المقصود بالحرية :
يستوي التعبير هنا أن تقول ( حرية ) أو تقول ( تحرر) أو ( تحرير) ولا عبرة
هنا بلغط اللاغطين بسبب أن المفردات الثلاث من أصل جذري لغوي واحد حميمي
وليس الفرق بينها سوى فرق إشتقاق وتصريف. إذا إصطلح الناس اليوم على أن
الحرية تكون من قبضة الحاكم الظالم ويكون التحرر من قبضة المحتل فبها ونعمت
وإن إصطلحوا على ضد ذلك بالتمام والكمال فبها
ونعمت مرة أخرى. المقصود بالحرية هنا أو التحرر أو التحرير هو إستعادة
الناس حرياتهم الأساسية فرادى وجماعات في البلد الواحد بفعل إرتخاء القبضة
الأمنية للدولة العربية لأي سبب من الأسباب بما يعيد للمجتمع مسؤوليته على
آماله وآلامه أو إستعادة البلد المحتل من مثل فلسطين مثلا لإستقلاله وتحرره
وحريته وبالنتيجة فإن منتهى الحرية أو التحرر أو التحرير واحدة ولا يشغب
على ذلك أن يكون التحرر نسبيا أو تدريجيا توافقا مع السنن والأسباب الماضية
الغلابة.
المقصود بالشريعة :
تطبيق الشريعة الإسلامية ولكن المقصود هنا تحديدا تطبيق جانبها الجزائي
والعقابي منها إحلالا للعدل والقسط محل الظلم والجور. ليس المقصود منها ـ
هنا وليس في كل المواضع والسياقات ـ تطبيق بقية جوانبها بسبب أن جوانبها
السياسية والإقتصادية وما في حكمهما هو المقصود أساسا وأصالة من شعار ذلك
الإتجاه الفكري الإصلاحي المعاصر أي : أولوية الحرية ( أو التحرر ) على
الشريعة.
مصطلح الأولوية هو مفتاح المعادلة إذن.
لولا
مصطلح الأولوية ـ هنا أساسا ـ لفهم الناس خطأ أن الحرية والشريعة خصمان
لدودان لا يلتقيان. البحوث المقاصدية المعاصرة أجمعت أو تكاد على أن حرية
الناس ـ كل الناس ـ هو المقصد الأسنى من الإسلام. لم يكن ذلك إكتشافا جديدا
في الحقيقة ولكن الجديد فيه هو صياغة تلك البحوث من لدن أصحابها ( الإمام
القرضاوي والدكتور الريسوني والدكتور النجار ومن قبلهم جميعا الإمام إبن
عاشور والسياسي المصلح الكبير علال الفاسي وآخرون لا يتسع لهم المقام ذكرا )
بصياغات معاصرة أصلها الأصيل خلاصة مقاصدية شرعية إسلامية لئن نسبت إلى
الإمام إبن عاشور فإن بعضهم إرتد بها إلى قرون ماضية بعيدة .. أصل تلك
البحوث المقاصدية التي تجعل الحرية هي مقصد الإسلام الأسنى من تشريعاته هي :
„ الإسلام متشوف إلى الحرية”. عبارة إستخدمها الإمام إبن عاشور في كتابه
المقاصدي العلم المعروف في هذه الموضوع. أما الإمام القرضاوي فقد أصل لقيمة
الحرية في الإسلام بما لم يكد يسبق إليه وذلك من خلال تفكيكه للبنية
اللغوية للآية الشريفة التي تعد مرجعا وموئلا في موضوع الحرية في الإسلام (
لا إكراه في الدين ) إذ تبين للإمام القرضاوي بأن نفي الإكراه ـ وهو لغة
ضد الحرية عندما تكون الحرية هي الإختيار ـ أعزم وأنفذ في إستجلاب الحرية
والإختيار والإرادة من مجرد تأكيد تلك القيم ثم
إستدل على ذلك بالنظم اللغوي الذي إمتشقته كلمة التوحيد الإسلامية العظمى (
لا إله إلا الله ) بما يفيد بنية لغوية عربية ودلالة معنوية رمزية وحقيقية
في الآن ذاته أن أيسر طريق وأقصره وأشد ضمانة لإستجلاب الحرية هو البداية
بنفي أضدادها من إكراه وغير ذلك. وبذلك لم يكن حظ الذين بحثوا عن كلمات
الحرية والتحرر والتحرير في الكتاب والسنة فلم يظفروا بشيء سوى حظا عاثرا
وهو حظ عاثر جنت به السطحية عليهم ولو نخلوا الأمر من زاوية أخرى لألفوا
بأن الإسلام ـ شأنه شأن موسى عليه السلام مع بني إسرائيل ـ لم يدع العبيد
والإماء في قريش وغيرها يوم نزوله إلى الإيمان أو الإسلام إبتداء بل دعا
إلى تحريرهم إبتداء فإذا تحرروا عرض عليهم الإيمان والإسلام فإن قبلوه فبها
ونعمت وإن رفضوه فما عليهم من نكير في هذه الدنيا. ألا ترى أنه ملأ
تشريعاته الجزئية بمنافذ تحرير العبيد والإماء لتجفيف منابع العبودية. ألا
ترى أن موسى عليه السلام لم يرسل إلى بني إسرائيل لعرض الدين عليهم فمن قبل
عمل على إنجائه من فرعون ومن أبى تركه يئن تحت سلطان الغشم لفرعون. إنما
أرسل إليهم لإنجائهم من البطش الفرعوني إبتداء وليس أدل على ذلك من قول
بعضهم له وهم في الطريق إلى سيناء : „ إجعل لنا إلها كما لهم آلهة”.
تلخيص مركز لشعار ذلك الإتجاه الفكري الإصلاحي.
المقصود النهائي ـ إذن ـ من قولهم : ( أولوية الحرية على الشريعة ) هو :
1 ـ أولوية ترتيبية تقديمية وليست أولوية تفاضلية مطلقة.
2 ـ أولوية عملية ميدانية في حقول الإصلاح وليست أولوية عقدية باتة.
3 ـ أولوية تستصحب دوما إقتران الحرية بالشريعة بحبال وصل لا يمكن فكاكها عقديا وعمليا في الآن ذاته.
4 ـ أولوية زمان ومكان مستندة لقرائن في الدين من جهة وفي الواقع من جهة أخرى.
5
ـ أولوية أثمرتها النظرات الحصيفة في مراتب الأعمال وموازينها ورجحان
بعضها على بعض أثمانا وأسعارا وأجزية وضرورات وخيارات وعموما وخصوصا.
6 ـ أولوية تكامل وتوازن ورجحان وليست أولوية تضاد أو تناف أو تخاصم.
أيهما الأسبق : التحرير أم التعبيد والأسلمة.
لو
صيغ السؤال بكلمة أخرى لقيل : هل دعانا سبحانه ـ في كتابه وسنة حبيبه محمد
عليه الصلاة والسلام ولا شأن لنا ـ أبدا البتة ـ بأي إجتهاد آخر سواء أصاب
أم أخطأ ـ إلى عبادته والإيمان به إبتداء ثم حررنا بذلك أو بغيره مما كان
يأسرنا أم أنه دعانا إلى التحرر مما كان يأسرنا إبتداء ـ أو حررنا أصالة ـ
ثم دعانا إلى عبادته والإيمان به من بعد ذلك؟
ولكن ما هو التحرير أصلا؟
1. التحرير
أصله تحرير عقلي وإعتاق فكري وبسط لكل إمكانات الحياة عقديا ( إذ ليس هناك
حياة خارج كل العقائد ولو كانت عقائد دهرية غابرة أو معاصرة أو قل بكلمة
أخرى : ليس هناك في الحياة فراغ عقائدي البتة بسبب أن الإنسان يخاف غريزة
ويحب غريزة ومن شأنه الخوف والحب لا بد له أن يتخذ ملجأ أو إلها أو مفرا
يأوي إليه سيما عند إدلهمام نائبات الخوف ). وليس التحرر السلوكي من بعد
ذلك سوى ثمرة من ثمرات ذلك التحرر العقلي والإنعتاق الفكري. معلوم أن
الإنسان هو الكائن الوحيد ـ تقريبا ـ الذي يقاد بعقله ويساس بفكره. دعني
أرسم ذلك بريشتي : الإنسان مركب يمخر عباب الحياة وليس لذلك المركب ( مركب
تلبست فيه الروح بالمادة تلبسا عجيبا جدا) من ربان سوى ربان العقل وليس له
من سفن سوى سفن النظر والفكر. المشكلة المفتعلة هي : أين يكون محل العقل
والنظر والتفكير؟ هل هو الرأس أو المخ أو القلب؟ أما إجابة القرآن فهي
صريحة صحيحة : „ لهم قلوب لا يفقهون بها” و” فتكون لهم قلوب يعقلون بها” و”
فيطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون”. القلب إذن هو مركز العقل وغرفة عمليات
النظر والتفكير. غير أن العلاقة بين القلب ( أي تلك المضغة الصغيرة) وبين
المخ ( الذي يسمى اليوم عقلا مجازا عرفيا ليس إلا) هي علاقة متشابكة جدا
ومتعاقدة جدا وبينهما من حبال الوصل مادة وروحا ما لم يكتشفه الإنسان حتى
يوم الناس هذا على وجه الدقة واليقين. وما الغرابة أن يكون القلب هو ثمرة
ذلك التفاعل بين تلك المضغة الصغيرة وبين تخصصات المخ؟ وما العجابة أن يفكر
المرء بقلبه بعدما شيدنا حاجزا سيمكا رهيبا بين ما أسميناه عاطفة هي من
صنع القلب وبين ما أسميناه عقلا وتدبيرا وحنكة وحكمة وشطارة ومهارة وهي من
صنع العقل ( أي المخ بتعبيرنا المعاصر)؟ من مؤيدات ذلك أنه ليس هناك في جسم
الإنسان عضو مادي إسمه : العقل. ولكن العقل فعل مثل أفعال الأكل والشرب
والمشي. العقل هو فعل القلب والقلب هو قائد ربان سفينة الإنسان. ليس ذلك
التذبذب فينا سوى ثمرة من ثمرات إحدى أشغب أدوائنا علينا أي : الجزء ( مصدر
جزأ بفتح الجيم ) بدل التكامل.
البحث الدقيق يقود إلى أن الله سبحانه دعانا إلى التحرر أولا.
1
ـ قال سبحانه : „ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد إستمسك بالعروة
الوثقى”. ليس صدفة أن يتقدم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله سبحانه ولكنه
شرط له وليس من معنى لذلك الشرط سوى أن التحرر من وطآت الطاغوت ـ كل طاغوت
يحيف بالإنسان عن الحق والعدل أو يطغى عليه ويشغب ليجاوز الحد الفطري
والسنني المقبول والمعقول ـ دعوة إلهية رحمانية كريمة لا بد لها أن تسبق
الإيمان ذاته بسبب أنهما ضدان لا يلتقيان إلا للمواجهة الحامية.
2
ـ كما قال سبحانه : „ ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما
حسابه عند ربه”. الأصل أن يقول : „ ومن يدع مع الله إلها آخر فإنما حسابه
عند ربه “ وبذلك يفهم الخطاب على أنه تهديد ووعيد. ولكن عندما أدخل في
الثنايا جملة إعتراضية هي : „ لا برهان له به “ فإنما يريد أن يدفع بالتحرر
من سلطان كل الطواغيت ( ما كان منها ذاتيا مثل الهوى وما كان منها موضوعيا
مثل بغي الفراعنة والهوامين والقوارين وأجنادهم أو فتنة النساء وحب الدنيا
وغير ذلك مما هو معروف ) إلى أقصى حد ممكن حتى يظل العقل يبحث له عن إله
له به برهان ثم يرتد إلى ربه الحق. أي يتحرر من سلطان التقليد وغلبة الحس
الإجتماعي عندما يكون على غير حق لأجل تأسيس إيمانه على أسس ثابتة لا تقليد
فيها ولا ببغاوية ولا قرودية ولا خضوع فيها لأي سلطان سوى سلطان البرهان.
3
ـ كما قال سبحانه : „ إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم
إليه يرجعون”. حصر الإستماع ( وهو إستماع الفؤاد هنا وليس إستماع الأذن لأن
إستماع الأذن لا يند حتى عن الأحمرة والجواميس ) هنا مدخلا أوحد للإستجابة
يعني أن الإنسان حر حرية كاملة مطلقة في إصاخة سمعه بفؤاده لفهم الإيمان
والإسلام وما يليهما. وهل يمكن عضل إنسان عن الإستماع بفؤاده حتى لو
أكرهناه على الإستماع بأذنه؟ والأبلغ من ذلك كله أنه عقب على ذلك بأن
الموتى يبعثهم الله .. في إشارة بليغة جدا إلى أن الموت الحقيقي هو موت
حاسة السمع من لدن الفؤاد بسبب أن السمع مدخل من مداخل الإيمان وكل إنسان
حر في إصاخة سمعه أو إغلاق منافذه.أما ما جعله ـ
إجتهادا ليس إلا ـ بعض القراء وقفا لازما ( أي على كلمة يسمعون) فإنما لعدم
الوقف على كلمة ( والموتى ) وقفا إختياريا لئلا يضطرب المعنى.
4
ـ قوله سبحانه: „ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فيلكفر”. وكذلك قوله : „ أفأنت
تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين “. وقوله : „ لست عليهم بمصيطر”. وآيات أخرى
كثيرة إذا جمعتها مع ما سبق ذكره وغيره كثير مما يضيق المجال هنا .. آيات
أخرى كثيرة لا تكاد تحصى تشكل أدلة جزئية ـ بلغة الأصوليين ـ لتكون في
النهاية دليلا كليا جامعا رسالته : الإنسان حر في قبول الإيمان أو الكفر به
حرية تامة كاملة مطلقة ولا نكير عليه في الدنيا أبدا البتة ولكنه يتحمل
مسؤوليته أمام ربه في الآخرة تحملا كاملا ( لا تزر وازرة وزر أخرى)وهي
المسؤولية التي يتحملها كل مخلوق وليست خاصة بالكافر.
كل
ذلك ـ عند الإستقراء العميق الهادئ ـ يبين أن الله سبحانه دعانا إلى
التحرر من إصر الطواغيت وأغلال الكفر التي تأسرنا أولا وإبتداء ومن بعد ذلك
ـ وليس قبله بحال ـ ينظر المرء في الدين الجديد ـ كلمة جديد ليست دقيقة
لأنه دين واحد في أصله وجذره ـ وهو حر من الأغلال والآصار التي كانت تأسره.
ولم يثبت التاريخ ولو مرة واحدة أن من كان ذاك شأنه إرتد إلى الكفر الذي
لا يعني ـ عند التحقيق ـ في الإسلام سوى الإكراه حتى لو إختلفت مصادر
الإكراه وكم من كافر يكره نفسه بنفسه على أثقال الكفر ولا يكرهه عليها أحد
فوق الأرض.
السيرة النبوية تؤيد أولوية الحرية على الشريعة.
1
ـ قبل تناول أمر السيرة النبوية فإن منهج التشريع الإسلامي ذاته يتجه في
الإتجاه ذاته أي أولوية الحرية على الشريعة. الأحرى والأدنى إلى الصواب أن
نقول أن ذلك المنهج هو الذي أسس ذلك الإتجاه. كيف ذاك؟ من خلال عكوفه على
إمتداد ثلاثة عشر عاما كاملة معالجا لما سمي فيما بعد قضايا العقيدة. وهل
قضايا العقيدة الإسلامية غير قضايا الحرية بتعبيرنا المعاصر؟ أنظر إلى
عقيدة القضاء والقدر في الإسلام لتلفى أن عقيدة القضاء والقدر في الإسلام
هي ذاتها قضية الحرية بأكثر ما يمكن من تعبيراتها المعاصرة. مخ عقيدة
القضاء والقدر هي أن الإنسان مخلوق لخالق ومصنوع لصانع ومرزوق لرازق ولا
يعني ذلك سوى أنه مملوك لمالك ولا يعني أن تكون مملوكا بالكلية لمالك سوى
أنك عبد لمعبود. مخ عقيدة القضاء والقدر هي أن الإنسان
منح من الحرية لتدبير أمره في هذه الدنيا ما به يسعد ـ إن شاء ـ في الآخرة
أي في حياته الأبدية هناك. منح حرية التدين والإعتقاد والعمل وتحمل
المسؤولية والإنتماء إلى مجموعة من القيم الخلقية الكريمة التي ليست هي سوى
الإسلام في نهاية المطاف. ولكنه لم يمنح فيما عدا ذلك من الحرية ( من مثل
حرية الزمن الذي يعيش فيه والمكان الذي يولد فيه وإختيار أمه وأبيه بل حتى
إسمه ولونه ) وذلك لتذكيره بأن الله سبحانه هو القاهر فوق عباده أي يقهرهم
بإختيار ما يتصل بهم مما لا قبل لهم به ولا يدخل في صميم إهتماماتهم وليس
له تأثير على صناعة مستقبلهم من بعد الموت. أي أن الإكراه ذاته يخدم قضية
الحرية البشرية ولكن ذلك يتطلب عقلا إنسانيا لحسن إدراكه وليس غريزة
بهيمية. مخ عقيدة القضاء والقدر هي أن الإنسان مسؤول عن أقواله وأفعاله
ومعتقداته مسؤولية كاملة كلما كان حرا بالغا عاقلا. هل هناك أبلغ مما قرره
الفقهاء من أن الحرية شرط من شروط التكليف حتى قالوا : العقل مناط التكليف
وترجمتها المعاصرة إن شئت بلاغا في الفهم : الحرية مناط التكليف. وجوانب
أخرى من عقيدة القضاء والقدر يضيق عنها المجال هنا. والأمر ذاته ـ مع تفاوت
وإختلاف ـ ينسحب على بقية معاقد العقيدة الإسلامية : الإيمان بالرسل مثلا
منوط بصحة الرواية عنهم وبهم لمن لم يشاهدهم ويشاهد معجزاتهم. الإيمان
بالكتب مثلا منوط بفحصها وفهمها حتى أن الإسلام قرر أن من لم تبلغه دعوة
الإسلام نقية صافية صحيحة وهو في حال مقبول ومعقول لإستقبالها ( بلوغ وحرية
وعقل ) لا يعذب ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا). بل الإيمان بالله نفسه
تعالى منوط بمثل ذلك. ألا ترى كيف سأل موسى عليه السلام ربه : „ قال رب
أرني أنظر إليك”. ألا ترى كيف سأل إبراهيم عليه السلام سؤال شبيها : „ رب
أرني كيف تحيي الموتى “. هل نهرهما سبحانه؟ كلا. بل رحب بسؤاليهما فإستجاب
للثاني لأن ذلك ممكن ولم يستجب للأول إلا بقدر ما يزداد إيمانا ويقينا لأن
رؤيته سبحانه لا يطيقها بشر في الدنيا ولكن عندما يخلقنا سبحانه يوم
القيامة ـ سيما أهل الجنة ـ خلقا آخر يمكن ذلك ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها
ناظرة) وإن كان الأمر فيه خلاف ولا حاجة لنا بدعوة مثل تلك الخلافات ولنا
من التحديات العقدية الجديدة المعاصرة ما يكفينا.
لم تأخر التشريع ثلاثة عشر عاما كاملة إذن.
ليس
صحيحا أن ذلك كله مرتهن للفترة المكية التي لم تطق أن يزاحم فيها الإعتقاد
تشريع. ولكن الأدق من ذلك والأكثر صحة هو أن التشريع تأخر كل تلك المدة
لأن الناس في مكة يومئذ ليس لهم حرية تنزيل التشريع في حياتهم لو نزل عليهم
تشريع. التشريع ـ وهو القانون العملي بتعبيرنا المعاصر ـ له شروط منها
بداية وقبل كل شيء : شرط الحرية. أي حرية المسلم وحقه فوق الأرض لمزاولة ما
إختاره من مقتضيات عقدية.أرأيت كيف أن التشريع بدأ بالتنزل من أول يوم
إستعاد فيه الناس حرياتهم وحقوقهم أي مباشرة من بعد الهجرة النبوية الأخيرة
من مكة إلى المدينة المنورة. ذلك هو معنى أن الحرية مناط التكليف. تحمل
العقيدة وحده لا يكفي لأن العقيدة محلها العقل والقلب ونقصان الحرية فيها
أو إنعدامها بالكلية ليس له تأثير كبير جدا سيما مع التضحيات والمجاهدات
وإستخدام التقيات ( إلا أن تتقوا منهم تقاة) و ( إن عادوا فعد). أما تحمل
مقتضيات العقيدة ـ أي الشريعة ـ فلا بد للحرية فيه لأن تحمل التشريع عمل بل
هو عمل جماعة وهي جماعة لها خصوم فوق الأرض وأعداء فضلا عما تنتجه الأيام
ذاتها من إبتلاءات وما يتطلبه ذلك من معالجات.
ولا
تصلح الصلاة هنا دليلا مضادا أولا بسبب أنها تأخرت هي نفسها حتى ثمانية
عشر شهرا قبل إستخلاص المسلمين لحرياتهم وحقوقهم في الحياة بدينهم بالكامل
في إثر التحصن بالهجرة وثانيا لأن الصلاة أدنى إلى العقيدة منها إلى
الشريعة بسبب طابعها الشخصي أو الخاص فضلا عن كثرة الرخص فيها تطهرا وأداء
للمقيم والمسافر والخائف والفذ والمرأة وليس أدل على ذلك من صلاة الجماعة
لم تكن مفروضة في مكة بأي معنى من معاني الفرض ولم تكن هناك صلاة جمعة فضلا
عن الصلوات الأخرى التي لم يكن مناسبا لها سوى مناخ المدينة بسبب الحريات
والحقوق وإستخلاص القوة التي تحمي كل ذلك.
خير مثال لذلك : صلح الحديبية.
صلح
الحديبية على شروطه المجحفة جدا في حق المسلمين ـ بمثل ما رأى الصحابة ذلك
سيما الفاروق عمر ـ أثبتت الأيام ـ بعد عامين فحسب أي خمس زمن المعاهدة
التي كان من المفترض أن تعمر عشر سنوات كاملات بين قريش والمسلمين ـ أن
مطلبه الأوكد الأول هو : الحرية للإسلام والمسلمين. الحرية لهم في مزاولة
حقهم في إعتناق الإسلام دون إكراه من قريش. أي إعترف للإسلام لأول مرة بأنه
معطى جغرافي سياسي ديني واقع فوق الأرض وله حرية الوجود. وذلك هو الذي
أخرج للدنيا حركة أبي بصير المقاومة ( الخارجة عن قانون قريش) وما إلتحق
بها من المستضعفين وما أدى ذلك إلى نشوء إمارة أو دويلة في منزلة بين
المنزلتين : فلا هي تنتمي لقريش بسبب إختلاف العقيدة من جهة وبسبب الخروج
عنها من جهة أخرى ولا هي تنتمي لأمة الإسلام إنتماء وطنيا جغرافيا بسبب
معاهدة صلح الحديبية. المعنى السياسي هو : إستعصاء حركة أبي بصير ومن لحق
به عن الضبط القرشي الصارم أو فتح صلح الحديبية لأفاق الحرية أمام الناس
بعد ذهاب ريح قريش التي كانوا يهابونها.
لم
تكن رسالة الحديبية إذن سوى رسالة بث الحرية أمام الناس ودوح الحق بين
أيديهم ليؤمن من شاء عن بينة وسلطان وإرادة حرة ويكفر من شاء عن بينة كذلك.
ما هي فلسفة الحرية في الإسلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..