جنت به السطحية عليهم ولو نخلوا الأمر من زاوية أخرى لألفوا بأن الإسلام ـ شأنه شأن موسى عليه السلام مع بني إسرائيل ـ لم يدع العبيد والإماء في قريش وغيرها يوم نزوله إلى الإيمان أو الإسلام إبتداء بل دعا إلى تحريرهم إبتداء فإذا تحرروا عرض عليهم الإيمان والإسلام فإن قبلوه فبها ونعمت وإن رفضوه فما عليهم من نكير في هذه الدنيا. ألا ترى أنه ملأ تشريعاته الجزئية بمنافذ تحرير العبيد والإماء لتجفيف منابع العبودية. ألا ترى أن موسى عليه السلام لم يرسل إلى بني إسرائيل لعرض الدين عليهم فمن قبل عمل على إنجائه من فرعون ومن أبى تركه يئن تحت سلطان الغشم لفرعون. إنما أرسل إليهم لإنجائهم من البطش الفرعوني إبتداء وليس أدل على ذلك من قول بعضهم له وهم في الطريق إلى سيناء : „ إجعل لنا إلها كما لهم آلهة”.

تلخيص مركز لشعار ذلك الإتجاه الفكري الإصلاحي.

المقصود النهائي ـ إذن ـ من قولهم : ( أولوية الحرية على الشريعة ) هو :

1 ـ أولوية ترتيبية تقديمية وليست أولوية تفاضلية مطلقة.
2 ـ أولوية عملية ميدانية في حقول الإصلاح وليست أولوية عقدية باتة.
3 ـ أولوية تستصحب دوما إقتران الحرية بالشريعة بحبال وصل لا يمكن فكاكها عقديا وعمليا في الآن ذاته.
4 ـ أولوية زمان ومكان مستندة لقرائن في الدين من جهة وفي الواقع من جهة أخرى.
5 ـ أولوية أثمرتها النظرات الحصيفة في مراتب الأعمال وموازينها ورجحان بعضها على بعض أثمانا وأسعارا وأجزية وضرورات وخيارات وعموما وخصوصا.
6 ـ أولوية تكامل وتوازن ورجحان وليست أولوية تضاد أو تناف أو تخاصم.

أيهما الأسبق : التحرير أم التعبيد والأسلمة.

لو صيغ السؤال بكلمة أخرى لقيل : هل دعانا سبحانه ـ في كتابه وسنة حبيبه محمد عليه الصلاة والسلام ولا شأن لنا ـ أبدا البتة ـ بأي إجتهاد آخر سواء أصاب أم أخطأ ـ إلى عبادته والإيمان به إبتداء ثم حررنا بذلك أو بغيره مما كان يأسرنا أم أنه دعانا إلى التحرر مما كان يأسرنا إبتداء ـ أو حررنا أصالة ـ ثم دعانا إلى عبادته والإيمان به من بعد ذلك؟

ولكن ما هو التحرير أصلا؟

1.                        التحرير أصله تحرير عقلي وإعتاق فكري وبسط لكل إمكانات الحياة عقديا ( إذ ليس هناك حياة خارج كل العقائد ولو كانت عقائد دهرية غابرة أو معاصرة أو قل بكلمة أخرى : ليس هناك في الحياة فراغ عقائدي البتة بسبب أن الإنسان يخاف غريزة ويحب غريزة ومن شأنه الخوف والحب لا بد له أن يتخذ ملجأ أو إلها أو مفرا يأوي إليه سيما عند إدلهمام نائبات الخوف ). وليس التحرر السلوكي من بعد ذلك سوى ثمرة من ثمرات ذلك التحرر العقلي والإنعتاق الفكري. معلوم أن الإنسان هو الكائن الوحيد ـ تقريبا ـ الذي يقاد بعقله ويساس بفكره. دعني أرسم ذلك بريشتي : الإنسان مركب يمخر عباب الحياة وليس لذلك المركب ( مركب تلبست فيه الروح بالمادة تلبسا عجيبا جدا) من ربان سوى ربان العقل وليس له من سفن سوى سفن النظر والفكر. المشكلة المفتعلة هي : أين يكون محل العقل والنظر والتفكير؟ هل هو الرأس أو المخ أو القلب؟ أما إجابة القرآن فهي صريحة صحيحة : „ لهم قلوب لا يفقهون بها” و” فتكون لهم قلوب يعقلون بها” و” فيطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون”. القلب إذن هو مركز العقل وغرفة عمليات النظر والتفكير. غير أن العلاقة بين القلب ( أي تلك المضغة الصغيرة) وبين المخ ( الذي يسمى اليوم عقلا مجازا عرفيا ليس إلا) هي علاقة متشابكة جدا ومتعاقدة جدا وبينهما من حبال الوصل مادة وروحا ما لم يكتشفه الإنسان حتى يوم الناس هذا على وجه الدقة واليقين. وما الغرابة أن يكون القلب هو ثمرة ذلك التفاعل بين تلك المضغة الصغيرة وبين تخصصات المخ؟ وما العجابة أن يفكر المرء بقلبه بعدما شيدنا حاجزا سيمكا رهيبا بين ما أسميناه عاطفة هي من صنع القلب وبين ما أسميناه عقلا وتدبيرا وحنكة وحكمة وشطارة ومهارة وهي من صنع العقل ( أي المخ بتعبيرنا المعاصر)؟ من مؤيدات ذلك أنه ليس هناك في جسم الإنسان عضو مادي إسمه : العقل. ولكن العقل فعل مثل أفعال الأكل والشرب والمشي. العقل هو فعل القلب والقلب هو قائد ربان سفينة الإنسان. ليس ذلك التذبذب فينا سوى ثمرة من ثمرات إحدى أشغب أدوائنا علينا أي : الجزء ( مصدر جزأ بفتح الجيم ) بدل التكامل.

البحث الدقيق يقود إلى أن الله سبحانه دعانا إلى التحرر أولا.

1 ـ قال سبحانه : „ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد إستمسك بالعروة الوثقى”. ليس صدفة أن يتقدم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله سبحانه ولكنه شرط له وليس من معنى لذلك الشرط سوى أن التحرر من وطآت الطاغوت ـ كل طاغوت يحيف بالإنسان عن الحق والعدل أو يطغى عليه ويشغب ليجاوز الحد الفطري والسنني المقبول والمعقول ـ دعوة إلهية رحمانية كريمة لا بد لها أن تسبق الإيمان ذاته بسبب أنهما ضدان لا يلتقيان إلا للمواجهة الحامية.

2 ـ كما قال سبحانه : „ ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه”. الأصل أن يقول : „ ومن يدع مع الله إلها آخر فإنما حسابه عند ربه “ وبذلك يفهم الخطاب على أنه تهديد ووعيد. ولكن عندما أدخل في الثنايا جملة إعتراضية هي : „ لا برهان له به “ فإنما يريد أن يدفع بالتحرر من سلطان كل الطواغيت ( ما كان منها ذاتيا مثل الهوى وما كان منها موضوعيا مثل بغي الفراعنة والهوامين والقوارين وأجنادهم أو فتنة النساء وحب الدنيا وغير ذلك مما هو معروف ) إلى أقصى حد ممكن حتى يظل العقل يبحث له عن إله له به برهان ثم يرتد إلى ربه الحق. أي يتحرر من سلطان التقليد وغلبة الحس الإجتماعي عندما يكون على غير حق لأجل تأسيس إيمانه على أسس ثابتة لا تقليد فيها ولا ببغاوية ولا قرودية ولا خضوع فيها لأي سلطان سوى سلطان البرهان.

3 ـ كما قال سبحانه : „ إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون”. حصر الإستماع ( وهو إستماع الفؤاد هنا وليس إستماع الأذن لأن إستماع الأذن لا يند حتى عن الأحمرة والجواميس ) هنا مدخلا أوحد للإستجابة يعني أن الإنسان حر حرية كاملة مطلقة في إصاخة سمعه بفؤاده لفهم الإيمان والإسلام وما يليهما. وهل يمكن عضل إنسان عن الإستماع بفؤاده حتى لو أكرهناه على الإستماع بأذنه؟ والأبلغ من ذلك كله أنه عقب على ذلك بأن الموتى يبعثهم الله .. في إشارة بليغة جدا إلى أن الموت الحقيقي هو موت حاسة السمع من لدن الفؤاد بسبب أن السمع مدخل من مداخل الإيمان وكل إنسان حر في إصاخة سمعه أو إغلاق منافذه.أما  ما جعله ـ إجتهادا ليس إلا ـ بعض القراء وقفا لازما ( أي على كلمة يسمعون) فإنما لعدم الوقف على كلمة ( والموتى ) وقفا إختياريا لئلا يضطرب المعنى.

4 ـ قوله سبحانه: „ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فيلكفر”. وكذلك قوله : „ أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين “. وقوله : „ لست عليهم بمصيطر”. وآيات أخرى كثيرة إذا جمعتها مع ما سبق ذكره وغيره كثير مما يضيق المجال هنا .. آيات أخرى كثيرة لا تكاد تحصى تشكل أدلة جزئية ـ بلغة الأصوليين ـ لتكون في النهاية دليلا كليا جامعا رسالته : الإنسان حر في قبول الإيمان أو الكفر به حرية تامة كاملة مطلقة ولا نكير عليه في الدنيا أبدا البتة ولكنه يتحمل مسؤوليته أمام ربه في الآخرة تحملا كاملا ( لا تزر وازرة وزر أخرى)وهي المسؤولية التي يتحملها كل مخلوق وليست خاصة بالكافر.

كل ذلك ـ عند الإستقراء العميق الهادئ ـ يبين أن الله سبحانه دعانا إلى التحرر من إصر الطواغيت وأغلال الكفر التي تأسرنا أولا وإبتداء ومن بعد ذلك ـ وليس قبله بحال ـ ينظر المرء في الدين الجديد ـ كلمة جديد ليست دقيقة لأنه دين واحد في أصله وجذره ـ وهو حر من الأغلال والآصار التي كانت تأسره. ولم يثبت التاريخ ولو مرة واحدة أن من كان ذاك شأنه إرتد إلى الكفر الذي لا يعني ـ عند التحقيق ـ في الإسلام سوى الإكراه حتى لو إختلفت مصادر الإكراه وكم من كافر يكره نفسه بنفسه على أثقال الكفر ولا يكرهه عليها أحد فوق الأرض.

السيرة النبوية تؤيد أولوية الحرية على الشريعة.

1 ـ قبل تناول أمر السيرة النبوية فإن منهج التشريع الإسلامي ذاته يتجه في الإتجاه ذاته أي أولوية الحرية على الشريعة. الأحرى والأدنى إلى الصواب أن نقول أن ذلك المنهج هو الذي أسس ذلك الإتجاه. كيف ذاك؟ من خلال عكوفه على إمتداد ثلاثة عشر عاما كاملة معالجا لما سمي فيما بعد قضايا العقيدة. وهل قضايا العقيدة الإسلامية غير قضايا الحرية بتعبيرنا المعاصر؟ أنظر إلى عقيدة القضاء والقدر في الإسلام لتلفى أن عقيدة القضاء والقدر في الإسلام هي ذاتها قضية الحرية بأكثر ما يمكن من تعبيراتها المعاصرة. مخ عقيدة القضاء والقدر هي أن الإنسان مخلوق لخالق ومصنوع لصانع ومرزوق لرازق ولا يعني ذلك سوى أنه مملوك لمالك ولا يعني أن تكون مملوكا بالكلية لمالك سوى أنك عبد لمعبود. مخ عقيدة القضاء والقدر هي أن  الإنسان منح من الحرية لتدبير أمره في هذه الدنيا ما به يسعد ـ إن شاء ـ في الآخرة أي في حياته الأبدية هناك. منح حرية التدين والإعتقاد والعمل وتحمل المسؤولية والإنتماء إلى مجموعة من القيم الخلقية الكريمة التي ليست هي سوى الإسلام في نهاية المطاف. ولكنه لم يمنح فيما عدا ذلك من الحرية ( من مثل حرية الزمن الذي يعيش فيه والمكان الذي يولد فيه وإختيار أمه وأبيه بل حتى إسمه ولونه ) وذلك لتذكيره بأن الله سبحانه هو القاهر فوق عباده أي يقهرهم بإختيار ما يتصل بهم مما لا قبل لهم به ولا يدخل في صميم إهتماماتهم وليس له تأثير على صناعة مستقبلهم من بعد الموت. أي أن الإكراه ذاته يخدم قضية الحرية البشرية ولكن ذلك يتطلب عقلا إنسانيا لحسن إدراكه وليس غريزة بهيمية. مخ عقيدة القضاء والقدر هي أن الإنسان مسؤول عن أقواله وأفعاله ومعتقداته مسؤولية كاملة كلما كان حرا بالغا عاقلا. هل هناك أبلغ مما قرره الفقهاء من أن الحرية شرط من شروط التكليف حتى قالوا : العقل مناط التكليف وترجمتها المعاصرة إن شئت بلاغا في الفهم : الحرية مناط التكليف. وجوانب أخرى من عقيدة القضاء والقدر يضيق عنها المجال هنا. والأمر ذاته ـ مع تفاوت وإختلاف ـ ينسحب على بقية معاقد العقيدة الإسلامية : الإيمان بالرسل مثلا منوط بصحة الرواية عنهم وبهم لمن لم يشاهدهم ويشاهد معجزاتهم. الإيمان بالكتب مثلا منوط بفحصها وفهمها حتى أن الإسلام قرر أن من لم تبلغه دعوة الإسلام نقية صافية صحيحة وهو في حال مقبول ومعقول لإستقبالها ( بلوغ وحرية وعقل ) لا يعذب ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا). بل الإيمان بالله نفسه تعالى منوط بمثل ذلك. ألا ترى كيف سأل موسى عليه السلام ربه : „ قال رب أرني أنظر إليك”. ألا ترى كيف سأل إبراهيم عليه السلام سؤال شبيها : „ رب أرني كيف تحيي الموتى “. هل نهرهما سبحانه؟ كلا. بل رحب بسؤاليهما فإستجاب للثاني لأن ذلك ممكن ولم يستجب للأول إلا بقدر ما يزداد إيمانا ويقينا لأن رؤيته سبحانه لا يطيقها بشر في الدنيا ولكن عندما يخلقنا سبحانه يوم القيامة ـ سيما أهل الجنة ـ خلقا آخر يمكن ذلك ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) وإن كان الأمر فيه خلاف ولا حاجة لنا بدعوة مثل تلك الخلافات ولنا من التحديات العقدية الجديدة المعاصرة ما يكفينا.

 لم تأخر التشريع ثلاثة عشر عاما كاملة إذن.

ليس صحيحا أن ذلك كله مرتهن للفترة المكية التي لم تطق أن يزاحم فيها الإعتقاد تشريع. ولكن الأدق من ذلك والأكثر صحة هو أن التشريع تأخر كل تلك المدة لأن الناس في مكة يومئذ ليس لهم حرية تنزيل التشريع في حياتهم لو نزل عليهم تشريع. التشريع ـ وهو القانون العملي بتعبيرنا المعاصر ـ له شروط منها بداية وقبل كل شيء : شرط الحرية. أي حرية المسلم وحقه فوق الأرض لمزاولة ما إختاره من مقتضيات عقدية.أرأيت كيف أن التشريع بدأ بالتنزل من أول يوم إستعاد فيه الناس حرياتهم وحقوقهم أي مباشرة من بعد الهجرة النبوية الأخيرة من مكة إلى المدينة المنورة. ذلك هو معنى أن الحرية مناط التكليف. تحمل العقيدة وحده لا يكفي لأن العقيدة محلها العقل والقلب ونقصان الحرية فيها أو إنعدامها بالكلية ليس له تأثير كبير جدا سيما مع التضحيات والمجاهدات وإستخدام التقيات ( إلا أن تتقوا منهم تقاة) و ( إن عادوا فعد). أما تحمل مقتضيات العقيدة ـ أي الشريعة ـ فلا بد للحرية فيه لأن تحمل التشريع عمل بل هو عمل جماعة وهي جماعة لها خصوم فوق الأرض وأعداء فضلا عما تنتجه الأيام ذاتها من إبتلاءات وما يتطلبه ذلك من معالجات.

ولا تصلح الصلاة هنا دليلا مضادا أولا بسبب أنها تأخرت هي نفسها حتى ثمانية عشر شهرا قبل إستخلاص المسلمين لحرياتهم وحقوقهم في الحياة بدينهم بالكامل في إثر التحصن بالهجرة وثانيا لأن الصلاة أدنى إلى العقيدة منها إلى الشريعة بسبب طابعها الشخصي أو الخاص فضلا عن كثرة الرخص فيها تطهرا وأداء للمقيم والمسافر والخائف والفذ والمرأة وليس أدل على ذلك من صلاة الجماعة لم تكن مفروضة في مكة بأي معنى من معاني الفرض ولم تكن هناك صلاة جمعة فضلا عن الصلوات الأخرى التي لم يكن مناسبا لها سوى مناخ المدينة بسبب الحريات والحقوق وإستخلاص القوة التي تحمي كل ذلك.

خير مثال لذلك : صلح الحديبية.

صلح الحديبية على شروطه المجحفة جدا في حق المسلمين ـ بمثل ما رأى الصحابة ذلك سيما الفاروق عمر ـ أثبتت الأيام ـ بعد عامين فحسب أي خمس زمن المعاهدة التي كان من المفترض أن تعمر عشر سنوات كاملات بين قريش والمسلمين ـ أن مطلبه الأوكد الأول هو : الحرية للإسلام والمسلمين. الحرية لهم في مزاولة حقهم في إعتناق الإسلام دون إكراه من قريش. أي إعترف للإسلام لأول مرة بأنه معطى جغرافي سياسي ديني واقع فوق الأرض وله حرية الوجود. وذلك هو الذي أخرج للدنيا حركة أبي بصير المقاومة ( الخارجة عن قانون قريش) وما إلتحق بها من المستضعفين وما أدى ذلك إلى نشوء إمارة أو دويلة في منزلة بين المنزلتين : فلا هي تنتمي لقريش بسبب إختلاف العقيدة من جهة وبسبب الخروج عنها من جهة أخرى ولا هي تنتمي لأمة الإسلام إنتماء وطنيا جغرافيا بسبب معاهدة صلح الحديبية. المعنى السياسي هو : إستعصاء حركة أبي بصير ومن لحق به عن الضبط القرشي الصارم أو فتح صلح الحديبية لأفاق الحرية أمام الناس بعد ذهاب ريح قريش التي كانوا يهابونها.

لم تكن رسالة الحديبية إذن سوى رسالة بث الحرية أمام الناس ودوح الحق بين أيديهم ليؤمن من شاء عن بينة وسلطان وإرادة حرة ويكفر من شاء عن بينة كذلك.

ما هي فلسفة الحرية في الإسلام.

1 ـ الحرية في الإسلام حرية مسؤولة مسؤولية الإنسان الحر العاقل على أقواله وأفعاله وليست حرية البهائم والعجماوات التي لا تملك إختيارها وإرادتها.

2 ـ الحرية في الإسلام هي في مقابل الطواغيت وما يفرضونه على الإنسان المستضعف والمغفل واللاهي من آصار وأغلال وليست الحرية في الإسلام في مقابل قهر الله سبحانه فوق عباده.

3 ـ الحرية في الإسلام هي ذاتها ـ من وجوه عديدة ـ الحرية الإنسانية في هذه الدنيا أي عند المجتمعات التعاقدية والتكافلية. هل تجد حرية مطلقة تامة كاملة يفعل الإنسان بمقتضاها كل ما يريده حتى لو كان ضارا بغيره؟ طبعا لا. لم؟ لأن الإجتماع البشري بقوانينه وتعاقداته يحجزه عن ذلك. معنى ذلك أن الحرية في الإسلام حرية تعاقدية تكافلية أخلاقية ملتزمة. هي حرية إنسان مسؤول مكلف مبتلى عاقل بالغ وليست حرية بهيمة عجماء أو عبد مملوك أو أمة مستعبدة.

4 ـ الحرية في الإسلام مقيدة بقيدين ضابطين كبيرين : أولهما قيد العلاقة مع الخالق والصانع والرازق والمالك والمعبود لمن يؤمن أنه له مخلوق ومصنوع ومرزوق ومملوك وعبد. وليس لمن لا يؤمن بذلك ـ وهو في الحقيقة هراء وكذب لأن الإيمان فطري في الإنسان لا يختلف عن غريزة الأكل و الشرب ونشدان الأمن وحب الحياة والتقدير ـ أن يتعدى ذلك لأن مسألة الإيمان بالله سبحانه قضية كونية عامة وليست خاصة بهؤلاء أو من إبتداع أولئك. وثاني القيدين هو قيد العلاقة مع الإنسان ألا تداس كرامته وتوطأ حريته ظلما وقهرا لأن الكون مخلوق للناس أجمعين وليس هناك من هو أحق به من غيره تسخيرا ولا إستمتاعا.

5 ـ الحرية في الإسلام حرية جامعة متكاملة فهي تبدأ من حرية الإعتقاد والتدين وتنتهي عند حدود حريات الآخرين وتمر بحرية القول والعمل والكسب والفعل والسعي وغير ذلك مما لا يحصى. ولذلك إعترف الإسلام بالدين السماوي السابق له أي اليهودية والنصرانية إعتراف وجود وحق حياة بما يتناسب مع ذلك الدين عقيدة وعبادة وشريعة ( رغم إنحسار الشريعة فيهما). إعترف بذلك حتى وهو يصفهم بالكفر ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة).. رغم أنه يسميهم في الأعم الأغلب أهل كتاب تأليفا لقلوبهم ودفعا للمسلمين إلى الإقتراب منهم دعوة ونكاحا وتطاعما وتعاملا ما داموا مسالمين. ولا يعني قياس المجوس على أهل الكتاب ( حديث نبوي صحيح ) سوى قياس كل صاحب دين يدعي لنفسه دينا أو فلسفة ولو كانت لا دينية أصلا ولكن وقع التركيز في القرآن والسنة على أهل الكتاب من يهود ونصارى لأنهم الأغلب يومها ولكن باب القياس مفتوح دوما لا يغلقه إلا أحمق.

5 ـ الحرية في الإسلام هي منتهى العبودية لله الخالق الصانع المصور الرزاق المالك المعبود سبحانه. ومن صور ذلك أن الحرية في الإسلام أن يتحرر المرء حتى من نفسه بما فيها من أهواء وليست الحرية في الإسلام أن يتحرر المرء من الطواغيت في الفضاء الموضوعي ثم يكون عبدا لنفسه وهواه. بل إن الحرية الحقيقية أن يتحرر المرء أولا وقبل كل شيء من نفسه الأمارة بالسوء ليتأهل من بعد ذلك ـ وليس قبل ذلك ـ للتحرر من الطواغيت الأخرى. أي أن الحرية في الإسلام حرية أخلاقية ومسؤولية أخلاقية وإلتزام أخلاقي.

6 ـ كل ذلك يؤكد أن الحرية في الإسلام هي مناط التكليف أي أن الإنسان لا يكلف ـ ولا يطيق تكليفا أصلا ـ إلا بقدر تحرره. معنى ذلك أن أقدس قاعدة في الدنيا هي : أنا حر, فأنا عبد لله وحده سبحانه إذن. أنا حر فأنا مؤمن. أنا حر فأنا مسلم. والعكس بالعكس كذلك : أنا مؤمن فأنا حر إذن . أنا مسلم فأنا حر إذن.

ما هو حظ ذلك الشعار من الحكمة إذن.

رأينا فيما أنف ذكره أن الإسلام يقدم الحرية تقديما كليا باتا. يقدم الإسلام الحرية لأن عبادة الله سبحانه وهي مخ الإسلام ( إياك نعبد وإياك نستعين) لا تكون متاحة وحقيقية ومقبولة إلا من إمرئ حر. رسالة العقيدة الإسلامية إذن هي تحرير الإنسان ـ كل إنسان ـ تحريرا كاملا متكاملا جامعا من نفسه وأهوائها أولا ثم من الطواغيت المحيطة به سواء إحاطة ترغيب أو ترهيب. أخطأ سؤال هو : ما هي منزلة الحرية في الإسلام. ليس الإسلام مجموعة وحدات مستقلة حتى تكون الحرية وحدة من تلك الوحدات وبمثل ذلك العلم إذ ليس للحرية ولا للعلم في الإسلام موضع خاص بهما. الإسلام كله من العقيدة حتى إماطة الأذى عن الطريق إنما مبناه ومشروعيته : العلم والحرية. أشد الناس حرية هو أشدهم علما وأشدهم علما هو أشدهم عبادة لربه سبحانه( إنما يخشى الله من عباده العلماء). هو ضلع ثلاثي متكامل لا ينفك بعضه عن بعض البتة : العبادة + العلم + الحرية.

هذه هي أهم المعطيات الواقعية التي يستند إليها ذلك الشعار.

1 ـ إذا كانت الشريعة السياسية للإسلام لا يكون تطبيقها إلا ببناء مقومات الإتجاه الإسلامي في الحقل السياسي أي ( الحرية والكرامة ووحدة الأمة وحقها في الشورى وحقها في الأمر تدبيرا وإصطفاء ومحاسبة وعزلا وحقها في رعاية التنوع بكل ألوانه كلما كان تحت سقف ثوابت الإسلام العظمى وغير ذلك مما هو معلوم من مكونات وصور المشهد الشوري الإسلامي).. إذا كانت الشريعة السياسية للإسلام لا يكون تطبيقها إلا ببناء تلك المقومات فإن البدء بتحصيل شروط تلك المقومات لتحصيل أكثر ما يمكن من صور ومكونات المشهد الشوري في الأمة.. البدء بتلك الخطوة هو الأصل. ذلك هو الأصل حتى في العهود الإسلامية الزاهرة يوم كانت الدولة أجيرا عند الأمة وكان الحاكم خادما عندها فما بالك بحالنا الراهن حيث تغولت الدولة وأممت كل المجالات والقطاعات ولم يند عن سلطانها شيء؟ ذلك هو الأصل وليس أدل على ذلك من أن الأصحاب الكرام ـ كلهم إلا بيت النبوة من مثل الإمام علي ومن معه عليهم الرضوان أجمعين ـ تداعوا إلى سقيفة بني ساعدة مباشرة بعد وفاته عليه الصلاة والسلام وهو مسجى لما يدفن. العجيب في الأمر أنك لا تعثر على آية واحدة أو حديث واحد ( وإن يكن موضوعا أو ضعيفا) يأمرهم بذلك أو يندبهم إليه. ذلك هو مثال على تشبع الصحابة الكرام بالثقافة العملية التي تفوقوا بها على الأجيال والقرون التي جاءت من بعدهم. عنايتنا اليوم بالثقافة العملية ضعيفة جدا وهي صنو الثقافة القولية التي نوليها كل الإهتمام.ما ضرهم لو باتوا ليلة واحدة دون خليفة للنبوة؟ ذلك هو الفقه السياسي الدستوري الكبير. ولك في الخلافة الراشدة من بعده عليه الصلاة والسلام خير مثال كذلك. حرص كل خليفة على ترتيب الأمر من بعده ترتيبا يحذر الأمة أن تبيت ليلة واحدة دون أمير ولكن لم يتجرأ أي واحد منهم على فرض إسم محدد على الأمة إلا نصيحة.

2 ـ الحرية مقدمة على الشريعة .. يعني أن الأمة هي صاحبة الأمر وليس حاكمها ومن أطرف ما تجد في الكتاب العزيز أن الخطاب كله لم يتوجه إلى ولي الأمر ولو مرة واحدة. حتى عندما ذكر ولي الأمر ـ مرات قليلات جدا ـ إنما جاء الخطاب للأمة وليس له. فما لم تكن الأمة حرة في قرارها فإن ولي الأمر ـ وهب أنه من أصلح الصلحاء ـ قد يستغفل إرادتها أو يجور عليها بمثل ما وقع من بعد ذلك على إمتداد الإنقلاب الأموي أو العباسي وحتى يوم الناس هذا.

3 ـ الحرية مقدمة على الشريعة .. يعني أنه عندما تنبسط الحرية بين أيدي الناس سياسيا وماليا وإجتماعيا وثقافيا وفكريا تقوم قائمة العدل بينهم فلا يؤخذ بريئ بجريرة ظالم ولا يقتص من وضيع لوضاعته أو يترك شريف لشرفه.

4 ـ الحرية مقدمة على الشريعة .. يعني أنه لا يمكن محاسبة أي إنسان قبل أن تؤمن له كل ضرورات العيش الكريم من تناسب وتوافق في فرص الكسب والمتعة.

5 ـ الحرية مقدمة على الشريعة .. يعني إصلاح المنكر الأكبر في الأمة أي : إغتصاب الحكام لأمر الأمة سيما أن الحكام أنفسهم مغتصبون من لدن دوائر غربية معروفة.

6 ـ الحرية مقدمة على الشريعة .. يعني محاولة إستئناف الحياة الإسلامية بالتدريج والجهاد السلمي لطي آثار قرون طويلة وسحيقة من تهميش الأمة داخليا والإستيلاء على أموالها و ثرواتها وحقها خارجيا.

7 ـ الحرية مقدمة على الشريعة .. يعني ـ فيما يعني ـ تنزيل قالة قديمة صحيحة ـ لا يهمنا  صاحبها ـ : „ إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”.

8 ـ الحرية مقدمة على الشريعة .. يعني محاولة توحيد الأمة سياسيا بالتدريج والجهاد السلمي على أسس ثابتة من الكتاب والسنة مع الإحتفاظ بحق التعدد والتنوع دينيا ومذهبيا وعرقيا ولغويا وفكريا وسياسيا سلا للفتائل الضعيفة التي يمكن أن يستغلها العدو الخارجي لزرع الفتنة بيننا بمثل ما يقع اليوم في السودان ومصر وغيرهما.

9 ـ الحرية مقدمة على الشريعة .. يعني أسبقية العقيدة والفكر على الشريعة والتطبيق والقانون أسبقية ترتيبية عملية في ظروف بالغة الخطورة في إثر الإنقسام السياسي الذي تعيشه الأمة في كل بلد عربي وإسلامي تقريبا.

10 ـ الحرية مقدمة على الشريعة .. خطة ذكية لا تعترف للحكام الراهنين بالمشروعية السياسية العليا بسبب فضائح التوريث والتزييف والإنقلابات العسكرية فضلا عن الولاء للخارج جهارا بهارا.. خطة ذكية لمحاسبة الحكام على التفريط في المعروف الأكبر أي : الوحدة والحرية والكرامة والعدالة والتنوع والعلم والرغد وعلى الإفراط في المنكر الأكبر أي : إغتصاب الأمر والعبث بالمال العام وتكميم الأفواه وموالاة أعداء الأمة.. خطة ذكية لا تسلم لهم في مشروعيتهم لتطالبهم بتطبيق الشريعة التي لا يرون فيها سوى بترا لأيدي وسوق الفقراء والجوعى وجلدا لظهور المعدمين وضحايا سياساتهم العابثة الماجنة.. خطة ذكية لأنها لا تطالب من السارق الأكبر تطبيق حد السرقة ولا تطالب الزاني الأكبر تطبيق حد الزنى ولا تطالب المحارب الأكبر من تطبيق حد الحرابة ولا تطالب المرتد الأكبر من تطبيق حد الردة..خطة ذكية لأنها لا تأمن من يستغل الإسلام على تطبيق شريعته.. خطة ذكية لأنها تعتمد التوعية والتنوير والتعليم وسائل للنهضة.

الإسلام كله شريعة ولكن تطبيق شرائعه له ميزان ذو أولويات.

للإسلام شريعة عقدية لها وجهان : وجه متصل مباشرة بالخالق سبحانه وهو من يحاسب عليه يوم القيامة ولا سلطان لأحد عليه في هذه الدنيا ووجه متصل بالناس حتى يعلموا أن هذا منهم فهو صالح لأن يولى أمرهم وذاك من غيرهم فلا يصلح أن يولى أمرهم الديني.

وله شريعة تعبدية..

وله شريعة أخلاقية..

وله شريعة إقتصادية ومالية..

وله شريعة إجتماعية..

وله شريعة سياسية قوامها الحريات والكرامات والحقوق..

وله شريعة إدارية قوامها الكتابة والتوثيق والتنظم..

وله شريعة ثقافية وفكرية قوامها قيم الحق والعدل والقوة والتراحم والتكافل والتعدد..

وله شريعة دولية في السلم وفي الحرب قوامها آيتي الممتحنة..

الحرية مقدمة على الشريعة إستراتيجة الحركة الإسلامية المعاصرة.

بقدر ثبات الحركة الإسلامية المعاصرة على تلك الإستراتيجية يكون نجاحها وتقدمها. هي إستراتيجية طويلة شاقة تتطلب تضحيات لأجيال من بعدها أجيال ولكنها إستراتيجية مؤمنة أن تحيد عن إستلهام إستراتيجية المشروع الإسلامي المعاصر من أصول الإسلام من جهة ومن متطلبات الواقع المعقد المتشابك من جهة أخرى. هي إستراتيجية كفيلة بكسب ثقة المسلمين من غير المنتظمين في الحركة الإسلامية أو المتعاطفين معها لأسباب كثيرة وهي إستراتيجية كفيلة بكسب ثقة الشاهد الدولي من غير المسلمين سيما من الشعوب والأمم غير المسلمة في كنف الإعلام المعولم والأثير الهادر الذي يربط الشرق بالغرب في طرفة عين. هي إستراتيجية كفيلة بتعرية الجهاز السياسي والأمني العربي الرسمي وفضحه لأنه يتمترس وراء جهاز هش من شعارات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان ولا شك أن معالجة خصمك بسلاحه أدعى إلى هزيمته ولجوئه إلى التوريث والتزوير والإنقلابات العسكرية والفرار إلى عدو الأمة. هي إستراتيجية كفيلة بالهداية من خلال التوعية والتنوير والنهضة الفكرية والرقي الثقافي أي : التعويل على الإنسان وعقل الإنسان ـ بعد الله سبحانه ـ لأن الإنسان هو وسيلة الإصلاح وهو غاية الإصلاح وهو وقود الإصلاح. هي إستراتيجية كفيلة بنزع فتائل التناحر القومي والإقتتال الداخلي وتفرق الأمة وتشتت صفها وهي كفيلة بطرد الحمقى من ميدان التغيير والإصلاح.

الشريعة حق وعدل ولكن يحميها الحكم العادل الرشيد المنتخب من الأمة.

لا مشروعية لأي حاكم ـ كائنا ما كان صلاحه ـ يدعي تطبيق الشريعة الجزائية والعقابية بين الناس ما لم يكن منتخبا إنتخابا ديمقراطيا حرا من لدن أولئك الناس أنفسهم. سبب ذلك أن النظام السياسي هو الذي يحمي الشريعة وليست الشريعة هي التي تحمي النظام السياسي. سبب ذلك أن من إغتصب أمر الأمة في أخص خصائصه فهو لما دون ذلك أشد إغتصابا. أما دعاوى التدرج التي يروج لها بعضهم ـ ويقع في حبائلها بعض المنتسبين إلى الحركة الإسلامية ـ فلا محل لها هنا. ومن شاء أن يتدرج فليتدرج في الإنتقال إلى الحكم الديمقراطي الذي يؤمن الحريات والعدالة والكرامة والنهضة والنماء والإستقلال عن القوى النافذة المهيمنة دوليا. أما أن يقع التدرج من تطبيق الشريعة الجزائية والعقابية من حاكم مغتصب لأمر الأمة إلى الحريات .. ذلك وهم موهوم. إذا ضاقت السبل بالحركة الإسلامية المعاصرة فلها ألف سبيل وسبيل تسلكه إلا أن توهم نفسها أنه يمكن لمن إغتصب أمر الأمة بقوة البوليس و عصبية العشيرة والدعم الدولي أن يطبق شريعة الإسلام. ليست الأمة قطعانا من الدواب في ضيعة الأمير أو الغفير أو الوزير حتى يهرق دم من شاء أو يجلد ظهر من شاء. الأمة هي صاحبة الأمر كله تفويضا من الله سبحانه إليها وليس الحاكم ـ كائنا ما كانت سلالته ولو كان عليا نفسه عليه الرضوان ـ إلا خادما مسؤولا يخضع للرقابة والمحاسبة والعزل فضلا عن التداول.

الشريعة حق وعدل ولكن تحميها الأمة ذاتها..
الشريعة حق وعدل ولكن تحميها المؤسسات التي تفرزها الأمة..
الشريعة الإسلامية حرية وعدل وكرامة ووحدة وتعدد وقوة ورحمة قبل أن تضمر في الرؤوس الفارغة لتضحى سيفا بتارا يجهز على الوضيع ويحمي الشريف..
الهادي بريك ـ ألمانيا


بتاريخ : 2011-01-05 الساعة : 02:32:32
اسم الكاتب : الشيخ الهادي بريك مصدر الخبر : الحـــــو ا ر نــــــــــــــت

مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..