بتاريخ : الاربعاء, 13/7/2011 الساعة 12:29 صباحا
الجميع يعرف هذا الرجل المسمى بابراهيم السكران .. فهو باحث وموسوعي .. وقد اجتاحته التقلبات كثيراً حتى رسى أخيراً في الضفة المتشددة والأيام القادمة ستكشف عن منزلقات فكرية خطيرة في
مستقبل هذا الرجل .. كان إبراهيم السكران قبل سنوات قليلة يتهم المناهج التعليمية في المملكة بأنها منبع للإرهاب والتفجير والقتل .. وكان يتهم سيد قطب والإمام حسن البنا بأنهما منبعا العنف .. واليوم يقوم بخبث وقلة حياء بالإساءة والاستعداء لكثير من المفكرين والدعاة الإسلاميين أمثال الدكتور عبدالله النفيسي والشيخ الدكتور سلمان العودة والشيخ الدكتور حاكم المطيري والشيخ مهنا الحبيل والعلامة عبدالله بن بيه وغيرهم كثير .. وقد ذكر لي غير واحد من أهل العلم أسأله عن السكران فيقول أن هذا يعاني من اختلال فكري واضطراب منهجي لاسيما وأنه في مقتبل عمره فهذا سيؤدي إلى انتكاسات متتالية سيراها القارئ .. وسأقدم هنا بسلسلة مقالات عن هذا الرجل تنبئ عن حجم الخطر الذي ربما يحمله هذا الرجل للمتلقي وخاصة الشاب الصحوي الذي ألف الحماسة والتعبئة العاطفية والانبهار بأسلوب وثقافة المتحدث أو الكاتب .. هنا سنعري فكر إبراهيم السكران السابق وفكره الحاضر وسنستشرف فكره في المستقبل والذي أجزم أنه سيكون صدمة وعار على مشهدنا الثقافي .. ويجدر بالقارئ الكريم ملاحظة الخط العريض لمنهج ومقولات إبراهيم السكران في السابق ليعرف سر وتخبط هذا الرجل وامتداد سقمه الفكري حتى اليوم .. وستكون الردود في هذا الموضوع عامرة بالمقالات التي كتبت عن هذا الرجل فتابعها أخي القارئ الكريم ..
****************************************
المقال الأول
هو كما المثقفين الإسلاميين ملم بتراث ابن تيمية، والسكران أيضا مهتم كثيرا بالقراءات الحديثة للتراث الإسلامي وخصوصا المغاربية منها. بدأ بالعروي والجابري ويفوت وابن سعيد ووقيدي والصغير، وانتهاء بمشروع طه عبدالرحمن الذي بورك إسلاميا أكثر من سابقيه. بدأ السكران يكتب في منتدى “الوسطية” باسمه وأحيانا باسم مستعار، وكتب بمنتدى محاور باسم مستعار يعرفه أكثر أصدقائه، لكن نجمه لمع كثيرا بعد ورقته الشهيرة في «الحوار الوطني الأول بمكة المكرمة» عن المناهج التعليمية في المملكة العربية السعودية.
في مؤتمر الحوار الوطني الذي عقد بمكة (2004)، فجر السكران في تلك الورقة قنبلة نقدية خلص فيها إلى أن المناهج الدينية لا تخلو من بذور ربما ساهمت في زراعة التيارات التكفيرية في السعودية، بل إن السكران حذر صراحة: «من الحضور البارز والمركز الذي يتمتع بهما مفهومي الولاء والبراء في المناهج السعودية». ونبه إلى أن «هناك تقاربا شديدا بين مضامين المناهج الدينية ومنطلقات الفكر الجهادي» معولا ذلك الى ما يسميه وحدة المصادر ممثلة بالدرر السنية ومجموعة التوحيد والأخوين قطب.
لم تكن مفاجأة الورقة – في تقديري – في محتواها، وان كان غاية في الأهمية، المفاجأة الأبرز أن نقد المناهج التعليمية قامت به هذه المرة شخصيتين إسلاميتين معروفتين، لمنطقة يعتبرها الإسلاميين من مناطق النفوذ التقليدية، أعني المؤسسة التعليمية. الذي حدث فيما بعد أن الردود الحادة والنقد الهجومي من قبل التيار الإسلامي حدا بأصحاب الشأن – وتحديدا السكران – إلى تقديم أكثر من توضيح في منابر إسلامية مثل منتدى إسلام اليوم، كانت التوضيحات تنادي أن إصلاح المناهج حاجة وطنية ماسة ولا علاقة لها بالأجنبي.
الأستاذ السكران استمر أيضا في نقد ما يسميه “التصعيد الديني” وألّف في ذلك كتابا سماه “الخطاب التعبوي: تحليل مقارن لميكانيزمات التصعيد الديني، دراسة الحالة السعودية” – دار نشر الأبحاث الفقهية والتنموية 2004 .(390 صفحة)، ولا أعرف إن كان نشره بشكل واسع.
في هذا الكتاب حذر من ما سماه “مآلات التصعيد الديني” منطلقا من أن كل أصل شرعي فيه قدر محكم وقدر متشابه وأن كليات الدين هي ما ورد في حديث جبريل الشهير. وأن الشارع لم يجعل من خالف الصواب ضالا، بل مجتهد مأجور.
ونبه السكران في الباب الأول من الكتاب إلى أن خطورة التصعيد الديني تأتي من تمزيق النسيج الاجتماعي في المجتمع المسلم مذكرا بما حدث في التجربة التاريخية الإسلامية من تحول واضح من فقه الصحابة إلى خطاب ديني مختلف جوهره التصعيد المذهبي الذي بدوره يمتص الاسترخاء الاجتماعي.
وبعد استقراء طويل ومفصل عن الآراء والاتجاهات في إصلاح المناهج، مرورا بالقصيبي والمالكي والقاسم، خلص السكران الى أنه لم يجد مفكرا سعوديا واحدا يطرح البديل العلماني في النظام التعليمي السعودي، وأن كافة الطروحات تدور حول ضخ المفاهيم القرآنية المتعلقة بالتسامح والحوار والاعتدال ونحوه.
وفي الباب الثاني الذي عنونه بـ “ميكانيزمات الخطاب الجهادي” يقرر السكران بعد مراجعة تاريخية طويلة لنشأة التنظيم السري لجماعة الأخوان المسلمين إلى أن الملهم الأساسي لمفهوم العنف لدى الأخوان المسلمين هو الإمام البنا نفسه، وربما في هذه الجزئية تماثل مع طرح عتاة العلمانية المصرية كفرج فوده الذي يصر عادة أن خطاب العنف بدأ من البنا نفسه وليس من السندي – قائد التنظيم السري – وقبل معالم سيد (قطب). إلا انه – أعني السكران – يستدرك لاحقا أن ذلك لم يكن انبعاثا داخليا بقدر ما هو تفاعل الثقافة السياسية عند البنا مع موجة العصر التي كانت تدفع حينها إلى تمجيد فكرة العنف.
أما بخصوص السيد قطب فقد خلص السكران في محاولته لفهم ابيستيما الخطاب القطبي (والتعبير للسكران الذي يعشق المصطلحات الأجنبية شبه المعرّبة) إلى أن الخصائص النفسية في شخصية سيد وتكوينه والظروف الاجتماعية التي واجهته هي التي أفرزت المحتوى الفكري للخطاب القطبي الذي نعرفه. وفي سبيل ذلك يستشهد السكران بمحطات كثيرة في حياة قطب، بداية من نشأته في أسرة تتمتع بالإصرار اللامحدود.. ربما تلطيفا لعبارة العصاب العنادي. وفي هذا السياق يستشهد بقصة شقيقته أمينه قطب الشهيرة مع كمال السنانيري. ثم هيامه المفرط في محبوبته الأولى. وتطرفه في نقد شوقي، وغلوه في التماهي مع مدرسة العقاد ويقابل ذلك مغالاة في سباب الرافعي وتلاميذه بما فيهم الشيخ الطنطاوي رحمهم الله جميعا. ليخلص السكران إلى أن مشكلة السيد قطب هي في تكوينه النفسي الذي يفتقد إلى «نزعة الموازنة» وينحو دوما إلى التطرف باتجاه «الأحكام الجذرية». وبذلك اتسمت رؤاه «بالأحكام المغالية» في جميع الإتجاهات.
ويذكر السكران بجوانب أخرى في شخصية سيد ساهمت في إنتاج خطابه المغالي، مثل «الاعتداد المفرط بالذات».. حتى درجة الغرور. مما جعله «ساخطا باستمرار» غير مطيق «لمرارة التجاهل».
وبعد هذه المقدمات في شرح حالة اللا توازن النفسي في شخصية سيد، يميل السكران إلى رؤية الدكتور حافظ ذياب، أن هذه النزعة إلى الحل الجذري هي التي سببت له الخلط المعرفي في إسقاط نموذجي ابن تيمية والتتار، والمودودي والهندوس، وكانا مشروعين استئصاليين – على الحالة العربية الناصرية.
فالتصعيد التكفيري والسياسي الذي مارسه ابن تيمية والمودودي هو عمل مفهوم. لكن الخطورة في نقله الى المجال العربي، فهناك فارق جوهري بين نموذجي (ابن تيمية – التتار) و (المودودي – الهندوس) في مقابل (سيد قطب – الناصرية). ويُجْهِز السكران في بحثه على بقية عناصر خطاب سيد قطب مثل مفهوم «الجاهلية» و«الحاكمية» و«المفاصلة» و«العزلة الشعورية»، وكذلك مفاهيم «حركية العقيدة» و«الاستعلاء» و«مفهوم العصبة المؤمنة»، معتبرا أن سيدا، وبسبب ضعف تكوينه الفقهي، قد تجاوز كل المعايير الشرعية المحددة لتلك المفاهيم، وأن كشفه لهذا التصعيد القطبي يؤدي إلى تهلل كل منظومة الخطاب بكامله.
أن يكن هذا رأي السكران في حسن البنا و سيد قطب، فليس من الصعب التنبؤ بآرائه في قادة الجماعات الإسلامية المسلحة. فكرم زهدي وعبدالسلام فرج والظواهري وغيرهم، هم شباب جلهم غير متخصصين بالشريعة، هرولوا – نتيجة للتصعيد الديني الإخواني ثم القطبي – إلى إسقاطات مرتجلة لاجتهادات أئمة الدعوة النجدية متكئين في ذلك على مجموعة التوحيد وفتاوى ابن عتيق وقليلا ما تجاوزوها إلى الفتاوى الكبرى لابن تيمية – كما في حالة عبدالسلام فرج.
وينتقل الأستاذ السكران إلى «مكينزمات» التصعيد الديني المحلي. وهو في تحليله للخطاب الديني للصحوة الإسلامية في السعودية يكرر المقولة المتداولة عند غيره من نقاد الصحوة الإسلامية، من أن التحاما بين الخطاب القطبي ورسائل أئمة الدعوة النجدية هو المغذي الرئيس للتصعيد الديني في السعودية. مستشهدا بذلك بكتابات ورسائل عناصر الخطاب الجهادي في السعودية وخصوصا المنظر الأبرز للقاعدة، يوسف العييري.
ويقف السكران عند خطاب العييري ملمحا بوضوح إلى ارتكازه شبه الكلي على مجموعة التوحيد والدرر السَنية وفتاوى إبن إبراهيم. والملفت أن السكران لم يتوقف كثيرا عند رسائل العييري المعروفة إلى أحد أشهر رموز الصحوة.
في مقاله الأخيرة في مجلة العصر عن مآلات الخطاب المدني (26 فصلا) ثم ما تبعه من ردود لنواف القديمي ومنصور الهجلة والدمشقي، ثم في مقالتين شارحتين للمتن الأول يدشن السكران نفسه بصورة جديدة تماما.
والدراسة وما تبعها من نقاشات جديرة بالقراءة للمهتمين بالخطاب الإسلامي السعودي. صحيح أن الراصد للحراك الثقافي السعودي يتعود على المفاجآت دائما فهناك تحولات دائما من تيارات إلى أخرى. الكل يذكر انتقال الشريان إلى مجلة الدعوة الإسلامية في الثمانينيات إبان عصر المد الصحوي، وحديثا حظيت تجربة الأصدقاء الثلاثة الذايدي والنقيدان وابن بجاد بمتابعة من قبل صحافيين أجانب. وعلى الرغم أن تلك التجربة لم تقرأ قراءة نقدية رصينة بعد، لكنها و حسب قراءتي للقاء النقيدان مع الوسطية – استمرت ما يقرب من السنتين. كل هذا رغم أن الثلاثة لم نتعود في خطاباتهم على اللباس الفلسفي و«الإبيستمولوجي» كما في حالة السكران، قبل هؤلاء جميعا كان البليهي: خريج الشريعة من جامعة الإمام محمد بن سعود، وهو أول سعودي يختار “سيد قطب” موضوعا لرسالته الماجستير. ومن المؤكد أن مشروع بليهي اليوم ليس بليهي الأمس بل هو يتقصد هدم بليهي السبعينات لكن هذا التحول استغرق أكثر من عقدين.
لكن ما لم يتعود عليه المراقب هو التحول الكامل، وفي غضون أشهر، من خطاب نقدي صارم للحركة الإسلامية إلى خطاب متوتر وتخويني تجاه نقاد الحركات الإسلامية.
الملفت أن اللهجة التخوينية والوصف بالانتهازية لكل نقاد الحركات الإسلامية كانت المشترك الوحيد التي أتفق عليها السكران ومنتقدوه من أصحاب الرؤية الإسلامية المنفتحة كما في حالة القديمي. فكلاهما يعيش نفس حالة التوتر والتأزم النفسي تجاه الآخر المختلف. ومن تابع الردود وجد حرارة العناق عند هذه المسألة.
في تقديري لم يبذل الصديق الشيخ السكران في مقالته الأخيرة في مجلة العصر المعنونة (مآلات الخطاب المدني) جهدا فكريا خلاقا. لقد كان الهيكل العام والتجييش الآسر، مناظرا تماما في أحد فصول كتابه (الخطاب التعبوي) المعنون (مآلات التصعيد الديني). أما المحتوى فهو خط رجعة وكأنك تشاهد فيلما أثناء طويه لنقطة البداية.
هجومه على القراءات النقدية المغاربية للتراث ارتكز فيه تماما على طه عبدالرحمن مستخدما ذات الاصطلاحات، كما ارتكز في نقده للغرب على “العلمانية الكلية” للمسيري.
أما البعد السلفي لدراسته فقد جعل من ابن تيمية مسطرة للحق متناسيا أن رؤيته ودراساته الاقتصادية الإسلامية في كُتيّبه (الأسهم المختلطة) قائمة على هدم قول إبن تيمية في حرمة التورق التي روجع فيها مرارا كما يروي تلميذه ابن القيم وما زاده ذلك إلا شدة في تحريمها.
لعل الكاتب فضّل أن يعود “بلدوزرا” يهد كل ما بناه سلفا. وكل هذا حق مشروع لولا السرعة الخطيرة التي يحرق فيه السكران المراحل. فمن “نقد المناهج” 2004، عندما كان ” التغيير والإصلاح ” موضة جامحة. إلى “نقد الخطاب التعبوي” 2004، بما حواه من “مآلات التصعيد الديني” وقت أن كانت الغلظة تجاه الحركات الإسلامية هي أشهى المدونات. إلى “الأسهم المختلطة” إبان التفاؤلات البورصية. إلى ما نقرأه اليوم في “مآلات الخطاب المدني”.
هذه الحوليات الفكرية تنذر أن ما قاله السكران عن قطب من ميل فطري للحلول الجذرية، إلى آخر ما قاله عن سيد، ربما يسري عليه هو أيضا (أعني السكران).
والخوف الأكبر أننا نتعامل مع موسميات فكرية لذهن متقد وموسوعي لم نقترب بعد من نسخته الأخيرة.
يتبع (المقال الثاني)
أبو مصعب العاقولي على twitter
aboo_mos3ab@
------------------------------------------
المقال الثاني
منهج التزييف عند إبراهيم السكران / سلطان العامر
المدخل
(مناقشة علمية)… (والرهان على العلم)… (وسنتجاوز ذلك لإختبار مدى علمية هذا النقد)… هذا التلويح بالعلم الذي نجده مبثوثا في كثير من كتابات إبراهيم السكران الممتدة من (مآلات الخطاب المدني) وحتى (ذرائع الإصلاحيين) هو الذي سأحاول مناقشته في هذه المقالة. فأنا، ومنذ (مآلات الخطاب المدني) لاحظت أمرا لم ينفك عن التنامي والتضخّم في كتابات السكران حتى أصبح هو الطاغي والمسيطر، عنيت (منهج التزييف) في تأكيد نتائج قد قررت مسبقا تحت مسمى (العلم) و(الموضوعية).
لن أخوض في تفصيل تعريفات مفهوم العلمية وشرح الخلاف حوله، بل سأنطلق مباشرة في هذه المقالة من أبسط شروط العلمية والموضوعية، وهي الاستسلام لنتائج المنهج المستخدم بغض النظر عن ماهية هذا المنهج… فالباحث يكون علميا وموضوعيا فقط إذا استسلم لنتائج المنهج الذي ارتضاه للبحث. وأضع هذا الشرط البسيط للعلمية مقابلا (لمنهج التزييف) الذي يستخدمه السكران وهو عبارة عن تطويع للأدوات البحثية والمنهجية من أجل تقرير نتائج مقررة مسبقا.
وكما ذكرت مسبقا، يمكن ملاحظة بداية تشكل هذا المنهج التزييفي لدى السكران منذ (مآلات الخطاب المدني) ففي هذا البحث وفي إحدى فقراته المعنونة بـ(الافتتان بالقوة المادية لخصوم النبوات) ومن أجل أن يؤكد السكران دعواه العامة بأن (جوهر الصراع القرآني أساسا بين المظاهر المادية والمبدأ الديني) وأن (افتتان الناس بالقوة المادية يخلب ألبابهم ويعشي أبصارهم ويصرفهم عن الانصياع والاستسلام للوحي)، راح يقرأ سير الانبياء من هذه الزاوية بأنها صراع بين المفتونين بالقوى المادية وبين الانبياء المحرومين منها. وفي معرض قراءته هذه، وتحديدا عندما وصل إلى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم قال التالي:
“وبكل صراحة واجهوه (= يقصد كفار قريش، واجهو الرسول) بأنه لا يملك (ثروة مادية) يستحق بها أن يتبعوه كما ساق تعالى احتجاجهم في سورة الفرقان بقولهم: (أو يلقى إليه كنز، أو تكون له جنة يأكل منها) وبعد هذه الآية مباشرة يعقب سبحانه وتعالى علي هذا الاحتجاج المادي الرخيص بكونه لا يعجزه سبحانه ذلك ولكنه أراد امتحانهم واختبارهم فقال سبحانه وتعالى: (تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا) “ أ.هـ
هنا تحديدا، يستطيع أي منا العودة إلى آيات سورة الفرقان الأصلية، لينكشف له بسهولة حجم (التزييف) المكثف الموجود في هذا الاستدلال. يقول الله تعالى: (وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل عليه ملك فيكون معه نذيرا، أو يلقى إليه كنز، أو تكون له جنّة يأكل منها، وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا). الآن بعد استعادة السياق كاملا: هل يمكن فهم احتجاجات قريش بأنها احتجاجات على كون الرسول لا يملك (ثروة مادية)؟ الجواب طبعا لا. فأي قارئ للعربية يستطيع استنباط أن منشأ الاعتراضات هنا هو أن الرسول بشر عادي (يأكل الطعام ويمشي في الأسواق)، فأي شيء يميزه حتى يكون نبيا؟ فلو كان معه ملك أو نزل عليه كنز أو كانت له جنة لأمكن حينها تصديق ادعاؤه النبوة، هذا هو جوهر احتجاج كفار قريش ومصدر مطالباتهم المتنوعة للرسول: تارة كنز وتارة جنة وتارة أن يصعد للسماء وأن ينزل منها بكتاب وتارة وأن يفجر من الأرض ينبوعا وتارة أن يأتيهم بالملائكة… وغيرها من المطالبات التي من خلالها أراد كفار قريش تأكيد مسألة واحدة، وهي (عجز) الرسول عن أن يكون أكثر من بشر عادي، وبالتالي يخلصون إلى نتيجة مفادها أنه ليس إلا (رجل مسحور). هكذا هو السياق الذي وردت فيه هذه الاحتجاجات والتي هي أبعد ما يكون عن الاعتراض على عدم امتلاك الرسول للثروة المادية لأن الرسول أصلا كان غنيا (ووجدك عائلا فأغنى)، أو على الأقل لم يكن فقيرا حتى وفاة زوجته خديجة رضي الله عنها.
من مثل هذا النوع من (الاستدلالات المزيفة) المبثوثة في أرجاء (مآلات الخطاب المدني)، ابتدأ السكران طريقه نحو تشكيل منهجه التزييفي الذي عبر تغليفه بمسميات (العلمية) و(الموضوعية) راح يؤلف كتاباته ومقالاته المتنوعة، والتي بقليل من الرؤية النقدية يمكن تكشف ملامح هذا المنهج التزييفي، وهي الملامح التي سنجمل تناولها في الفقرة القادمة.
ملامح المنهج
بقراءة نقدية لغالبية أدبيات الخطاب السكراني، نستطيع تكشّف ملامح المنهج الثاوي خلفها، المنهج الذي ندعوه هنا (تزييفي) لأنه يتعامل مع الأدوات البحثية وكأنها حلي، يتزين بها، دون الاستسلام لها ذلك الاستسلام العلمي والموضوعي… فالنتيجة في هذا الخطاب مقررة مسبقا. وأبرز ملامح هذا المنهج هي كالتالي:
أ-مصارعة الأشباح.
فالذي يطالع ما يكتبه السكران، يجده محاربا لا يمل عن مصارعة مخالفيه الذين يكتفي بتصنيفهم وإيراد مقولاتهم دون التعريف بهم ودون توثيق هذه المقولات وهو المولع بتوثيق كافة الاقتباسات الأخرى في أبحاثه. وهذه الطريقة تتيح للسكران الهرب من تهمة (إساءة الفهم) و(التجني) و(التشفي) لأن القارئ لا يمكنه أبدا معرفة من هو المنقود حتى يستطيع التأكد والتثبت من مدى فهم السكران لمقولاته ومدى أمانته في نقلها- خصوصا أننا جربنا مثل هذا الفهم المغلوط وهذا النقل مع القرآن نفسه. وفي نفس الوقت الذي تتيح له هذه الطريقة هذا الهروب، فهي كذلك تعطيه الحرية في التفنن في توليد المقولات على لسان هذا المنقود… بحيث يقوم بإيراد عدد من المقولات على ألسنة هؤلاء المنقودين ويجيب عنها ويفندها… دون أن يعلم القارئ: هل حقا قال هؤلاء المنقودون ما يقولهم إياه السكران؟ وهل هذه فقط (أقوى) حججهم واستدلالاتهم؟ كل هذا لا يستطيع القارئ معرفته، لأن الناقد- الذي هو السكران- حريص أشد الحرص على إخفاء منقوده. فمن هم (االمناوئون للخطاب الشرعي)؟ ومن هم (المنتسبون إلى البحث الشرعي)؟ ومن هم (الإصلاحيون)؟
ب-(ما في الجبّة إلا الله)
لا توجد مبالغة في كتابات السكران أشد من المبالغة في ادعائه تمثيل (أهل السنة والجماعة)، ولا توجد طرافة أشد من طرفة إخراجه (الديمقراطيين والاصلاحيين والفكريين ومتفقهة التغريب وادعياء الوسطية وأدعياء الاصلاح السياسي والوطنيين) من دائرة أهل السنة والجماعة. ففي كل مقالة يكتبها سكران، يخرج فريقا من المسلمين من السنة إلى البدعة، ومع كل ورقة ينشرها تضيق دائرة السنة شيئا فشيئا، حتى إني لأخشى أن يأتي اليوم الذي لا يستوعب قطرها أحدا سوى السكران نفسه. هذا الإغراٍق في ادعاء التمثيل المساوق لهذا الشغف بإخراج الآخرين من دائرة أهل السنة، لا يتأتى إلا عبر الانطلاق من تمويه أساسي يستخدمه السكران، ألا وهو (التماهي مع الشريعة). فكما الحلولية القديمة التي ادعى أفرادها التوحد مع الله والفناء فيه، نجد السكران في كتاباته يطرح آراءه واجتهاداته الشخصية على أنها هي الشريعة وهي الوحي وهي مذهب أهل السنة الجماعة. فإن كان الصوفيّ القديم قد ذهبت بعقله سكرة الوجد وحب الإله ليدعي دعاواه المجنونة، فإنه التزييف وحده الذي حدا بالسكران للتماهي مع الشريعة والوحي وعدم الفصل بين (اجتهاداته) وبينها.
جـ-القرص/السحر.
ما هو السحر في كتابات السكران؟
يمكن لأي شخص أن يقرأ (احتجاجات المناوئين للخطاب الشرعي) أو (من اخترع لفظ الاختلاط) ليجد نفسه مأسورا بهذا الكم الهائل من العناوين والدراسات والأبحاث المتنوعة والاقتباسات العديدة من المراجع المتنوعة… وأن يجرفه بسرعة هذا التيار الهائل من (التوثيق) ليتقبل ما يمرره السكران من دعاوى ومقولات. هذا باختصار سحر السكران، مجموعة من الأقراص المدمجة يحسن البحث فيها ويرص نتائجها المنوعة بطريقة أخاذة ليمرر من خلالها مقولاته وآراءه… وهذا (التوثيق) و(التعديد) و(الحشد) هو ما يسميه السكران علمية… وسيتبين في النماذج التالية أمثلة على هذا التوظيف التزييفي لمفهوم العلمية عبر الاتكاء على هذه الأقراص المدمجة التي يسرت لنا التقنية الحديثة خلالها سهولة البحث في نصوص عدد هائل من الكتب المتنوعة.
د-المانوية.
السكران مغرم بالثنائيات: (طريق المادة/طريق الإيمان)، (المدنية/العبودية)، (الاحتساب الكفائي/تبعيض الوحي)، (معظمة السلف/مزدري السلف)، (المحور الموضوعي/المحور الفني…إلخ). وكان نواف القديمي في (المدنية الموبوءة) قد أثار هذه النقطة على بحثه (مآلات الخطاب المدني)… فما كان من السكران في تعقيبه على نواف إلا أن ادعى (أن المقابلة بين الثنائيات منهج قرآني نبوي) في عادته الحلولية في نسبة آرائه واجتهاداته إلى الوحي مباشرة.
ولإثبات دعواه الحلولية يستدل السكران بآية (من كان يريد حرث الاخرة نزد له في حرثه ما نشاء ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها) كدليل على المقابلة بين الدنيا/الآخرة، دون أن يلتفت لآيات كثيرة أخرى لا تعارض بين الدنيا والآخرة كـ(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا) وآية (ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب) وآية (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك) وهذه الآية تنقل دعاء موسى عليه السلام عندما جمع سبعين من خيرة قومه ليطلب عفو الله عما فعل السفهاء منهم.
ويستدل بآية (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم في الآخرة هم غافلون) على المقابلة بين العلم المدني/العلم الإلهي. وهذا تحميل للآية ما لا تحتمل: فالآية تعيب الاكتفاء بعلم الظاهر من الحياة الدنيا دون العلم النافع في الآخرة، أي أنها ضمنيا تثني على من يجمع الأمرين، فكيف تكون دليلا على المقابلة بينهما؟
ويتابع السكران استدلالاته التي لا علاقة لها بالمدلول، فهو يعتبر أي آية تقابل بين أمرين.. بين الاستقامة والانحراف وبين الحق والباطل، أن هذا دليل على أن (المقابلة بين الثنائيات منهج قرآني نبوي). وهذه سفسطة، لأن كافة الأدلة التي أوردها هي أدلة تقابل بين نقيضين، وإثبات أن النقيضين يتقابلان، أمر معروف ليس بحاجة لإستدلال قرآني.
مشكلة السكران هي أنه يجعل من غير المتناقضات: متناقضات: كوضعه للمدنية كنقيض للعبودية، أو الدنيا كنقيض للآخرة… رغم أنه بالإمكان الجمع بينهما، بل إن غالب الآيات التي يستدل بها السكران على اعتبار الدنيا مقابلة للآخرة، هي آيات تعيب الاكتفاء بالدنيا دون الالتفات للآخرة…. أي أنها ليست ضد الاهتمام بالدنيا، بل هي ضد الاكتفاء بها.
والمشكلة الأخرى هي اختصار الخيارات المتعددة بخيارين اثنين… فالناشط السياسي إما (مبعض للوحي) أو (محتسب كفائي)… إما أبيض أو أسود، ولا وجود لكافة ألوان الطيف الأخرى। وهذه الطريقة يلجأ إليها من يريد إغلاق باب الحوار، وتحويله إلى نوع من المفاصلة على طريقة جورج بوش: أنت معنا (حيث كل الحق) أم ضدنا(حيث كل الباطل)؟
هـ-غزالي جديد؟
عندما نتذكر أبا حامد الغزالي، فنحن نتذكر (حجة الإسلام) الذي كتب (تهافت الفلاسفة) و(فضائح الباطنية) وغيرها من الكتب التي تدافع عن (العقيدة). لكن، أيضا، عندما نتذكر أبا حامد، فنحن نتذكر الرجل الذي أدخل المفاهيم المنطقية والفلسفية والصوفية إلى العلوم الشرعية في كتب كثيرة كـ(إحياء علوم الدين) و(المستصفى) وغيرها. ولهذا قال عنه تلميذه ابن العربي (شيخنا أبو حامد ابتلع الفلاسفة وأراد أن يتقيأهم فما استطاع). ومثل الغزالي لكن في فضاء ديني مختلف نجد توما الإكويني أشهر المدافعين عن المسيحية، والذي حاول مقاومة التيار المتأثر بابن رشد، فكتب ضد ابن رشد ليعيد ادخاله من جديد عبر الباب الخلفي للكنيسة.
مثل هؤلاء – كما لاحظ أحد الأخوة- هو السكران الذي ابتلع ميشيل فوكو وأراد أن يتقيأه فما استطاع… فتجد في كتاباته إقحاما لمفاهيم حداثية ومابعد حداثية لعل أشهرها مفهوم (الخطاب) الذي يردده كثيرا عندما يتحدث عن النتاج الديني المعاصر كما في بحثه (احتجاجات المناوئين للخطاب الشرعي). وأنا في الحقيقة لا أعتقد أنه بالإمكان سلّ مفهوم الخطاب الفوكويّ عما يحيط به من إشكاليات الحقيقة وارتباطه بالقوّة وتشابكه مع السلطة وانبناؤه على الفروض الأساسية الغير مثبتة…إلخ، لا يمكن سلّه هكذا ومن ثم دسّه بسهولة في المجال الديني ووصفه بالشرعي، إن هذا العمل، لو أدرك (محامو العقيدة) خطره، لنال السكران النصيب الأكبر من الردود والانتقادات.
هكذا… بتحويل المنقود إلى شبح وإبعاده عن دائرة السنة والتحوّل إلى الممثل الحصري للسنة والتماهي مع النصوص المقدسة وإغلاق الحوار عبر اختصار الدنيا في لونين اثنين، بهذا المنهج التزييفي يعتمد السكران في كتاباته التي يدعوها (علمية) و(موضوعية)! هذا المنهج يمكن لكل من يملك أدنى نظرة نقدية أن يكتشفه ويستوضحه.
وسنقوم بإيراد نموذجين لتوضيح تهافت دعوى (العلمية) و(الموضوعية)، وأنها ليست سوى كتابات تزييفية… وهذان النموذجان (من اخترع لفظ الاختلاط) و (ذرائع الإصلاحيين).
النموذج الأول: من اخترع لفظ الاختلاط؟
ففي بحث (من اخترع لفظ الاختلاط) يقوم السكران بانتقاد مقولتين محددتين:
الأولى: وهي مقولة (المنتسبين إلى البحث الشرعي) ومفادها أن الاختلاط مصطلح غير معروف في مدونات الفقه التراثية.
أما المقولة الثانية: فهي مقولة (المنتسبين إلى البحث الفكري)، ومفادها أن الغرب المعاصر لا يعرف التعليم غير المختلط.
بعد تحديد المقولات دون نسبتهما إلى أصحابهما- كما هي عادة السكران- فنحن لا نعرف تحديدا من هم هؤلاء المنتسبون للبحث الشرعي وأولئك المنتسبون للبحث الفكري؟ لا نعرف: ما قالوا؟
وكيف قالوا؟
وبم استدلوا؟
وما مدى تحكّم السكران في انتقاء أجزاء من أقوالهم وترك أجزاء؟
كل هذا بحكم الغيب بالنسبة لنا كقراء… لكن الطريف في الأمر، أنه وعلي الرغم من إخفاء هوية المنقودين، وانتقاء المقولة المنقودة بعناية إلا أن السكران يفشل في نقدها.
ففي نقده للمقولة الأولى، عوّم المسألة، فالمقولة تتحدث عن (مصطلح الاختلاط)، عن كون الاختلاط مسألة تدرس بعينها، كمسائل الطهارة والمسح على الخفين والبيع والطلاق والديون وغيرها… فهل كان الاختلاط مصطلح شرعي يدل دلالة واضحة على منكر معروف مسبقا عند الفقهاء الأوائل؟ هذا السؤال الذي يقفز فوقه السكران ليخرج لنا – والفضل في ذلك طبعا للأقراص المدمجة- من مدونات التراث كل جملة ورد فيها لفظ (اختلط) و(يختلط) وكل اشتقاقات الجذر (خ ل ط) معتبرا أن مجرد وجود اللفظ بمعناه العام أمر كاف لتقرير أن (الاختلاط منكر شرعي نصت عليه كافة المذاهب الأربعة لأهل السنة والجماعة). بهذه الطريقة السكرانية، يمكن إثبات أن كل مصطلح حديث قد تم تناوله في السابق، بمجرد إيجاد إحدى اشتقاقات الجذر اللغوي بنفس المعنى العام للمصطلح، دون الاهتمام بهل كونه درس كمصطلح بعينه، أي كمسألة قائمة بذاتها.
باختصار: لا يستطيع السكران أن يورد تعريفا اصطلاحيا للاختلاط من أي من الكتب التراثية، مهما أشقى نفسه في البحث بين أقراصه المدمجة! ومن هنا تصبح النتيجة: صفر، فوجود اللفظ لا يعني أبدا أن المسألة مدروسة ومعروفة في كتب الفقه. والسكران في الاقتباسات المتعددة من الكتب التراثية المختلفة التي أوردها لم يثبت إلا ما أراد نقضه، فكون الاختلاط لم يرد إلا كلفظ عابر داخل مسائل السفر والقضاء وغيرها، يعني أنه لم يدرس كمسألة بعينها.
أنا هنا لست أنصر المقولة التي تقول (كونه لم يذكر في الكتب الأولى إذن فهو مباح)، بل أتعجب جدا من هذه الرغبة الغريبة في الاحتكام لمدونات الفقه… إذ أن السلفية المعاصرة لم تقم بعمل أفضل وأعظم من حربها الضروس ضد المذهبية، والرجوع المباشر لمصادر الوحي. لو كنت مكان السكران، لأجبت عن هذه المقولة التي تقول (إن الاختلاط غير معروف في الكتب الأولى) بأن هذا أمر طبيعي مثله مثل أحكام الصلاة في الطائرة وغيرها، لأن المجتمع القديم ليس كالمجتمع الحديث. ففي المجتمع القديم، مجتمع الشافعي وأحمد وغيرهم، المجتمع الزراعي التقليدي كانت مساحات الالتقاء بين الذكر والأنثى مساحات عابرة، في سوق، في سفر، في حج، عند المسجد، عند القاضي… وغيرها، ويمكن تكشف ذلك في أبيات الغزل فغالبا كان العاشق لا يجد حبيبته إلا في هذه الأماكن، التي كان الالتقاء فيها عابرا. لكن بمقابل انحسار هذه المساحات العامة، كانت الفضاءات الخاصة في المجتمعات التقليدية القديمة مأهولة بالاختلاط… فالبيت التقليدي القديم، كان يعيش فيه الأب وزوجته وابنائهما وابناء ابنائهما… وللجميع تخيل كيف كان الوضع في اوقات الاكل والاجتماع والمسامرة. ومع تغير الظروف العالمية، وبداية تشكل الدولة الحديثة القائمة على تقسيم العمل الغير معتمد على جنس محدد والمعتمدة على أجهزة بيرقراطية بحاجة إلى تعليم وما إلى ذلك، ازدادت المساحات العامة لالتقاء الذكر بالانثى في التعليم والعمل واماكن الترفيه وما إلى ذلك، بل زاد الأمر تعقيدا مع ثورة التقنية، ففضاءات الانترنت والاتصالات أوجدت مساحات جديدة للاختلاط المسمى زماني، ففي منتديات الانترنت وعبر برامج المحادثة المباشرة يتحدث الرجال والنساء. فالمسألة برمتها حادثة، ولابد من النظر إليها نظرة علمية فقهية معاصرة تتناسب والمجتمع الحديث: أما أن يقبل الفقهاء بالدولة الحديثة ويباركونها، ويضطرون الناس للعيش وفق أنماط المجتمعات التقليدية: فهذا هو الجمود والتخلف بعينه. وبدل التفتيش في الكتب القديمة عن الاختلاط والاحتجاج بوجودها في تلك الكتب على حرمتها، والاحتجاج بانعدام وجودها على اباحتها… بدلا من ذلك كان من المفترض أن يبحث الفقهاء عن هذه الصيغ الجديدة وبحث آداب التواصل بين الرجال والنساء في الاماكن العامة.
هذا فيما يتعلق بالمقولة الأولى، أما بخصوص نقد السكران للمقولة الثانية المنسوبة للمنسوبين إلى (البحث الفكري)، والتي مفادها ( أن الغرب المعاصر لا يعرف التعليم غير المختلط)؛ فقد قام بتزييف كامل المسألة. فالمقولة تتناول (التعليم غير المختلط) والسكران يتحدث عن (التعليم الأحادي الجنس)، وهو أمر مختلف عن (التعليم غير المختلط) الذي هو ترجمة السكران المتواضعة للمصطلح الانجليزي ( single-sex education)… إذ أن هناك فرق بين الأمرين. ففي التعليم الأحادي الجنس يكون طلاب الفصل كلهم من جنس واحد، لكن هذا لا يمنع أن يكون الاستاذ رجلا، ولا يمنع أن يكون المدير رجلا.. ولا يمنع أن تختلي الطالبة باستاذها في مكتبه لتسأله عن هذا الأمر أو ذاك، ولا يمنع أن تكون المدرسة لكلا الجنسين لكن الفصول خاص بجنس بعينه. والسكران يتعمد ترجمة (single-sex) بـ (غير المختلط)… وهذا فيه تزييف واضح للمسألة. فالمشكلة التي نشأت في المدارس التي تكون لكلا الجنسين، هي مشكلة التنميط. ففي هذه المدارس، يخجل الطالب الذكر من الانضمام للفرق الموسيقية والاندية الموسيقية لأنها تم اختزالها لدى الطلاب على أنها أنشطة (بناتية). ونفس الأمر بالنسبة للأنشطة الرياضية التي تجد الفتاة صعوبة في اقتحامها، بسبب كونها مصنفة على أنها أنشطة بنينية أو للبنين. هذا التنميط وغيره من المشاكل، هو السبب الرئيسي خلف فكرة المدارس أو الفصول أحادية الجنس في الغرب، أما السبب الذي حاول السكران اقحامه كمبرر لهذا الاتجاه وهو (حمل المراهقات في التعليم المختلط الذي يكبد المجتمع خسائر صحية واقتصادية) فأنا في عملية البحث المتواضعة التي قمت بها لم أجد مثل هذا المبرر، وبقليل من التفكير فيه نجد أنه مبرر- وإن صح- فهو ثانوي تعرض لعملية تضخيم سكرانية لإثبات المتلازمة الصحوية التالية: الاختلاط يجر إلى الانحلال الاخلاقي. إذ أن المراهقة التي تريد ممارسة الجنس في الغرب لن تعدم الحيلة في دولة تعتبر ذلك حقا يستوجب الحماية، فغير المدرسة هناك الحي والحديقة وأماكن الترفيه ومؤسسات العمل التطوعية… أي كل جانب من الجوانب المجتمع.
وهكذا يتبين لنا حجم التزييف في هذا المبحث… فهو أثبت وجود اللفظ اللغوي في الوقت الذي كان يتوجب عليه اثبات وجود المسألة أو المصطلح بعينه، وهو استفاد من الخلاف حول المدارس الأحادية الجنس أو المتنوعة ليتاجر بثقة القارئ به مصورا أياه خلافا بين المدارس المختلطة وغير المختلطة، ففكرة (غير المختلط) بمعنى أنه مكان لا يتواجد فيه إلا أفراد من جنس واحد ويتغيا أهدافا أخلاقية لمثل هذا العزل بين الجنسين، أي يتغيا منع الانحرافات والشرور التي يعتبرها لوازما للاختلاط، فهذه الفكرة لا توجد في الدول الحديثة إلا في المؤسسات الدينية الكنسية، كدير الراهبات وغيره.
النموذج الثاني: ذرائع الإصلاحيين؟
كالعادة يبدأ السكران بالحديث عن أشباح، يسميهم هذه المرة بـ(الإصلاحيين السياسيين)، ويضعهم كمقابلين لأهل السنة والجماعة. ثم بعد ذلك يُعمل مبضعه المانويّ ليجعل الإصلاحيين (مبعضين للوحي) وأهل السنة (محتسبين كفائيين). وعبر هذه الثنائية الجديدة يحدد مشكلة (أهل السنة) مع هؤلاء الإصلاحيين بأنها ليست في اهتمامهم بالإصلاح السياسي بقدر ما هي في (جحد أو التهوين من أمر أبواب أخرى للدين). والغريب أن السكران في كل مرة يصل عند هذه المسألة لا يوضح بالضبط كيف يهوّن الإصلاحيين من أبواب الدين الأخرى؟
ما هو ذاك الباب الذي يجحده الإصلاحيين، كما يجحد الرجل الذي في مثاله الذي أورده الزكاة رغم تركيزه على الصلاة؟
كل ما نجده كلمات عامة كـ (هم مجموعة من الناقمين على الخطاب الشرعي السلفي) و (ضلال كثير من أدعياء الاصلاح السياسي…. لجحدهم أبواب الدين الأخرى كتعظيم العقيدة وتوقير السلف ونحوها) وأنهم يتهكمون بقضايا (العقيدة والفقه ومقاومة التغريب) وأن جوهر الخلاف معهم (استخفافهم بأبواب الشريعة الأخرى وجرأتهم العظيمة على السلف) وأن مشكلتهم (لمزهم وتهكمهم لجهود حفظ العقيدة وحفظ الأعراض)، وأنهم (يلمزون الطحاوية والواسطية والتدمرية ونحوها من كتب العقيدة… ويلمزون أئمة السلف لاشتغالهم بقضايا كخلق القرآن…). فقط في الخاتمة نجد تفصيلا أكثر عند حديثه عن مآل من أشرب هواه حب الديمقراطية الغربية، فهو يتحول إلى (كثرة الحديث المنبهر المهزوم عن الحياة السياسية الغربية، والمساواة بين الكافر والمسلم في الحقوق السياسية على أساس المواطنة، والتهوك في حرية الأحزاب العلمانية في الدعوة والتغيير، واستباحة الإمامة العامة للمرأة، وجحد حد الردة، ولمز نصوص الطاعة السياسية في النصوص والسنن، واعتبار فتاوى أهل السنة والجماعة عن الخروج المسلح تكريسا للاستبداد، والتهكم بكتب العقيدة والفقه، إلخ).
فإذا اعتبرنا التفصيل الاخير هو توضيح للإجمالات السابقة: فهل الانبهار بالغرب ، وتبني أحكاما فقهية مخالفة للاحكام التي يتبناه السكران في مسائل ولاية المرأة والردة والمساواة المدنية بين المسلم وغيره، وتأويل بعض الاحاديث… هل هذا كله يستحق أن يوصف بأنه (تبعيض للوحي)؟
وألا يخرج السكران بهذا الحكم غالبية الإسلاميين والفقهاء والمفكرين المعاصرين من دائرة (أهل السنة والجماعة) لتبقى محصورة في مجموعة صغيرة جدا من السعوديين؟
تنقسم هذه المقالة إلى قسمين: قسم يتناول مسألة (تهوين شأن العقيدة والاستخفاف بها) عند الإصلاحيين، وقسم يتناول (الديمقراطية) عندهم.
في القسم الأول يضع مقولات في فم هؤلاء الذين يسميهم (إصلاحيين سياسيين) ويرد عليها. وبكل صراحة، نجد كافة المقولات التي ذكرها على لسان هؤلاء لا تضاهي مقولة خطيرة كالقول بـ(خلق القرآن)، وهي التي نقل السكران في بحثه (احتجاجات المناوئين للخطاب الشرعي) تبني عدد من العلماء المعاصرين لها، ولكنه في الوقت نفسه كان لا يذكر اسم الواحد منهم إلا مسبوقا بنعت الإمام أو العلامة ومتبوعا بالدعاء له وليس هذا فقط بل اعتذر لهم واستغفر لهم ولم يخرجهم من أهل السنة والجماعة ولم يتهمهم بتبعيض الوحي. فالسؤال: لماذا لم يسع السكران مع عبدالله الحامد وجماعته – إذ هم الوحيدون في الساحة المحلية ممن ينطلقون في إصلاحهم السياسي من مرجعية إسلامية- ما وسعه مع القرضاوي وابو زهرة وعاشور وغيرهم؟
هل القول بخلق القرآن أهون لديه أم اعتبار الكافر والمسلمين متساوين في الحقوق؟
هل تأويل آيات الله المفضي لتعطيل اسماءه وصفاته أهون لدى السكران أم تأويل حديث الردة بأنه خاص بالمرتد المحارب؟ وتأويل حديث ولاية المرأة بأنه محصور في حادثة امرأة الفرس؟
هذا فيما يتعلق بالقسم الأول، أما في القسم الثاني، فالسكران هذه المرة لم يستطع اخفاء منقوده جيد، فبحسب تسلسل الحجج المدافعة عن الديمقراطية التي أوردها، فإننا نستطيع بسهولة أن نستنتج أنه نفس التسلسل الموجود في كتاب (أشواق الحرية) لكاتبه نواف القديمي، أي أن القديمي عند السكران أحد الخارجين عن أهل السنة والجماعة والمبعضين للوحي! وهو الذي وصفه ذات مرة بأنه – والحديث للسكران- (أحد أساتذتي الذين استفدت منهم ولا زلت، وكل من اقترب منه علم ما تنطوي عليه نفسه من سمو ومروءة، ما أندر أن تجدها في غيره)!
مخيفة تقلبات الأحكام السريعة هذه!
لا علينا، فالمهم في حديثنا هذا هو المنهج المتبع، فالسكران تبنى صورة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم بأنه عبارة عن عقد، مثله مثل أي عقد بين فرد وبنك. ولم يقدم أي دليل شرعي على هذه الصورة، سوى آية (إن الذين يبايعونك)، والآية بتمامها تقول (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله…الآية) وواضح أن المقصود بها مبايعة المؤمنين للرسول في الحديبية على الموت، ولم تكن بيعة تولية ولا علاقة لها بإنشاء الدولة، ولكنها العادة السكرانية في قصقصة الآيات لتتوافق وما يريد اثباته. ومن هذا التصوير للعلاقة بأنها عقد شرعي، راح يحاكم كل ما أتى به القديمي في كتابه، معتبرا- انطلاقا من حلوليته التي وصفناها آنفا- أن تصوراته المستندة لأقوال ابن تيمية والفقهاء: وحي يوحى من السماء! والأدهى من ذلك أنه عندما تحدث عن (المطلوب) أي ما وصفه (السياسة الشرعية) اكتفى بتعريفها بالسلب بأنها (ليست هرقلية….. وليست ديمقراطية).
وهذه النقطة الأخيرة، هي التي انطلق منها القديمي في كتابه، فهو أكد على قضيتين: الأولى، أن الشريعة جاءت بأفضلية اختيار الحاكم على تغلبه، والثانية، أنها لم تمنع (إن لم تكن تحث) على مراقبة الحاكم. ثم تساءل: ما هو أقرب نظام لتحقيق هذين المبدأين؟ فوجد أن الديمقراطية هي أقرب النظم لهذين المبدأين، رافعا تساؤلا عاما: إن كنت تتفق على هذين المبدأين وترفض الديمقراطية، فما هو النظام – ولو بخطوط عامة- التي تراه مناسبا لتطبيق هذين المبدأين؟ وهذا الذي لم يورد عليه السكران سوى كلمتين لا يعلم معناهما إلا الله ثم السكران: (السياسة الشرعية).
هكذا رأينا في هذا النموذج تحقق غالبية الملامح التي استعرضناها لمنهجه التزييفي: مصارعة الاشباح (الاصلاحيين السياسيين) والمانوية (تبعيض الوحي/الاحتساب الكفائي) والحلولية (اعتبار خضوع علاقة الحاكم بالمحكوم لصورة العقد الشرعي، جزءا من الوحي، لا مجرد اجتهاد)، إدماج المفاهيم الحداثية (كمفهوم السيادة الغربي ذو الاصول اللاهوتية المسيحية كما أثبت ذلك كارل شميت)…إلخ.
خاتمة: موضوعية أم تحصين تربوي؟
لا أشك للحظة بأن السكران من أكثر الكتاب ذكاء ومعرفة وعلما، ولعلي لا أكتم سرا إن صرحت بأن الدافع الخفي وراء هذا النقد هو الحسرة على المآل الذي وصل إليه هذا الكاتب!
وقد يتساءل من يقرأ هذا النقد: هل يعقل ذلك؟ هل يعقل أن يكون شخص ما بهذا التناقض الصارخ؟ وكيف يمكن الجمع بين الاعتراف بألمعيته وذكاءه ومعرفته وبين هذا المنهج التزييفي الذي تم إبرازه؟
باختصار وبشكل مباشر: ما الذي يجعل السكران ينهج هذا النهج؟
إن جانبا كبيرا من الإجابة على هذا السؤال تقع في باب الظنون والتخرصات والتحليلات النفسية، وهذا مزلق لن ألج فيه، ولكن سأركز على جانب صغير جدا قد يكون مفتاحا للإجابة على هذا السؤال. فالمنطلق الرئيسي لهذا النقد هو اختبار دعوى العلمية والموضوعية في كتابات السكران، والنتيجة التي توصلنا إليها هو أن كتابات السكران أبعد ما تكون عن العلمية والموضوعية، وأنها فقط تتزيّا بالأدوات العلمية لتمرير مقولات مقررة مسبقا.
فالسؤال إذن: إن كانت كتاباته لا تنتمي إلى العلمية والموضوعية، فإلام تنتمي؟
في الحقيقة إن أقرب مجال يمكن إدراج الكتابات السكرانية تحته هو (الكتابات التربوية)، التي تستهدف مجموعة محددة من المنضوين في لواء تنظيم ما أو حركة ما أو تيار ما، ومحاولة (تحصينهم) من كل ما يظن أنه عامل جذب لهم.. قد يصرفهم عن هذا التنظيم أو الحركة أو التيار. ولهذا تجد شدة السكران على التنويريين والدستوريين والحقوقيين أشد بكثير من شدته على اللبراليين والعلمانيين، لمعرفته بأن قدرة الأوائل على الجذب أكبر.
إن هذه الكتابات بالنسبة للشاب الصحوي تعزز وتدعم عنده اليقين بما لديه من قناعات يحتمل أن تزعزعها بريق الشعارات الدستورية والتنويرية الجديدة… إن هذه الكتابة منظور إليها بعينيّ هذا الشاب الصحوي والذي غالبا تكون بضاعته مزجاة من الاطلاع على عالم الأفكار من حوله تبدو شديدة التماسك والمنطقية. كما أن احتمالات التزييف والخداع والتشويه غير مطروحة أبدا، لأن هذا الشاب ينطلق في قراءته للسكران مدفوعا لا بعين نقادة لما تقرأ، بقدر ما هو مدفوع بثقة مطلقة بالكاتب.
والسكران يستغل كل هذا: ثقة القارئ به، وجهله بما يتحدث عنه، واستغلال تجربته السابقة التي تحول عنها، ليبيح لنفسه كل هذا التزييف الذي يمارسه لهدف تربوي محدد وواضح: الحفاظ على هؤلاء الشباب. من هذه الزاوية يمكن فهم هذه الحدة والمفاصلة عندما يكون الحديث عن القديمي والحامد وغيرهم، والتي تتحول إلى تفهم واعتذار عندما يكون الحديث عن شخصيات بعيدة مثل القرضاوي والميداني وعاشور.
إن الكتابات التربوية التي تصر على ربط المتربين بالمربين ربطا عضويا، بحيث يتم تصويرهم بأنهم القدوة المطلقة، العارفة بكل شيئ ومصدر المعرفة الكلية… هذا النوع من التربية يستمرئ بسهولة تشويه المنافسين والافتراء عليهم وتزييف أطروحاتهم، لأن نمط التربية الذي اتبعوه يجعل إتباع الأتباع لهم مرهونا بعزلهم عن غيرهم… فلا يهم تضليل هؤلاء الاتباع، ولا يهم الكذب عليهم، ولا تمرير وعي زائف إليهم، طالما أن المحصلة النهائية هي الحفاظ على هؤلاء الاتباع في حظيرة التيار أو المذهب أو التنظيم.
ولكن ما مآل هذا النوع من التربية الشمولية التشويهية القائمة على العزل والاحتكار والتلقين والتعبئة الدائمة؟
ما مآلها في زمن لا يمكن أبدا ضبط تنقل المعلومات وعزل الافراد عن كافة المؤثرات المتنوعة؟
إن مآلها- باختصار شديد- الفشل الكامل.
ففاشلة تلك التربية التي تنهار كليا مع أول اطلاع أو مواجهة مع أي طرح مستنير.
فاشلة تلك التربية التي لا تزرع في أفرادها استقلالهم وقدرتهم الذاتية على تفحص المقولات وتوليد القناعات، أفراد لم يتم بعد فطامهم معرفيا..
فاشلة تلك التربية القائمة كلها على الثقة بقدوة مزيّف يستمرئ الافتراء والتشويه المتعمد من أجل تسكين شكوك أتباعه وتعزيز يقينهم وثقتهم!
كتب السكران مرة مقالة بعنوان (منجزات الصحوة) وراح يتغزل ويتفنن في المديح للصحوة ومنجزاتها، وبغض النظر عن الخلط بين الصحوة والسلفية واعتماد معايير لتحديد المنجز فيها الكثير من التحكم، بغض النظر عن هذا كله، ولنقبل بكل المنجزات التي أوردها السكران وبمنجزات أخرى لم يفكر بها… كل هذا سنقبل به، لكن المسألة الخطيرة التي فات السكران تورطه بها هي التالي: ماذا يعني الحديث عن المنجزات؟
ألا يعني بالضبط الحديث عن وصول الشيء لنهايته، عن موته، وبالتالي يتم استذكار ماضيه تحديدا دون حاضره أو مستقبله؟
باعتقادي أن السكران يخوض المعركة الخاطئة: معركة الحفاظ على المكتسبات من هيمنة التيارات الجديدة، التي دفعته للقول بالشيء ونقيضه والتزييف والافتراء والتشويه… في حين أني أعتقد أن المعركة الحقيقية لإنقاذ الصحوة هي في الحديث عن مستقبلها، في تحديث برنامجها المعطل منذ التسعينات، في بث الروح بها من جديد، بمراجعة نقدية لتاريخها، لا للمنجزات بقدر ما تكون مراجعة للإخفاقات، لأن الميت وحده هو من تذكر محاسنه، أما الحي فالمفترض من أجل تطويره أن يتم التركيز على إخفاقاته على العطل الكبير الذي أدى به إلى هذا الانحسار السريع والمفاجئ… وهذا هو الموضوع الذي سأحاول الكتابة فيه في قابل الأيام.
----------
د. صالح المالك يعلق على خطاب السكران الأخير
(1)
لابد أن نعترف في البداية بأن هناك بالفعل نفرا من الناس ممن يرفع شعار الإصلاح، ويتخذ موقفا عدائيا وحادا ومتوترا ضد منهج السلف، وليس فقط ضد ممارسات الأتباع والأفراد .. ولكن هذا الهجوم العدائي في الغالب لا يصدر إلا من أصحاب التوجهات العلمانية أو ممن هو خارج الانتماء الإسلامي. أي لا يلتزم بالمرجعية الإسلامية في بناء تصوراته. وهم فئة قليلة ضمن الإصلاحيين، قد يُعدّون على الأصابع إذا لم أكن مبالغا.
وحينما أقول ((قلة يُعدّون على الأصابع))، فلأن أكثر الإصلاحيين العلمانيين الذين يقفون هذا الموقف العدائي والصريح ضد منهج السلف، يحبذون رفع شعار ((الليبرالية)) دون شعار ((الإصلاح)) .. وكلامنا هنا عن الإصلاحيين وليس عن الليبراليين ..
أما الإصلاحيون الإسلاميون، فلا أعرف أحدا منهم يقف ذلك الموقف العدائي الجامح ضد منهج السلف أو حتى ضد الخطاب الشرعي السلفي. نعم؛ هناك من ينتقد ويعترض ويخالف، ولكنه لا يتخذ موقفا عدائيا ضد السلف الصالح أو كارها لهديهم وسنتهم.
ربما قد يختلف البعض معي في هذا الرأي، لكن ينبغي التنبه إلى أنني أفرق بشكل واضح بين الموقف النقدي العلمي الهادئ، والموقف الهجومي التحريضي السافر في عداوته. فالثاني مناوئ بلا شك، وهو موقف التيار الليبرالي والمتأمرك في غالبه، وأما الأول فليس بالضرورة أن يكون مناوئاً. والمشكلة أن بعض الأفاضل لا يفرق بين الموقف العدائي والموقف النقدي أو لا يحب أن يفرق بينهما، فيجعل كلا الفئتين مناوئة للخطاب الشرعي.
نعم هناك فئة من الإصلاحيين الإسلاميين ممن تأثر بالخطاب الشرعي العصراني، وعلى وجه الخصوص خطاب تيار المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ومن نحى نحوه. فصار يذهب إلى أن مرحلة السلف مرحلة زمنية مباركة بلا شك؛ ولكنها تاريخية، أي مرتبطة بظروفها الزمنية، ولا تتضمن بُعدا منهجيا مطلقا صالحا لكل زمان ومكان، وأن الأفضلية الزمنية التي جاءت بها النصوص، إنما هي لاعتبارات سلوكيه وأخلاقية، وليس لاعتبارات منهجية.
بعبارة أخرى: لم تتضمن تلك المرحلة المباركة منهجا له قواعده المنضبطة أو مرجعية منطقية ذات معالم واضحة. هذا الأمر حصل على أيدي العلماء فيما بعد، أي بعد القرون المفضلة. فالمرجعية المعصومة ـ عند هؤلاء إذن ـ منحصرة في الكتاب والسنة فقط. وأما فهم السلف، فما هو إلا فهم بشري من ضمن أفهام كثيرة ومفتوحة عبر الزمن.
وبالتالي، لا تلتزم هذه المدرسة بإطار فهم الصحابة والتابعين وأتباعهم في تلقيهم للوحي وتفسيره. وإن كانوا ينقلون ويستأنسون بكلامهم ونصوصهم، ولكن دون الالتزام بها، فهم عندهم كغيرهم من أئمة المسلمين. باختصار: ليس لإجماعات السلف قداسة عندهم.
هذا الموقف ليس موقفا صراعيا أيديولوجيا متوترا كمواقف التيارات اليسارية أو الليبرالية. وإنما هو موقف منهجي هادئ، يقوم على ((حجج وبرهان))، تحتاج إلى من يناقشها ويرد عليها بهدوء وبموضوعية. وهذه الشبه في الغالب لا تخرج عن كونها امتداد للمدارس الإسلامية في التاريخ، كالمدرسة الكلامية أو مدرسة أهل الرأي المتأخرة المتطرفة وليست الأولى المعتدلة.
لكن ينبغي أن نتنبه أنه ليس كل الإصلاحيين الإسلاميين ينطلقون من هذه الأرضية المنهجية، خاصة الإسلاميين السعوديين الذين تلقوا في الغالب تكوينا شرعيا سلفيا.
إذا سلمنا بهذا التقسيم المبدئي..
فالفئة الأولى لا تعنينا في نقاشنا، أقصد الإصلاحيين الليبراليين، لأننا كلنا متفقون في إثبات مناوئتهم للخطاب الشرعي .. مناوأةً تصل إلى حدّ الوقاحة. ولكنها في الوقت نفسه مناوأة غبية!! وفجة!! وبالتالي لا يمكن أن تجد لنفسها أرضا في الخارطة الثقافية السعودية، ولولا دعم السلطة لها وأصحاب القرار لما شكّلت أي موقع يذكر في خارطتنا الثقافية.
وهذا الذي جعل الإصلاحيين يدركون بأن الاشتغال بمناكفة هذا التيار الليبرالي على حساب معركة العدالة والحقوق وإحلال دولة القانون، هو اشتغال بخلاف الأولى، أو الانشغال بالمهم على حساب الأهم. ولا يعني هذا تضييع المهم أو إهماله كليا، لا بالطبع .. ولكن لا يكون على حساب الأولى والأهم. فدولة العدالة والحقوق والقانون والمؤسسات هي المطلب الملح الآن في الفترة الراهنة عند الإصلاحيين ويجب أن تجيش لها الخطابات والجهود والقدرات، لأن دولة العدالة والقانون هي التي تعبر صدقا عن إرادة الأمة المسلمة. وحين تتحقق إرادة الأمة، فلن يجد الشواذ من مثقفي السلطة وطلاب المنافع والمناصب أرضا في محيطها الثقافي، لأن ذلك المحيط تحكمه المرجعية التي يؤمن بها غالبية المجتمع.
وحين نقول بأن دولة العدالة والحقوق والقانون هي المطلب الملح والمقدم لدى الإصلاحيين، فلا يعني ذلك إهمال العقائد أو التقصير في تعليم الناس أمور دينهم، أو إغفال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هذا لازم لا يلتزمه الاصلاحيون. إنما هو تشنيع يشنع به خصومهم هداهم الله.
هذا ما يتعلق بالفئة الأولى والتي تتخذ موقفا مناوئا لمنهج السلف.
أما الفئة الثانية: وهي التي تتخذ موقفا نقديا تجاه السلفية، كونها تجعل من نفسها مذهبا أو منهجا له قواعده المنضبطة والمحددة .. فمع أن موقفها هذا موقف باطل مخالف للحق، إلا أن المتابع لكتاباتها لا يجد فيها تلك النزعة العدائية الكارهة لهدي السلف من حيث المبدأ، بل قد يجد فيها أحيانا التعظيم والإجلال بتلك المرحلة المباركة وبأئمتها. والخلل لديها لا يخرج عن كونه خللا منهجيا، سببه في الغالب سوء الفهم، وليس بسبب الخلفيات الأيديولوجية.
ولهذا يبقى ـ هذا التيار ـ تيارا إسلاميا، فيه خير وصلاح كثير، ولديه غيرة على الإسلام وتعظيم للكتاب والسنة وللسلف أيضاً، والمتفق معه على الإسلام أكثر من المختلف فيه، وثمة قضايا منهجية دقيقة ليس من الفقه إثارتها وإشاعتها بين الناس، إلا إذا تمت إشاعتها وإظهارها من قبل ذلك التيار، فحينها يكون البيان بما يقوم به من باب واجب النصيحة.
وهذا يعني أنه لا إشكال ولا عيب في مناقشة أفكار هذا التيار، بل وتنقد وتنقض، ولكن تحت ظلال القاعدة الدينية المحكمة: قاعدة الأخوة في الدين والالتزام بمقتضياتها: كالمحبة والرحمة والرفق واللين.. ولا ينبغي أن تعارض تلك المحكمة ببعض مواقف آحاد السلف التي يستدل بها البعض على الغلظة مطلقا والهجر والزجر ونحو ذلك. لأن تلك المواقف استثناءات خاصة، جاءت في سياقات معينة لها اعتباراتها الشرعية؛ وبالتالي لا ينبغي أن تتحول إلى قاعدة ومنهج. فالأصل في المنهج هو الرفق مع المخالفين من أهل الإسلام، والهجران والزجر والغلظة استثناء.
هذا ما يتعلق بظاهرة نقد السلفية ومناوأتها ..
(2)
ثم إنني أريد هنا أن أشيد بالمقال القيم الذي خطه أخي وصديقي الدكتور الدخيلي، لهدوئه ومنهجيته، وعمقه في استكشاف الخلل المنهجي لدى السكران في التحليل والبحث وتعاطيه مع الأفكار
وأما البيان التوضيحي الذي كتبه أخونا السكران، فمع شكري وتقديري له على شجاعته الأدبية. ومع إيماني بحقه في أن يتحول من الرأي الذي يراه خاطئا إلى الرأي الذي يراه صوابا، ومن حقه أيضاً ألا ننسب إليه ذلك الرأي القديم ولا نحاسبه عليه ما دام أنه قد تحول عنه ... إلا أن مشكلة السكران ليست في هذا النقطة، ليست مشكلته في أن يتحول من موقف إلى موقف آخر ... إنما مشكلته ـ في نظري ـ تبرز من خلال عدة أوجه:
(الأول): هو أن السكران لم يكن يستهدف في هجومه اللاذع، التيار الليبرالي المعادي، ولا التيار العصراني الناقد، وإنما كان يستهدف للأسف من هم أقرب إليه من أولئك بكثير .. إخوانه الذين يتبنون خطاب الحضارة والنهضة والإصلاح من منطلقات شرعية وضمن إطار إجماعات السلف .. حيث جعلهم (ظلما أو جهلا) قسيما لأهل السنة والجماعة أو مقابل أهل السنة والجماعة في تقسيمه الرباعي الشهير: (العلماني/ التنويري/ الإصلاحي/ أهل السنة والجماعة)..
مع أن الذين انخرطوا في إصلاح الواقع السياسي للأمة، لم يتسموا بهذا الاسم (الإصلاحيون) حتى يكونوا مقابل أهل السنة، إنما هو لقب إعلامي وثقافي أُطلق عليهم، وهم لم يطلبوه ولم يمنعوه لأنه لفظ قرآني شريف في الأصل. ومع ذلك اعتبره السكران قسيما لأهل السنة والجماعة، بل تزايدت عنده إيراد هذه المفردة (أهل السنة والجماعة) بشكل ملفت، وبطريقة غير صحيحة، وصار يقوم بإشهارها أمام مخالفيه في كل مناسبة وبشكل متكلّف، وفي آراء اجتهادية ليس لأهل السنة فيها قول محكم أو أصل منضبط، وهذا عند التحقيق ليست هي طريقة أهل السنة.
وأذكر هنا كلاما رائعا لشيخ الإسلام ابن تيمية حيث يقول: "وقد استعمل طائفةٌ من متكلمة الصفاتية المنتسبين للسنة والجماعة، واعتبر ذلك طائفة من الفقهاء ـ من أصحابنا وغيرهم ـ أنهم يعتبرون مذهب السلف بالفهم، فإذا تحصل لواحدٍ منهم في مسائل من النظر أن هذا هو الموافق للكتاب والسنة، أو لبعض أصول السلف، جعل هذا قولاً للسلف. لأن السلف عنده لا يخرجون عن الكتاب والسنة، فإذا تحقق له جزماً في قولٍ ما أنه موافق للكتاب والسنة جعله قولاً للسلف"، ثم يقول: "وهذا الطريق أصله من كلام طائفةٍ من أهل البدع المنتسبين للسنة والجماعة، ثم دخل على طائفةٍ من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم".
(الوجه الثاني): أن السكران لم يناقش إخوانه من منطلق النصيحة والتوجيه والنقد البناء، وإنما من منطلق التصنيف والتحزّب أو منطلق الكشف والفضح عن حقيقتهم، وكأنهم فرقة نابية عن منهج أهل السنة والجماعة أو خصوم للسلفية. ويكفي هنا أن نتذكر مقالته الشهيرة ((سلمان العودة من تلميع الحكومات العلمانية إلى غمز قناة الصحابة))، وأنا هنا لست بصدد الدفاع عن الشيخ سلمان، فله أتباعه وجمهوره الذين يدافعون عنه، بل إنني أختلف مع الشيخ في بعض أطروحاته وآرائه، ولكن اختلافنا معه لم إلى يصل إلى حدّ البغي والافتراء، كما فعل أخونا السكران في هذا المقال، حيث يرى بأن سلمان ((وأنا أنقل هنا كلامه باللفظ)):
1) يغمز قناة الصحابة والعياذ بالله.
2) ويسعى إلى تحريف الشريعة .
3) والتزهيد بفقه السلف.
4) والتبجح بتعليقاته على أحاديث الصحيحين.
5) وأنه ينزعج من هذه المقارنة بين نموذجية عصر الصحابة، وقتامة واقعنا المعاصر، ويحاول أن يقوض هذا الأساس عبر تلميع الواقع الفاسد، والتقليل من شأن الأنموذج الملهم (نموذج الصحابة).
هكذا يقول السكران عن الشيخ سلمان العودة، وأريد هنا أن أكرر التأكيد أن من حق السكران أن ينتقد سلمان العودة أو غيره من الدعاة، ولكن النقد شيء والمناوئة والبغي والافتراء على الدعاة والصالحين شيء آخر ..
ثم يختم مقالته: ((مايهمني أن يعرفه الإخوان هو أن كل ما قاله د.العودة ليس إلا رأس جبل الجليد))، يا الله كل تلك الطوام الخمس ما هي إلا رأس الجليد عند السكران. إذن ما هو الجليد؟!!. ثم يقول: ((وما يخفيه من تحريف الشريعة والتزهيد بفقه السلف أضعاف أضعاف ذلك، لكنه يؤجله لاعتبارات سياسية ودبلوماسية لا تخفى))، هكذا "أضعاف أضعاف" إنا الله وإنا إليه راجعون. ثم يقول: ((واسألوا جلساءه عن مجالسه الخاصة وما فيها من بجاحة بعض تعليقاته على أحاديث الصحيحين، وتهكمه ببعض فتاوى أئمة السلف الكبار، ولكن لا يمكن أن ننقده نقداً علنياً على ذلك، لأنه لم يصرح بها إلى الآن، وأسأل الله أن يكفيه شر نفسه، ويكفي المسلمين شر صفقاته)).
موضوع سلمان العودة لا يهمني الآن، فلم أذكره هنا إلا كمثال على الدعاة الذين لم يسلموا من جموح السكران غير المبرر.
(الوجه الثالث): أن السكران لديه مشكلة منهجية في التعامل مع المخالفين من إخوانه أهل السنة، ويظهر ذلك جليا حينما قال في بيانه: ((والمراد أن كل من نقدني، وأساء القول فيّ، وخاض في عرضي، بناءً على كلام لي قبل ورقة المآلات، فقد صدق وبرّ وما تجاوز الحق قيد أنملة، بل هو مأجور إن شاء الله)) .. لا أريد أن أقف عند النزعة البكائية في هذا المقطع، إنما أريد أن أبيّن أن الرجل يبدو فعلا ـ هدانا الله وإياه ـ يرى بجواز إساءة القول في المخالفين له!! والخوض في أعراضهم!! وأن من فعل ذلك فقد برّ!! وما تجاوز الحق قيد أنملة!! بل هو مأجور إن شاء الله!!! ... هكذا أنا أفهم من ذلك المقطع البكائي، وأرجو أن يكون فهمي خاطئا، ولكن مقالات السكران للأسف ما زالت تؤكد ذلك الفهم.
وهذا الفهم هو الذي يفسر لنا هجومه واستطالته على إخوانه، لأنهم لم يقتنعوا ببدعة ((أرذلية الدنيا بشكل مطلق)) كما يحاول أن يروج لذلك .. ولأنهم يتعاملون مع المخالفين بطريقة تختلف عن الطريقة السائدة التي يسلكها بعض الشرعيين.. ولأنهم يتعاطون مع الفكر الإنساني بمنهجية نقدية منفتحة تختلف عن منهجية الانكفاء والتقوقع .. ولأنهم يشتغلون بقضايا ومشاريع جديدة كانت منسية لدى الخطاب الشرعي السائد في يوما ما .. ولأنهم يطرحون خطابا شرعيا جديدا غير مألوف حول الديمقراطية والحرية والعدالة والتعايش والتعددية وحقوق الإنسان، بعد أن كان الخطاب الشرعي منعزل عن هذه القضايا والتساؤلات الملحة ومنكفئ في جزئيات الفقه العملي.
نعم؛ ربما يخطئون .. بل سيخطئون قطعا .. لأنهم يخوضون في نوازل بكر .. ليس لهم فيها سابقة إجماع أو أثر .. ولأنهم أيضاً بشر يجتهدون في البحث عن الحق كغيرهم.. وبالتالي يصيبون ويخطئون .. ومن حق السكران حينها أن يناقشهم وينتقدهم فيما يراه خطأ ومخالفا للصواب، ولكن في إطار الإخوة الإسلامية التي تجمع وتقرب وتؤلف، وليس في إطار التحزب والتقسيم والتصنيف وإيغار الصدور.
مشكلة السكران وأشباهه أنهم يزايدون إخوانهم على منهج السلف وعلى تعظيم الأثر، مع أن إخوانهم ينطلقون من نفس المنطلقات التي يؤمن بها السكران (أو بالأصح صار يؤمن بها الآن).
(الوجه الرابع)، وهو المهم في نظري، أن السكران، كما قلت في مقال سابق في مجموعة الأخ العزيز د. عبدالعزيز قاسم، بأن (السكران والنقيدان وجهان لعملة واحدة) .. وهذا الجملة قد أثارت حفيظة بعض الفضلاء، وأولهم الدكتور عبدالعزيز قاسم، وحق لهم ذلك .. فهي عبارة مستفزة بلا شك، وإن كنت حرصت وقتها أن أوضح مقصودي منها، ولكني هنا سأزيد التوضيح أكثر ..
ليس المقصود أن ((السكران والنقيدان وجهان لعملة واحدة))، أنهما على مرتبة واحدة من التدين والصلاح وإتباع الحق، لم أقصد ذلك، وإنما قصدت أنهما وجهان لعقلية واحدة، لنفسية واحدة، وهي النفسية التي لا تستطيع أن تقف إلا في الأطراف، ولا تملك القدرة على الوقوف في منطقة الوسط، بمعنى أنها إذا تحولت من طرف اليسار فإنها لا تتحول إلا إلى طرف اليمين، والعكس صحيح. هذا مشكلة الأطراف يا أصدقاء وهي مشكلة عميقة والكلام فيها طويل.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى؛ هذه العقلية حين تمارس النقد ضد مخالفيها، نجدها محبوسة بهاجس الماضي الذي كانت عليه، فالنقيدان مثلا وكذلك مشاري الذايدي وعبدالله بن بجاد حينما ينتقدون الصحوة أو الخطاب الديني، في تشددها وتحريمها لكل ما يأتي من الغرب وانعزالها عن الواقع وتكفير الناس ونحو ذلك، فهم في الحقيقة إنما ينتقدون ماضيهم وليس الصحوة، ينتقدون تدينهم وخطابهم الذي كانوا عليه في يوما، ولا ينتقدون الخطاب الديني كما هو في واقع الأمر.
كذلك السكران حين ينتقد دعاة الإصلاح والحضارة، فهو في الحقيقة إنما ينتقد ماضيه الذي كان عليه، حينما كان يتخذ موقفا متطرفا في تبنى مشروع المدنية والحضارة والإصلاح، ويتخذ في المقابل موقفا (مناوئا/ أو ناقدا) للخطاب الشرعي السلفي.
مشكلة السكران أنه يتصور بأن كل من تبنى مشروع الخطاب المدني والحضارة والإصلاح، فهو بالضرورة يكون مثله كما كان هو في الماضي. هنا تكمن مشكلة خطاب السكران الجديد. مشكلة السكران أنه يرسم صورة خيالية أو أسطورية في ذهنه بناء على ماضيه ثم يهاجم تلك الصورة. لكن هل تلك الصورة تعبر بالفعل عن واقع موجود، أما أنها تعبر عن تجربة ذاتية مر بها السكران؟!
أختم أخيرا بالخاتمة الذهبية التي ختم بها أخي وصديقي الدكتور الدخيلي، حينما قال: ((نحن بحاجة إلى الدفاع عن الخطاب الشرعي / السلفي ... لكننا بحاجة أيضاً إلى أن لا يتحول الدفاع إلى عملية تخدير تصيبنا بحالة من عدم الإحساس الحقيقي بقصورنا، هذا التخدير الذي قد يسكن الألم، لكنه لا يزيله وإنما يؤجل الإحساس به إلى وقت آخر، حيث تجتمع الآلام علينا دفعة واحدة)).
-------
تعليق الأستاذ عبدالعزيز الدخيلي على خطاب السكران الأخير
اللغة الانتمائية التي تشير إلى انتمائه إليهم، من مثل ((مشكلتنا أننا... )). فهذا اللفظ عند الكاتب لا يفرق بين النقد الذي ينقد الممارسة، بغية الوصول إلى نقد المنهج نفسه، وبين النقد الذي يتعرض للممارسات بغية الوصول المنشود إلى تطبيق المنهج على الوجه الصحيح. وعلى هذا، سيعتبر أي إسهام يتبنى بعض الملاحظات التي تعرض لها البحث جزءا من مشروع المناوأة للخطاب الشرعي / السلفي. فلا فرق ـ عنده ـ بين النقد من أجل الترشيد، والنقد من أجل الهدم وتشويه المنهج. ولا فرق بين النقد عندما يمارسه أصحاب المنهج نفسه، وبين النقد عندما يمارس من خارج المنهج لمجرد التوافق في الأطروحات المجملة، حتى وإن اختلفت التفاصيل..
(الجزء الأول)
يجنح بنا التفكير في أحيان كثيرة إلى اعتبار المواقف الثنائية / المتقابلة: الوضع الطبيعي في تقييم الأفكار والحكم عليها، ونجد في أنفسنا نوعاً من الاستجابة السريعة إلى تأييد هذا النمط من المواقف.
بينما لا تأخذ المواقف التي تحاول الفرز والتصنيف بين الرؤى المختلفة حظها من النظر والتأمل، بل ربما كانت عملية الفرز والتصنيف كفيلة بأحد طرفي النزاع إلى قذف صاحبها إلى طرفه المعاكس.
هذا هو الحال ـ أو يكاد ـ عندما تريد قراءة ما تضمتنه ورقة الأستاذ السكران في (احتجاجات المناوئين). فربما يعتبرك البعض واحداً من المناوئين لمجرد أن تبدي تحفظا هنا وهناك على هذه الورقة.
في هذا المعنى، يقول ابن تيمية رحمه الله: ((واعلم أن أكثر الاختلاف بين الأمة، الذي يورث الأهواء؛ تجده من هذا الضرب، وهو: أن يكون كل واحد من المختلفين مصيباً فيما أثبته، أو في بعضه، مخطئاً في نفي ما عليه الآخر...)) [اقتضاء الصراط المستقيم 1/128].
إن الإمساك بخيط الحق في الأقوال المختلفة أمر عسير، يحتاج قبل كل شيء إلى توفيق من الله سبحانه، وهو الذي يهدي لما اختلف فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وهو يحتاج كذلك إلى تجرد من نوازع النفس التي تدعو إلى حالة من التشبث برأيها والإصرار على مواقفها، وهذا التجرد هو من العدل الذي أمرنا الله سبحانه وتعالى به بقوله : ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? [المائدة:8].
وحول هذا المعنى يقول ابن تيمية: (وهكذا يصيب أصحاب المقالات المختلفة، إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه، وأنه على السنة؛ فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوىً أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نسب إليهم، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم، وإن كان مجتهدًا معذورًا لا يغضب الله عليه، ويرضون عمن يوافقهم، وإن كان جاهلاً سيئ القصد، ليس له علم ولا حسن قصد، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله..). "منهاج السنة" (5/254-256).
من هذه الفكرة أحببت أن أقدم قراءة فاحصة لأحد الزوايا التي تحتاج إلى مراجعة في ورقة الأخ الفاضل إبراهيم السكران.
هذه المراجعة لا تقصد إسقاط هذه الورقة النافعة، وإنما تدعو إلى ترشيدها، وهي كذلك لا تدعو إلى تضعيفها، وإنما تدعو إلى تقويتها حتى تبدو أكثر موضوعية في تناول هذا الموضوع المهم.
وفي وقت أصبح سوء الفهم لا يمثل حالة استثنائية، وإنما حالة لها حضورها الكثيف، خصوصا في القضايا المشكلة أجدني محتاجاً في مدخل هذا المقال أن أورد بعض القضايا البدهية، التي أتمنى أن لا أحتاج إلى تكرار القول فيها، وهي بدهيات مرتبطة بأهم القضايا التي سأناقشها في هذه الورقة:
القضية الأولى: (مفهوم المناوئين).
القضية الثانية: (الخطاب الشرعي وسؤال التقصير).
تتضمن القضية الأولى تسليماً بوجود المناوئين ـ بغض النظر عن مفهومه ـ، فالخطاب الشرعي / السلفي له مناوئون، بل وشديدو المناوأة أيضاً، وينبغي أن لا نشك في هذه البدهية، وهم بحاجة إلى حالة من التصدي الواعي والصادق من أهل الخطاب الشرعي حتى لا تستشري هذه المناوئة ويحصل بذلك فساد عريض.
وعن أهمية هذا التصدي، يقول ابن تيمية: (ما وقع في هذه الأمة من البدع والضلال، كان من أسبابه تقصير من قصَّر في إظهار السنة والهدى). "درء التعارض" (5/378). ويقول: (وكلما ضعف من يقوم بنور النبوة قويت البدعة). "الفتاوى" (3/104).
كما أنه من البدهي كذلك، أن هذا الخطاب المناوئ له دعاوي كثيرة، ربما لم يذكر الأستاذ السكران إلا جانب منها فقط، وهو في نظري قد تجاوز دعاوى أهم من تلك التي ذكرها، وهي الدعاوى المتعلقة بالمنهج لا بالممارسة.
أما القضية الثانية، فتتضمن تسليماً بوجود نوع من التقصير في الخطاب الشرعي، وهو تقصير أقر به الأستاذ السكران ـ بغض النظر عن نوع هذا التقصير ـ كما سيأتي.
والإقرار بهذا التقصير، يعني بالضرورة أن ثمة فرقاً بين نقد المنهج ونقد الممارسة، وفي التفريق بين الأمرين يقول ابن تيمية: (...وإذا قُدِّر أن في الحنبلية -أو غيرهم من طوائف أهل السنة- من قال أقوالاً باطلة، لم يبطل مذهب أهل السنة والجماعة ببطلان ذلك بل يُرد على من قال ذلك الباطل، وتنصر السنة بالدلائل). "منهاج السنة" (2/607.606).
ويقول في موطن آخر: (...فتقدير أن يكون بعض أهل السنة المثبتين للرؤية أخطئوا في بعض أحكامها، لم يكن ذلك قدحًا في مذهب أهل السنة والجماعة، فإنَّا لا ندعي العصمة لكل صنف منهم، وإنما ندعي أنهم لا يتفقون على ضلالة). "منهاج السنة" (3/342).
وهذه البدهية التي يؤكدها ابن تيمية هي التي يقول عنها الأستاذ السكران في إحدى مقالاته: (وبدهي أن نقد "السلفية المعاصرة" ليس نقداً لـ"السلف" ذاتهم برغم انتساب السلفيين إلى السلف, كما أن نقد المسلمين المعاصرين ليس نقداً للإسلام ذاته برغم انتسابهم اليه , وكما أن نقد الحنابلة ليس نقداً للإمام أحمد ذاته برغم انتسابهم إليه, وكما أن نقد كتاب من كتب التفسير ليس نقداً للقرآن ذاته برغم إعلانه كونه مجرد تفسير له... هذه المسافة بين "المعطى" و"تفسيره" المنتسب إليه هي أحد أصول علم الملل والفرق والمذاهب الفكرية, فأتمنى أن لا أكون بحاجة إلى إعادتها وتأكيدها مرة أخرى).
أنتقل بعد ذلك إلى مراجعة ورقة الأستاذ السكران، وسأكتفي في هذا الجزء الأول من هذه المراجعة بمناقشة الإشكالات المنهجية في الورقة، وسأتبعها بجزء آخر بإذن الله بمراجعة عدد من القضايا التفصيلية الأخرى.
* الإشكالية الأولى: (تحديد مفهوم المناوئين)
عندما نريد أن نمسك بزمام هذا المفهوم عند الكاتب، فإننا نجد أمامنا جملة عبارات ومفاهيم، ومن خلالها يمكن أن نعرف من يا ترى هؤلاء المناوئين للخطاب الشرعي / السلفي؟
أما العبارات: "فهم يستعملون مجموعة منها، كثيراً ما تتردد في مجالسهم من مثل:
(مشكلة الإسلاميين أنهم...الخ)، أو (مشكلة المشايخ أنهم..الخ)، وتارة أخرى ألاحظ أن العبارة تبدأ بلغة أكثر انتماءً مثل (مشكلتنا أننا.. الخ)". هذه العبارات الثلاثة هي مؤشر أول لتحديد معنى المناوئين.
وأما المفاهيم، فهي: نقد الخطاب الشرعي / السلفي في عدم اهتمامه بقضايا الحقوق أو المقاصد أو المنجزات الغربية ونحو ذلك مما سيأتي ذكره.
ما المهم هنا في تحديد مفهوم ((المناوئين))؟
المهم في نظري: أن (المناوئين) ـ بحسب التقرير السابق ـ: اسم جامع لكل من انتقد تلك الممارسات العملية لـ((لواقع الشرعي / السلفي))، حتى ولو كان يستعمل اللغة الانتمائية التي تشير إلى انتمائه إليهم من مثل ((مشكلتنا أننا... )). فهذا اللفظ عند الكاتب لا يفرق بين النقد الذي ينقد الممارسة بغية الوصول إلى نقد المنهج نفسه، وبين النقد الذي يتعرض للممارسات، بغية الوصول المنشود إلى تطبيق المنهج على الوجه الصحيح.
وجوهر هذه الملاحظة، يتخلص في أننا عندما لا نفرق بين الأمرين، فإن هذا سيعني توريث عدد من المشكلات الفكرية:
ـ سنعتبر أي مساهمة تتبنى بعض الملاحظات التي تعرض لها البحث جزءا من مشروع المناوأة للخطاب الشرعي / السلفي. فلا فرق ـ وهذا هو المهم ـ بين النقد من أجل الترشيد، والنقد من أجل الهدم وتشويه المنهج. ولا فرق بين النقد عندما يمارسه أصحاب المنهج نفسه، وبين النقد عندما يمارس من خارج المنهج لمجرد التوافق في الأطروحات المجملة، حتى وإن اختلفت التفاصيل.
ولذلك، جميع من انتقد الممارسة التعليمية لموضوع الصفات هم في زمرة المناوئين، حتى مع التفاوت الذي يقره الكاتب. سواء ـ كما قال الكاتب ـ أذهبوا إلى: ((عدم شرعية المبحث، أو غياب المخالف، أو مغالاة الجهد المبذول)). وجميع هذه الدعاوى الثلاث هي دعاوي المناوئين.
ربما يحسب القارئ أنني أمام مشكلة هامشية أو مفتعلة في هذا الموضوع، وحتى أبين للقارئ أننا أمام مشكلة مركزية، فإني أدعوه إلى تأمل المقارنة التي سأعقدها بين كلام الأستاذ السكران في هذه الورقة وأقارنه بكلامه من مواطن أخرى في بحوث متقدمة له.
وإذ أعقد هذه المقارنة، أتمنى أن يستحضر القارئ الكريم معي ما أشار إليه أحد الأصدقاء المقربين من الأستاذ السكران، والذي أسعفنا بشهادة ضد من يتهمه بأنه كان خارجاً عن الخطاب الشرعي أو السلفي، ثم عاد يقول فيها: ((متى خرج حتى يعود!! أنا أعرف إبراهيم من أيام "ورقة المناهج" وإلى اليوم، وبكل أمانة أن الرجل هو هو لم يتغير منهجه)). [هو الكاتب الملقب بالأعرابي في مجموعة عبدالعزيز قاسم البريدية].
ومع أني لست متحمساً لفوبيا التغيرات، والإلحاح على سؤال: هل تغير أم لم يتغير؟ بقدر ما أنا معني بمناقشة الأفكار في أي أطوارها، سواء في حالة التغير ـ كما نسميها ـ أم في حالة السكون.
من أجل ذلك، فإني أدعو القارئ إلى الاشتغال بسؤال الأفكار دون سؤال التغير، لأن البعض قد يحسب أن مجرد إثبات تغير الفكرة عند صاحبها يكفي لإسقاط المشروعية عنها، وهو أمر يدعو بلا شك إلى إعادة بوصلة التفكير في هذه القضية.
ولذلك أؤكد أن المقصود من عقد هذه المقارنة، أن أبين أهمية الإشكال المنهجي في تحديد مفهوم المناوئين.
أنقل للقارئ النصوص التالية تحت هذه الاحتجاجات:
ـ الخطاب الشرعي والظواهر المالية:
يقول الأستاذ السكران في ورقته عن المناوئين: ((من العبارات التي يرددها المحتجون ضد الخطاب الشرعي المعاصر قولهم: (عالم المدنية المعاصر أفرز العديد من أنماط وصيغ العقود الحديثة، بينما الباحثون الشرعيون المعاصرون لا زالوا يعيدون اجترار بنت لبون وبنت مخاض الخ)، طبعاً بعيداً عن بشاعة الاستهتار بألفاظ النبي rالواردة في مقادير الزكاة، لكن دعونا نتجاوز ذلك، وننظر في مدى "الواقعية العلمية" لهذا الاحتجاج، هل البحث الشرعي المعاصر لا يعرف –فعلاً- العقود المعاصرة؟)).
ولما أراد الأستاذ الفاضل أن يبين تهافت هذه الدعوى، ذكر عدداً لا بأس به من تلك الدراسات التي اهتمت بموضوع العقود، ثم قال: ((وهذه الدراسات الطريفة، التي تناولت أسئلة ذكية، تنم عن وعي واضح بالظواهر المالية المعاصرة)).
ويوجهنا إلى بعض المصادر التي يمكن من خلالها معرفة أسماء هذه البحوث، ثم يقول: ((وسيجد أكداساً غزيرة من الدراسات الشرعية الممتعة في العقود الحديثة)). هذا تقييم الأستاذ الكريم لهذه البحوث في ورقته، فلننظر ماذا قال في موطن آخر من بحوثه: ((وفي سياق هذه الخواطر السابقة حول واقع فقه المعاملات المالية المعاصرة وطموحات تطويره، يطل موضوع (فقه الأسهم) بشكل ملح، باعتباره أحد المساحات الموات الجرداء التي لم يتم إحياؤها بالبحوث التحليلية المنظمة والمتوازية مع عمقها وتجددها، وهناك على قائمة الانتظار العديد من الإشكاليات التي لم تحظ بالدارسة التحليلية من مثل...)). [الأسهم المختلطة ص 18].
وهو ينعى على الفقه الإسلامي واحدة من أهم الأخطار التي تهدد عملية التنمية الفقهية، وهي التي يقول فيها: ((ولا يشك من يعنيه أمر الفقه الإسلامي أن من أهم الأخطار التي تهدد عملية التنمية الفقهية ظاهرة الإعراض عن البحث الفقهي الجاد بما تقتضيه من ولع بتفحص النصوص والتنقيب في مدونات التراث واستقراء للاتجاهات وتحليل للمستندات وتداول النتائج والاستعاضة عن ذلك كله بالركون إلى إصدار الفتاوى بادي الرأي في القنوات الفضائية والمجلات الإلكترونية بحسب ما تمليه خواطر الوهلة الأولى، وحقيقة الأمر أن الفقه لا تبنيه ألسنة الفتاوى المرسلة وإنما تبنيه سواعد البحث المضني)) [الأسهم المختلطة 14].
ثم يساهم الأستاذ الكريم في كتابه السابق بحالة توصيفية لاذعة للبحوث المعاصرة التي تسببت في أزمة سماها بأزمة الهدر الفقهي، فيقول: ((كما أن من أهم مصادر أزمة الهدر الفقهي استنفاد جهود المجامع المتخصصة في دراسة التطبيقات الجزئية الصغيرة عبر التعسف في تعليب المعاملات المستجدة داخل الأوعية الفقهية التقليدية، وقسرها على تقمّص أشكال العقود التراثية فتخرج كثير من البحوث بصورة كسيحة تشي بحجم التكلف الهش، في مقابل إهمال بناء (منظومة القواعد المرجعية) الحاكمة لهذا العلم)).
فنحن في النص الأول أمام ((أكداس غزيرة من الدراسات الشرعية الممتعة))، وفي النص الثاني أمام ((أحد المساحات الموات الجرداء التي لم يتم إحياؤها)). وأمام حالة من (الإعراض عن البحث الفقهي الجاد) والاستعاضة عنه بالفتاوى المرسلة. وأمام (قائمة انتظار طويلة من الإشكاليات التي لم تحظ بالدراسة والتحليل)، وهو كلام يأتي في سياق حديثه عن موضوع الأسهم الذي اعتبره في ورقته من أكثر الموضوعات التي نالت حظها من العناية. ونحن كذلك في النص الأول أمام بحوث ((تنم عن وعي واضح بالظواهر المالية المعاصرة)) ((وبحوث ممتعة))، وفي النص الثاني أمام ((بحوث كسيحة تشي بحجم التكلف الهش)).
هل كان الأستاذ الكريم وهو يمارس هذا النوع من التقييم ـ الذي قد تتفق معه أو تختلف ـ واحداً من المناوئين للخطاب الشرعي؟ أم كان وهو يتحدث بهذا النوع من النقد يشعر بواجب الأمانة في توجيه دفة البحث الفقهي للجادة الصحيحة؟
هذا التساؤل لن أعيده إلا بعد استكمال جميع النصوص، لكني أردت أن أنبه القارئ إلى طبيعة التساؤل الذي أتمنى أن يستصحبه أثناء قراءة هذه النصوص المتقابلة، ليعرف مدى إشكالية تحديد مفهوم المناوئين في خطاب الأستاذ السكران.
أدع القارئ الكريم مع النصوص الأخرى:
ـ الخطاب الشرعي والفكر القانوني:
يذكر الأستاذ السكران في ورقة المناوئين ما يلي: (ومن الاحتجاجات الشائعة أن البعض يقول: ((الباحثون الشرعيون جاهلون بأسئلة وإشكاليات الفكر القانوني المعاصر))، وهذه أيضاً شائعة غير علمية كلياً، فإن الباحثين الشرعيين طرحوا دراسات كثيرة جداً في القضايا القانونية المعاصرة))، هذا هو وصف المناوئين، فلنتأمل في نص الأستاذ السكران، والذي ينعى فيه على واقع الفقهاء المعاصرين وموقفهم من علم القانون، حيث يقول:
((فالمفترض في فقهاء المعاملات المالية المعاصرة اليوم أن يتجاوزوا تلك الحساسيات التاريخية مع علم القانون، والتي نشأت في ظل مناخ من التوترات السياسية أججتها حالة الاحتجاج الشعبي ضد القسر الإمبريالي في تغريب التشريعات.
بمعنى أنه يجب على الفقهاء المعاصرين أن يعيدوا علم القانون إلى صورته الطبيعية المتوازنة من حيث كونه علماً وضعياً فيه ما يخدم الفقه الإسلامي، وفيه ما يتعارض معه، فما الذي يجعل علم الاقتصاد الوضعي ذا الصبغة الرأسمالية والمنشأ الغربي يجوز التواصل النقدي معه والتفاعل الإيجابي مع المختصين فيه، بينما يحرم هذا التواصل النقدي والتفاعل الإيجابي مع علم القانون الحديث؟ فواقع الأمر أن كلا هذين العلمين من حيث التصور الشرعي الطبيعي يقفان في ذات الخانة، وهي خانة (العلوم الوضعية) المرتبطة بالخبرة البشرية، والخاضعة للفحص الشرعي، فيؤخذ منها ويرد طبقاً للقاعدة العامة في الموقف من العلوم الوضعية، أي بحسب التوافق والتعارض مع أصول الشريعة)). [الأسهم المختلطة ص 17].
ـ الخطاب الشرعي وقضايا الأخلاق:
يقول الأستاذ الفاضل في ورقته الأخيرة: ((يردد كثير من مناوئي الخطاب الشرعي قولهم بأن الفكر الديني المحلي استغرق في القضايا الشكلية كاللحية والإسبال، وترك قضايا الجوهر الأخلاقي كالأمانة والإحسان إلى الناس وحقوق الغير ونحوها، حتى صار التدين شكلياً، وصار مفهوم التدين مرتبطاً في الوعي الشعبي بقضايا القشور، وقد لاحظت أن أكثر قضية أخلاقية يرددها هؤلاء المناوئين هي قضية "قيم العمل" أو "احترام المهنة"، وأنها قيمة أخلاقية غائبة كلياً في الخطاب الشرعي، مما أدى إلى تحوله إلى تدين مظهري مجوف غير حقيقي)).
هذا الحال الذي يصفه الأستاذ الفاضل هو الذي يقول عنه في مقال سابق، وهو يعدد القضايا والأفكار المركزية والمحورية عند التيار الإسلامي العريض في الوسط السعودي، ذاكراً إحدى القضايا المركزية في هذا الخطاب، ما يسميه: ((فقهيات الصحوة)):
((هناك مسائل جزئية فقهية جزئية ارتبطت بظاهرة التدين الصحوي، مثل: (وجه المرأة، الغناء، اللحية، الإسبال، التأمين، صلاة الجماعة) وغيرها من المسائل المشابهة التي تحتفظ بمكانة خاصة في ذاكرة الوعي الإسلامي الشعبي الذي صنعته الصحوة، والتي تتعامل مع هذه المسائل من منطلق مذهبي خالص، فهذه المسائل التي أفتى بها الرواد لا يجوز مساسها أو إثارة الزوابع حولها.
أما تيار التجديد، فلا يمتلك قداسة علمية لا لهذه المسائل ولا لغيرها من الجزئيات الفقهية، والقداسة فقط للمنهجية العلمية، وبعد ذلك يفتح الباب لكل دارسة معرفية جادة لبحث هذه المسائل أو غيرها )). [مقال للأستاذ إبراهيم السكران منشور في كتاب (الإسلاميون... سجال الهوية والنهضة) ص 195].
ـ الخطاب الشرعي والعلوم غير الشرعية:
يقول الأستاذ الفاضل في ورقته الأخيرة: ((يرى مناوئو الخطاب الشرعي بأننا (اليوم في تخلف مدني شديد وبحاجة ماسة إلى العلوم المدنية المعاصرة، ولكن أزمة الخطاب الشرعي أنه يزهد الشباب المسلم في تعلم العلوم المدنية، وأنها ضياع وقت، وأنه لا ثواب فيها)، ولذلك يعتقد هؤلاء النقاد أن ضعف الجوانب المدنية في المجتمع المسلم المعاصر ليست أولاً بسبب ضعف كفاءة المسؤولين عن التعليم، وإنما بسبب الخطاب الشرعي الذي يضخ -ولا يزال- صورة منحطة عن العلوم المدنية)).
هذه هي حجة المناوئين.
فلننظر ماذا يقول الأستاذ في حديث آخر يصف فيه واقع الخطاب الشرعي، حيث يذكر أن هناك حالة من عدم التوازن في تحديد وزن العلوم الحديثة فهم يتواصلون مع الاقتصاد الحديث لكنهم يقاطعون خبراء التشريعات الحديثة في حالة من النفور المذهلة، يقول في ذلك: ((وفي إطار محاولات الفقهاء الرواد في التواصل مع العلوم الحديثة ذات الصلة بفقه المعاملات المالية بخصوص تصوير العقود والوقائع المستجدة وتوضيح صيغ علاقاتها المؤثرة على الحكم الشرعي يلاحظ المتابع موقفاً مترعاً بالمفارقة في تحديد وزن العلوم الحديثة التي يمكن الاستفادة منها في هذا المجال.
فقد تم في هذا السياق بناء تواصل إيجابي معقول مع الاقتصاد الحديث، وتبادل للخبرات مع رجالات الاقتصاد من خلال استكتابهم في المجامع الفقهية، والاستناد إلى نتائجهم العلمية، وترجمة دراساتهم الأجنبية في تنام مستمر وملحوظ لمرجعية الاقتصاديين في الوعي الفقهي المعاصر، في مقابل القطيعة والنفور المذهل مع خبراء التشريعات التجارية والمالية الحديثة، على الرغم من أن خبراء التشريع من شُرّاح القانون ونحوهم في المجتمعات المتقدمة هم الوجه الحقيقي المقابل للفقهاء في المجتمع المسلم...)). [الأسهم المختلطة: 16].
ـ الخطاب الشرعي والاستفادة من الغرب:
يكرر كثير من مناوئي الخطاب الشرعي ـ كما يقول الأستاذ الفاضل في ورقته ـ القول بأن: ((الحضارة الغربية اليوم تمثل منبع العلوم ونموذج التفوق المذهل في كل الميادين والمجالات، ومن أعظم أسباب تخلفنا أن الخطاب الشرعي اليوم يقف حجر عثرة بين المجتمع المسلم والاستفادة من الغرب، وما لم يصحح الخطاب الشرعي موقفه الانفصالي هذا فهذا يعني أننا سنبقى في قعر التخلف)). هكذا تقول حجة المناوئين.
فما هو يا ترى توصيف الأستاذ الكريم لهذه الحالة في مقالات سابقة ؟ لنتأمل النص التالي والذي يذكر فيه الأستاذ الكريم واحدة من القضايا المركزية المحورية للتيار الإسلامي العريض في الوسط السعودي ـ كما يُعبر ـ يقول تحت عنوان ((الموقف من الحضارة)): ((تمتلك بعض الأطياف الإسلامية موقفاً سلبياً رافضاً للحضارة الغربية، فمثلاً : لسنا بحاجة إلى علوم اجتماعية وإنسانية منتجه في الغرب، والمجتمع المدني هو مجتمع يتعارض مع الشريعة، ونحو ذلك. وينطلق هذا الموقف من إطلالة مثالية بأن المسلم لا يمكن أن يكون بحاجة إلى المنتجات النظرية والإنسانية والفلسفية للغرب، وينطلق تيار التجديد في ذلك من منطلق واقعي بأن العالم الغربي، وإن كان لا يتوافق معنا في (الإيمان الديني)، لكنه قد تفوق علينا بنهضته وحضارته واقتصاده وعلومه وآليات تفكيره، وأن هناك مساحة واسعة للمشتركات الإنسانية بين الحضارات والثقافات المختلفة وهو مدخل التواصل الإنساني المطلوب)). [مقال للأستاذ السكران منشور في كتاب الإسلاميون... سجال الهوية والنهضة ص 195].
وهو الواقع الذي يسدل عليه الأستاذ الفاضل نصائحه التي تقول فيها: ((وعلى أية حال فإن استقلال الإبداع لا يعني التوتر مع منتجات الحداثة الاقتصادية المعاصرة، ولا يعني أن يكون الفقيه مهجوساً بحمل النصوص والتعسف في تصويرها كنقيض للاقتصاد الغربي، ذلك أن القيام بأمانة البيان للناس وحمل رسالة الفقه الإسلامي النبيلة ليس مرتبطاً بمخالفة خبرات الإنسان، بل مرتبط بشكل أساس بتقديم أدق منظور فقهي يستوعب مراد الشارع ومقاصده العامة التي يحبها الله ويرضاها ويتغياها في أحكامه؛ كالعدل، والقيام بالقسط، ورعاية المصالح، ورفع الحرج، وإزالة الضرر، واعتبار العرف، وإظهار الدين ونحوها من الغايات الإلهية الشريفة)). [الأسهم المختلطة 18].
ـ الخطاب الشرعي والاستقلال السياسي:
يقول الأستاذ الفاضل في ورقته الأخيرة: [من الأمور التي يشيعها بعض مناوئي الخطاب الشرعي قولهم: (الخطاب الشرعي المعاصر مجرد تابع للنظم السياسية يحركها كيف يشاء، فيبيحون ما أراد السياسي إباحته، ويحرمون ما يريد السياسي تحريمه)، وبعضهم يقول بلهجة دارجة (مشايخنا الله يخلف عليهم ورا الحكومة اللي تبيه يقولونه)، ويذكرون لذلك بعض النماذج التاريخية لفتاوى تغيرت بهدف تدعيم رؤيتهم هذه].
ويواصل الحديث عن حجج بعض المناوئين في هذا الموضوع، والتي يقولون فيها: إن ((الخطاب الشرعي لا يتحدث عن احتياجات الناس والحقوق المالية، ومفهوم الفساد المالي، وكل ذلك مراعاة للسياسي، مما يدل على عدم الاستقلال)). فمن ذلك مثلاً، أن بعض الناس يقول ((الخطاب الشرعي يغالي في مسألة طاعة ولاة الأمور)).
لينتقل معي القارئ الكريم، وليقرأ النصوص التالية للأستاذ السكران، والتي يقول فيها:
((في بالي الآن عدد من الأسماء السلفية الرنانة التي صدَّعت أسماعنا بذلك في المجالس والندوات المغلقة ـ وبعضهم يكتب في الساحة السياسية بأسماء شبه معروفة ـ ولكن أخلاق الإسلام تأبى علي التصريح بما في المجالس.. بل كثير منهم يعتذر صراحة في المجالس والندوات للنظم السياسية العربية الفاسدة بأنه ليس في إمكانها أكثر مما صنعت أمام الإمبراطورية الأمريكية...
بل بلغ الحال ببعض السلفيين إلى التبجح في المجالس بعلاقاتهم الخاصة مع الأمراء والولاة, وأصبحت نغمة مألوفة أن ترى الواحد منهم يقول (قال لي الأمير فلان كذا.. وقال الأمير فلان كذا..)، يقولها بكل استرخاء وكأن شيئاً لم يكن!...
وقد استمرت السلفية الرسمية غير حساسة بتاتاً تجاه المصالح الأمريكية ومشروع الاستعمار الأمريكي, وغير قادرة أصلاً على التقاط موجات الهيمنة وفهمها, برغم صلاح قصدها في كثير من الأحيان، لكنه نقص الوعي الذي ضرب بعمق في الأفهام.. ولذلك أفتت المؤسسة الدينية الرسمية في السعودية ـ بكامل حمولة زعامتها السلفية ـ بجواز الصلح مع إسرائيل وثار المسلمون في كل مكان على هذه الفتوى..
ثم لما هدأت الأمور، أعقبتها بفتواها الثانية في مشروعية ضخ ونشر القوات الأمريكية في المنطقة إبان أزمة الخليج.. وثارت الحركة الإسلامية حينها على هذه الفتوى..
ثم لما اندلعت أزمة لبنان وقف كثير من السلفيين في صف إسرائيل ضد المقاومة اللبنانية.. أؤكد أن كثيراً من ذلك قد يتم بحسن نية لكنه ينطوي على كثير من غياب الوعي...
والفقه السلفي المعاصر ـ للأسف ـ يخدم كثيراً مصلحة هذه النظم السياسية الفاسدة, فجمهور السلفيين المعاصرين يقفون موقفاً سلبياً من مفاهيم الشورى والمشاركة السياسية وتوسيع القاعدة الشعبية لاتخاذ القرار, فأفكار السلفيين المعاصرين تدفع باتجاه حرمان الأمة من المشاركة في صياغة واقعها...
ولذا يلاحظ المتابع أن النظم السياسية الفاسدة في العالم العربي تقمع الجهاديين, وتترصد للحركيين وتحصي أنفاسهم, أما السلفيون فهم الفرقة الوحيدة التي تتمتع بالقسط الأكبر من مناصب كبار العلماء, وإمامة الحرمين, ورئاسة الجمعيات الخيرية الرسمية, وإلقاء الدروس والدورات العلمية دون عرقلة ولا وساطات.. ونحو ذلك من هذه الامتيازات الفارهة...
فالمحصلة النهائية أن الفكر السلفي المعاصر يمنح النظم السياسية العربية مزيداً من الأوراق لتأكيد احتفاظها بالسلطة وانفرادها بها...
يعنيني كثيراً أن أوضح للقارئ الكريم خيطاً رفيعاً يفصل بعض السلفيات المعاصرة، كثيراً ما يتم خلطها ببعضها , ألا وهو الفرق بين "الجامية" و"السلفية الحكومية"..
فهاتان الفرقتان المعاصرتان يجمعهما تغييب الوعي عن "المنكرات السياسية" ويفترقان في المعركة البديلة, فالجامية تجعل المعركة مع "زلات الدعاة" والسلفية الحكومية تجعل المعركة مع "زلات المثقفين", ويشتركان كلاهما في التطبيل الخفي للنظم السياسية الفاسدة, وتعليق المنكرات على شماعة "الحاشية" و"البطانة" هربا من مواجهة الحقائق وتسمية الأشياء بأسمائها..
باختصار شديد.. الجامية والسلفية الحكومية تجعلان الصراع مع الطرف الأضعف , بينما يدعان القوي يسرح بالسلطة ويمرح, ولا يشك رجل شم أخلاق الإسلام ماتنطوي عليه هذه الممارسة من نقص في المروءة والرجولة.. )). [دور السلفية في ترسيخ المشروع الأمريكي، إبراهيم السكران].
هكذا نحن أمام حالة من الدفاع عن استقلال الخطاب الشرعي عن السياسي، تصادفها حالة من الهجوم الشامل كذلك؟
ومن المهم أن نلاحظ في هذه النصوص إلى أن الأستاذ السكران لا يحصر نقده على فرقة الجامية كما يسميهم، بل يحشر معهم (السلفية الحكومية)، والتي تضم العلماء الرسميين في هذا البلد كما هو صريح كلامه.
ومع أني لا أريد الدخول في تفاصيل النقاش حول صحة هذا الموقف الأخير ـ الذي من الضروري أن أبدي تحفظي عليه ـ لكني فقط أقول: هل يحق للقارئ أن يسأل الكاتب الكريم أين غابت هذه الأسماء التي كانت في باله، عندما أخذ في الدفاع عن حالة الاستقلال السياسي؟
أنتهي بآخر القضايا التي تعرض لها الأستاذ الكريم، والتي تدور حول:
الخطاب الشرعي ومعارك الصفات:
يقول الأستاذ الفاضل في ورقته الأخيرة: ((تتفق جمهور الطوائف الفكرية المعاصرة على نقد علاقة الخطاب الشرعي بمباحث "الأسماء والصفات الإلهية"، ويرون أن الخطاب الشرعي يقيم معارك لا داعي لها حول قضايا المعطلة والممثلة ونحوهم، في زمن نحن بأمس الحاجة فيه إلى تكثيف الجهود في قضايا المدنية والحقوق والأخلاق)).
هكذا الحال في دعوى المناوئين.
فلننظر إلى ما سطره الكاتب في أحد مقالاته حول معركة الصفات، حيث يقول: ((لكن حين تأخذ جولة سريعة في الدروس السلفية المعاصرة في علم العقيدة تتفاجأ حين ترى الدروس تمضي ساعاتها الثمينة في "صراع الأشباح" التي لا وجود لها أساساً...
أكثر شخصية حاضرة في تلك الدروس السلفية هو الجهم ومذهب الجهمية.. ولا والله مارأيت في حياتي كلها شخصاً جهمياً.. بل لا يعرف في تاريخ الإسلام مذهب له أنصاره وكتبه وتلاميذه باسم الجهمية.. وإنما هي مقالة تحكى بلا خطام عن شخصية غامضة ليس لها مؤلفات متداولة ولا تاريخ.. أما العالم الإسلامي اليوم فهو إما أشعري أو ماتريدي أو على مذهب أهل الحديث.. وهكذا تمضي ساعات طالب العلم ويستهلك جهده ووقته وعمره ـ الذي لن تزول قدماه يوم القيامة حتى يسأل عنه ـ في الرد على أشباح لا حقيقة لها ولا وجود...
بينما لو تقدم شاب مكلوم إلى أحد هؤلاء السلفيين المتصدين لدروس العقيدة بسؤال حول الفساد السياسي المعاصر وفتنة المسلمين بالاستعمار الأمريكي لتضايق من السؤال ووجه السائل إلى الاهتمام بتأصيل العقيدة أولاً!
ومتى كانت معركة الأشباح جزءاً من نور النبوة؟!
بالله عليك أخي القارئ الكريم: هل يمثل الرد على الجهمية والمجسمة ونظائرهم تهديداً للمصالح الأمريكية؟! وهذا ما يفسر لماذا استمرت أمريكا طوال السنوات الماضية في حماية ودعم آيديولوجية النظام السياسي الخليجي, وتمرير التمويلات الفلكية التي كان الخليج يضخها في طباعة كتب السلفيين المعاصرين في العقيدة..!)). [دور السلفية في ترسيخ المشروع الأمريكي، إبراهيم السكران].
بطبيعة الحال، نحن في هذه الفقرة أمام رأي حاد في الموقف من هذه القضية ـ وهو موقف بدون شك نبدي تحفظنا عليه ـ لكني أورده ليشاركني القارئ ملاحظاتي القادمة.
نعود إلى إشكالية (تحديد مفهوم المناوئين)، فنقول: هل مجرد ممارسة النقد للخطاب الشرعي / السلفي كفيل بأن يدخل صاحبه في خانة المناوئين؟ ولنتذكر كذلك وصف صديقه الملازم حين يقول ـ عمن وصف الأستاذ بأنه قد تغير في خطابه ـ: ((متى خرج حتى يعود!! أنا أعرف إبراهيم من أيام "ورقة المناهج" وإلى اليوم وبكل أمانة أن الرجل هو هو لم يتغير منهجه)).
ولذلك، نعاني في الخطاب الشرعي / السلفي من فريقين يمثلون طيفاً واسعاً، وهم من داخل الصف السلفي نفسه: فريق لا يقبل النقد، وفريق آخر لا يحسن النقد، وكلاهما واقع في طرف من المشكلة. وهكذا هو الحال في تاريخنا السلفي المعاصر... سكتنا عنه حتى حكاه الآخرون بكل حمولاتهم الأيديولوجية وشوهوا هذا التاريخ بكل إنجازاته، فخرج لنا في كل يوم خبراء جدد حول الحركات الإسلامية.
(الجزء الثاني والأخير)
بعد هذه الجولة، أطرح تساؤلات ثلاث:
(التساؤل الأول):
كيف كان ينظر الأستاذ السكران لكتابته تلك، ويقومها من خلال ورقته (المناوئين)، هل كان يعتبر نفسه وهو يمارس هذا النوع من النقد واحداً من المناوئين، أم أنه كان يشعر ـ وهو يمارس دوره في النقد ـ أنه يقوم بواجب النصح والتوجيه لبعض جوانب القصور داخل الخطاب الشرعي / السلفي الذي ينتمي إليه؟
أليست تلك التحفظات التي كان يبديها على الخطاب الشرعي، كانت تنبع عن شخص سلفي يرى أن ثمة ما يحتاج إلى تقويم واستصلاح؟
إن كان الأستاذ السكران لا يرى تلك النصوص التي سبقت مدخلة له في وصف (المناوئين)، فلماذا ساق في مقاله السابق تلك الحجج، غير مميز فيها بين صنف المناوئين وغيرهم؟
وإن كان يعد نفسه واحداً من المناوئين في تلك النصوص، فهل يعني هذا أننا سنفقد المصداقية في أخباره وأحكامه الصارمة العارمة، التي كانت تبدأ بـ(ولا يشك من يعنيه أمر الفقه الإسلامي...) و(يجب على الفقهاء المعاصرين... )، و(يلاحظ المتابع موقفاً مترعاً بالمفارقة) و(في بالي الآن عدد من الأسماء السلفية الرنانة). (لا يشك رجل شم أخلاق الإسلام ما تنطوي عليه هذه الممارسة من نقص في المروءة والرجولة). و(ولا والله ما رأيت في حياتي كلها شخصاً جهمياً...).
هل كنت ـ عندما تحمل تلك الأحكام ـ تنطلق من غير متابعة، مع أنك تشير إليها، ومن غير يقين، ومن غير واقع، مع أن في بال صاحبها (أسماء)؟
ألا يحق لنا أن نقول إن حشرك الجميع حتى من يستعمل العبارة الانتمائية (مشكلتنا...)، كان نوعاً من الظلم قد يتعدى إلى أناس هم من أكثر المدافعين عن المنهج السلفي!!
إن شعور الغيرة على الخطاب الشرعي، لا يسوغ أن نتعدى ونظلم الآخرين ونصفهم بما ليس فيهم، يقول ابن تيمية: (والشيطان يريد من الإنسان الإسراف في أموره كلها، فإنه إن رآه مائلاً إلى الرحمة زين له الرحمة حتى لا يبغض ما أبغضه الله؛ ولا يغار لما يغار الله منه، وإن رآه مائلاً إلى الشدة زين له الشدة في غير ذات الله حتى يترك من الإحسان والبر واللين والصلة والرحمة ما يأمر به الله ورسوله، ويتعدى في الشدة فيزيد في الذم والبغض والعقاب على ما يحبه الله ورسوله : فهذا يترك ما أمر الله به من الرحمة والإحسان وهو مذموم مذنب في ذلك، ويسرف فيما أمر الله به ورسوله من الشدة حتى يتعدى الحدود وهو من إسرافه في أمره، فالأول مذنب، والثاني مسرف ?إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ? [الأعراف:31]، فليقولا جميعًا: ?رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ? [آل عمران:147]...). "الفتاوى" (15/292-293).
(التساؤل الثاني):
أليس من الإنصاف والموضوعية أن نضبط مفهوم المناوئة، بأنه: مخالفة المنهج ومناصبة العداء، والنقد بقصد الهدم.
فنفرق بين النقد الذي يمارس من أجل الهدم والتشويه وتصفية الحسابات وبين النقد الذي يمارس من أجل التصحيح والتطوير، والذي يستصحب معه إيمانه بمنهجه السلفي، والتزامه بقواعد النظر والاستدلال الشرعية العلمية، لكنه لا يعطيه مسحةً من الغلو والتقديس الذي يضيع الحقيقة ويخالف الواقع؟
(التساؤل الثالث):
هل يمكننا القول، إن نقد الأستاذ السكران في كلا خطابيه المدافع والناقد، يتسم بقدر من الحدية في المواقف؟ وهل هذا يعني أن المزاج الذي يحكم كلا النظرتين، مزاج حاد النظرة والحكم والتوصيف؟ وهل هذا سيدعونا إلى أن نعيد النظر في المزاج الفكري الذي ينتج من خلاله الأستاذ السكران أفكاره؟
لا أريد من كل ما سبق، أن أتبنى رأياً موافقاً للأستاذ السكران في كلتا حالتيه، اللتين لا تعبران عن موقف موضوعي معتدل في عدد من مواضعها. إنما أردت هنا أن أبرز الحالة الفكرية التي يكتب بها صاحبنا، والنفسية التي تحكم الغيرة الشرعية عند الأستاذ الفاضل.
وعندما أقول إنه يحمل مزاجاً حاداً، فلست هنا مدافعاً عن أعداء الخطاب الشرعي، وإنما في صدد تقييم حصر الأستاذ تلك الدعاوى في صنف واحد وعدم فرزها الفرز العلمي الصحيح.
*الإشكالية الثانية: (الأجوبة ومعايير الموضوعية)
لاشك أن الأستاذ الفاضل حاول الجواب عن عدد من حجج المناوئين، وقد وفق في كثير من أجوبته، ولم يسلم من الإشكالية في أجوبة أخرى.
ولتوضيح إشكالية هذه الأجوبة، أستحضر تصويراً جميلاً يستعمله مالك بن نبي قد ينفعنا في توضيح المراد، فالوضع الذي قدم فيه الأستاذ الفاضل بعض أجوبته مثل أضواء المسرح عندما يتحكم القائمون عليه بتسليط الأضواء الكاشفة على جزء منه وتغييب هذا الضوء عن جزئه الآخر، أي إضاءة النقطة التي يريدها صاحبها، ثم يبقي ركن المسرح الآخر يغمره الظلام، وفي هذا الركن بالتحديد، تكتمل الصورة.
هكذا الحال في بعض أجوبة الأستاذ الفاضل، يُسلط الأضواء على جوانب مميزة ومضيئة ورائعة، لكنه يخفت الإضاءة عن جوانب أخرى.
إن الإضاءة التي وجهها الأستاذ الفاضل في أجوبته إضاءة صادقة، لكنها قاصرة، لأنها تجاهلت أشياء أخرى كانت محل نظر ونقد يقدمه غيورون مثله، يشتركون معه في المنهج والهدف والغاية.
هذه الحالة تكثر من الواصفين لواقعنا السلفي، نقول أشياء صحيحة، ونخفي أشياء أخرى أو قد لا نقبلها. وفي قريب من هذه الحالة، يقول ابن تيمية: (وأنت تجد كثيرًا من المنتسبين إلى علم ودين لا يكذبون فيما يقولونه، بل لا يقولون إلا الصدق، لكن لا يقبلون ما يخبر به غيرهم من الصدق...). "منهاج السنة" (7/193.192).
ويقول في موطن آخر: (فعلى الإنسان أن يصدّق بالحق الذي يقوله غيرُه، كما يصدق بالحق الذي يقوله هو، ليس له أن يؤمن بمعنى آيةٍ استدل بها، ويردّ معنى آيةٍ استدل بها مُناظِرُه، ولا أن يقبل الحق من طائفةٍ، ويردُّه من طائفةٍ أخرى). "درء التعارض" (8/404).
إن اختلاف الإضاءة من مكان إلى مكان هو الذي جعل الأستاذ السكران في مرة من المرات، يقول ـ كما في ورقته الأخيرة ـ: ((ولذلك كنت حين أسمع شخصاً يردد بعض هذه المقولات النقدية، فإني أفضل دوما أن أبدأ بالسؤال المنهجي: هل فعلاً أجريت دراسة مسحية أو استطلاعيه ـ ولو كانت عابرة ـ على منتجات الدروس الشرعية والبحوث التي ينتهجها الباحثون الشرعيون؟ وكنت دوماً أتفاجأ بردود مخيبة للآمال...)).
فهو هنا يظهر لنا مسحاً واستطلاعاً يثبت تقييما حول ما ينتجه الخطاب من دروس شرعية. لكنه يأتي موطن آخر ويعطي حكما مختلفاً، بناء على ذات المنهجية، وهي الاستطلاع والمسح في صورته العابرة والسريعة، فيقول: ((حين تأخذ جولة سريعة في الدروس السلفية المعاصرة في علم العقيدة، تُفاجأ حين ترى الدروس تمضي ساعاتها الثمينة في "صراع الأشباح" التي لا وجود لها أساساً...)). [دور السلفية...].
إن الذي جعل النتيجة تختلف هو نوع الإضاءة الموجهة. وهذه الإضاءة ـ أيضاً ـ هي التي جعلته يقول في تقييم البحوث المعاصرة حول الظواهر المالية في ورقته، أنه أمام ((أكداس غزيرة من الدراسات الشرعية الممتعة))، وهي ذاتها التي جعلته يقول في النص الثاني أنه أمام ((أحد المساحات الموات الجرداء التي لم يتم إحياؤها)) [الأسهم المختلطة].
إنه من المؤكد أن إضاءة جميع أركان المسرح ستكشف الصورة، الجميل منها وغير الجميل، لكن هذه الإضاءة بكل تأكيد ستكون مزعجة لأطراف كثيرة، لا يحبون أن تضاء جميع الأركان، وقد يتحمل قائلها من ظلم الجماهير ما لا تتحمله نفسه ولا تطيقه قواه.
*الإشكالية الثالثة: (الخطاب الشرعي وسؤال التقصير)
لا أخفي القارئ أنني فرحت عندما رأيت الأستاذ الكريم يتعرض في آخر ورقته لسؤال التقصير، ليس لأنني أقصد إلى أحب تشريح خطابنا الشرعي / السلفي، وإنما لأنني أريد من كاتب فاضل مثل الأستاذ السكران أن يكون أكثر إنصافاً وموضوعية، وهذا الإنصاف هو الذي سيقود كثيراً ممن انطلت عليه تلك الحجج إلى الإيمان بأننا نملك جواباً علمياً موضوعياً.
أما عندما يرى هؤلاء أننا نظهر أشياء ونخفي أخرى، فإننا سنفقد الثقة والمصداقية المطلوبة في خطاب الدفاع والدعوة والإقناع التي نتصدى لها. لكن جواب الأستاذ الفاضل على سؤال التقصير جاء جواباً مختزلاً إلى درجة ملفته، وسبب ذلك أنني وجدته يحصر الجواب عن هذا التقصير في الكمية، ويصمت عن الكيفية. أي أن بحوثنا في أبواب المعاملات والحقوق والأخلاق و.. و.. تحتاج إلى زيادة عدد لأنها غير كافية، فنحن فقط بحاجة إلى تكثيف الجهود في كل الحقول السابقة.
وهنا يحق لي أن أتساءل ألسنا بحاجة إلى أشياء أخرى... ألسنا مقصرين في نواحي أخرى من تلك الجوانب السابقة، ثم هل هذا الجانب الذي ذكره هو الجانب الأهم من جوانب القصور؟
لا أشك أن الجواب الواضح عن هذا السؤال ـ كما سبق ـ، سيحمل الأستاذ الفاضل عناء المعارضين، وقد يعرضه إلى حالة من الغضب ممن لا يطيقون أن يسمعوا شيئاً من نقد الممارسات العملية للواقع الشرعي / السلفي، لأن الكثير منهم وبكل بساطة يربط بين نقد الممارسة ونقد المنهج.
وهل من الموضوعية والعلمية أن نعتبر أن دفاعنا عن الخطاب الشرعي لا يكتب له النجاح حتى نبرئه من قصوره الحقيقي؟
إننا بكل اختصار نريد الدفاع، لكن الدفاع الذي يتسم بقدر من العقلانية و الموضوعية والصراحة، الموضوعية التي تدعو إلى أن لا نحشر الناس في زمرة واحدة، الموضوعية التي تدعو لأن نبين جوانب الضعف والقصور كما نبين جوانب القوة والنجاح، الموضوعية التي تستشعر أمانة الإطلاق للأحكام والأوصاف.
إن الشعور بالتقصير وحضور مطلب النقد والإصلاح موجود في تاريخ وحس المصلحين، إن هذا الشعور لا يعني عند المصلحين إلا نوعاً من تدعيم المنهج وقوته في فترات الضعف التي تمر به.
ولعل ابن تيمية، وهو الأنموذج السلفي الكبير الذي لا يفتأ الجميع ممن ينتسب إلى هذا الفكر، إلا ويستصحب مقولاته في بيان أسس هذا المنهج، قد أدى هذا الدور في صورته الدفاعية والنقدية معاً.
إن ابن تيمية لم يحمله الانتساب إلى المنهج السلفي أن يسكت عن بعض أخطائه حتى في تصور المنهج، ولذلك تجده يقول: (فإن المنتسبين إلى السنة والحديث ـ وإن كانوا أصلح من غيرهم من أشباههم، فالسنة في الإسلام كالإسلام في الملل، كما أنه يوجد في المنتسبين إلى الإسلام ما يوجد في غيرهم، وإن كان كل خير في غير المسلمين فهو في المسلمين أكثر، وكل شر في المسلمين فهو في غيرهم أكثر، فكذلك المنتسبة إلى السنة ـ قد يوجد فيهم ما يوجد في غيرهم، وإن كان كل خير في غير أهل السنة فهو فيهم أكثر، وكل شر فيهم فهو في غيرهم أكثر). "الفتاوى" (12/456.455).
ويقول عن تقييمهم: (...تارة بأن لا يعرفوا معاني نصوص الكتاب والسنة، وتارة بأن لا يعرفوا النصوص الصحيحة من غيرها، وتارة لا يردون ما يناقضها ويعارضها مما يسميه المعارضون لها العقليات... وكثير من المنتسبين إلى السنة المصنفين فيها لا يعرفون الحديث ولا يفقهون معناه... وقد رأيت غير واحد من المصنِّفين في السنة على مذهب أهل الحديث من أصحاب مالك وأحمد والشافعي وغيرهم من الصوفية وأهل الحديث وأهل الكلام منهم يحتجون في أصول الدين بأحاديث لا يجوز أن يُعتمد عليها في فضائل الأعمال، فضلاً عن مسألة فقهٍ، فضلاً عن أصول الدين). "الصفدية" (1/287.286).
ويقول في موطن آخر: (فالمنتسبون إلى أهل الحديث والسنة والجماعة يحصل من بعضهم، كما ذكرت، تفريط في معرفة النصوص أو فهم معناها أو القيام بما تستحقه من الحجة ودفع معارضها، فهذا عجز وتفريط في الحق، وقد يحصل منهم دخول في باطل: أما في بدعة ابتدعها أهل البدع وافقوهم عليها واحتاجوا إلى إثبات لوازمها، وأما في بدعة ابتدعوها هم لظنهم أنها من تمام السنة...). "الصفدية" (1/393.392).
ويقول: (وإذا قابلنا بين الطائفتين ـ أهل الحديث وأهل الكلام ـ فالذي يعيب بعض أهل الحديث وأهل الجماعة بحشو القول؛ إنما يعيبهم بقلة المعرفة، أو بقلة الفهم، أما الأول: فبأن يحتجوا بأحاديث ضعيفة أو موضوعة، أو بآثار لا تصلح للاحتجاج، وأما الثاني: بأن لا يفهموا معنى الأحاديث الصحيحة، بل قد يقولون القولين المتناقضين، ولا يهتدون للخروج من ذلك.
ولا ريب أن هذا موجود في بعضهم؛ يحتجون بأحاديث موضوعة في مسائل "الأصول والفروع"، وبآثار مفتعلة، وحكايات غير صحيحة، ويذكرون من القرآن والحديث مالا يفهمون معناه، وربما تأولوه على غير تأويله، ووضعوه على غير موضعه.ثم إنهم بهذا المنقول الضعيف، والمعقول السخيف، قد يُكَّفِرون ويُضَلِّلون، ويُبَدِّعون أقواماً، من أعيان الأمة، ويُجِّهِلُونهم، ففي بعضهم من التفريط في الحق، والتعدي على الخلق، ما قد يكون بعضه خطأ مغفوراً، وقد يكون منكراً من القول وزوراً، وقد يكون من البدع، والضلالات التي توجب غليظ العقوبات، فهذا لا ينكره إلا جاهل، أو ظالم، وقد رأيت من هذا عجائب، لكن هم بالنسبة إلى غيرهم في ذلك , كالمسلمين بالنسبة إلى بقية الملل)، "الفتاوى" (4/23-25).
ولم يمنعه انتسابه إلى الحنابلة أن يقول فيهم: (وفي الحنبلية أيضًا مبتدعة؛ وإن كانت البدعة في غيرهم أكثر، وبدعتهم غالبًا في زيادة الإثبات في حق الله، وفي زيادة الإنكار على مخالفهم بالتكفير وغيره...). "الفتاوى" (20/186-187). وغير ذلك من المواطن المهمة التي تعرض فيها ابن تيمية لأهل الحديث والمنتسبين للسنة بالنقد والتصحيح.
أختم هذه الجزء من المراجعة لألخص فكرتي فيما يلي:
أن الورقة الأستاذ الفاضل خلطت بين النقد الصحيح الذي يمكن أن يخرج من الشرعي / السلفي، والنقد المغرض الذي يخرج من غيره؟ وهي كذلك لم تكن صريحة في بيان قصور الخطاب الشرعي في جوانب عديدة موجودة في ذهن الكاتب، كما وضح ذلك في مقالات سابقة.
وربما يأتي في بحث آخر، مراجعة تفصيلية لبيان مواطن النجاح ومواطن القصور الحقيقي في الخطاب الشرعي / السلفي في القضايا التي تعرضت لها ورقة الأستاذ السكران.
وسنقارن هناك ليس بين كلام الأستاذ السكران بعضه مع بعض، وإنما بين كلامه عن تلك المجالات السابقة وبين كلام أصحاب الاختصاص أنفسهم في تقييم تجاربهم في تلك الحقول.
لننظر كيف ينظر أولئك المتخصصون إلى جوانب القصور في حقولهم، وهل هي محصورة في جانب الكمية أي: أنهم بحاجة إلى مزيد من البحوث والمشاركة؟ أم في جانب الكيفية أي في قيمة المخرجات ومدى نجاح المنهجية التي تقوم على ممارسة هذا النوع من النشاط؟ أم في الجانبين معاً؟
كما سنشير ـ هناك ـ إلى نجاح الأستاذ الكريم في الرد على مروجي النسخة المزيفة من الإمام الشاطبي في مقابل النسخة الحقيقة التي لا تساعد المناوئيين الحقيقيين على ترويج أفكارهم.
أخيراً، نحن بحاجة إلى الدفاع عن الخطاب الشرعي / السلفي... لكننا بحاجة أيضاً إلى أن لا يتحول الدفاع إلى عملية تخدير تصيبنا بحالة من عدم الإحساس الحقيقي بقصورنا، هذا التخدير الذي قد يسكن الألم، لكنه لا يزيله وإنما يؤجل الإحساس به إلى وقت آخر، حيث تجتمع الآلام علينا دفعة واحدة. (تذييل: حول تراجع أ. السكران).
بعد أن كتبت هذا التعقيب، كتب الأستاذ الفاضل إبراهيم السكران تعقيباً في [مجموعة عبدالعزيز قاسم البريدية] يذكر فيه أنه تراجع عن جميع مقالاته التي كتبها قبل ورقته (مآلات الخطاب المدني). فكتبت تعقيبا على ذلك هذا نصه:
شكر وتساؤل ورجاء:
بداية أشكر أخي الأستاذ السكران على ثنائه على تعقيبي ومدى إفادته، كما أحيي فيه تلك النفس العالية التي لا تجد غضاضة من تصريحها بتراجعها عما تعتقد أنها أخطأت فيه، غير أني لا أخفيه ولا أخفي القارئ أن الأستاذ الفاضل تجاوز جميع التساؤلات التي طرحتها في الورقة ليكتفي بإعلان تراجعه عن تلك الأفكار التي كان قد قالها من قبل.
وقد كنت أحسب أنني بينت مقصودي من عقد تلك المقارنة بين كلامه، وذكرت في تعقيبي طبيعة التساؤل الذي كنت أجري من أجله تلك المقارنة التي لا يهمها البحث في تراجع الكاتب عن أقواله من عدم تراجعه، وإنما همها شيء آخر، كما ذكرته هناك وسأعيده هنا.
لقد كان الجواب الذي قدمه الأستاذ الفاضل مفيداً لمن يهمه الجواب عن سؤال التغير. وهو مفيد كذلك لمن أورد تلك المقارنة ليجعلها نموذجا للتناقض صاحبها، وهذا غير الذي أريد. وهو مفيد ثالثاً لمن يظن واهماً أن الأستاذ السكران لا زال مؤمناً بتلك الأفكار القديمة التي قالها في تلك المقالات التي نقلتها.
نعم، هؤلاء سيستفيدون من جوابه. أما من كان مؤمناً بأن الكاتب قد غير مواقفه تبعاً لتغير قناعاته، وأنه ليس متناقضاً، وأنه متراجع عن تلك المقولات بدون شك، فهذا التصريح الذي قد قاله ربما لن يضيف إليه شيئاً كثيراً.
وغني عن القول، إنني ممن يؤمن بهذه النظرة الأخيرة، ومن أجل ذلك أرى أن الأستاذ الكريم قد تجاوز جميع التساؤلات التي أثرتها ليجيب عن شيء آخر لا دخل لتعقيبي به.
ولأنني على يقين تام أن عدداً لا بأس به ممن قرأ تعقيب الأستاذ الفاضل، ربما يحسب أن القضية قد انتهت بمجرد أن قال السكران أنه قد تراجع عن مقالاته قبل ورقة المآلات، فإنني أجدني نفسي مضطراً لأعيد ذات التساؤلات التي كنت أثرتها في تعقيبي.
الأمر الذي كنت أتقصد التنبيه إليه، يتلخص في تساؤلين:
أولاً: عندما كنت تمارس ذاك النقد الذي كنت تقوله قبل أن تتراجع عنه، هل كنت في عداد المناوئين أم كنت واحداً من عداد هذا الخطاب السلفي الشرعي يمارس النقد حتى ولو أخطأ فيه؟
وسواء عندي، كان الجواب بنعم أو لا، فطبيعة الجواب ستحدد لنا مفهوم المناوئين للخطاب الشرعي / السلفي في ورقتك؟ وهل يا ترى كل من يقدم نقداً علمياً موضوعياً للممارسات السلفية الواقعية يعد في نظرك أحد المناوئين؟ لماذا لم تصنف في مقالتك الكريمة بين أصناف النقادين، وحشرتهم في زمرة واحدة، وحشرت معهم من هم معك في نفس الصف ضد المناوئ الحقيقي؟
ألا تعتقد أن توصيفك الإجمالي لكثير من القضايا التي تعرضت لها سيدخل عدداً من أصحاب الخطاب الشرعي / السلفي نفسه في زمرة المناوئين لمجرد أنهم نقدوا خطابهم الشرعي / السلفي ببعض تلك الأمور؟
إنهم يتدبرون القرآن كما تتدبر، ويعتمدون على ذات المنهج الذي تعتمد، ويقرأون ابن تيمية الذي تقرأ، ويناصرون الشاطبي الذي تناصر، وينافحون عن المنهج الذي تنافح عنه، لكنهم مع ذلك يعتقدون أن خطابهم الشرعي / السلفي ليس خطابا خلياً من التقصير لا في جهوده ولا في تفكيره ولا في تعاطيه مع عدد من القضايا المعاصرة، تماماً كما كان يمارس ذلك ابن تيمية الذي سبق أن نقلت كلامه، وكما كان يمارسه الشاطبي وغيرهما من المصلحين. إن الذي يقودهم إلى ذلك ليس المناوءة، لكنه ذات المنطق الذي قادك إلى كتابة ورقتك حول المناوئين.
كل ما أريده هو تحرير الأفكار، حتى لا يقودنا هذا التوصيف الذي يحتاج إلى تحرير إلى عمليات هجوم وتعدي لا تقرها الشريعة على كل من يقوم بممارسة دوره في التصحيح داخل الخطاب الشرعي / السلفي. ولذلك فأنا لا أفق معك عندما تقول:
(والمراد أن كل من نقدني، وأساء القول فيّ، وخاض في عرضي، بناءً على كلام لي قبل ورقة المآلات فقد صدق وبرّ وما تجاوز الحق قيد أنملة، بل هو مأجور إن شاء الله).
نعم من حقهم أن ينقدوك، ولكن ليس من حقهم أن يخوضوا في عرضك، فمع الأخطاء التي يمكن إبدائها على ورقة المناهج وغيرها، إلا أن هذه الأخطاء لا تجيز شرعاً أن نخرج عن حدود ما رسمته لنا الشريعة ونتجاوز ذلك إلى أن يساء القول فيك، ولا أن يخاض في عرضك والعياذ بالله.
وفي هذا المعنى، يقول ابن تيمية: (فإن كثيرًا من الآمرين الناهين قد يعتدي حدود الله إما بجهل وإما بظلم، وهذا باب يجب التثبت فيه، وسواء في ذلك الإنكار على الكفار والمنافقين والفاسقين والعاصين). مجموع الفتاوى (14/481-482). (والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، كحال أهل البدع). كما يقول ابن تيمية في منهاج السنة (4/337).
ثانياً: هل جوانب التقصير التي وقعت في الخطاب الشرعي منحصرة، كما ذكرت في الجانب الكمي الذي يحتاج إلى تكثيف الجهود؟
أم أن هناك جوانب أخرى تتعلق بالجانب الكيفي يعاني منها الخطاب الشرعي / السلفي، جوانب متعلقة بمنهجيات البحث والتعاطي مع المسائل، وآليات الاستدلال، ومنهجية التفكير؟ فإن كان الجواب بنعم؟ فلماذا سكت عنها ولم تبدها بكل صدق وحيادية وموضوعية؟ أتدري لماذا أنا حريص على أن يبدي تلك التحفظات أنت لا غيرك؟ لأنك أن الأقدر من دون شك على توصيف هذا الخطأ بكل حيادية وواقعيه وموضوعية، بعيداً عن المزايدات والتكهنات والتخرصات.
مشكلتنا أيها العزيز... أن كثيراً ممن يملك الفكر السلفي الواعي يسكت عن توصيف واقعه التوصيف الصحيح... ويترك المجال إما لمناوئ حاقد على الخطاب الشرعي، وإما لكاتب قد يكون سلفياً لكنه لا يحسن النقد.
ولذلك، فإنني مؤمن بأننا نعاني في الخطاب الشرعي / السلفي من فريقين يمثلون طيفاً واسعاً، وهم من داخل الصف السلفي نفسه: فريق لا يقبل النقد، وفريق آخر لا يحسن النقد، وكلاهما واقع في طرف من المشكلة. وهكذا هو الحال في تاريخنا السلفي المعاصر... سكتنا عنه حتى حكاه الآخرون بكل حمولاتهم الأيديولوجية وشوهوا هذا التاريخ بكل إنجازاته، فخرج لنا في كل يوم خبراء جدد حول الحركات الإسلامية.
أنتهي من هذا التعليق برجاء أقول فيه: نحن بحاجة إلى قلمك المبدع، وحججك الرائعة، لكننا ندعو هذا القلم إلى مزيد من الأناة في توصيف المشكلات وتوصيف القائلين بها، حتى لا يقع الظلم على أحد لا يستحقه، يقول ابن تيمية: (فإن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال، والظلم محرّم مطلقا، لا يباح قط بحال، قال تعالى: ?وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? [المائدة:8]، وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار، وهو بغض مأمور به فإذا كان البغض الذي أمر الله به قد نُهي صاحبه أن يظلم من أبغضه، فكيف في بغض مسلم بتأويل وشبهة أو بهوى نفس؟! فهو أحق أن لا يظلم، بل يعدل عليه). منهاج السنة (5/126-128).
أصعب أنواع النقد، أن يكون الناقد مُعجب بمنقوده. ولكن العزاء من تكبد هذه الصعوبة : تحوّل هذا الاعجاب إلى محرّض لتحري العدل والموضوعية في النقد.يكاد ابراهيم السكران – المحامي المتخرج من كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود والحائز على درجة الماجستير من المعهد العالي للقضاء- مثال “المثقف المتفرد” من حيث مسيرته الثقافية القصيرة نسبيا.
ويكاد ، كذلك ، يكون أقدم ظهور علني للسكران في توقيعه لبيان العلماء المسلمين المبين لخطر التهديدات الامريكية للعراق في أواخر العام 2002م.(1) والتوقيع مع مجموعة كبيرة من العلماء – حوالي 209 – لا يبين لنا طبيعة التوجه الفكري لابراهيم السكران ، وإنما فقط يعطينا مؤشر لطبيعة الانتماء المتمركز حول قضايا المسلمين بابعادها العالمية.
بعدها بعام واحد ، في أواخر العام 2003، كان أول ظهور “فكري مستقل” له عبر الورقة التي قدمها مع المحامي عبد العزيز القاسم – الذي كان معاونا له في البحث – في الحوار الوطني الثاني المقام في مكة المكرمة بعنوان “المقررات الدراسية الدينية … أين الخلل؟”. في هذه الورقة ، قام السكران بعملية مسح لمناهج العلوم الشرعية في المرحلة المتوسطة والثانوية لمناهج البنين. وبناء على عملية المسح هذه قسّم الورقة إلى سبعة أقسام(2) : قسم يتناول الرؤية والمنهج المستخدم في تقويم المقررات، والقسم الثاني يبحث في ما تقوله المقررات عن الموقف من المخالف وتارجحه ما بين العدل والتعبئة ، أما القسم الثالث فيبحث في الموقف من الواقع الذي تقرره هذه المناهج، ويدور القسم الرابع حول الموقف من التدين ، ويتركز القسم الخامس منها حول الحضارة وموقف المقررات منها ، ويحتل المنهج العلمي القسم السادس لتاتي الخاتمة والتوصيات في القسم السابع. وكانت التوصية الرئيسية هي ” إعادة نظر جذرية في طريقة اعداد المقررات”(3).
هذه الورقة احدثت ثلاث ردات فعل متباينة ، فالتيار السلفي رفض محتوى الورقة وتوصياتها كما يتبين من ردود بعض المشايخ – كالشيخ اليحيى والشيخ الغصن وغيرهم- وتم خلع مسميات “العصراني” و”العقلاني” على السكران. بالمقابل قامت التيارات التحديثية بتبني هذه الورقات واستخدامها كوثيقة ادانة ضد التيارات الاسلامية كما يتجلى في سلسلة المقالات التي كتبت من قبل مشاري الذايدي وغيره. ومن خارج المملكة ، وفي أمريكا تحديدا ، نشرت دراسة قام بها أمريكي تتمحور حول المناهج الدينية وأثرها في تكوين الإرهاب اعتمدت كثيرا على ورقة السكران والقاسم.
بعد هذه الورقة، وفي يوم 28 اكتوبر من 2004، كتب مشاري الذايدي تحقيقا صحفيا في جريدة الشرق الاوسط عن الشيخ “محمد سرور” و “السرورية”(4). وكان من ضمن مصادر هذا التحقيق الصحفي : ابراهيم السكران باعتباره صاحب تجربة خاصة مع السرورية ، وباعتباره باحثا سعوديا ، وقد تحدث عن “الفكر السروري” باعتباره فكرا مهيمنا على مجمل الخطاب الديني السعودي.
يأتي العام 2005 ، وفي غمرة انهماك المجتمع السعودي في الأسهم وتداولها، يخرج علينا ابراهيم السكران بكتاب معنون بـ “الاسهم المختلطة” منشور من قبل “وهج الحياة للإعلام” التي يديرها نواف القديمي. في هذا البحث يشن السكران هجوما على الكليات الشرعية (5) وضعف برامجها التعليمية مما يؤثر على مخرجاتها ، وطالب بعزل “فقه المعاملات المالية” عن شجرة الفقه، كما استقلت الفرايض وغيرها من الفروع، وذلك بسبب التطور الهائل والمعقد لواقع المعاملات المالية والاقتصادية. وبعد المقدمة ، انتقل في الفصل الأول لنقد نظرية “الأسهم النقيّة” موجها نقدا جذريا لآلية الحكم بالنقاء وموضوعه ، معتبرا ان اعتماد التقرير الربع السنوي المُعلن من قبل الشركات لا يكفي للحكم على الشركة بالنقاء ، وبالتالي خلص إلى أنه لا توجد شركة “نقية” وأن كافة الشركات مختلطة. وفي الفصل الثاني يفصل في حكم الأسهم المختلطة ، ثم يليه خاتمة تلخص أهم النقاط.
وردا على مقالة لفارس بن حزام في جريدة الرياض ربط بين “المخيمات الصيفية والطلابية” ونشوء العنف والارهاب، كتب ابراهيم السكران ردا عليه نشرته جريدة الرياض في الـ 20 من مارس 2006 عنونه بـ ” النشاط الطلابي أحد خصوم العنف لا مصدره”. وفي نفس السنة في 21 من ابريل 2006 استضافته قناة الإخبارية في احد برامجها دار فيه الحديث حول الإصلاح ، وفيه وجه السكران نقدا حادا للغلو والتطرف التي تكتسيهما منتديات الساحات، مما أثار رواد هذه المنتديات لتسارع بالرد عليه.
ومع صيف 2007 طالعنا ببحثه “مآلات الخطاب المدني” وهو البحث محلّ النقد ، الذي قلب كثيرا من الموازين . فقامت المواقع السلفية التي كانت تحرض عليه وتتهمه بالعصرانية ، بتبني البحث، فتجده موجودا في “صيد الفوائد ” و “ليبرالي” و “ملتقى اهل الحديث” بل إن الساحات احتفى بالسكران وكاد ان يخلع عليه لقب “ابن تيمية الجديد”، وفتح عبد العزيز بن قاسم مقالة للاحتفاء بهذا البحث. وأما الردود فقد جاءت من القريبين جدا، من رفيق دربه “نواف القديمي” الذي ردّ عليه ببحث بعنوان “حكاية المدنية الموبوءة”، فقام السكران بالتعقيب عليه في مجلة العصر. وبعدها ، أصدر السكران تعقيبه الآخر المعنون بـ “إشكالات مثارة”، لتوضيح بعض الإشكالات التي اثيرت حول “المآلات”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش:
(1)http://www.arabiyat.com/magazine/pub…nter_322.shtml
(2) http://www.islamonline.net/arabic/co…rticle02.shtml
(3) http://www.islamonline.net/Arabic/co…ticle02g.shtml
(4) http://www.asharqalawsat.com/details…ران&state=true
(5)http://www.islamtoday.net/articles/s…5&a rtid=8834
----------------------
نظرات في ملحوظات الكاتبين
إبراهيم السكران وعبد العزيز القاسم
على مقررات مناهج العلوم الشرعية في التعليم
د/ سليمان بن صالح الغصن
الأستاذ المشارك بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة
بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
قد اطلعت على مذكرة أعدها الكاتبان/ إبراهيم السكران، وساعده عليها/ عبدالعزيز قاسم في نقد أسلوب ومحتوى مقررات العلوم الشرعية في التعليم العام.
وبعد قراءتها أحببت أن أكتب بعض ما لاحظته عليها بإيجاز – حسب ما سمح به الوقت – لعل الله أن ينفع به، ولعل الكاتبين الكريمين يجدا فيما كتبت ما يدعوهما إلى إعادة النظر ومراجعة ما سطراه في المذكرة المشار إليها.
سائلاً المولى – جل وعلا – الهداية والسداد، وأن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
هذا وقد جعلت الملحوظات في قسمين: إجمالية وتفصيلية على النحو التالي:
أولاً: الملحوظات الإجمالية العامة:
يمكن إيجاز أهم الملحوظات العامة بما يلي:
1- إن المذكرة التي اطلعت عليها بتراء لم تبدأ بذكر اسم الله – تعالى – ولا بالصلاة والسلام على رسوله الكريم، وهى في إطار معالجة المقررات الشرعية فهي بهذا حقيقة بأن تكون مقطوعة البركة في جملتها.
2- إن القارئ لهذه المذكرة يعجب بأسلوبها الرفيع، ويبهر بقدرة الكاتب على القراءة الموجهة التي تستطيع انتزاع ما تريده من الشواهد المؤيدة لوجهة النظر.
3- يلحظ أن الكاتب استشهد ببعض المقاطع من المقرر منزوعة عن سياقها الذي يبين المراد بها.
4- حذف الكاتب من بعض الشواهد التي ذكرها أول الكلام أو آخره الذي يوضح معناه.
5- اجترأ الكاتب على نقد عبارات واردة عن بعض السلف الصالح من الصحابة – رضي الله عنهم – ومن تبعهم، بل وعلى مفهوم بعض الأحاديث كما يأتي بيانه.
6- تناول الكاتب نقد عبارات وأمثلة المقرر، ولم يتعرض لتوجيه النصوص التي اعتمد عليها المقرر إلا نادراً.
7- لم يستوعب الكاتب بعض القضايا التي تناولها المقرر مما جعله يخوض فيها برؤية بعيدة عن نصوص ومقاصد الشرع، آلت به إلى نتائج غريبة، كما أن عدم استيعابه لبعض التقسيمات وتنوع الحالات جعله يرمي المنهج بالتناقض.
8- عند المقارنة بين المذكرة والمقررات يلحظ أن الكاتب صادر مفهوم المقرر في كثير من المواطن وغالط في مراده، فأنتج إجحافًا في أحكامه واتهاماته.
9- أهمل الكاتب النظرة الإجمالية المنصفة للمقررات، فلم يذكر من محاسنها إلا ما يدل على تناقضها واضطرابها – من وجهة نظره – وذلك حين يزعم أن هذا المعنى الحسن الذي قرره المنهج جاء ما ينقضه أو يخل به في موطن آخر.
10- ذكر الكاتب أن من وسائل تقويمه للمنهج معرفة مدى استيعابه لمجمل النصوص والقواعد وعدم انحيازه لمعنى دون آخر – والملاحظ أن الكاتب وقع فيما اتهم به المنهج، فلم تكن نظرته التقويمية منطلقة من مجمل النصوص الشرعية، بل أغفل الكلام على كثير من النصوص التي اعتمد عليها المنهج، ودعا صراحة إلى عدم تقرير التفاصيل التي بها يحصل تحرير المواقف وضبط الأحكام، كما يلحظ على الكاتب انحيازه لتقرير قناعات موجودة لديه، فقراءته للمنهج كانت توجهها خلفية سابقة ومنطلقات منهجية، ولذا لم يكلف نفسه الإجابة على كثير من النصوص التي اعتمد عليها المقرر.
11- ذكر الكاتب أنه راجع المقررات من خلال ستة من وسائل التقويم الفقهية، والعجيب أن النتيجة كانت رسوب المنهج في تجاوز أي منها، فقد لحظ الكاتب أن المنهج لم يعتن بشيء منها، بل وقع في التناقض والاضطراب حين تناولها، والأعجب من ذلك أن الكاتب ذكر أن ما توصل إليه من خلل في المنهج لم يكن خللاً منفردًا، بل كان كما سماه نظريات تحرك عناصر المنهج، فهو خلل في الرؤية، وليس في الأخطاء الجزئية العارضة !
12- كثر غمز الكاتب لمنهج السلف الصالح من خلال نقده للعبارات المأثورة عنهم، وجعل الخلاف بينهم وبين خصومهم وردهم عليهم معارك فكرية سياسية بعبارات تهويليه، وأن هذا الموقف من أصحاب الانحرافات العقدية مناقض لقواعد حقوق المسلم وحسن الظن به، وأن عرض مواقف السلف تجاه أهل البدع على الطلاب قد يفهم منه مشروعية القمع العنيف للمخالف، كما زعم أن القول بأن الشرك الأكبر يوجب العداوة بين صاحبه والمؤمنين منقول عن مصادر مولودة في ظروف استثنائية لا تصلح أن تكون قاعدة عامة لمناقضتها جملة من الأسس الشرعية، وأن الاعتماد على مثل هذه المراجع أوجد اضطراباً هائلاً في تنظيم الأولويات كما ورَّط الطالب في نيران معارك كلامية فكرية، كما أوحت بعض عبارات الكاتب بأن لدى المنتسبين إلى مذهب السلف الصالح زهواً بمذهبهم، ووثوقية مطلقة بعقيدتهم، وتنقصاً لعقائد المخالفين، وأظن أن قراءة مثل هذا الكلام عن الكاتب كاف في إعطاء تصور عن بعض دوافعه للكتابة في مثل هذا الموضوع.
13- ذكر الكاتب أن المقررات تجاهلت تبعًا للنظام السياسي قضايا مهمة – في نظره – كحقوق الإنسان والحريات، فهذه الموضوعات هي التي تقلقه وكأن الطالب يعيش في بلاد قمعية يحتاج فيها إلى تعريفه بحقوقه المسلوبة وحرياته المصادرة، والعجب أن الكاتب يرى أهمية مثل هذه الموضوعات للطالب في هذه المرحلة، وفي المقابل ينعى على المقرر قلقه على العقيدة، وتحذيره من الشرك والكفر، ولم يذكر المعيار الذي تعرف به أهمية الموضوع في تقديمه على غيره.
ثانيًا: الملحوظات التفصيلية:
في الحقيقة أن الرد التفصيلي على الشبهات التي أثارتها المذكرة يحتاج إلى بسط، وربما يكون في ذلك تطويل يسبب إملالاً لقارئه من غير المختصين، ولذلك سأكتفي بالرد الموجز على الملحوظات بما يبين المقصود – إن شاء الله تعالى – وسيكون ذكر الملحوظات مرتبًا حسب ورودها في المذكرة، فأقول مستعينًا بالله وحده:
1- (ص2) ذكر الكاتب أن هذا العمل – أي: نقده لمقررات العلوم الشرعية – جاء ليضبطها بأصول الشرع. أقول: في هذا الكلام تزكية للنفس واستعلاء على الآخرين، واتهام للمقررات بأنها مخالفة لأصول الشريعة.
2- (ص2) ذكر الكاتب أن المناهج لا يمكن أن تكون السبب الأساسي لتحريك العنف المسلح ضد الغرب، و في هذا اعتراف ضمني بأن مناهجنا كانت سببًا في ذلك، وإن لم تكن السبب الأساسي، وهذا الكلام كله يدور في فلك النظرة الغربية والهجمة الشرسة على مناهجنا وبلادنا.
3- (ص3) زعم الكاتب تناقض المنهج حينما دعا إلى حسن التعامل مع المسلمين وخطر تكفيرهم من جهة، ومن جهة أخرى حينما بين خلل الفرق البدعية المخالفة لمنهج السلف الصالح، والحق أنه لا تناقض بين الأمرين، فحسن التعامل مع المسلم والتحذير من تكفيره عمومًا لا يمنع من بيان انحرافه وضلاله إذا حصل منه شيء من ذلك، والضلال درجات ولا يلزم أن يكون كل ضلال كفراً كما أن انتساب المسلم للإسلام لا يعني عصمته من الانحراف والوقوع في أنواع الضلالات، إذا لم يتمثل هدي الإسلام، ويلتزم بعقائد التوحيد التي دل عليها كتاب الله – تعالى – وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم –.
4- (ص4) نقل الكاتب من مقرر التوحيد للصف الأول ثانوي عبارة " الفرق المخالفة من جهمية ومعتزلة و أشاعرة وصوفية حيث قلدوا من قبلهم من أئمة الضلال، فضلوا وانحرفوا " وفهم من هذا النص أنه اختزل أسباب الاختلاف في تقليد أئمة الضلال، وأنه سوى بين الفرق، ووصفها بالضلال والانحراف.
والجواب أن يقال:
1. إن المقرر لم يختزل أسباب الانحراف في تقليد أئمة الضلال، وإنما جعل التقليد الأعمى سببًا للانحراف، وذكره من ضمن سبعة أسباب، بين أنها من أهم أسباب الانحراف عن العقيدة الصحيحة.
2. إن المقرر لم يجعل الفرق المذكورة متساوية في الضلال، وإنما جعلها مشتركة في أحد أسباب الانحراف عن العقيدة الصحيحة وهو التقليد الأعمى للمنحرفين وهذا حق، وبهذا يتبين كيف كان فهم الكاتب المغلوط، ومصادرته لمفهوم كلام المقرر، وقطعه عن سياقه مؤديًا إلى اتهام المنهج بماهو منه براء.
5- (ص4) استنكر الكاتب وصف الأشاعرة والماتريدية بالضلال والانحراف عن منهج السلف، وهذا في الحقيقة راجع إلى أحد أمرين: إما أنه يجهل عقيدتهما ويظن أنه لا فرق بينها وبين عقيدة السلف الصالح وهذا جهل فاضح، وإما أنه يعلم انحراف الأشاعرة والماتريدية ولكنه يستعظم وصفهما بالانحراف والضلال وهذا أيضًا ناشئ من الجهل بدرجات الانحراف والضلال – وأنه لا يلزم أن يكون كل انحراف وضلال كفرًا.
6- (ص4) نقل الكاتب عبارة عن المقرر ونصها " من نفى ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله فقد كفر " وانتقدها من أربعة أوجه:
1. أن فيها عدوانًا على جمهور علماء الأمة وأتباعهم.
2. أنه لا قائل بالتكفير في هذا المقام بهذا الإطلاق.
3. أن الطالب لا علاقة له في هذا السن – الثاني ثانوي – بدقائق أحكام التكفير هذه.
4. أن في هذا تهوينا لقواعد تعظيم التكفير وبيان خطره.
والجواب من خمسة وجوه:
1. أن الكاتب يتهم جمهور المسلمين بأنهم نفاه لما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله – صلى الله عليه وسلم –، وفي هذا الكلام جرأة وتهويل يخالف الواقع والحقيقة، فالمسلمون في عامتهم على الفطرة الموافقة للكتاب والسنة في إثبات صفات الله – تعالى – ولم ينكر ذلك إلا من تلوثت فطرته، وانحرف فكره، وفسد منهجه.
2. أن الكاتب ظن أنه يلزم من وصف المقالة بأنها كفر، أو إطلاق القول بأن من قال كذا فهو كافر ظن أنه يلزم من ذلك تكفير أعيان كل من قال بذلك، وهذا الظن مخالف لمنهج السلف الصالح الذين يفرقون بين القول والقائل، والفعل والفاعل، والتكفير بالوصف والتكفير بالشخص، فلا يلزم من كون المقالة كفرًا أن يكون قائلها كافرًا، فالتكفير له شروط وموانع فقد يمنع من التكفير جهل القائل، وتأوله، وكذا الخطأ، والإكراه، كما هو معلوم.
3. أن تكفير من أنكر ونفى صفات الله – تعالى – مشهور عن أئمة السلف كما قال نعيم بن حماد – شيخ البخاري " من جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر " فكيف يزعم الكاتب بأنه لا قائل بالتكفير في هذا المقام بهذا الإطلاق.
4. أما قوله بأنه لا علاقة للطالب بهذا السن بدقائق أحكام التكفير هذه، فيقال: إن الطالب في هذه المرحلة الثانوية، من المهم أن يعلم خطر إنكار صفات الله – تعالى – وما يؤدي إليه، ثم إن هذه المسألة ليست من دقائق أحكام التكفير، بل هي من أظهرها، فهي متعلقة بأوصاف الخالق – سبحانه وتعالى – الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
5. أما زعمه بأن فيها تهويناً لقواعد تعظيم التكفير فليس الأمر كذلك، فقواعد تعظيم التكفير باقية، ولكنها ليست ما نعة من تكفير من يستحق ذلك، ثم إن تقرير مثل هذه المسألة فيها تعظيم لنصوص الشرع في نفوس الطلاب، وتحذير عن الجرأة عليها بالتحريف لا سيما فيما يتعلق بصفات الله – تعالى–.
7- (ص4) ذكر الكاتب أن المقرر يعد التحريف كفرًا، ومع ذلك يجعل تأويلات الأشاعرة تحريفًا.
والجواب:
1. أن الكاتب لم يذكر مستنده من المقرر على أن كل تحريف كفر.
2. أن الكاتب ربط ما ادعاه بأن كل تحريف كفرًا بما ورد في المقرر من تسمية تأويلات الأشاعرة تحريفًا، والكاتب بهذا الأسلوب التلفيقي يريد أن يزرع في وعي القارئ بأن المقرر يُكَفّر الأشاعرة، وهذه النتيجة التي يريد الكاتب التوصل إليها لا تدل عليها عبارات المقرر، وإنما غاية ما فيه أن تأويلات الأشاعرة لنصوص الصفات من قبيل التحريف، وهذا حق ولا يلزم أن يكون كل تحريف كفرًا.
3. أن الكلام على تحريف الأشاعرة الذي ذكره الكاتب إنما جاء في حاشية المقرر ولم يكن في صلبه، ولذا لم تكن عبارة الحاشية محررة، حيث إنها جعلت تحريف "استوى" إلى معنى "استولى" من قبيل التحريف اللفظي، والصواب: أنها من قبيل التحريف المعنوي فهي تحريف في معاني الألفاظ وليس في اللفظ نفسه.
8- (ص5) انتقد الكاتب جعل إنكار شيء من أسماء الله – تعالى – أو مما دلت عليه من الصفات وتأويلها نوعًا من الإلحاد، وزعم أن في ذلك تصعيدًا للموقف الفقهي من المخالف دون انضباط، وهذا الانتقاد يثير تساؤلاً عن مراد الكاتب، فهل يريد أن يجعل المنكر لشيء من أسماء الله – تعالى – أو صفاته، المخالف لدلالة الكتاب والسنة كالمثبت لها الموافق للوحي؟ أم أنه لا يفهم من الإلحاد إلا إنكار وجود الله – تعالى –؟ ولم يعلم أن الإلحاد هو الميل عن الحق وهو درجات ولا يلزم أن يكون كل الحاد كفراً، ومثل ذلك استنكار الكاتب ما جاء في المقرر من أن " من رد شيئًا من نصوص الصفات أو استنكره بعد صحته فهو من الهالكين " مع أن هذا المعنى مستنبط من أثر ابن عباس – رضي الله عنهما – المذكور في الباب نفسه وهو قوله" ويهلكون عند متشابهة " وربما أن الكاتب لا يعلم من الهلاك إلا الخروج من الملة دون قيد أو شرط .
9- (ص5) ذكر الكاتب أن المقرر يعرض بعض ممارسات المسلمين بمبالغة وتهويل تنطلق بالخطأ إلى مستويات مشبعة بالتضليل، ثم أورد نصًا في إنكار بدعة المولد النبوي، ويلاحظ أنه حرّفه بحذف بعض الجمل التي توضح المراد، وسأذكر النص كما أورده الكاتب، ثم أبين بعض الجمل التي حذفها ليتضح المقصود.
فالنص الذي أورده الكاتب كما يلي:
" الاحتفال بمناسبة المولد النبوي وهو تشبه بالنصارى … فيحتفل جهلة المسلمين أو العلماء المضلون … ويحضر جموع كثيرة من دهماء الناس وعوامهم ولا يخلو من الشر كيات والمنكرات، وقد يكون فيها اختلاط الرجال والنساء مما يسبب الفتنة ويجر إلى الوقوع في الفواحش … وهو بدعة أحدثها البطالون وشهوة نفس اغتنى لها الأكالون ".
ويؤخذ على الكاتب في هذا ما يلي :
حذف بعد قوله، وهو تشبه بالنصارى – عبارة " في عمل ما يسمى بالاحتفال بمولد المسيح "، وهى مهمة تبين حقيقة المشابهة.
ذكر عبارة " ولا يخلو من الشركيات والمنكرات " وحذف ما جاء قبلها وبعدها وعبارة المقرر كما يلي:
" والغالب أن هذا الاحتفال – علاوة على كونه بدعة وتشبهًا بالنصارى – لا يخلو من الشركيات والمنكرات فإنشاد القصائد التي فيها الغلو في حق الرسول صلى الله عليه وسلم إلى درجة دعائه من دون الله والاستغاثة به … "
فالمقرر لم يطلق بأن الاحتفال لا يخلو من الشرك والمنكرات، بل قال: " الغالب"، وفرق بين هذا وما أوهمه تصرف الكاتب في عبارة المقرر.
كما أن المقرر ضرب أمثلة للشر كيات والمنكرات التي يغلب وجودها في هذا الاحتفال، ولكن الكاتب تغافل عنها، ولم يذكر منها إلا مسألة اختلاط الرجال بالنساء، وكأن في هذا إيحاءً بأن كثيرًا من الاحتفالات بهذه المناسبة لا يكون فيها اختلاط، وبهذا يتحقق له المقصود بوصف المقرر بالمبالغة والتهويل.
كما أن عبارة " وهي بدعة أحدثها البطالون" منقولة عن الفاكهاني وليست من صياغة تأليف المقرر كما يوهم نقل الكاتب.
10- (ص5) زعم الكاتب أن المقرر قدم قواعد للتعامل مع المبتدعين تتعارض مع القواعد الشرعية للتعامل مع المخالف، وضرب لذلك أمثلة منها " تحريم زيارة المبتدع ومجالسته "..
والجواب عن هذا من وجوه:
1. أن النصوص الشرعية دلت على البعد عن جليس السوء وعن القعود مع الذين يخوضون في آيات الله.. .
2. إن الآثار عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في التحذير من مجالسة أهل البدع والأهواء وهجرهم كثيرة معلومة.
3. إن النقل الذي ذكره الكاتب عن المقرر حذف منه أمرًا مهمًا جاء بعده وهو عبارة " إلا على وجه النصيحة له، والإنكار عليه؛ لأن مخالطته تؤثر على مخالطه شرًا " فإذا كانت الزيارة والمجالسة فيها مصلحة شرعية فلا ينهى عنها
4. إن توجه الكاتب للتهوين من ضرر المبتدع والترحيب بمجالسته يعود بالضرر على عامة المسلمين، فإذا لم ينفرا لناس من أهل بدعة التكفير مثلاً، ولم يحذروا من مجالستهم فقد يتأثروا بشبهاتهم وأهوائهم ويصيروا مثلهم.
11- (ص5) هاجم الكاتب رسالة فضيلة الشيخ/ بكر أبو زيد في " هجر المبتدع، " وزعم أنها تفتقر إلى الحد الأدنى من قواعد العدل، وأخلاق الاختلاف المقررة في الشريعة … إلى آخر ما ذكره عن الرسالة مما فيه حط من قدر علمائنا واتهام لهم في منهجهم في تناول القضايا، وإيماء بأن كتبهم لا ينبغي أن تكون أساساً يربى عليها صغار الطلاب.
12- (ص5-6) ذكر الكاتب أن المقرر أشار إلى بعض التفسيرات العدوانية للسلوك المخالف، وذلك كافتراض التواطؤ في علاقة المخالف بالمستعمر.
والجواب: إن على الكاتب أن يقرأ التاريخ ليعرف مدى علاقة بعض أهل البدع الباطنية وبعض الصوفية بل وبعض النزعات التكفيرية بالمعتدين على بلاد الإسلام من أهل الكفر.
فهل يريد من المقرر أن يزرع في وجدان الطالب حسن الظن بالعملاء لأهل الكفر ممن لاغيرة عندهم على دينهم، ولا اهتمام لديهم بمصلحة وطنهم، في مقابل مصالحهم الشخصية وطموحاتهم الذاتية، وإن تلبسوا بلباس التدين أو نادوا بالإصلاح و ادعوا الصلاح.
13- (ص6) استنكر الكاتب ما عرضه المقرر من مواقف لبعض الصحابة رضي الله عنه ومن تبعهم من رؤوس أهل البدع، ووصف ذلك بأنه تعامل عنيف مع المخالف، قد يؤدي إلى انهيار حرمة الدماء والنفوس في وجدان الشباب.
والجواب من وجوه:
1. إن ما ذكره المقرر إنما هو مواقف لسلفنا الصالح من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم ممن هم قدوة لنا وأعلم منا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومصلحة الإسلام.
2. إن مواقف التأديب للمبتدعة المذكورة في المقرر صدرت ممن لهم ولاية فلا يرد انهيار حرمة الدماء والنفوس في وجدان الشباب.
3. هل يرى الكاتب أن ما فعله الصحابة رضي الله عنه والتابعون لهم بإحسان فيه إهدار لحرمة النفوس بغير حق، وهل يرى المصلحة في تحبيب أهل البدع للنفوس، وإيجاد الأعذار لهم أم في التحذير من سلوك طريقهم وبيان حقيقة أمرهم في الدنيا والآخرة
14- (ص6-7) انتقد الكاتب ما ذكره المقرر من وسائل لحفظ الدين. ورأى أن حماية الدين الأساسية تقوم على البرهان وجلال الله – تعالى – والفطرة والقسط والشورى والرحمة، وأرى أنه لا تناقض بين الأمرين فما ذكر في المقرر إنما جاء على سبيل التمثيل وبما يناسب المقام وما ذكر الكاتب حق ولكل مقام مقال.
15- (ص7) استنكر الكاتب مبدأ البغض في الله للعصاة ومعاداتهم، ورأى وجوب نشر المحبة والمودة بدل البغض، ولم يدرك الكاتب بأن العاصي من أهل التوحيد يجتمع في حقه الحب والبغض، فيحب من وجه ويبغض من وجه، ولا يمكن أن يتساوى من كل وجه المطيع والعاصي والصادق والكاذب، والأمين والخائن كما أنه لا تناقض بين ملاطفة العاصي وأدب الحديث معه ومعاداته، وقد يكون لكل حالة ما يناسبها من المعاملة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بهجر ثلاثة من أصحابه، وغضب في مواقف على من خالف أمره، وهكذا الصحابة رضي الله عنه ولا يصلح أن يجعل أسلوب واحد يعامل به جميع العصاة والمخالفين بحيث لا يشعر أي واحد منهم مثلاً ببغضنا لما صدر منه، كما لا يصح أن يكون بغضنا له سببًا في عدم تألفه ورعاية حقه، ووجود المحبة له.
16- (ص7) ذكر الكاتب نقولاً عن المقرر في ذكر بعض الشركيات الواقعة في بعض بلاد العالم الإسلامي، وزعم أن فيها مجازفة برسم صورة تكفيرية شمولية عن العالم الإسلامي.
والجواب:
1. إن النقول المذكورة لم تعمم الحكم والوصف على جميع العالم الإسلامي، بل نص عبارات المقرر : " أن كثيراً من الناس " كثير من هذه الأمة " جهلة المسلمين "، ويظهر من هذه العبارات الاحتياط في الوصف وعدم تعميمه.
2. أن ما ذكر شرك ظاهر، فهل ينازع الكاتب في أن التقرب للأموات بالدعاء والاستغاثة والذبيح والنذر شرك أكبر، وأن البناء على القبور والغلو في الصالحين من وسائل الشرك ؟
17- (ص8) زعم الكاتب أن المقرر يلقي عبارات إهدار الدماء، واستباحة الممتلكات بشكل فوضوي غير منظم المعنى والمعايير، ويستدل على ذلك بما جاء في المقرر من أن" الشرك الأكبر يبيح الدم والمال " " والمشرك حلال الدم والمال".
والجواب:
إن الكاتب لم يتصور الفرق بين إهدار دم المشرك وماله من جهة، وقتله وأخذ ماله فعلاً من جهة أخرى، فالأول حكم له شروطه وموانعه، بينها المقرر نفسه، والثاني تنفيذ الحكم بعد استيفاء شروطه وانتقاء موانعه وهذا خاص بمن له ولاية .
وقد جاء في المقرر نفسه خطورة تكفير المسلم، والفرق بين التكفير بالعموم والأوصاف وتكفير الأشخاص المعينين، والذي ضبط بشروط، وذكر له موانع دلت عليها النصوص الشرعية.
18- (ص8) زعم الكاتب أن المنهج قرر إهدار دم المتهم بالشرك، واستباحة ماله ولو كان جاهلاً، واستشهد على ذلك بما جاء في المقرر من أن الذي يقول: لا إله إلا الله ولا يترك عبادة الموتى، والتعلق بالأضرحة لا يحرم ماله ولا دمه.
والجواب : إن الكاتب افتات على المنهج، فالمنهج صرح بعذر الجهل، ومما جاء فيه بهذا الخصوص:
" من كان حديث عهد بالإسلام، أو من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، أنكر شيئًا مما هو معلوم من الدين بالضرورة كالصلاة أو تحريم شرب الخمر، وكذا من نشأ في بلاد يكثر فيها الشرك ولا يوجد من ينكر عليهم ما يقعون فيه من الشرك فلا يكفر إلا بعد أن تقام عليهم الحجة " وذكر بعد ذلك نقلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد بن عبدالوهاب، جاء ذكره في مقرر التوحيد للصف الثالث ثانوي (ص 28).
19- (ص8) يرى الكاتب أن المقرر جازف بأحكام كبيرة تفتقر إلى الدقة الفقهية والتناسب مع مستوى الطالب حينما نقل عن ابن القيم – رحمه الله – تقرير شريعة إباحة دم المشرك وماله، واسترقاقه كما قال رسول الله: صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله.. " الحديث المشهور. فهل يرى الكاتب أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله وما سار عليه المسلمون من مقاتلة المشركين خطأ أو على الأقل لا يناسب تقريره للطالب لما في ذلك من التحريض الذي يخالف المهمة المنتظرة ؟!
20- (ص8) انتقد الكاتب ما وصفه بتعبئة الطالب ضد الاتجاهات الفكرية المعاصرة كالقومية، ونقل عبارات من المنهج في ذلك، والحق أن الدعوة إلى القومية مخالفة لهدي الإسلام الذي جعل مدار الاتحاد والتآخي على الدين لا على القومية، فمن استبدل الوحدة الإسلامية بالوحدة العربية والدعوة إلى قوميتها بغض النظر عن دين صاحبها فقد خالف منهج الإسلام في ذلك، حيث أخرج المسلمين غير العرب من دعوته ووحدته، وقرب كفار العرب وجعلهم من عصبة وحدته. فما الضير في انتقاد هذه الدعوة التي تحييي النعرات والتحزبات الجاهلية، وتهمش الوحدة الإسلامية، ثم إن فيها دعوة إلى تسهيل الكفر في عدم وصف الكافر بما يستحق من الوصف المنفر عن فعلته. نعم ربما تحتاج عبارات المقرر إلى تفريق بين أنواع الدعوات القومية المختلفة من حيث عمق ضلالاتها وانحرافها.
21- (ص9) انتقد الكاتب تحذير المقرر من الرأسمالية ووصفها بالكفر باعتبار أن المبشرين بالنظرية تختلف انتماءاتهم الدينية.
والجواب:
إن المنهج ذكر مسوغ وصفها بالكفر، وأن سببه اشتمال نظامها على ما حرم الله، كالربا مثلاً، ومن المعلوم بأن استباحة ما حرم الله كفر بغض النظر عن دين مستحله أو قناعته وفلسفته.
22- (ص9-10) يعتقد الكاتب أن المقرر بالغ في تكفير المنتمين إلى المذاهب الإلحادية كالشيوعية والعلمانية والرأسمالية، وجازف في ذلك مجازفة تخرجه عن الموضوعية والدقة، وأن هذا الكلام يهز التقعيد النظري الذي قدم للطالب عن خطر التكفير وقيمة العدل في الموقف من المخالف " والظاهر من كلام الكاتب أنه فهم من التقعيد لخطر التكفير والعدل في الموقف من المخالف أنه لا يكفر أحد ولو جاء بما يكفر به، وأن تكفير من كفره الله ورسوله مناف للعدل، وكأنه يرى أن مقتضى العدل مع المخالف ألا تكفره مهما صدر منه، وهذه مجازفة تخالف الكتاب والسنة.
23- (ص10) ظن الكاتب أن ما جاء في المقرر من معادات المشرك شركاً أكبر يتناقض مع المحبة الطبيعية ومبدأ الإحسان للعالم كما قررته النصوص الشرعية، والحق أن هذا الظن جهل بمدلول النصوص الشرعية ومنهج السلف الصالح، فالمشرك عدو لله لا يحبه الله – تعالى– فتجب معاداته، وتحرم مودته، ولا يمنع ذلك من الإحسان إليه وبره وإمكان نشوء محبة طبيعية معه كمحبة الزوجة والولد والوالد، بل ولا يتعارض مع وجوب العدل معه وتحريم ظلمه وبخسه حقه، فلا منافاة بين الأمرين، والمقرر إنما نفى المحبة الإيمانية والموالاة الإسلامية.
24- (24 - ص10) انتقد الكاتب ما قرره المنهج من العزة على الكافرين والغلظة والشدة والترفع عليهم، ويرى أن ذلك خاص بالمعتدين، وأما غيرهم فإنما يؤمر باللين والإحسان والقسط معهم.
والجواب: – كما سبق – أنه لا منافاة بين الأمرين، فقد قال الله – تعالى – " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم " كما أمر بالإحسان لغير المعتدين وبرهم والإقساط، إليهم فلكل مقام وحال ما يناسبها؛ من الغلظة والشدة أو اللين والإحسان، أما الرفعة والعزة فلا تنافي اللين والإحسان: فالمسلم عزيز بما يحمله من الإسلام والإسلام يعلو ولا يعلى عليه كما قال الله – تعالى–: " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون "، وقال – تعالى– في وصف أهل الإيمان: " أعزة على الكافرين ".
25- (ص11-12) خلص الكاتب إلى أن المقرر لم يعرف أصول الاختلاف وقواعد التعامل مع المخالفين، وذكر تحت ذلك ستة أصول اتسم بعضها بالعمومية والإطلاقات غير المنضبطة، ومن ذلك:
1. أن الكاتب قرر بأسلوب ملبس أن رسل الله – تعالى– لم يفصلوا للناس الشرائع، وإنما ذكروا بعض التفاصيل الثانوية، واستدل على ذلك بما لا دلالة فيه، وبما مفهومه لا يوافق ما استشهد به لأجله كما في الآيتين اللتين ذكرهما مما يتعارض مع ما قرره المفسرون في معناهما.
ثم كيف يزعم الكاتب أن الشرائع لم تبين إلا القواعد العامة التي يحتاجها الناس في حياتهم، وبعض التفاصيل الثانوية، وقد قال – تعالى– " وكل شيء فصلناه تفصيلاً " وقال: "ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء، " بل لقد قال أحد اليهود لسلمان الفارسي – رضي الله عنه –:" قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة ! فقال: أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول " رواه مسلم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فكل ما يحتاج الناس إليه في دينهم فقد بينه الله ورسوله بيانًا شافيًا، فكيف بأصول التوحيد والإيمان " (مجموع الفتاوي 17/43) .
2. زعم الكاتب أن من حكمة الله – تعالى– أن تبقى مفاوز ظنية محتملة يذهب الناس في تفسيرها كل مذهب.
والعجيب أن هذا نفس كلام أهل البدع الذين يزعمون أن من حكمة إنزال المتشابه أن يجد أصحاب كل مذهب فيه ما يوافقهم، ومن ذلك ما قاله الرازي في أساس التقديس (ص 248) قال: " لو كان القرآن كله محكمًا لما كان مطابقًا إلا لمذهب واحد فكان على هذا التقدير تصريحه مبطلاً لكل ما سوى هذا المذهب، وذلك ينفر أرباب المذاهب عن قبوله وعن النظر فيه... ".
فياسبحان الله كيف تكون الحكمة في عدم هداية الناس إلى القول الحق، وإنما في التلبيس والتعمية عليهم بعمومات محتملة تثير النزاعات والخلافات بينهم !
والحق أنما يفتتن بالمتشابه ويتبعه أصحاب القلوب المريضة كما قال الله – تعالى –:" فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله".
وأما أهل الرسوخ في العلم فيردون المحكم إلى المتشابه ويؤمنون به.
3. ذكر الكاتب أن من الأصول التي أهملها المقرر: تعميق الإيمان بالتعددية، بما يعني الإقرار في الاختلاف، فهل الكاتب يرى أن الإسلام يقر كل تعدد في الدين والرأي مطلقاً دون قيد أو شرط؟ وكيف يفهم ذلك في ضوء النصوص الشرعية كقوله – تعالى–: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله "، وقوله صلى الله عليه وسلم :"أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وإني رسول الله " الحديث، وقوله: " من بدل دينه فاقتلوه ".
وهل يرى الكاتب أن لكل أحد أن يقول ما يشاء ويعتقد ما يريد من الكفر والإلحاد، ويفعل ما يختار وأن يُقَر على ذلك ولو كان فيه ما فيه باعتبار أنه وحده المسؤول عن حرية الاختيار ؟ !
وهل هذا المنهج إلا تهيئة للطالب لتقبل كل فكر منحرف، وعذر صاحبه، ومعلوم ما يحدثه هذا التوجه من شروح في بنية المجتمع الواحد، وزرع للاختلافات، وسماح لشذوذ الأفكار.
4. ما ذكره الكاتب بقوله: " نبذ الزهو المذهبي " لم يفصح بمراده ولم يذكر أمثلة واقعية له؛ فإن كان يرى أن تقرير عقيدة التوحيد في ضوء الكتاب والسنة والدعوة إليها والتحذير مما خالفها، من التوجهات البدعية والشركية إن كان يعتقد أن ذلك زهواً وغرواً مذموماً فهذه مصيبة، وفي ذلك تمييع لقطعيات الدين وقول بنسبية الحق والمعرفة.
والغريب من الكاتب أن يجعل الاعتداد بالحق والدين الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – ونبذ ما خالفه مشابهاً لاعتداد اليهود والنصارى بأديانهم – كما هو مفهوم كلاًمه–.
5. ما ذكره الكاتب من تكريس قيم التعايش فيه عمومية لم يحدد مقصوده منها، ولم يبين وجه إخلال المنهج بها!
6. ما ذكره من عدم بخس المخالف.. كلام حق وجميل، ولكن هل هذا الأصل غائب في المنهج؟
7. ما ذكره من مراعاة الوسع حق، ولكن ظاهر كلامه فيه خلط بين مراعاة الوسع وبيان الحق والرد على الانحراف، فكون الشخص يبذل وسعه، ويتوصل إلى نتيجة خاطئة ليس بعذر له في نشر باطله وسكوت غيره عن الرد عليه.
26 - (ص13-14) زعم الكاتب أن المقرر بالغ في تصوير الانحراف الواقع في العالم الإسلامي، وذلك بإشارته إلى كثرة البدع والأهواء، ووقوع الشركيات لدى كثير من المسلمين.
والجواب من وجوه:
1. إن ما ذكره المقرر حق فكثير من بلاد الإسلام وقع فيها ذلك.
2. إن هذا مصداق ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: " وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار الا واحدة " قالوا: من هي يا رسول الله قال:" من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي "، وفي رواية "هي الجماعة " رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد والحاكم وصححه ووافق الذهبي.
3. إن المنهج لم يعمم الحكم والوصف على كل المسلمين، بل ذكر أن كثيرًا منهم يحصل منهم انحرافات، وهذا واقع.
4. إن تصوير الواقع كما هو، وذكر المنهج الصحيح للتعامل معه أولى من المخادعة وتصوير العالم الإسلامي بغير حقيقته، أو الزعم بأن واقعة يمثل الإسلام الصحيح.
انتقد الكاتب عبارة المقرر بأنه " أصبحت مناهج التعليم في الغالب لا تولي جانب الدين اهتمامًا كبيرًا أو لا تهتم به أصلاً " وجعل ذلك تهويلاً ضد المؤسسات الاجتماعية.
والجواب:
إن هذا الكلام جاء في سياق ذكر أسباب الانحراف عن العقيدة فهو يتكلم كلامًا عامًا، لا يقصد بلدًا بعينه، ولذا قال: في الغالب، وهذا الكلام حق، فإن الناظر في مناهج التعليـم في كثـير من بلاد الإسلام يجد تهميشًا لتعليم أمور الدين والعقيدة الصحيحة، بل لا تكاد تجد بلداً يولي اهتماماً بتعليم أمور الدين والعقيدة الصحيحة خاصة في مناهجه كما في المملكة العربية السعودية؛ لأن الدين الإسلامي وهو أساسها ومنهج حكمها، ولذا كثر الشغب والهجوم على مناهجها من أعدائها ومن بعض أبنائها العاقين لها ولمنهجها.
27 – (ص14) انتقد الكاتب ما ذكر في المقرر من سبل توقي الانحراف في العقيدة بالعناية بتدريس العقيدة الصحيحة وإعطائها الحصص الكافية من المنهج ويرى أن في ذلك إجحافًا بارزًا.
والجواب:
أن هذا الكلام ذُكر في المقرر في سياق بيان سبل توقي الانحراف عن العقيدة عمومًا فهو لا يتحدث عن بلد بعينه.
والناظر في واقع كثير من بلاد الإسلام يجد إجحافًا في تدريس العقيدة حال وجوده.
ثم نتساءل: هل الاهتمام والعناية بتدريس العقيدة الصحيحة يعد إجحافًا بالبرنامج التعليمي ؟ وهل يضبط الانتفاع بالعلوم وينضبط توجه المتعلم وإخلاصه لوطنه إلا بالعقيدة الصحيحة ؟ !
28 – (ص14) صادر الكاتب مفهوم عبارة المقرر في بيان انحراف وسائل الإعلام، وحملها ما لا تحتمل، ونص العبارة " أصبحت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة في الغالب أداة تدمير وانحراف، أو تعنى بأشياء مادية أو ترفيهية، ولا تهتم بما يقوم الأخلاق ويزرع العقيدة الصحيحة، ويقاوم التيارات المنحرفة ".
وقد زعم الكاتب أن العبارة تجعل وسائل الإعلام منسلخة عن العقيدة منحلة الأخلاق.. وهذا التعميم من الكاتب باطل لا تدل عليه عبارة المقرر لأنه جاء فيها" في الغالب" ولم تجعل الحكم على الجميع كما زعم الكاتب، وذكرت أن وسائل الإعلام لا تهتم بما يقوم الأخلاق ويزرع العقيدة الصحيحة ولم تقل إنها منسلخة عن العقيدة منحلة الأخلاق.
29 – (ص15) انتقد الكاتب تحذير المقرر الطلاب من تصديق ما تبثه الإذاعات الأجنبية ووكالات الأنباء الحاقدة... ولا أدري ما العيب في هذا التحذير الذي هو بمثابة التحصين للطلاب ضد سلبيات الإعلام، وكأن الكاتب يريد أن يزج بالطالب في كل واد وأن يشتت ذهنه ويمزق سلوكه، ويشككه في ثوابته، ويوغر صدره على بلده باستماعه كل ما يبث عبر تلك الوسائل الأجنبية الحاقدة والمشبوهة، وكأنه يفترض في الطالب أن لديه القدرة على كشف ألاعيب وخداع وشبهات الحاقدين والمتربصين.
30 – (ص15) نقل الكاتب عن المقرر عبارة محرفة في كفر من حكم بغير ما أنزل الله حكمًا عامًا في دين المسلمين، وزعم أن في ذلك تقديم قواعد خطرة للطالب في تكفير الأنظمة والحكومات معزولة عن ضوابط التطبيق، والجواب:
1. إن عبارة الكتاب ليس فيها ذكر للأنظمة ولا الحكومات.
2. إن الحكم المنقول فيمن بدل شرع الله اعتمد في المقرر على فتاوى الشيخ/ محمد بن إبراهيم (مفتي الديار السعودية في وقته).
3. إن المقرر قدم قبل هذا ذكر ضوابط التكفير وخطره وشروطه وموانعه، فالمحذور المذكور منتفٍ.
4. إن هناك فرقًا بين الفعل والفاعل، فلا يلزم من جعل الفعل كفرًا تكفير كل من فعله كما هو معلوم من مذهب أهل السنة والجماعة.
كما أن الكاتب انتقد غمز المقرر لمن لا يتحاكمون إلى شرع الله إلا في الأحوال الشخصية فقط، ورأي وجوب وصفهم بالإسلام.
كما رأى أن التنبيه على هذه الثغرة خطير لما ينتجه من التأثير على نفسية الطالب واعتزاله،. وهنا يتبين اضطراب الكاتب وتناقض وجهته، فحيناً نراه يدعو للانفتاح وجعل الطالب يسمع كل ما يقال وينشر ويعرض، وفى حينٍ آخر يدعو إلى إغفال الحديث عن الواقع وتناسيه وتعمية الأحكام على الطالب.
31- (ص16) انتقد الكاتب ما اشتمل عليه المقرر من التخويف من الشرك والنفاق، والتحذير من الردة والبدعة، ورأى أن هذه التهويلات والمبالغات تمزق السكن النفسي للفرد، وتطوق أنفاس الإنسان وحركاته وسكناته، وأوهم أن المقرر صور تلك الأمور" الشرك، والنفاق، والبدعة، والردة " كقوة خارقة لا يمكن مقاومتها.
والجواب من وجوه:
1. إن الخوف من الشرك والنفاق أمر تعضده النصوص الشرعية والآثار السلفية، فقد قال الله – تعالى– عن نبيه إبراهيم عليه السلام:" واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرًا من الناس" قال: إبراهيم التيمي: "ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم" فمن ذا الذي يدعي العصمة من الوقوع في الشرك، وكيف لا يخاف وهو محبط للأعمال وموجب للخلود في النيران. وقال ابن أبي مليكة: " أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه "
2. إن المقرر لم يجعل تلك الأمور مما لا يمكن مقاومته، بل هذه دعوى ومصادرة لمفردات المنهج المتكاثرة في بيان أسباب توقي هذه الأمور.
3. إن الواجب التحذير والتخويف من الوقوع في كل ما يضر بالدين، كما أنا نحذر من كل ما يضر بالصحة والمجتمع ووحدة الصف وأمن الوطن ونحو ذلك، وليس في هذا التحذير تمزيق للسكن النفسي، بل فيه دفعة للمشاركة وتقوية للشعور بالانتماء.
4. إن مفهوم كلام الكاتب أن الواجب إشعار الطالب بخطر تلك الأمور دون تخويفه من الوقوع فيها، وتحذيره من قربها، وبمعنى آخر إفهام الطالب بخطرها وتطمينه من الوقوع فيها، فعلى هذه الرؤية ينبغي الاقتصار على إشعار الطالب بخطر المخدرات مثلاً دون تحذيره من أسبابها، ولا تخويفه من مضارها، ولا تنبيهه على عدم الانخداع بأصحابها، بل يشعر بأنها خطر وأنه في مأمن من الوقوع فيها، وهكذا في كل أمر مماثل.
5. إنه يجب على المسلم ألا يركن إلى علمه ولا يثق بفهمه أو يستغني عن ربه، بل عليه أن يكون دائم الصلة بربه مستشعرًا فقره إليه، طالبًا العون منه على الثبات على الحق وتجنب الشرك وأسبابه.
6. إن انتقاد الكاتب لمنهج السلف الصالح في التحذير من الشرك، وأن الشخص قد يقع فيه وهو لا يشعر إن هذا الانتقاد مخالف لمقتضى النصوص الشرعية في التحذير من الشرك وبيان خطره، ومن ذلك قوله: " أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر"، قالوا: يا رسول الله وما الشرك الأصغر؟ قال: "الرياء " رواه أحمد وغيره، وفي حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: "أيها الناس اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل" فقال له من شاء الله أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يارسول الله ؟ قال: " قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئًا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم " رواه أحمد وغيره. وكيف لا يُخاف ولا يُخوف من الشرك، وقد قال الله – تعالى– فيه: " إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ".
ومعالجة الإرادات والنيات من أشد الأشياء فقد يكتب الشخص نقدًا أو يعرض مشروعًا أو يقول قولا أو ينفق مالاً يريد به المكانة والشهرة أو أي أمر دنيوي آخر، وإن كان ظاهر حاله أو يظن في نفسه الانتصار لدينه والحرص على وطنه – نسأل الله السلامة والعافية–، ولأن هذا الأمر يتعلق بالنية وهى مصاحبة للشخص في عامة أحواله جاء التركيز عليها، و الحث على تنقيتها.
7. يلحظ على الكاتب جرأة في نقد بعض مدلولات النصوص الشرعية، والإيهام بأن النقد موجه لمفاهيم المقرر التي هي في الحقيقة مستقاة من النص نفسه، كما يلحظ عليه نسفاً للآثار السلفية، وعدم اعتبار لمدلولها كما في غمزه لأثر ابن أبي مليكة، ولكلام ابن القيم في هذا المقام.
32- (ص18-19) عرض الكاتب لموقف المقرر من الحضارة، فاتهمه بالاضطراب والتناقض، ونقل عنه بعض النصوص في هذا الموضوع.
والناظر في هذه النصوص المنقولة يلحظ تناقض الكاتب نفسه، وعدم فهمه، ومصادرته للحقيقة.
فقد نقل عن المنهج حثه على تعلم الصناعات المفيدة واتخاذ القوة والانتفاع بما أباحه الله لنا من الزينة والاتجاه نحو البناء والتنمية.
ثم يصور اضطراب المنهج في هذه القضية حينما وجه بعدم استحقاق أهل النظرة المادية للحياة وصف العلم وإن كان لديهم خبرات وصناعات.
والجواب:
1. إن المنهج أشاد بالأخذ بما هو نافع من الأمور الحياتية وما توصلت إليه الحضارات مما هو مفيد ونافع.
2. لا تناقض بين الإشادة بالأخذ بالنافع الدنيوي وذم من يكون همه هو الحياة الدنيا فقط مع الغفلة عن الآخرة.
3. إن المقرر لم يجعل العلماء الذين انحصر همهم وعلمهم في الصناعة والمخترعات الدنيوية جهالاً في فنهم ودنياهم، بل جعلهم جهالاً في أمور دينهم وهذا هو مدلول قوله– تعالى–:" وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون " فأثبت لهم العلم وعدم العلم، فهم علماء في الدنيا جهال بالآخرة، والعجيب أن الكاتب يأخذه الهوى في مصادرة مفهوم عبارة المقرر إلى أن يجعل مدلولها أن علماء الحضارة ثلة من الجهال هكذا بإطلاق موهم، وأن الذي يستحق وصف عالم هو العابد فقط.
فأين هذه العبارة وهذا المفهوم من المقرر، وإنما الذي جاء فيه عدم استحقاق أهل النظرة المادية وصف العالم بإطلاق، وأنه إنما يطلق هذا الوصف الشريف على أهل معرفة الله وخشيته، ولم يقل العابد، فالعالم هو من يخشى الله تعالى كما قال – سبحانه – : " إنما يخشى الله من عباده العلماء ".
وما ورد في الشرع من إطلاق مدح العلماء ورفع درجاتهم، وأنهم ورثة الأنبياء إنما يستحقه من هو أهل لذلك ولا يستحقه العلماء الماديون الغافلون عن الله والدار الآخرة، هذا هو مقصد المقرر كما يفهم من سياق كلامه وليس كما صوره الكاتب وأوهم بما نقله من بعض النص.
وما ذكره الكاتب من عدم التلازم بين قضية التقدم المدني في الحضارة المعاصرة وقضية الإيمان هو مفهوم عبارة المقرر.
33- (ص20) في أول (ص 20) نقل الكاتب نصًا حذف منه ما يرد عليه مأخذه، إذ إن المحذوف من النص فيه اعتراف بما عند الدول الكافرة من تقدم صناعي، وحث على تقليدهم في النافع من ذلك، وفي الجد وإعداد القوة، كما أن فيه تحذيرًا من تقليدهم في أخلاقهم وعاداتهم السيئة، كما أن الكاتب قطع نصًا آخر واقتصر منه على عبارة " والتي كثيرًا ما تقوده إلى الدمار كما هو مشاهد في المجتمعات الجاهلية ".
فأوهم الكاتب أن المقرر يجعل كل ما تقدمه الحضارة المادية المعاصرة يقود إلى الدمار، وسياق كلام المقرر في الواقع لا يدل على ذلك، وإنما فيه أن مقومات الحياة المادية كثيرًا ما تقود إلى الدمار إذا كان مجتمعها لا تسوده عقيدة صحيحة، وهذا حق واقع مشاهد لا ينكره إلا مكابر أو جاهل.
34- (ص20) جعل الكاتب إضمار العداوة للكفار وبغضهم من التحريض والاستعداء على المسالمين والحق أن ما قرر الكاتب جهل بنصوص الشرع فإنه لا تلازم بين البغض والاستعداء، فالمسلم يبغض الكافر؛ لأنه عدو لله محاد له، والله – تعالى– نهى عن تولي الكافر وموادته كما قال – تعالى–: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق " الآية، وقال – تعالى–:" لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله " الآية، والنصوص الشرعية في هذا المعنى كثيرة معلومة، فالكافر تجب معاداته، وفي المقابل لا يجوز الاعتداء عليه، ولا منافاة بين بغضه والإحسان إليه وتأليف قلبه وتحبيب الدين له.
فلا منافاة بين العداوة القلبية والمداراة والإحسان والتأليف والعدل.
35- (ص21-22) ما ذكره الكاتب من الوقائع في الاستفادة مما عند الآخرين من النافع المفيد لامشاحة فيه والمقرر لم ينفه، بل أكد عليه، ومن ذلك ما جاء في كتاب التوحيد للصف الأول ثانوي في موضوع تقليد الكفار قال: " تقليدهم في الأمور التي ليست من خصائصهم، بل هي أمور مشتركة كتعلم الصناعات المفيدة واتخاذ القوة والانتفاع بما أباحه الله لنا من الزينة التي أخرج لعباده والأكل من الطيبات من الرزق، فهذا لا يعد تقليداً بل هو من ديننا، والأصل أنه لنا وهم لنا فيه تبع".
36- (ص22) قرر الكاتب جواز النقل عن الثقافة الدينية اليهودية مستدلاً بحديث " حدثوا عني بني إسرائيل ولا حرج " وقول أبي هريرة رضي الله عنه " كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ".
ويلاحظ بأن الكاتب اتخذ منهج الانتقائية للنصوص الشرعية وتجزئتها بما يخدم غرضه ورؤيته.
فالحديث المذكور ليس فيه ما يدل على جواز النقل عن الثقافة الدينية اليهودية بل مدلوله في إباحة التحديث عنهم بما لا يتعارض مع ديننا وشريعتنا، فالمنقول عن بني إسرائيل إما أن يأتي في شريعتنا ما يؤيده فيصدق وإما أن يأتي ما يعارضه فيكذب، وإما ألا يرد هذا ولا ذاك فلا يصدق ولا يكذب ويبقى الخبر في هذه الحالة معلقًا محتملاً، وهذا ما يفيده ما حذفه الكاتب من بقية أثر أبي هريرة رضي الله عنه ، فقد جاء في تكملته : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: آمنا بالله وما أنزل " الآية.
فحذف الكاتب بقية رواية أبي هريرة المبينة للحقيقة المخالفة لما يهدف إليه.
وإباحة التحديث عنهم فيما لا يعارض شرعنا إنما هو في ذكر القصص والأخبار، أما العقائد والأحكام فلا يجوز أخذ شيء منها لا من التوراة ولا من الإنجيل؛ لأنها محرفة منسوخة، وقد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى في يد عمر رضي الله عنه صحيفة من التوراة.
فكيف يقرر الكاتب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أزال عن الصحابة رضي الله عنه هذه الحواجز في التردد في النقل عن الثقافة اليهودية.
37- ص22-23 لا حظ الكاتب وجود موضوعات في مقرر التوحيد والفقه كرر الكلام عنها في مقرر الحديث وهذه ناحية لا حاجة لإطالة الكلام فيها، وإن كان من المعلوم أنه ليس كل تكرار مذمومًا، وأن التناول للقضايا في مقرر الحديث يختلف هدفه عنه في مقرر الفقه أو التوحيد كما هو معلوم عند أهل الاختصاص.
38- (ص23-24) عاب الكاتب على المنهج تزهيده في الدنيا واحتقار مظاهرها وعدم الانبهار بمعطيات الحضارة المادية، وذكر أن سبب هذا العيب في هذا التوجيه هو القلق على العقيدة.
والحق أن مسألة التزهيد في الدنيا وعدم الاغترار بها والركون إليها أمر تواترت بتقريره النصوص الشرعية مما لا حاجة للإطالة بذكره.
وما نقله الكاتب عن المقرر من أن الانبهار بمعطيات الحضارة المدنية سبب في الانحراف العقدي قد حذف منه أوله المبين للمقصود، والذي جاء في المقرر:
" الغفلة عن تدبر آيات الله الكونية وآيات الله القرآنية، والانبهار بمعطيات الحضارة المادية.... " الخ.
فعبارة المقرر ظاهرة في أن الغفلة عن الآيات المقرونة بالانبهار بالحضارة المادية ونسبة ما تم التوصل إليه إلى الجد البشري وحده، ونسيان عظمة الخالق – سبحانه– الذي دلهم وعلمهم وأقدرهم هذا من أسباب الانحراف عن العقيدة.
ويلحظ أن هذا الكلام المذكور في المقرر في تسعة أسطر اجتزأ الكاتب قليلاً منه وذكره بعيدًا عن سياقه، لينتج مراده من التشنيع على المقرر باختزاله الانحراف عن العقيدة بالانبهار بالحضارة المادية.
39- (ص25) زعم الكاتب أن المقرر يُحمٍّل العبارات الدلالات الكفرية دون نظر في قصد قائلها، مثل ما ورد في المقرر من قول " الدين ليس في الشعر"، وقول: " جاءكم أهل الدين، للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والاستهزاء بالقائمين على أعمال البر"، والحق أن المقرر لم يهمل قصد قائلها، بل ذكر هذه العبارات في سياق من يقولها استهزاء بالدين وأهله وشعائره كما دلت عليه آية سورة التوبة " قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ".
فإيراد الكاتب لهذه الأمثلة على عدم اعتبار المقاصد مصادرة للسياق ومغالطة للمضمون.
40- (ص26) يفترض الكاتب فهمًا خاطئاً للعبارات التي نقلها عن المقرر، مثل زعمه تجاهل المقرر عذر المخطئ في عبارة " الناس قد يقعون في الشرك وهم لا يدرون"، وعبارة "الشرك قد يتسرب إلى الإنسان من حيث لا يشعر"
والجواب:
أن هذا الفهم لهذه العبارات غير صحيح، فليس فيها عدم عذر المخطئ، وإنما فيها احتمال وقوع الشرك من الشخص وهو لا يدري أو لا يشعر، وذلك راجع إلى خفاء الشرك في بعض الأمور أو جهل الإنسان وعدم احترازه، وهذا هو مفهوم النصوص الشرعية كما سبق في النصوص التي وصفت الشرك بأنه أخفى من دبيب النمل وإرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قول: " اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئًا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلم".
41- (ص26) انتقد الكاتب ما جاء في المقرر من العذر ببعض حالات الجهل دون بعض، فهو يرى أن الجاهل معذور مطلقًا دون تفصيل.
ولعل الكاتب لم يطلع على أقوال العلماء في هذه المسألة، وأن هناك أمورًا لا يتصور فيها الجهل، وذلك كتنقص الرب – تعالى– بالسب مثلاً فلا يعذر صاحبه بحجة جهله بأن تنقص الرب مخرج من الدين كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في (الصارم المسلول).
42- ( ص26) زعم الكاتب أن عبارة المقرر توحي بإطلاق الكفر على الجاهل ونقل عن المقرر من العبارات قوله: " إن ما ينذره جهلة المسلمين من نذور للأولياء والصالحين من أموات المسلمين كأن يقول: يا سيد فلان إن رزقني الله كذا أجعل لك كذا، فهو شرك أكبر"، وقوله: " الناس قد يقعون في ألوان من الشرك وهم يجهلون ".
والحق أن هذه العبارات ليس فيها ما يوحي بإطلاق الكفر على الجاهل، وإنما فيها إطلاق وصف الشرك على الفعل لا على الفاعل، ومن المعلوم أن هناك فرقًا بين الفعل والفاعل، فالفعل قد يكون شركًا وفاعله لا يكفر إلا عند توافر الشروط وانتقاء الموانع، وقد جاء في مقرر التوحيد للصف الثالث ثانوي بيان خطر التكفير، وأنه لا يحكم على الشخص إلا بعد قيام الحجة عليه.
وكذا يرد على الكاتب زعمه (ص 26) أن المقرر تجاهل عذر المتأول وأوحت عباراته بإطلاق الكفر على كثير من المذاهب المخالفة، كما في الموقف من الصفات الإلهية والصحابة فيرد عليه بما سبق من ذكر عذر الجاهل؛ لأن المتأول في حكم الجاهل، وفرق بين وصف الفعل بأنه كفر والحكم على الشخص الفاعل أو القائل بأنه كافر، ثم إن المقرر نص على العذر بالتأويل كما في مقرر التوحيد للصف الثالث ثانوي.
43- (ص26) انتقد الكاتب عدم عذر الخائف الوارد في عبارة الشيخ محمد بن عبدالوهاب والتي قال فيها بعد ذكر نواقض الإسلام العشرة: " ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره ".
والجواب:
إن الخائف غير معذور في إظهار الكفر، وإنما يعذر في إخفاء إيمانه، وهناك فرق بين الخائف والمكره – كما نص عليه الشيخ – فالمكره له أن يظهر الكفر، وأما الخائف بلا إكراه فليس له أن يظهر الكفر بمجرد الخوف، والفرق بين الأمرين ظاهر، وعلى هذا فالعبارة ليس فيها إلغاء لعذر الخوف مطلقًا، فالخائف يعذر في جانب دون جانب – كما دلت عليه النصوص الشرعية–.
44- (ص26) ذكر الكاتب من نماذج اضطراب المنهج ما قرره عن ممارسة الأنشطة الأسبوعية كأسبوع الشجرة والمرور، حيث يجعلها فسقًا ومعصية، والمشارك فيها آثم؛ لأنها تقليد للكفار ثم نقل النص من المقرر، وهو: " تخصيص بعض الأيام والأسابيع للنشاط في بعض الأعمال واتخاذ الأيام الوطنية والقومية، وهذا محرم وفسق "، ثم قسم الكاتب الأنشطة التي يمارسها غير المسلمين إلى نوعين:
• إما أن تكون شعائر دينية وممارسات تختص بهم، فهذا لا يجوز للمسلم ممارسته.
• والثاني أنشطة اجتماعية يتخذونها بشكل مدني لتدبير شؤونهم العامة، وهذه أجازها الكاتب بثلاثة شروط:
1. تحقيق المصلحة.
2. الخلو من الموانع الشرعية.
3. انتفاء قصد التشبه.
والجواب:
1. إن المنهج لم يمثل بأسبوع الشجرة وأسبوع المرور– كما زعم الكاتب–.
2. أن الكاتب حذف أول عبارة المقرر التي تبين المقصود، وهى قوله:" تقليدهم فيما ابتدعوه في دينهم من الأعياد الباطلة والمناسبات كأعياد المولد، وتخصيص بعض الأيام والأسابيع..." الخ. فظاهر عبارة المقرر أن المحضور أيام وأسابيع دينية، وهو ما قرر الكاتب عدم جوازه للمسلم.
3. ذكر الكاتب من شروط جواز موافقة الكفار في الأنشطة المدنية خلوها من الموانع الشرعية وانتقاء قصد التشبه، وهذا حق.
فإذا لم توجد المخالفة الشرعية، ولم يقصد التشبه بهم في أمر فيه مصلحة فلا مانع من الأخذ به، بل قد يحث على ذلك كما قرره المنهج في القسم الثاني من أقسام تقليد الكفار.
وبهذا يظهر أن الكاتب ناقض نفسه، وزايد على المنهج بما ليس فيه.
45- (ص27-28) أكثر الكاتب من انتقاد المنهج في النهي عن نسبة النتائج إلى أسبابها، وجعل ذلك من الشرك الأصغر.
وانتقد في هذا السياق بعض العبارات الواردة عن السلف في ذلك مثل ما ورد عن مجاهد من التمثيل بقول الرجل: " هذا مالي ورثته عن آبائي "، وتمثيل بعض السلف بقول: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقاً، كما انتقد ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه من التمثيل بنحو قول الرجل: لولا الله وفلان، ولولا كليبة لأتانا اللصوص.
ويرى الكاتب أن المتلفظ بها إذا لم يقصد الشرك فلا تكون شركاً، وإنما تكون شركًا أكبر إذا قصد بها مساواة السبب بالله – تعالى–.
والجواب من وجوه:
1. إن الكاتب في عرضه لهذه المسألة لم يذكر الحالة التي يكون فيها مثل تلك الأقوال شركًا أصغر، وكأن الشرك عنده في هذه الحالات لا يكون إلا أكبر مخرجًا من الملة، وإن قائل مثل هذه العبارات إما أن يقصد مساواة السبب بالله فيكون مشركًا شركًا أكبر خارجاً من الملة، وإما ألا يقصد مساواة السبب بالله فلا يعد كلامه لاشركًا أكبر ولا أصغر، ولو كان ظاهر العبارة المساواة.
2. إن ما ذكره من عدم ضرر العبارة التي ظاهرها التشريك وعدم النهي عنها مخالف لما أثر عن السلف الصالح في هذا الباب، بل مخالف للأحاديث الصحيحة كما في حديث " لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان ". فالحق أنه ينهى عنها مطلقًا دون نظر في قصد صاحبها، وقصد صاحبها يصرفها إما للشرك الأكبر أو الأصغر، وكل ذلك منهي عنه.
3. إن ما استدل به الكاتب من الآيات التي ظاهرها التشريك والتسوية بين الخالق والمخلوق؛ كقوله – تعالى– : " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه، ونحوها قد أجاب عنها العلماء بما يلي:
أ - إن التكلم بعبارة التشريك كما في الآية لا يجوز إلا لله – تعالى–، فكما أنه – تعالى– يقسم بما شاء من مخلوقاته، ولا يجوز للمخلوقين أن يقسموا فكذلك هنا.
ب - إنه ورد النهي عن التشريك والتسوية بين الخالق والمخلوق في الفعل الواحد، " والآية أخبر الله تعالى بها عن فعلين متغايرين، فالله تعالى أنعم على زيد بالإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم أنعم عليه بالعتق، وهذا بخلاف المشاركة في الفعل الواحد، وكذا بقية الآيات المشابهة لذلك،( ينظر تيسير العزيز الحميد ).
4. إن قول: لولا فلان لم يحصل كذا " إن أراد به مجرد الخبر الصدق المطابق للواقع فلا بأس به، ومثله قول: " هذا مالي ورثته عن آبائي".
وإن أراد بمثل بذلك السببية فله ثلاث حالات:
أ- أن يكون السبب خفيًا أو لا تأثير له إطلاقًا كأن يقول: لولا وجود قبر الولي في المكان الفلاني لاحترقت القرية مثلاً، فهذا شرك أكبر.
ب- أن يكون السبب صحيحًا ثابتًا شرعا أو حسًا فهذا جائز نسبة الشيء إليه، بشرط: إلا يعتقد أن ذلك السبب مؤثر بنفسه أو ينسى أن الله – تعالى– هو المنعم حقًا كما قال – سبحانه وتعالى–:
" وما بكم من نعمة فمن الله "، ويدخل في هذا القسم ما مثل به الكاتب من قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمه: " ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ".
ج- أن يضيفه إلى سبب ظاهر لكن لم يثبت كونه سببًا لا شرعاً ولا حسًا، فهذا النوع من الشرك الأصغر، وذلك كتعليق التمائم، واعتقاد أنها سبب دفع العين؛ لأنه أثبت سببًا لم يجعله الله سببًا، فكان مشاركًا لله في إثبات الأسباب( ينظر في هذا التقسيم القول المفيد للشيخ ابن عثيمين)، فالكاتب يريد أن يجعل جميع العبارات الواردة في المنهج من القسم الثاني الجائز دون قيد أو شرط، وهذا لا يصح .
ثم إن المقرر لم يجعل هذه العبارات شركًا مطلقًا، بل قّيد وفصّل فقد جاء في كتاب التوحيد للصف الثالث المتوسط ما نصه:
" يغفل كثير من الناس فلا يذكرون إلا الأسباب وينسون خالقها ومسببها – سبحانه –، فيقولون مثلاً: لولا الطبيب أو المهندس أو السائق... الخ لحصل كذا من الضرر، وهذا لا يجوز إلا إذا كان يعتقد أنه مجرد سبب, وأن الأمر كله بيد الله وكان هـــذا السـبب صحيحًا، والطريقة الأفضل أن يقال: لولا الله ثم فلان.
فالمقرر لم يجعل مثل هذه العبارات شركًا مطلقًا كما زعمه الكاتب، بل جعل فيها تفصيلاً كما سبق، والعبارات الواردة في المقرر جاء النهي عنها إما باعتبار نسيان المنعم الحق والغفلة عنه، أو لاعتقاد أن السبب مؤثر بنفسه أو لنسبة شيء لشيء وليس سببه ظاهراً.
46- (ص28) ذكر الكاتب أن المقرر يعطي العبارات التلقائية والعفوية أبعادًا أفخم من حجمها الطبيعي، كما يجعل من أنواع الإلحاد إطلاق اسم المهندس الأعظم أو القوة المطلقة على الذات الإلهية.
والجواب من وجوه:
1. إن أسماء الله – تعالى– توقيفية، كما قال سبحانه " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون ".
2. بما أن أسماء الله – تعالى– توقيفية، فمن سمى الله تعالى بما لم يسم به نفسه أو يسمه به رسوله صلى الله عليه وسلم فقد ألحد في أسمائه، أي: مال عن الحق فيها.
3. إن الإلحاد أنواع ودرجات وليس كل إلحاد كفرًا.
4. إن الحكم يكون على الفعل والبدعة بغض النظر عن قصد صاحبها، وسبق التفريق بين القول والقائل، فالحكم على القول وليس على القائل، فالقائل لا يحكم عليه إلا بعد توافر الشروط وانتقاء الموانع.
47- (ص29) طالب الكاتب بإعادة النظر في إعداد المقررات؛ لأنها بوضعها الحالي اعتمدت على مصنفات السلف الصالح، والتي وصفها بأنها جرى تدوينها في ظروف المجادلات الفكرية، والمعارك الدينية السياسية، وأنه لا حاجة إلى تدريس الطالب وتعريفه بالفرق البدعية وفساد مناهجها، وعلل ذلك بأنه لا ينتمي إليها من جهة، وأن حججها لا تصل إليه من جهة أخرى.
والجواب:
1. إن الطعن في تأليف المناهج لكونها اعتمدت على كتب المتقدمين ليس بصحيح؛ لأن كل مؤلف سيعتمد على مرجع قديم أو حديث، وما يقال في القديم يمكن أن يقال مثله في الحديث، والمعارك الدينية والسياسية موجودة في جميع مراحل التاريخ القديم والحديث، فالشأن إذن فيما يحمله المرجع من صواب أو خطأ لا في ظروف تأليفه .
2. إن الدعوة لعدم اطلاع الطالب على المذاهب المنحرفة وبيان فسادها بإطلاق بحجة أنه لا ينتمي إليها ليس بسديد، فافتراض أن ملايين الطلاب ليس عند أحد منهم شيء من التأثر أو الانتماء لشيء من هذه المعارك الفكرية والعقائد البدعية مخالف للواقع، ثم لو فرض ذلك، فلماذا هذه الدعوة إلى الحجر الفكري على الطالب مما فيه فائدة، وأين التحصين ضد هذه الانحرافات، فالمنهج كما يعالج واقعًا، فإنه يحصن من متوقع وممكن، لا سيما مع هذه الثورة المعلوماتية في العصر الحاضر، والتي جعلت العالم – كما يقال – قرية واحدة أو بيتًا واحدًا.
3. إن زعم الكاتب بأن حجج أصحاب ما سماه بالمعارك الفكرية لا يصل إلى الطالب ليس بصحيح، فشبهات أولئك مبثوثة عبر القنوات الفضائية ومواقع الانترنت وفي الكتب المنشورة وغيرها.
فكان الواجب تعريف الطالب بذلك وتحذيره منها ببيان فسادها وانحرافها.
48- (ص29) رأى الكاتب أن المقررات تجاهلت تبعًا للنظام السياسي ومبادئه المكتوبة والعرفية قضايا مهمة، ومنها: تجاهل تنظيم قنوات المشاركة الشعبية والتعبير عن الرأي بطريقة متمدنة، وزعم أن المقررات تخاطب الطالب بصفته الفردية بما يناقض مؤسسات المجتمع، وأنها تصمت عن آليات اندماج الطالب في مجتمعه ومشاركته فيه، ثم قرر أن من واجبات المقررات الدينية والنظام السياسي فتح آفاق المشاركة المدنية.
والجواب أن يقال:
إن ما سماه الكاتب بالمشاركة الشعبية أو المدنية والتعبير عن الرأي عبارة فضفاضة لم يبين مقصوده بها ولا تطبيقات لها.
فإن أراد بذلك إشراك الطالب في مؤسسات مجتمعه، وإسهامه في تنمية وطنه وإبداء آرائه وإشعاره بفاعليته وأهمية عطائه فهذا موجود مبثوث في المناهج عمومًا، وليس هناك حجر عليه ولا تجاهل له، لا من المقررات ولا من النظام السياسي، وأما إن أراد بذلك الزج بالطالب في هذا السن وهذه المرحلة في معارك وقضايا أكبر من مستواه فهذا في الحقيقة ظلم له، وتشتيت لجهوده، وإشغال لفكره ووقته بما يعيق مسيرته وتحصيله.
وأما ما أشار إليه الكاتب من أهمية توضيح آليات اندماج الطالب في مجتمعه فهو مطلب مهم وموجود، ولكن يوصى بالتوسع فيه، ثم إنه ليس خاصًا بالمقررات الشرعية، بل في جميع المقررات كالعلوم والتربية الوطنية وغيرها.
49- (ص30) ختم الكاتب مذكرته بذكر توصيان مَّر أكثرها أثناء كلامه السابق، وهي بمثابة تلخيص لما بسطه، ومنها:
1. أنه دعا إلى تنقية المقررات من آثار المعارك الكلامية والسياسية في تاريخ الجدل العقدي، وأن الواجب ترك ذلك للمختصين.
والجواب:
إن مقررات العقيدة وكتب التوحيد ليس فيها معارك سياسية، وإنما فيها قضايا عقدية، وإذا كان الكاتب يرى أن ما حصل من السلف الصالح من ردود ومواقف تجاه أهل البدع كان دافعها سياسيًا وليس دينياً فهذا يحتاج إلى معرفة نواياهم المخالفة لظاهر حالهم.
وأما دعوته إلى ترك الردود على أولئك المخالفين مطلقًا فقد سبق القول في أهمية تحصين الطالب ضد تلك الأفكار المنحرفة، والأهواء المضلة، لا سيما مع هذا الانفتاح والدعوة إلى العولمة.
نعم يمكن إعادة النظر في بعض الجزئيات العميقة التي لا يكاد يستوعبها الطالب إن كانت موجودة، فتعاد صياغتها بما يتناسب مع وضع الطالب.
2. دعا الكاتب إلى تنقية المقررات من النزعات التكفيرية، وهذا فيه اتهام خطير للمقررات، وقد سبق بيان مخالفته للواقع، وأن المقرر بين عظم التكفير وخطره وموانعه وشروطه.
أما إن كان يدعو إلى عدم تكفير من دلت النصوص على كفره فهذه نزعة إرجائية تحتاج من الكاتب إلى إعادة قراءة نصوص الوحيين والصدور عنهما.
3. أطلق الكاتب القول بأن النصوص دلت على الكف عن تكفير أهل القبلة وعصمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وأن هذا ما استقر عليه كبار فقهاء الأمة، وهذه القاعدة حق ولكن لها استثناءات وضوابط، فهل يريد الكاتب الكف عن تكفير أحد من أهل القبلة ولو جاء بمكفر، كعبادة غير الله والطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً؟ وهل يعتقد أن دم كل واحد من أهل القبلة معصوم حتى لو استحل دماء المسلمين وفارق جماعتهم أو زنى وهو محصن ونحو ذلك، فإذا كان للكف عن تكفير أحد من أهل القبلة والقول بعصمة ماله ودمه وعرضه استثناءات وشروط، وقد ذكر في المقرر بعضها فلا يصح إطلاق القول في ذلك كما لا يصح تخطئة من كفر بقيود واستيفاء شروط.
4. ما ذكره الكاتب (ص 30) في رقم (3، 4، 5، 6، 8) حق في جملته، وذلك غير غائب عن المنهج.
5. اضطرب الكاتب حينما دعا إلى ضبط منظور فقهي للتعامل مع الآخرين برؤية عامة، ونهى عن التفصيل في ذلك، وهذا في الحقيقة ليس بسديد فإن الضبط إنما يتأتى بذكر التفاصيل والحالات وإعطاء كل حالة حكمها.
أما أن يكون في الكلام عمومية، فإنه يتقاطع مع النصوص الشرعية المفصلة والمبنية.
6. ما ذكره الكاتب برقم ( 9 ) سبق الحديث عنه.
" الخاتمة "
وبعد هذه الجولة السريعة مع هذه الملحوظات، فإن الناظر فيما سطره الكاتبان الكريمان ليتساءل عن الدافع لهما في هذا الهجوم العنيف على مقررات العلوم الشرعية، وعلى مقررات العقيدة بالذات، وفي هذا الوقت على وجه الخصوص؟
ونتساءل عن رؤية الكاتبين وملحوظاتهما على تلك المقررات، هل حدثت لهما في هذه الأيام، وهذه الظروف؟ أم أنهما كانا يريانها من قبل ولم يجدا الوقت المناسب لإظهارها ؟
وهل سبق أن قدما ملحوظاتهما هذه للجهات المختصة المعنية، أو تم عرض ما كتبا إلى أحد علمائنا الأفاضل، ما دام الدافع لهما نصرة الدين وحب الوطن، أم أنها جاءت في هذا الوقت وبهذا الأسلوب لتحقيق غرض معين؟!
ثم على فرض صحة تلك الملحوظات فلمصلحة من تنشر بتلك الطريقة العنيفة التي تتوافق مع أصوات الأعداء في الطعن في مناهجنا ومؤسساتنا، وأبنائنا، وقياداتنا؟ وهل عدم الكاتبان الأسلوب الأمثل في النصح والنقد الهادف البناء المتواضع ؟
هذه التساؤلات أترك الإجابة عنها للكاتبين الكريمين، واللذين آمل منهما مراجعة ما كتباه بإنصاف وموضوعية ومحاسبة ومراقبة لله – تعالى–.
سائلاً المولى– جل وعلا– أن يثبتنا على الصراط المستقيم، و ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، و أن ينصر دينه، وأن يحفظ بلادنا من كل سوء، وأن يديم أمننا ويوفق ولاة أمرنا لكل خير، ويكف عنا كيد الأشرار وبأس الكفار إنه على كل شيء قدير.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،،،
وكتبه
د/ سليمان بن صالح الغصن
الأستاذ المشارك بقسم العقيدة
والمذاهب المعاصرة بكلية أصول الدين
بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض
----------------
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد..
فقد كان من سوالف الأقضية أني تابعتُ بعض ما يكتبه الأستاذ إبراهيم السكران مما يقذفني به نقلة مقالاته في المنتديات،وأسراب الحمام الزاجل المرفرف في سماء البريد الإلكتروني،ومما حثني على قرائتها أيضاً غير ذلك الإلحاح الإعلامي باسم الرجل = إلحاح الإعلامي عبد العزيز قاسم ولهجه بذكر اسم الرجل في برنامجه البيان التالي.
وكان من سوالف الأقضية أيضاً أنني كنتُ أرضى بعض أفكاره وأرد أخرى ،ولربما أسررتُ بنقد ما أرده لتلك الحمامة الزاجلة التي أرسلت لي المقالة،وربما كتمتُ غير مستكتم،ولم أنشط يوماً لجعل هذا النقد عاماً ؛لعلة أحياناً ،ولغير علة إلا الكسل أحياناً أخرى.
ثم قذفت علي المدافع آنفة الذكر صبيحة هذا اليوم بمقالة الأستاذ الأخيرة والتي سماها : ((عصر دبلجة الواقع)).
وكالعادة عرفتُ منها وأنكرتُ،وكادت تلقى مصير أخواتها من مقالة الأستاذ وغيرها مما تطوف به العين كل يوم فتعرف منه وتنكر ثم تُعدي عنه إلى غيره فالعمر قصير والحوادث جمة.
لكني إذ انتهيتُ من قراءة تلك المقالة بالذات= أحسستُ بضيق شديد يُطبق على نفسي،وطلبتُ علة هذا الضيق فوجدتُ أني كما أكره الباطل وأحب للرجل أن يرتد عنه = فإني أكره كرهاً شديداً أن يرتد الرجلُ عن الباطل إلى الباطل،وأكره أكثر من أولئك أن يرتد الرجل عن الباطل إلى الحق ثم هو ينتصر للحق بالباطل،فإن الباطل المتدثر بدثار الحق المستتر بين ثنياته هو أخفى ولربما أكثر خطراً من الباطل المحض الذي يأتيك بوجهك الذي تعرفه كفاحاً من غير تقية ولا دُلسة.
وطلبتُ زوال هذا الضيق عن نفسي فوجدته لا يزول إلا بتنقية الحق الذي انتصر له الأستاذ من أسلحة الباطل التي شهرها والإبقاء على أسلحة الحق وحدها لينتصر حق بحق ولتبق ساحة الحق طاهرة الذيل عن أن يحوجها مقام النصرة والبيان لأن تطلبه بباطل الحكم وساقط البرهان.
وقصداً إلى المطلوب أقول : لستُ أخالف الأستاذ في أن بعض نقاد الواقع السلفي يمارسون فبركة الصور ودبلجة الواقع فهذا حق لا يماري فيه ذو نهية وبصيرة ،لكن الأستاذ وهو يبين هذا الحق دفاعاً عن أهل الحق امتطى مطايا الباطل التالي ذكرها :
أولاً : الإجمال المعيب بل والقبيح جداً في توصيف ونقد نقاد الواقع السلفي،وأخشى أن تلك بقية من حال الأستاذ قبل،فلئن كان أهل باطل يعرفه الأستاذ من قبل ينقدون أهل الديانة والشريعة نقداً مجملاً مستطيلين بعيوب فريق وأخطاء فريق وزلات فريق على أمة بأسرها فيعممون ويجملون = فقد حشر الأستاذ نقاد الواقع السلفي في سلة واحدة وظن أنه بذلك غير ملوم ولا معاب ،بينما العيب في ذلك يركبه من ساسه لراسه كما يقول الناس عندنا،وفي رواية أخرى يتناقلها الناس يقولون : ((صوابع إيديك مش زي بعضها))،وعقلاء الناس ربما قالوا : لا يستويان مثلاً من أراد الحق واجتهد في طلبه ومقصوده الإصلاح وإن أخطأه،ومن غرضه نقد الواقع السلفي ؛لأنه هو النموذج الغالب المسيطر فلئن قُضي عليه اهترئت ورقة التوت وتفرق من الصف ما يُدني زمان هزيمته،وهذا الحشد والإجمال للمخالفين للحق يستخفه كثير من المدافعين عن الحق؛لأنه يسهل مهمتهم ولا يحوجهم إلى تنويع المخاطبة بحسب درجة المخطيء وقصده وحجته وسالف أصله وسالم منهجه ،كما أنه لا يحوجهم لتلك المجاهدة العنيفة التي تقتضيها إقامة العدل والقيام بالقسط بين الناس.
وطلب السهولة ومركب الخفة في تقرير الحق ونقض الباطل كثيراً ما يوقع القائم بالحق في مزالق لا ترضي الحق جل وعلا وليس أهون تلك المزالق= الغضب على من لا يغضب عليه الله ورسوله، وعقوبة من ربما عفى الله عنه ،وتأثيم من لعل الله يأجره ،وليس أهون تلك المزالق إلقاء التهم وتوزيع التصنيفات وتشريح النوايا على نحو لئن صلح مع جنس من مخالفي الحق=فليس يصلح يقيناً مع كل مخالف للحق،ولكن باب الفصل بين أجناس المخالفين للحق وما يستحقه كل منهم من الأحكام وأنواع المخاطبات باب عسر لا يلج منه فيحسنه إلا الفقهاء بدين الله القائمين بالعدل الشاهدين به ،ولعل نصيحتنا تسوق الأستاذ لشيء من طلب هذا الباب = فيعفيه الفقه به من ذلك المزلق الخطير الذي وقع فيه في مقاله والذي ظهر فيه وفي مقالات سابقة ظهوراً لا يحوج كشفه إلى بيان،ومع ذلك فلا بأس من بيان مختصر :
عبر الأستاذ بتعبير الطوائف الفكرية عن ناقدي الواقع السلفي المتوسلين لنقده بدبلجة الواقع وساق صوراً معلومة لهذه الدبلجة وأصاب ولاشك ان هناك مبالغة في تصوير الواقع بهذه الصورة،ولكن خطأ الأستاذ : يتمثل في أنه لم يتنبه إلى أن الذين فعلوا ذلك ليسوا أمة واحدة،بل منهم من فعله على سبيل القصد والعمد للكذب والفبركات عل حد تعبير الأستاذ ،ومنهم من رأى صورة الواقع هكذا كما هي في بعض هذه الأمثلة (وإلا فبعضها لا أعلم من أهل العلم والفضل والاجتهاد من يتهم الواقع السلفي بها ) ،أقول : هناك من يرى تلك هي صورة الواقع السلفي خاصة فيما يتعلق بمسألتي سد الذرائع والاجتهاد والخلاف وليس هو في رؤيته تلك أبداً بالوصف الذي وصفه الأستاذ فقال أنه : (("كذب محض وشهوة افتراء تعيث بنفوسهم ونقمة على الاسلاميين وطلبة العلم والمتبعين لمنهج السلف تدفعهم لتشويههم بهذا الشكل.)).
فإن قال الأستاذ : إنما عنيتُ بهذا الوصف صنفاً معيناً من نقاد الواقع السلفي = قلنا فهذا إذاً هو الإجمال المعيب الذي سيمتطيه من يحب أن يصفع بكلماتك وجه بعض المصلحين من أهل العلم السلفيين الذين يرون أن هناك أخطاء ليست نادرة في تلك الأبواب،وسواء علينا صوابهم وخطأهم في ظنهم فليسوا هم أبداً بمن يعاقب على اجتهاده فتكون عقوبته الشرعية هي تلك الألفاظ التي فاحت من فمك وليسوا أبداً ممن يسوغ للمرء أن يشيع في الناس مقالة تحتمل منه أنه أرادهم بهذا الخطاب احتمالاً له من الوجاهة ما يرجع بالعيب على من صاغ المقالة ولم يحترز ولم يبين طبقات الناس ممن يخالفهم وطبقات أحكامهم..
بقيت الأخرى والسوأة : أن يكون الأستاذ يرى أن كل من ذهب في مثال ولو واحد من أمثلته فرأى الواقع كما هو كذلك ولم ير أن ذلك دوبلاجاً بل أداه اجتهاده ونظره إلى أن هذا هو الواقع = أن يكون الأستاذ يرى أن كل من ذهب لهذا ولو اجتهاداً أنه كذاب يصدر عن محض وشهوة افتراء تعيث بنفوسهم ونقمة على الاسلاميين وطلبة العلم والمتبعين لمنهج السلف تدفعهم لتشويههم بهذا الشكل أو كما قال لا فض فوه.
فإن كان يرى ذلك = فأخشى أن الأستاذ قد قادته الحمية في رجوعه لحظيرة الحق حتى ما انتبه أن بعض أفراد حظيرة الحق قد يقع منهم من البغي والعدوان وعدم مراعاة العدل مع مخالفيهم ما يتنزه منه وعنه الحق ،ويوجب على الداخلين في الحظيرة أن يتنزهوا منه ليتم لهم صلاح أعمالهم؛ فإنه لا تقبل صلاة رجل أحدث حتى يتوضأ،ولربما قاد الأستاذ عدم تنبهه هذا فخلط لحماً بعظم وظن أن ذلك البغي والعدوان مادام داخل الحظيرة فإنه يعطيه صك غفران يَجُبُ عنه ما يعلق بسيفه في معركة الانتصار للحق.
ونعم. المنتصر للحق مجاهد ولكن المجاهد قد يكون باغياً ظالماً، وقد يلج أبواباً تبلغ به أن يتبرأ حملة الحق بالحق من فعله،ولا أحسب الأستاذ إن كان قد أراد الثانية إلا قد بغى وظلم ظلماً أحب له أن يرجع عنه حباً سيعدل حبي لرجوعه عن باطله القديم..
ثانياً : وهي جهة الباطل الأخرى التي دخلت على المقال وإن كانت درجة بطلانها أخف من سابقتها = أعني سلوك الأستاذ مسلك المغالطة في تقرير وجه حجته وموضع ذلك : أن منازعيه من أهل العلم والفضل الذين يرون أن بعض تلك الأمثلة موجودة في الواقع لا يقولون أن الواقع السلفي خلو بمرة من مراعاة وجه الصواب فيها،ولو قالوا هذا = لساغ لك حينها أن تورد أمثلة فتح عدم اعتبار أهل العلم لسد باب الذرائع أحياناً أو مراعاتهم لفقه الخلاف أحياناً ،وإنما محل النزاع بينك وبينهم : أن ما تراه أنت نادراً كمثال الدبيان يرونه هم غير نادر بل كثير،ولاشك أن وجه الحجة في هذا النزاع لا يكون بذكر أمثلة على فتح الذرائع أو مراعاة فقه الخلاف وإنما يكون بمناقشة حججهم على هذه الكثرة ومناقشة الأمثلة التي يذكرونها او تشبه أن تكون مقصودهم،بل ومناقشة مطالبتهم بآثار مراعاة فقه الخلاف في فتاوى أهل العلم مادمت تزعم أنها موجودة،فهم ربما سألوك عن آثار مراعاة فقه الخلاف في مسألة صلاة الجماعةوالتي لم يكن ينبغي أن يقودنا شذوذ الرجل الذي انتصب للكلام فيها عن أن نبين رتبتها في الخلاف والفرق بين موارد الحكم الشرعي فيها وموارد السياسة الشرعية.
وهذه هي نفسها مغالطتك في مقالك عن الإقليمية فذهبت تعدد العلاقة بين العلماء المحليين والعلماء من أماكن أُخر ،وفاتك في خضم المغالطة أن تدخل في محل النزاع فتذكر مستوى هذه العلاقة حين حدث خلاف الرأي (كما حدث مع الألباني وخروجه من المملكة مثلاً ) .
أما مستواها في وفاق الرأي فلم ينازعك فيه أحد أصلاً لتجعله حجة على موطن النزاع.
فليس النزاع في أنهم يراعون فقه الخلاف في مسائل هي من مسائل الاجتهاد وأكثرها من المستجدات وإنما النزاع في دعوى مخالفيك أن من أهل العلم من لا يراعي فقه الخلاف في أبواب هي من الخلاف السائغ لولا أن بعض أهل العلم نشأ على قول فيها فيريد أن يصادر قول غيره وأن ذلك ليس بقليل..
وليس النزاع في عدم فقه العلماء بضوابط سد الذرائع وليست هذه هي دعوى جنس مخالفيك بل أهل الفضل والاجتهاد من مخالفيك يقرون لأهل العلم بالفضل ومعرفة ضوابط الباب جملة ولكن دعواهم هو أن هناك توسعاً في تطبيق القاعدة في أبواب، وخطأ في تطبيق الضوابط واعتبارها في أبواب،ومثل ذلك لا يناقش بأن هناك توسعاً في عدم تطبيقها في أبواب أخرى بل تلك منك مغالطة وإنما وجه الحجة هو مناقشة تلك الأبواب المدعى فيها التوسع في التطبيق نفسها ورد دعوى أنها توسع في التطبيق ..
وأرجو أن يكون واضحاً أنني بهذا لا أنتصر لقول من يعيب العلماء بعدم مراعاة الذرائع أو من يتهمهم بالإقليمية ،أو عدم مراعاة فقه الخلاف،فلم أشتغل بذلك أصلاً،وإن اشتغلت= فلا أرى صواب رأي أولئك المجتهدين المصلحين تماماً بل ولي مقالات في نقد بعض مسالكهم،وإنما غرضي بيان موضع المغالطة في حجتك،ولو صدرت تلك المغالطة مع حسن مخاطبة وعدل مع مخالفيك = لهان أثرها،أما أن تكون تلك المغالطة في الحجة مع إجمال يخلط المجتهدين بأهل الريب والفتن = فذلك هو ما يخالف تمام الصدق ،ويخدش حجة إحقاق الحق، ويُضيع مقام رحمة الخلق..
فجماع مقالك أخي الأستاذ إبراهيم : هو أنه انتصار للحق ورد لمسلك غير حسن أصبت في تصوره لكنك في انتصارك وقعت في نوعين من المغالطة (ولنجعلها غلطاً لا مغالطة) :
الأول : مغالطة التعميم في الحكم على من يرى الواقع كذلك في بعض الأمثلة فعممتَ وأجملت فيمن يرى ذلك وحكمت الحكم الذي ذكرتَ،والحال لا يخرج عن خطأ في التعميم بهذا الظلم لعلك لم تقصده ولعلك تحفظ مقام المخالف لاجتهاد وقصد للحق.
أولعلك ترى جميع مخالفيك يستحقون ذلك الحكم وأحسن الظن بك وأبرئك أن تكون تقصد الثانية،وتهمة الإجمال المعيب والتعميم والغلط الخطابي أسهل من تهمة الظلم والبغي والعدوان على المجتهدين القاصدين للحق وإن أخطأوه.
النوع الثاني من الغلط الذي وقعت فيه : مغالطة في الحجة والاستدلال بأن تجاهلت المطلوب ورحتَ تحتج على مالايخالفك فيه منازعك الذي لم يدع أصلاً أن السلفيين لم يصيبوا في جنس تلك الأمثلة وإنما دعواه في جهة أخرى هي وقوع الخلل فيها بصورة ظاهرة وليست نادرة مما يستوجب العلاج ،وليس ادعاؤك لكثرة الصواب بأولى من ادعائه لكثرة الخطأ حتى تصلح كثرة الصواب التي ادعيتها حجة على كثرة الخطأ التي يدعيها،وإنما طريق الحجة هو نقد كثرة الخطأ الذي يدعيها لا الاحتجاج عليه بكثرة الصواب التي لا ينكرها بعض مخالفيك..
هذا ما أردتُ بيانه إحقاقاً للحق وحباً له ورحمة بالخلق وإعذاراً لهم..
والحمد لله رب العالمين..
---------------------
نص رسالة عبد العزيز قاسم
عن مقالة التغريب للسكران
جاءتني اتصالات ورسائل عدة من أحبة يشكرون لي نشر مقالة أخي إبراهيم السكران الأخيرة، والحقيقة أنني بثثتها في المجموعة ولم أقرأها للأسف، وقد ظننتها من مطولات أبي عمر التي يتحفنا بها، كتدبر القران الكريم ولذة المناجاة، وجملة قراءاته الإيمانية الفذة، فأعدت إرسالها دون قراءتها للأسف، ولو تمعنت جيدا فيها، لأوقفتها – رغم أن عشرات المواقع تناقلتها في نفس الآن- إلا أن حقّ أخي إبراهيم السكران عليّ كان يقتضي مني النصح، ولكنت استمهلته، وأنا بمنزلة كبيرة في نفسه، لأن المقالة كانت متجاوزة برأيي، وحادة جدا، وفيها تعيين لأشخاص رحلوا عن الدنيا، والمقالة عموما مخالفة لأسلوب أبي عمر الحكيم في الكتابة والنصح..
وسبق أن أبنت رأيي الشخصي بالمقالة بأن في بعض جوانبها أخطاء أخالفه تماما فيها، وبعض جوانبها حقّ، ولكن السؤال: هل هذا الأسلوب مجدٍ في تغيير الواقع، وقد سبق إلى ذلك رموز الصحوة في التسعينيات وانظروا إلى ما انتهوا إليه، ولكن بعد أن كلفوا الدعوة خسائر لا تعدّ ولا تحصى، وتأملوا في مقالة أحد أبرز الناشطين السياسيين وقد كتب قبل سنوات، وأطلق وصف البرامكة وما إلى ذلك، بذات النفس الذي قفاه أخي السكران، ولم تصنع شيئا..
شخصيا أرى أن الالتفاف خلف علمائنا الكبار، ذوي الحكمة والتجربة والبصيرة، ومنهجهم السلفي في مناصحة الولاة هو الأجدى، والله أعلم، وأن مثل هذه الأساليب الحادة، والحماسة بلا خطام، تحمّل الدعوة والدعاة والعلماء أكلافا أكثر بكثير من مجرد تسجيل موقف.. ولا يرمينني أحد بأنني جامي، فلربما هذه آخر الأوصاف التي تصطف إلى ألقاب عديدة في سجلي، ولكن حماسة الشباب والاندفاع واستعداء المسؤول، كلفت الدعوة على مدى تاريخها الكثير والكثير..
هذا الرأي مني سيعتوره كثير من الشك من ذوي النظرات المستريبة دوما، أن وراء الأكمة ما وراءها، ولكنه والله الذي لا اله إلا هو يقين واعتقاد حق، ولا يهمني من تسجيل هذا الموقف أحد، سوى ما أدين الله به، وما أعتقد بأنه صواب وحق، وهو ما امتثلته طوال مسيرتي الفكرية، فلم أوقع على أي بيان وقد عرض علي الكثير منها، ولم أتعاط أية أنشطة سياسية، لأنني إعلامي وفقط إعلامي ولا أتجاوز هذا اللقب أبدا..
أقول هذا قطعا لأية ظنون من كتابتي لهذه السطور، لأن أقصى ما سيلحقني من نشر مقالة أخي السكران إيقاف هذه المجموعة البريدية التي لم تكلفني سوى سعي صديق كريم بإنشائها في مدة خمس دقائق فقط، دون أن أصرف قرشا واحدا..وأذهب بعدها إلى ابنتي الأحبّ في الدنيا غادة لألعب معها في الاكس بوكس وأشاهد طيور الجنة وسبونج بوب وبسيط، وأتفنن برسم شخصياتها الكرتونية، وأحكي لها عن سيلفر وقراصنة جزيرة الكنز.. غير أنني لم أرد أن تمرّ هذه الحادثة دون تذكير أخوتي من الصف الإسلامي بذلك، فأنا على يقين من ثمة (سلمانات) و ( عواجيات) و(عايضات) و (سكرانات) جدد سيأتون بذات النفس، ويجترون ذات الأسلوب دون اتعاظ من التاريخ والنتائج..
أسفت على النشر بالدرجة الأولى؛ لأنه كان من حق أخي إبراهيم السكران وأخوّته عليّ إيقاف مقالته، واستمهاله في النشر، ومراجعته في بعض المواضع، التي لو نبّه إليها لانتبه، وبثي المقالة كان خطأ مني غير مقصود.. وثلة من الدعاة –المشتركين بيننا- الذين ناقشوا معي المقالة وجرأتها الشديدة، أبانوا أنهم غير موافقين على هذا المنهج، وحبيبنا إبراهيم بالتأكيد يشكر على غيرته وحماسته، ولكن لا بد من ضبط هذه الاندفاعية، ولربما يقرأ الآن كلامي – هو ومن يوافقه على هذا النهج- ولن تصل إلى ما أمّلت منه بنفسه، فسلطة الجماهير والعوام على الداعية تصنعان العقل الجمعي وتغيبّانه عن تلمس الطريق الأرشد، غير أنني أكيد من أن أخي السكران سيضع هذه الكلمات في أرشيفه، ولربما يعود إليها بعد سنوات عديدة، وقد أنضجته تجارب الحياة، وعركته الأيام وتقلباتها، ويعرف أن ما بثثته واستوقفته فيها حق إن شاء الله..
أسفت لنشر المقال ثانيا؛ لأنه فعلا لا يخدم هدفي وما كرست له مقالاتي وبرامجي في تمتين اللحمة الوطنية بين أطياف المجتمع الفكرية، وربطهم بولاة الأمر لمصلحة هذا الوطن الذي يمرّ بظروف استثنائية حسّاسة..
أعتذر لعشرات الزملاء الذين بعثوا مداخلات عن مقالة السكران بأنني أوقفت النشر، ولنعيّد بقلوب ملؤها الحب لهذا الدين والوطن وولاة الأمر، وندعو أن يجمع الله شملنا، ويصلح قادتنا ويرزقهم البطانة الصالحة، ويوفق علماءنا على قول الحق والنصيحة التي أوجبها الله عليهم..
كل عام وأنتم بخير
عبدالعزيز قاسم
30 رمضان 1431 هـ
------------------------------------------
السكران والأسماء المستعارة والإساءة الأخلاقية
الدكتور عبد العزيز قاسم، لا زلت أتابع ما تنشره في مجموعتك البريدية بشكل يومي، مطلعا على ردود الأفعال من قضايا الساحة، ومجموعتك تتميز بصداها الواسع بين النخب والعامة، وأتابع ما يطرحه أيضًا الكاتب إبراهيم السكران، وتعجبني كثير من تأملاته القرآنية، واستبساله في توطين القرآن في صدور الشباب، وهذا لا يمنع أن يكون لي تحفظات على بعض أطروحاته أو على الأقل تساؤلات، فأنا ممن يستهدي بطرحه في بعض المواضع، وكم أتمنى بما عهدت عليه من وضوح وشفافية أن ينورني بتوضيحات حول ما سأورده في هذه الرسالة.
قبل عدة أيام نشر الأستاذ السكران مقالا رائعًا وسماه "عودة المدرسة التجريحية"، وكم وقفت وقفات مع هذا المقال الذي يعيد المختلفين ويربطهم بالمنهج القرآني عند التشاحن والخلاف، ومما أثارني هو بعض المواقف التي أعرفها عن الأستاذ إبراهيم، والتي في الحقيقة جعلتني في تشكك حول مقاصد الكاتب وفقه الله.
وكان مما قاله في المقال:
"والله يا إخوان إننا مسؤولين أمام الله ونحن نرى بعض النزقين يتسببون في انتكاسات لا يعلمها إلا الله بسبب تهييج نفوس الشباب ضد العلماء والدعاة بدلاً من مساندتهم، فيجب أن نصنع شيئاً.
تذكروا يا إخوان قول الله تعالى في تناصر المؤمنين (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [التوبة، 71] وقارنوا ذلك بهؤلاء الذين يتفننون في خذلان أهل العلم والدعوة بحجة أنهم عبيد الحكومة وخدم الاستبداد.
وتأملوا قول الله تعالى في سلامة الصدر لأهل الإيمان ونبذ الغل تجاههم (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر، 10] وقارنوا ذلك بهؤلاء الذين امتلأت قلوبهم بالغل على أهل العلم والدعوة بحجة أنهم يشرعنون الاستبداد السياسي وغيرها من شماعات الظلم والجور."
ولتسمح لي يا دكتور عبد العزيز بوضع بعض الخطوط والتساؤلات حول مقاصد السكران، والفئة التي يدافع عنها، وحدود الإساءة في الألفاظ والأخلاق والفحش فيها.
حدود الإساءة في منهج السكران:
في بداية الأمر، دعونا نتعرف على حدود الإساءة عند إبراهيم السكران، فهو يقول:
"أطلعني أحد الإخوان قبل فترة على مقطع يوتيوبي مسجل يعرض فيه من صممه كلمات للدكتور سلمان العودة، حول الإم بي سي حين كان يذمها، ويعرض فيه من صممه صوراً لحيوانات في محاولة للإساءة للدكتور سلمان، مهما بلغ الاختلاف مع الدكتور سلمان في مسائل منهجية معينة، هل يقبل مسلم أن يضع أخاه المسلم في مثل هذا القالب الحيواني؟! اللهم إني أبرأ إليك مما صنع هذا البذئ."
فحدود الإساءة هي فقط في وضع صورة الشيخ سلمان العودة في قالب حيواني!
لكن ماذا عن اتهام عقيدته، واتهام ديانته، والتشكيك بنواياه، والغوص فيما يفكر فيه سلمان العودة مما لم يقله لسانه؟
لنأخذ جولة على بعض ما نشره إبراهيم السكران.
سلمان العودة
الدور العقدي للعودة عند السكران:
حيث يقول عن الشيخ سلمان العودة وبرنامجه على قناة ام بي سي أنه:
"يقوم بدور سئ يتمثل في.. محو المضمون العقدي في العقل المسلم"
ويقول عن من امتدح العودة من كتاب الصحف:
"عرفوا أهمية الدور الذي يقوم به العودة ككاسحة ألغام لردم بقايا العزة العقدية والتمسك الفقهي في منهج أهل السنة"
ويقول عن البرنامج أيضًا:
"إذا كان برنامج من البرامج الفضائية الدينية يشيع أمراضاً عقدية ومفاهيم شرعية مغلوطة فهذا يعني أن كثرة المشاهدين تعني زيادة عدد المصابين، وليس زيادة عدد المحصنين!"
فكل هذا الاتهام والطعن في عقيدة العودة ومنهجه هو جائز على طريقة السكران، فلا بأس أن تتهم العودة بأنه يمحو المضمون العقدي، لكن لا تضع صورته مع صورة حيوان!
السكران وشرف العودة وعرضه:
يقول السكران:
"أرجوك أبق فيك ذرة شرف"
فلا بأس على منهج السكران في اتهام الأعراض الذي يعتبر جائزًا عنده بل وفيه أجر –وسيأتي الإثبات-، لا بأس أن تتهم شرف العودة، لكن لا تضع صورته مع صورة حيوان.
السكران وموقف العودة من الكتاب والسنة والصحابة واتهام نيته:
وعن الإسلام الذي يقدمه سلمان العودة:
"إنه نمط مدجن من التدين يدع مالله لله ومالقيصر لقيصر .. إسلام أليف لايؤذي مشاعر الحكام العرب .. إسلام لايتم اعتماده عبر الكتاب والسنة بل عبر جامعة الدول العربية"
ويقول:
"ما يهمني أن يعرفه الإخوان هو أن كل ما قاله د.العودة ليس إلا رأس جبل الجليد، وما يخفيه من تحريف الشريعة والتزهيد بفقه السلف أضعاف أضعاف ذلك، لكنه يؤجله لاعتبارات سياسية ودبلوماسية لا تخفى، واسألوا جلساءه عن مجالسه الخاصة وما فيها من بجاحة بعض تعليقاته على أحاديث الصحيحين، وتهكمه ببعض فتاوى أئمة السلف الكبار"
ويقول:
"فهذا الفارق الفلكي بين واقع الصحابة الذي زكاه القرآن، وواقعنا الفاضح اليوم، هو أهم مرتكز يرتكز عليه الاسلاميون الدعويون في منهجهم .. وهو النبراس الذي يضئ لهم طريق الحل ..
ولذلك كله ينزعج العودة من هذه المقارنة بين نموذجية عصر الصحابة، وقتامة واقعنا المعاصر .. ويحاول العودة أن يقوض هذا الأساس عبر تلميع الواقع الفاسد، والتقليل من شأن النموذج الملهم"
ويقول:
"نحن أمام جامية جديدة لكنها جامية زين العابدين بن علي ومبارك والأسد! جامية الفنادق الفارهة وردهات الدبلوماسيين.
تحول العودة من طريق الضغط على الحكومات العربية للحكم بالشريعة في كل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاعلامية .. إلى طريق إنتاج نمط مدجن من التدين يتناسب مع مصالح اللاعبين الكبار"
ويقول:
"من الإسلام الكابلي .. إلى الإسلام السبتمبري .. كان سلمان العودة بطل القصتين .. لأنه الوحيد بين زملائه الذي استوعب متطلبات الدوي الإعلامي!"
ويقول:
"فأما (الاسلاميون الحكوميون) فقد ناهضوا (التحريف الثقافي للشريعة) لكنهم داهنوا (الفساد السياسي).
وأما (الإسلاميون الاصلاحيون) فقد ناهضو (الفساد السياسي) .. لكنهم داهنوا (التحريف الثقافي).
وأما مدرسة حجر الزاوية .. فقد لبست العباءتين كلتاهما .. وصار صاحبنا يلاين الليبرالية الثقافية والاستبداد السياسي كلاهما .. بل ويستجهل ويستحمق من تأخذه الغيرة في أحد الملفين .. واكتفى بأن يعقد حلقات ينصح فيها الفتاة في شهر العسل بأن تضع وردة حمراء في غرفة نومها ..! وكأنها تجهل نصائحه المستهلكة !!"
فعلى منهج السكران، يجوز أن تتهم ديانة العودة، وأنه لا يعبأ بالكتاب والسنة، وإنما يقدم إسلامًا وفق رغبات الرؤساء والملوك، وأن العودة لا يعبأ بالتحصين الثقافي ولا أعرض المسلمين، وأن العودة يبحث فقط عن الدور الإعلامي لا غير، لكن لا يجوز أن تضع صورة العودة مع حيوان!
السكران وحاكم والمطيري والحامد والأحمري والنفيسي والحبيل:
لم ينحصر دور السكران في الإساءة إلى الرموز الدعوية والعلمية والفكرية والإصلاحية على سلمان العودة فقط، بالرغم من أن العودة هو صاحب النصيب الأكبر من كل هذه الإساءات، ولو قارنا على سبيل المثال ما كتبه السكران في حق "الليبراليين" أو حتى في حق "الصهاينة" فلن يبلغ معشار ما كتبه السكران عن العودة.
ورغم ذلك فقد تعدى الأمر إلى الإساءة إلى رموز أخرى، لها مكانتها ولها تاريخها النضالي، وتحمل هم القضايا الكبرى في واقعنا المكبل بالاستبداد.
فيقول عن حاكم المطيري مثلا:
"ونتيجة لذلك سمعته مرة يتهجم على الاسلاميين باستهتار في موقفهم من الماركسيين والقوميين والليبراليين الوطنيين لأن هؤلاء كلهم –في نظره- يهدفون للحرية السياسية! لقد استبد بي الذهول وأخذ مني كل مأخذ! أما انحرافاتهم العقدية الخطيرة، ومشاقتهم لله ورسوله في قضايا الاقتصاد والسياسة والأخلاق؛ فيتكلف الاعتذار لها بأعذار فاترة، ويرى أنه لاداعي لأن ننظر إليها، المهم هو كون الشخص يدفع باتجاه الحرية السياسية والثورة على المظالم العامة."
"ويدفع باتجاه تسفيه كل المطالب الشرعية الأخرى، كتوحيد الشعائر، وتوحيد التشريع، وتزكية النفوس بمقامات الإيمان التي يحبها الله، ونشر السنن، وإماتة البدع، والحفاظ على الفضيلة والعفاف، الخ الخ."
فحاكم المطيري والذي يعتبر ممن له مواقف متصلبة من حكم الديقراطية، ينظر له السكران أنه يهون من جانب التوحيد، وليس فقط كذلك، بل ويدفع باتجاه "تسفيه" كل المطالب الشرعية! وهذا تصريح لا ينطبق إلا على كافر بالله العظيم! فمن يدفع باتجاه تسفيه توحيد الله جل وعلا؟
من يقول بتسفيه التوحيد؟ لم يقله إلا المشركون والمنافقون كما حكى عنهم الله في كتابه:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ }البقرة13
ولم يحكر هذا الموقف على حاكم المطيري فحسب، بل وضم معه عدد كبير من الكتاب وسمى بعضهم، وضم إليهم مجموعة كتاب في مجلة العصر!
"تقارب كثيراً مع د.النفيسي ود.عبدالله الحامد ود.الأحمري ومهنا الحبيل وبقية المجموعة النضالية السياسية التي تكتب في مجلة العصر."
السكران وابن بيه:
ماذا من موقف السكران من الشيخ عبد الله بن بيه، وهو العالم الموريتاني المعروف الشهير، وله جهوده التي لا تنكر في على اتساع العالم الإسلامي وبين الأقليات الإسلامية في أمريكا وأوروبا.
كما يبدو أن الموقف بالنسبة للسكران محسوم من ابن ابن بيه، فابن بيه بالنسبة له، مشكوك في نواياه، ومميع للعقيدة.
فمن وصفه لمؤتمر مادرين الذي عقد في تركيا قبل أشهر قوله:
"ومافيه من الميوعة العقدية"
أما التشكيك بالنوايا واتهام الشيخ القائم على المؤتمر فقد قال فيه:
"التلبيس على الناس باسم ابن تيمية والدفاع عن ابن تيمية وتصحيح فتوى ابن تيمية، وتبين أن الأمر كله بيان منهزم مبيّت بليل، وكان من أخلاق العلم أن لايتستر مهندس المؤتمر ابن بيه بابن تيمية وهو يعلم جيداً أن ابن تيمية يتعارض جذرياً مع أفكاره حول (الموقف من الكافر)."
وأتسائل فعلًا: إذا كانت هذه أقوال إبراهيم السكران في علماء ودعاة ومفكرين وإصلاحيين، كلهم من الخط الإسلامي، فمن يقصد يا ترى عندما بث رسالة للشباب ويقول لهم:
"والله يا إخوان إننا مسؤولين أمام الله ونحن نرى بعض النزقين يتسببون في انتكاسات لا يعلمها إلا الله بسبب تهييج نفوس الشباب ضد العلماء والدعاة بدلاً من مساندتهم، فيجب أن نصنع شيئاً.
تذكروا يا إخوان قول الله تعالى في تناصر المؤمنين (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [التوبة، 71] وقارنوا ذلك بهؤلاء الذين يتفننون في خذلان أهل العلم والدعوة بحجة أنهم عبيد الحكومة وخدم الاستبداد.
وتأملوا قول الله تعالى في سلامة الصدر لأهل الإيمان ونبذ الغل تجاههم (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر، 10] وقارنوا ذلك بهؤلاء الذين امتلأت قلوبهم بالغل على أهل العلم والدعوة بحجة أنهم يشرعنون الاستبداد السياسي وغيرها من شماعات الظلم والجور."
السكران واتهام الأعراض:
لنعد بالذاكرة قليلا، ونستعيد ما كان يواجهه السكران في مرحلة "ما قبل المآلات"، والمتابع لما كان يكتب في تلك الفترة وما يقال عن السكران، لن يعدم تلك الألفاظ الشنيعة عليه، ولن يعدم اللعن والسب والشتم، والدخول في النوايا والتشكيك في الدين، واتهام العرض.. إلخ.
فما الموقف الشرعي من تلك التصرفات؟
يقول السكران في مقاله الأسماء المستعارة مبينًا الموقف الصحيح الذي يجب أن يكون عليه أصحاب المعرفات المجهولة:
"مهما بلغ الاختلاف مع الأخ الفاضل بدر العامر في مسائل منهجية معينة، هل يصل الأمر إلى أن يطعن هذا الطاعن في عرضه؟! لاحول ولا قوة إلا بالله."
ولكن ماذا قال السكران سابقًا عن الخوض في الأعراض، هل هو حرام؟ هل هو مكروه؟ هل هو مباح؟ لا أبدًا؛ بل هو على منهج السكران على أجر بإذن الله:
"والمراد أن كل من نقدني، وأساء القول فيّ، وخاض في عرضي، بناءً على كلام لي قبل ورقة المآلات فقد صدق وبرّ وما تجاوز الحق قيد أنملة، بل هو مأجور إن شاء الله"
وهذا يعني بكل وضوح أن من هو على منهج السكران "القديم" فإن من الخوض في عرضه والإساءة إليه جزاؤه الأجر والمثوبة من عند الله!
وياللعجب، هل الأخلاق والمروءة والأمانة والعدل هي حكر على فئة معينة يفصل لها السكران مقايسها، وبالتالي فالولوغ في أعراضهم حرام حرام حرام، ومن يخالفهم فالطعن فيه على أجر من الله!
ويناقض نفسه بقوله:
"كنت مرة أتابع سجالاً على الشبكة، فنطق أحدهم بعبارة "فاحشة"، فأنكر عليه آخر هذه العبارة، فذهب هذا المتفحش يذكر أدلة على موقفه، الحقيقة أنني اندهشت حين رأيت هذا المتفحش لديه "شرعنة" مسبقة لما يقوم به!"
فمن جعل هذا الباب مشروعا وصاحبه مأجور وعلى حق؟ أليس هو السكران؟ لماذا الدهشة إذًا؟
إبراهيم السكران
من يقف خلف الأسماء المستعارة؟
من العجائب ما يقوله السكران عمن يقف خلف المعرفات المستعارة!
فيقول:
"أول وأضخم حقيقة بدهية قطعية أمتلئ بها إيماناً أن هذه الكتيبة المستعارة لا تمثل الإسلاميين من قريب ولا من بعيد، ووالله لا يزعم أنها تمثل الإسلاميين رجل يخاف الله تعالى"
ويقول:
"هناك احتمالان مطروحان: هل هذه الأسماء المستعارة المتفحشة هم مجرد فتيان صغار فيهم طيش المراهقة و لا موجِّه لهم واستمتعوا باللعبة؟ أم هم أناس من خارج الصف الإسلامي يريدون تشويه الإسلاميين؟"
أترك الإجابة للقارئ..
هذا الموضوع كتبه : ابو مصعب العاقولي
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
الجميع يعرف هذا الرجل المسمى بابراهيم السكران .. فهو باحث وموسوعي .. وقد اجتاحته التقلبات كثيراً حتى رسى أخيراً في الضفة المتشددة والأيام القادمة ستكشف عن منزلقات فكرية خطيرة في
مستقبل هذا الرجل .. كان إبراهيم السكران قبل سنوات قليلة يتهم المناهج التعليمية في المملكة بأنها منبع للإرهاب والتفجير والقتل .. وكان يتهم سيد قطب والإمام حسن البنا بأنهما منبعا العنف .. واليوم يقوم بخبث وقلة حياء بالإساءة والاستعداء لكثير من المفكرين والدعاة الإسلاميين أمثال الدكتور عبدالله النفيسي والشيخ الدكتور سلمان العودة والشيخ الدكتور حاكم المطيري والشيخ مهنا الحبيل والعلامة عبدالله بن بيه وغيرهم كثير .. وقد ذكر لي غير واحد من أهل العلم أسأله عن السكران فيقول أن هذا يعاني من اختلال فكري واضطراب منهجي لاسيما وأنه في مقتبل عمره فهذا سيؤدي إلى انتكاسات متتالية سيراها القارئ .. وسأقدم هنا بسلسلة مقالات عن هذا الرجل تنبئ عن حجم الخطر الذي ربما يحمله هذا الرجل للمتلقي وخاصة الشاب الصحوي الذي ألف الحماسة والتعبئة العاطفية والانبهار بأسلوب وثقافة المتحدث أو الكاتب .. هنا سنعري فكر إبراهيم السكران السابق وفكره الحاضر وسنستشرف فكره في المستقبل والذي أجزم أنه سيكون صدمة وعار على مشهدنا الثقافي .. ويجدر بالقارئ الكريم ملاحظة الخط العريض لمنهج ومقولات إبراهيم السكران في السابق ليعرف سر وتخبط هذا الرجل وامتداد سقمه الفكري حتى اليوم .. وستكون الردود في هذا الموضوع عامرة بالمقالات التي كتبت عن هذا الرجل فتابعها أخي القارئ الكريم ..
****************************************
المقال الأول
هو كما المثقفين الإسلاميين ملم بتراث ابن تيمية، والسكران أيضا مهتم كثيرا بالقراءات الحديثة للتراث الإسلامي وخصوصا المغاربية منها. بدأ بالعروي والجابري ويفوت وابن سعيد ووقيدي والصغير، وانتهاء بمشروع طه عبدالرحمن الذي بورك إسلاميا أكثر من سابقيه. بدأ السكران يكتب في منتدى “الوسطية” باسمه وأحيانا باسم مستعار، وكتب بمنتدى محاور باسم مستعار يعرفه أكثر أصدقائه، لكن نجمه لمع كثيرا بعد ورقته الشهيرة في «الحوار الوطني الأول بمكة المكرمة» عن المناهج التعليمية في المملكة العربية السعودية.
في مؤتمر الحوار الوطني الذي عقد بمكة (2004)، فجر السكران في تلك الورقة قنبلة نقدية خلص فيها إلى أن المناهج الدينية لا تخلو من بذور ربما ساهمت في زراعة التيارات التكفيرية في السعودية، بل إن السكران حذر صراحة: «من الحضور البارز والمركز الذي يتمتع بهما مفهومي الولاء والبراء في المناهج السعودية». ونبه إلى أن «هناك تقاربا شديدا بين مضامين المناهج الدينية ومنطلقات الفكر الجهادي» معولا ذلك الى ما يسميه وحدة المصادر ممثلة بالدرر السنية ومجموعة التوحيد والأخوين قطب.
لم تكن مفاجأة الورقة – في تقديري – في محتواها، وان كان غاية في الأهمية، المفاجأة الأبرز أن نقد المناهج التعليمية قامت به هذه المرة شخصيتين إسلاميتين معروفتين، لمنطقة يعتبرها الإسلاميين من مناطق النفوذ التقليدية، أعني المؤسسة التعليمية. الذي حدث فيما بعد أن الردود الحادة والنقد الهجومي من قبل التيار الإسلامي حدا بأصحاب الشأن – وتحديدا السكران – إلى تقديم أكثر من توضيح في منابر إسلامية مثل منتدى إسلام اليوم، كانت التوضيحات تنادي أن إصلاح المناهج حاجة وطنية ماسة ولا علاقة لها بالأجنبي.
الأستاذ السكران استمر أيضا في نقد ما يسميه “التصعيد الديني” وألّف في ذلك كتابا سماه “الخطاب التعبوي: تحليل مقارن لميكانيزمات التصعيد الديني، دراسة الحالة السعودية” – دار نشر الأبحاث الفقهية والتنموية 2004 .(390 صفحة)، ولا أعرف إن كان نشره بشكل واسع.
في هذا الكتاب حذر من ما سماه “مآلات التصعيد الديني” منطلقا من أن كل أصل شرعي فيه قدر محكم وقدر متشابه وأن كليات الدين هي ما ورد في حديث جبريل الشهير. وأن الشارع لم يجعل من خالف الصواب ضالا، بل مجتهد مأجور.
ونبه السكران في الباب الأول من الكتاب إلى أن خطورة التصعيد الديني تأتي من تمزيق النسيج الاجتماعي في المجتمع المسلم مذكرا بما حدث في التجربة التاريخية الإسلامية من تحول واضح من فقه الصحابة إلى خطاب ديني مختلف جوهره التصعيد المذهبي الذي بدوره يمتص الاسترخاء الاجتماعي.
وبعد استقراء طويل ومفصل عن الآراء والاتجاهات في إصلاح المناهج، مرورا بالقصيبي والمالكي والقاسم، خلص السكران الى أنه لم يجد مفكرا سعوديا واحدا يطرح البديل العلماني في النظام التعليمي السعودي، وأن كافة الطروحات تدور حول ضخ المفاهيم القرآنية المتعلقة بالتسامح والحوار والاعتدال ونحوه.
وفي الباب الثاني الذي عنونه بـ “ميكانيزمات الخطاب الجهادي” يقرر السكران بعد مراجعة تاريخية طويلة لنشأة التنظيم السري لجماعة الأخوان المسلمين إلى أن الملهم الأساسي لمفهوم العنف لدى الأخوان المسلمين هو الإمام البنا نفسه، وربما في هذه الجزئية تماثل مع طرح عتاة العلمانية المصرية كفرج فوده الذي يصر عادة أن خطاب العنف بدأ من البنا نفسه وليس من السندي – قائد التنظيم السري – وقبل معالم سيد (قطب). إلا انه – أعني السكران – يستدرك لاحقا أن ذلك لم يكن انبعاثا داخليا بقدر ما هو تفاعل الثقافة السياسية عند البنا مع موجة العصر التي كانت تدفع حينها إلى تمجيد فكرة العنف.
أما بخصوص السيد قطب فقد خلص السكران في محاولته لفهم ابيستيما الخطاب القطبي (والتعبير للسكران الذي يعشق المصطلحات الأجنبية شبه المعرّبة) إلى أن الخصائص النفسية في شخصية سيد وتكوينه والظروف الاجتماعية التي واجهته هي التي أفرزت المحتوى الفكري للخطاب القطبي الذي نعرفه. وفي سبيل ذلك يستشهد السكران بمحطات كثيرة في حياة قطب، بداية من نشأته في أسرة تتمتع بالإصرار اللامحدود.. ربما تلطيفا لعبارة العصاب العنادي. وفي هذا السياق يستشهد بقصة شقيقته أمينه قطب الشهيرة مع كمال السنانيري. ثم هيامه المفرط في محبوبته الأولى. وتطرفه في نقد شوقي، وغلوه في التماهي مع مدرسة العقاد ويقابل ذلك مغالاة في سباب الرافعي وتلاميذه بما فيهم الشيخ الطنطاوي رحمهم الله جميعا. ليخلص السكران إلى أن مشكلة السيد قطب هي في تكوينه النفسي الذي يفتقد إلى «نزعة الموازنة» وينحو دوما إلى التطرف باتجاه «الأحكام الجذرية». وبذلك اتسمت رؤاه «بالأحكام المغالية» في جميع الإتجاهات.
ويذكر السكران بجوانب أخرى في شخصية سيد ساهمت في إنتاج خطابه المغالي، مثل «الاعتداد المفرط بالذات».. حتى درجة الغرور. مما جعله «ساخطا باستمرار» غير مطيق «لمرارة التجاهل».
وبعد هذه المقدمات في شرح حالة اللا توازن النفسي في شخصية سيد، يميل السكران إلى رؤية الدكتور حافظ ذياب، أن هذه النزعة إلى الحل الجذري هي التي سببت له الخلط المعرفي في إسقاط نموذجي ابن تيمية والتتار، والمودودي والهندوس، وكانا مشروعين استئصاليين – على الحالة العربية الناصرية.
فالتصعيد التكفيري والسياسي الذي مارسه ابن تيمية والمودودي هو عمل مفهوم. لكن الخطورة في نقله الى المجال العربي، فهناك فارق جوهري بين نموذجي (ابن تيمية – التتار) و (المودودي – الهندوس) في مقابل (سيد قطب – الناصرية). ويُجْهِز السكران في بحثه على بقية عناصر خطاب سيد قطب مثل مفهوم «الجاهلية» و«الحاكمية» و«المفاصلة» و«العزلة الشعورية»، وكذلك مفاهيم «حركية العقيدة» و«الاستعلاء» و«مفهوم العصبة المؤمنة»، معتبرا أن سيدا، وبسبب ضعف تكوينه الفقهي، قد تجاوز كل المعايير الشرعية المحددة لتلك المفاهيم، وأن كشفه لهذا التصعيد القطبي يؤدي إلى تهلل كل منظومة الخطاب بكامله.
أن يكن هذا رأي السكران في حسن البنا و سيد قطب، فليس من الصعب التنبؤ بآرائه في قادة الجماعات الإسلامية المسلحة. فكرم زهدي وعبدالسلام فرج والظواهري وغيرهم، هم شباب جلهم غير متخصصين بالشريعة، هرولوا – نتيجة للتصعيد الديني الإخواني ثم القطبي – إلى إسقاطات مرتجلة لاجتهادات أئمة الدعوة النجدية متكئين في ذلك على مجموعة التوحيد وفتاوى ابن عتيق وقليلا ما تجاوزوها إلى الفتاوى الكبرى لابن تيمية – كما في حالة عبدالسلام فرج.
وينتقل الأستاذ السكران إلى «مكينزمات» التصعيد الديني المحلي. وهو في تحليله للخطاب الديني للصحوة الإسلامية في السعودية يكرر المقولة المتداولة عند غيره من نقاد الصحوة الإسلامية، من أن التحاما بين الخطاب القطبي ورسائل أئمة الدعوة النجدية هو المغذي الرئيس للتصعيد الديني في السعودية. مستشهدا بذلك بكتابات ورسائل عناصر الخطاب الجهادي في السعودية وخصوصا المنظر الأبرز للقاعدة، يوسف العييري.
ويقف السكران عند خطاب العييري ملمحا بوضوح إلى ارتكازه شبه الكلي على مجموعة التوحيد والدرر السَنية وفتاوى إبن إبراهيم. والملفت أن السكران لم يتوقف كثيرا عند رسائل العييري المعروفة إلى أحد أشهر رموز الصحوة.
في مقاله الأخيرة في مجلة العصر عن مآلات الخطاب المدني (26 فصلا) ثم ما تبعه من ردود لنواف القديمي ومنصور الهجلة والدمشقي، ثم في مقالتين شارحتين للمتن الأول يدشن السكران نفسه بصورة جديدة تماما.
والدراسة وما تبعها من نقاشات جديرة بالقراءة للمهتمين بالخطاب الإسلامي السعودي. صحيح أن الراصد للحراك الثقافي السعودي يتعود على المفاجآت دائما فهناك تحولات دائما من تيارات إلى أخرى. الكل يذكر انتقال الشريان إلى مجلة الدعوة الإسلامية في الثمانينيات إبان عصر المد الصحوي، وحديثا حظيت تجربة الأصدقاء الثلاثة الذايدي والنقيدان وابن بجاد بمتابعة من قبل صحافيين أجانب. وعلى الرغم أن تلك التجربة لم تقرأ قراءة نقدية رصينة بعد، لكنها و حسب قراءتي للقاء النقيدان مع الوسطية – استمرت ما يقرب من السنتين. كل هذا رغم أن الثلاثة لم نتعود في خطاباتهم على اللباس الفلسفي و«الإبيستمولوجي» كما في حالة السكران، قبل هؤلاء جميعا كان البليهي: خريج الشريعة من جامعة الإمام محمد بن سعود، وهو أول سعودي يختار “سيد قطب” موضوعا لرسالته الماجستير. ومن المؤكد أن مشروع بليهي اليوم ليس بليهي الأمس بل هو يتقصد هدم بليهي السبعينات لكن هذا التحول استغرق أكثر من عقدين.
لكن ما لم يتعود عليه المراقب هو التحول الكامل، وفي غضون أشهر، من خطاب نقدي صارم للحركة الإسلامية إلى خطاب متوتر وتخويني تجاه نقاد الحركات الإسلامية.
الملفت أن اللهجة التخوينية والوصف بالانتهازية لكل نقاد الحركات الإسلامية كانت المشترك الوحيد التي أتفق عليها السكران ومنتقدوه من أصحاب الرؤية الإسلامية المنفتحة كما في حالة القديمي. فكلاهما يعيش نفس حالة التوتر والتأزم النفسي تجاه الآخر المختلف. ومن تابع الردود وجد حرارة العناق عند هذه المسألة.
في تقديري لم يبذل الصديق الشيخ السكران في مقالته الأخيرة في مجلة العصر المعنونة (مآلات الخطاب المدني) جهدا فكريا خلاقا. لقد كان الهيكل العام والتجييش الآسر، مناظرا تماما في أحد فصول كتابه (الخطاب التعبوي) المعنون (مآلات التصعيد الديني). أما المحتوى فهو خط رجعة وكأنك تشاهد فيلما أثناء طويه لنقطة البداية.
هجومه على القراءات النقدية المغاربية للتراث ارتكز فيه تماما على طه عبدالرحمن مستخدما ذات الاصطلاحات، كما ارتكز في نقده للغرب على “العلمانية الكلية” للمسيري.
أما البعد السلفي لدراسته فقد جعل من ابن تيمية مسطرة للحق متناسيا أن رؤيته ودراساته الاقتصادية الإسلامية في كُتيّبه (الأسهم المختلطة) قائمة على هدم قول إبن تيمية في حرمة التورق التي روجع فيها مرارا كما يروي تلميذه ابن القيم وما زاده ذلك إلا شدة في تحريمها.
لعل الكاتب فضّل أن يعود “بلدوزرا” يهد كل ما بناه سلفا. وكل هذا حق مشروع لولا السرعة الخطيرة التي يحرق فيه السكران المراحل. فمن “نقد المناهج” 2004، عندما كان ” التغيير والإصلاح ” موضة جامحة. إلى “نقد الخطاب التعبوي” 2004، بما حواه من “مآلات التصعيد الديني” وقت أن كانت الغلظة تجاه الحركات الإسلامية هي أشهى المدونات. إلى “الأسهم المختلطة” إبان التفاؤلات البورصية. إلى ما نقرأه اليوم في “مآلات الخطاب المدني”.
هذه الحوليات الفكرية تنذر أن ما قاله السكران عن قطب من ميل فطري للحلول الجذرية، إلى آخر ما قاله عن سيد، ربما يسري عليه هو أيضا (أعني السكران).
والخوف الأكبر أننا نتعامل مع موسميات فكرية لذهن متقد وموسوعي لم نقترب بعد من نسخته الأخيرة.
يتبع (المقال الثاني)
أبو مصعب العاقولي على twitter
aboo_mos3ab@
------------------------------------------
المقال الثاني
منهج التزييف عند إبراهيم السكران / سلطان العامر
المدخل
(مناقشة علمية)… (والرهان على العلم)… (وسنتجاوز ذلك لإختبار مدى علمية هذا النقد)… هذا التلويح بالعلم الذي نجده مبثوثا في كثير من كتابات إبراهيم السكران الممتدة من (مآلات الخطاب المدني) وحتى (ذرائع الإصلاحيين) هو الذي سأحاول مناقشته في هذه المقالة. فأنا، ومنذ (مآلات الخطاب المدني) لاحظت أمرا لم ينفك عن التنامي والتضخّم في كتابات السكران حتى أصبح هو الطاغي والمسيطر، عنيت (منهج التزييف) في تأكيد نتائج قد قررت مسبقا تحت مسمى (العلم) و(الموضوعية).
لن أخوض في تفصيل تعريفات مفهوم العلمية وشرح الخلاف حوله، بل سأنطلق مباشرة في هذه المقالة من أبسط شروط العلمية والموضوعية، وهي الاستسلام لنتائج المنهج المستخدم بغض النظر عن ماهية هذا المنهج… فالباحث يكون علميا وموضوعيا فقط إذا استسلم لنتائج المنهج الذي ارتضاه للبحث. وأضع هذا الشرط البسيط للعلمية مقابلا (لمنهج التزييف) الذي يستخدمه السكران وهو عبارة عن تطويع للأدوات البحثية والمنهجية من أجل تقرير نتائج مقررة مسبقا.
وكما ذكرت مسبقا، يمكن ملاحظة بداية تشكل هذا المنهج التزييفي لدى السكران منذ (مآلات الخطاب المدني) ففي هذا البحث وفي إحدى فقراته المعنونة بـ(الافتتان بالقوة المادية لخصوم النبوات) ومن أجل أن يؤكد السكران دعواه العامة بأن (جوهر الصراع القرآني أساسا بين المظاهر المادية والمبدأ الديني) وأن (افتتان الناس بالقوة المادية يخلب ألبابهم ويعشي أبصارهم ويصرفهم عن الانصياع والاستسلام للوحي)، راح يقرأ سير الانبياء من هذه الزاوية بأنها صراع بين المفتونين بالقوى المادية وبين الانبياء المحرومين منها. وفي معرض قراءته هذه، وتحديدا عندما وصل إلى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم قال التالي:
“وبكل صراحة واجهوه (= يقصد كفار قريش، واجهو الرسول) بأنه لا يملك (ثروة مادية) يستحق بها أن يتبعوه كما ساق تعالى احتجاجهم في سورة الفرقان بقولهم: (أو يلقى إليه كنز، أو تكون له جنة يأكل منها) وبعد هذه الآية مباشرة يعقب سبحانه وتعالى علي هذا الاحتجاج المادي الرخيص بكونه لا يعجزه سبحانه ذلك ولكنه أراد امتحانهم واختبارهم فقال سبحانه وتعالى: (تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا) “ أ.هـ
هنا تحديدا، يستطيع أي منا العودة إلى آيات سورة الفرقان الأصلية، لينكشف له بسهولة حجم (التزييف) المكثف الموجود في هذا الاستدلال. يقول الله تعالى: (وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل عليه ملك فيكون معه نذيرا، أو يلقى إليه كنز، أو تكون له جنّة يأكل منها، وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا). الآن بعد استعادة السياق كاملا: هل يمكن فهم احتجاجات قريش بأنها احتجاجات على كون الرسول لا يملك (ثروة مادية)؟ الجواب طبعا لا. فأي قارئ للعربية يستطيع استنباط أن منشأ الاعتراضات هنا هو أن الرسول بشر عادي (يأكل الطعام ويمشي في الأسواق)، فأي شيء يميزه حتى يكون نبيا؟ فلو كان معه ملك أو نزل عليه كنز أو كانت له جنة لأمكن حينها تصديق ادعاؤه النبوة، هذا هو جوهر احتجاج كفار قريش ومصدر مطالباتهم المتنوعة للرسول: تارة كنز وتارة جنة وتارة أن يصعد للسماء وأن ينزل منها بكتاب وتارة وأن يفجر من الأرض ينبوعا وتارة أن يأتيهم بالملائكة… وغيرها من المطالبات التي من خلالها أراد كفار قريش تأكيد مسألة واحدة، وهي (عجز) الرسول عن أن يكون أكثر من بشر عادي، وبالتالي يخلصون إلى نتيجة مفادها أنه ليس إلا (رجل مسحور). هكذا هو السياق الذي وردت فيه هذه الاحتجاجات والتي هي أبعد ما يكون عن الاعتراض على عدم امتلاك الرسول للثروة المادية لأن الرسول أصلا كان غنيا (ووجدك عائلا فأغنى)، أو على الأقل لم يكن فقيرا حتى وفاة زوجته خديجة رضي الله عنها.
من مثل هذا النوع من (الاستدلالات المزيفة) المبثوثة في أرجاء (مآلات الخطاب المدني)، ابتدأ السكران طريقه نحو تشكيل منهجه التزييفي الذي عبر تغليفه بمسميات (العلمية) و(الموضوعية) راح يؤلف كتاباته ومقالاته المتنوعة، والتي بقليل من الرؤية النقدية يمكن تكشف ملامح هذا المنهج التزييفي، وهي الملامح التي سنجمل تناولها في الفقرة القادمة.
ملامح المنهج
بقراءة نقدية لغالبية أدبيات الخطاب السكراني، نستطيع تكشّف ملامح المنهج الثاوي خلفها، المنهج الذي ندعوه هنا (تزييفي) لأنه يتعامل مع الأدوات البحثية وكأنها حلي، يتزين بها، دون الاستسلام لها ذلك الاستسلام العلمي والموضوعي… فالنتيجة في هذا الخطاب مقررة مسبقا. وأبرز ملامح هذا المنهج هي كالتالي:
أ-مصارعة الأشباح.
فالذي يطالع ما يكتبه السكران، يجده محاربا لا يمل عن مصارعة مخالفيه الذين يكتفي بتصنيفهم وإيراد مقولاتهم دون التعريف بهم ودون توثيق هذه المقولات وهو المولع بتوثيق كافة الاقتباسات الأخرى في أبحاثه. وهذه الطريقة تتيح للسكران الهرب من تهمة (إساءة الفهم) و(التجني) و(التشفي) لأن القارئ لا يمكنه أبدا معرفة من هو المنقود حتى يستطيع التأكد والتثبت من مدى فهم السكران لمقولاته ومدى أمانته في نقلها- خصوصا أننا جربنا مثل هذا الفهم المغلوط وهذا النقل مع القرآن نفسه. وفي نفس الوقت الذي تتيح له هذه الطريقة هذا الهروب، فهي كذلك تعطيه الحرية في التفنن في توليد المقولات على لسان هذا المنقود… بحيث يقوم بإيراد عدد من المقولات على ألسنة هؤلاء المنقودين ويجيب عنها ويفندها… دون أن يعلم القارئ: هل حقا قال هؤلاء المنقودون ما يقولهم إياه السكران؟ وهل هذه فقط (أقوى) حججهم واستدلالاتهم؟ كل هذا لا يستطيع القارئ معرفته، لأن الناقد- الذي هو السكران- حريص أشد الحرص على إخفاء منقوده. فمن هم (االمناوئون للخطاب الشرعي)؟ ومن هم (المنتسبون إلى البحث الشرعي)؟ ومن هم (الإصلاحيون)؟
ب-(ما في الجبّة إلا الله)
لا توجد مبالغة في كتابات السكران أشد من المبالغة في ادعائه تمثيل (أهل السنة والجماعة)، ولا توجد طرافة أشد من طرفة إخراجه (الديمقراطيين والاصلاحيين والفكريين ومتفقهة التغريب وادعياء الوسطية وأدعياء الاصلاح السياسي والوطنيين) من دائرة أهل السنة والجماعة. ففي كل مقالة يكتبها سكران، يخرج فريقا من المسلمين من السنة إلى البدعة، ومع كل ورقة ينشرها تضيق دائرة السنة شيئا فشيئا، حتى إني لأخشى أن يأتي اليوم الذي لا يستوعب قطرها أحدا سوى السكران نفسه. هذا الإغراٍق في ادعاء التمثيل المساوق لهذا الشغف بإخراج الآخرين من دائرة أهل السنة، لا يتأتى إلا عبر الانطلاق من تمويه أساسي يستخدمه السكران، ألا وهو (التماهي مع الشريعة). فكما الحلولية القديمة التي ادعى أفرادها التوحد مع الله والفناء فيه، نجد السكران في كتاباته يطرح آراءه واجتهاداته الشخصية على أنها هي الشريعة وهي الوحي وهي مذهب أهل السنة الجماعة. فإن كان الصوفيّ القديم قد ذهبت بعقله سكرة الوجد وحب الإله ليدعي دعاواه المجنونة، فإنه التزييف وحده الذي حدا بالسكران للتماهي مع الشريعة والوحي وعدم الفصل بين (اجتهاداته) وبينها.
جـ-القرص/السحر.
ما هو السحر في كتابات السكران؟
يمكن لأي شخص أن يقرأ (احتجاجات المناوئين للخطاب الشرعي) أو (من اخترع لفظ الاختلاط) ليجد نفسه مأسورا بهذا الكم الهائل من العناوين والدراسات والأبحاث المتنوعة والاقتباسات العديدة من المراجع المتنوعة… وأن يجرفه بسرعة هذا التيار الهائل من (التوثيق) ليتقبل ما يمرره السكران من دعاوى ومقولات. هذا باختصار سحر السكران، مجموعة من الأقراص المدمجة يحسن البحث فيها ويرص نتائجها المنوعة بطريقة أخاذة ليمرر من خلالها مقولاته وآراءه… وهذا (التوثيق) و(التعديد) و(الحشد) هو ما يسميه السكران علمية… وسيتبين في النماذج التالية أمثلة على هذا التوظيف التزييفي لمفهوم العلمية عبر الاتكاء على هذه الأقراص المدمجة التي يسرت لنا التقنية الحديثة خلالها سهولة البحث في نصوص عدد هائل من الكتب المتنوعة.
د-المانوية.
السكران مغرم بالثنائيات: (طريق المادة/طريق الإيمان)، (المدنية/العبودية)، (الاحتساب الكفائي/تبعيض الوحي)، (معظمة السلف/مزدري السلف)، (المحور الموضوعي/المحور الفني…إلخ). وكان نواف القديمي في (المدنية الموبوءة) قد أثار هذه النقطة على بحثه (مآلات الخطاب المدني)… فما كان من السكران في تعقيبه على نواف إلا أن ادعى (أن المقابلة بين الثنائيات منهج قرآني نبوي) في عادته الحلولية في نسبة آرائه واجتهاداته إلى الوحي مباشرة.
ولإثبات دعواه الحلولية يستدل السكران بآية (من كان يريد حرث الاخرة نزد له في حرثه ما نشاء ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها) كدليل على المقابلة بين الدنيا/الآخرة، دون أن يلتفت لآيات كثيرة أخرى لا تعارض بين الدنيا والآخرة كـ(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا) وآية (ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب) وآية (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك) وهذه الآية تنقل دعاء موسى عليه السلام عندما جمع سبعين من خيرة قومه ليطلب عفو الله عما فعل السفهاء منهم.
ويستدل بآية (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم في الآخرة هم غافلون) على المقابلة بين العلم المدني/العلم الإلهي. وهذا تحميل للآية ما لا تحتمل: فالآية تعيب الاكتفاء بعلم الظاهر من الحياة الدنيا دون العلم النافع في الآخرة، أي أنها ضمنيا تثني على من يجمع الأمرين، فكيف تكون دليلا على المقابلة بينهما؟
ويتابع السكران استدلالاته التي لا علاقة لها بالمدلول، فهو يعتبر أي آية تقابل بين أمرين.. بين الاستقامة والانحراف وبين الحق والباطل، أن هذا دليل على أن (المقابلة بين الثنائيات منهج قرآني نبوي). وهذه سفسطة، لأن كافة الأدلة التي أوردها هي أدلة تقابل بين نقيضين، وإثبات أن النقيضين يتقابلان، أمر معروف ليس بحاجة لإستدلال قرآني.
مشكلة السكران هي أنه يجعل من غير المتناقضات: متناقضات: كوضعه للمدنية كنقيض للعبودية، أو الدنيا كنقيض للآخرة… رغم أنه بالإمكان الجمع بينهما، بل إن غالب الآيات التي يستدل بها السكران على اعتبار الدنيا مقابلة للآخرة، هي آيات تعيب الاكتفاء بالدنيا دون الالتفات للآخرة…. أي أنها ليست ضد الاهتمام بالدنيا، بل هي ضد الاكتفاء بها.
والمشكلة الأخرى هي اختصار الخيارات المتعددة بخيارين اثنين… فالناشط السياسي إما (مبعض للوحي) أو (محتسب كفائي)… إما أبيض أو أسود، ولا وجود لكافة ألوان الطيف الأخرى। وهذه الطريقة يلجأ إليها من يريد إغلاق باب الحوار، وتحويله إلى نوع من المفاصلة على طريقة جورج بوش: أنت معنا (حيث كل الحق) أم ضدنا(حيث كل الباطل)؟
هـ-غزالي جديد؟
عندما نتذكر أبا حامد الغزالي، فنحن نتذكر (حجة الإسلام) الذي كتب (تهافت الفلاسفة) و(فضائح الباطنية) وغيرها من الكتب التي تدافع عن (العقيدة). لكن، أيضا، عندما نتذكر أبا حامد، فنحن نتذكر الرجل الذي أدخل المفاهيم المنطقية والفلسفية والصوفية إلى العلوم الشرعية في كتب كثيرة كـ(إحياء علوم الدين) و(المستصفى) وغيرها. ولهذا قال عنه تلميذه ابن العربي (شيخنا أبو حامد ابتلع الفلاسفة وأراد أن يتقيأهم فما استطاع). ومثل الغزالي لكن في فضاء ديني مختلف نجد توما الإكويني أشهر المدافعين عن المسيحية، والذي حاول مقاومة التيار المتأثر بابن رشد، فكتب ضد ابن رشد ليعيد ادخاله من جديد عبر الباب الخلفي للكنيسة.
مثل هؤلاء – كما لاحظ أحد الأخوة- هو السكران الذي ابتلع ميشيل فوكو وأراد أن يتقيأه فما استطاع… فتجد في كتاباته إقحاما لمفاهيم حداثية ومابعد حداثية لعل أشهرها مفهوم (الخطاب) الذي يردده كثيرا عندما يتحدث عن النتاج الديني المعاصر كما في بحثه (احتجاجات المناوئين للخطاب الشرعي). وأنا في الحقيقة لا أعتقد أنه بالإمكان سلّ مفهوم الخطاب الفوكويّ عما يحيط به من إشكاليات الحقيقة وارتباطه بالقوّة وتشابكه مع السلطة وانبناؤه على الفروض الأساسية الغير مثبتة…إلخ، لا يمكن سلّه هكذا ومن ثم دسّه بسهولة في المجال الديني ووصفه بالشرعي، إن هذا العمل، لو أدرك (محامو العقيدة) خطره، لنال السكران النصيب الأكبر من الردود والانتقادات.
هكذا… بتحويل المنقود إلى شبح وإبعاده عن دائرة السنة والتحوّل إلى الممثل الحصري للسنة والتماهي مع النصوص المقدسة وإغلاق الحوار عبر اختصار الدنيا في لونين اثنين، بهذا المنهج التزييفي يعتمد السكران في كتاباته التي يدعوها (علمية) و(موضوعية)! هذا المنهج يمكن لكل من يملك أدنى نظرة نقدية أن يكتشفه ويستوضحه.
وسنقوم بإيراد نموذجين لتوضيح تهافت دعوى (العلمية) و(الموضوعية)، وأنها ليست سوى كتابات تزييفية… وهذان النموذجان (من اخترع لفظ الاختلاط) و (ذرائع الإصلاحيين).
النموذج الأول: من اخترع لفظ الاختلاط؟
ففي بحث (من اخترع لفظ الاختلاط) يقوم السكران بانتقاد مقولتين محددتين:
الأولى: وهي مقولة (المنتسبين إلى البحث الشرعي) ومفادها أن الاختلاط مصطلح غير معروف في مدونات الفقه التراثية.
أما المقولة الثانية: فهي مقولة (المنتسبين إلى البحث الفكري)، ومفادها أن الغرب المعاصر لا يعرف التعليم غير المختلط.
بعد تحديد المقولات دون نسبتهما إلى أصحابهما- كما هي عادة السكران- فنحن لا نعرف تحديدا من هم هؤلاء المنتسبون للبحث الشرعي وأولئك المنتسبون للبحث الفكري؟ لا نعرف: ما قالوا؟
وكيف قالوا؟
وبم استدلوا؟
وما مدى تحكّم السكران في انتقاء أجزاء من أقوالهم وترك أجزاء؟
كل هذا بحكم الغيب بالنسبة لنا كقراء… لكن الطريف في الأمر، أنه وعلي الرغم من إخفاء هوية المنقودين، وانتقاء المقولة المنقودة بعناية إلا أن السكران يفشل في نقدها.
ففي نقده للمقولة الأولى، عوّم المسألة، فالمقولة تتحدث عن (مصطلح الاختلاط)، عن كون الاختلاط مسألة تدرس بعينها، كمسائل الطهارة والمسح على الخفين والبيع والطلاق والديون وغيرها… فهل كان الاختلاط مصطلح شرعي يدل دلالة واضحة على منكر معروف مسبقا عند الفقهاء الأوائل؟ هذا السؤال الذي يقفز فوقه السكران ليخرج لنا – والفضل في ذلك طبعا للأقراص المدمجة- من مدونات التراث كل جملة ورد فيها لفظ (اختلط) و(يختلط) وكل اشتقاقات الجذر (خ ل ط) معتبرا أن مجرد وجود اللفظ بمعناه العام أمر كاف لتقرير أن (الاختلاط منكر شرعي نصت عليه كافة المذاهب الأربعة لأهل السنة والجماعة). بهذه الطريقة السكرانية، يمكن إثبات أن كل مصطلح حديث قد تم تناوله في السابق، بمجرد إيجاد إحدى اشتقاقات الجذر اللغوي بنفس المعنى العام للمصطلح، دون الاهتمام بهل كونه درس كمصطلح بعينه، أي كمسألة قائمة بذاتها.
باختصار: لا يستطيع السكران أن يورد تعريفا اصطلاحيا للاختلاط من أي من الكتب التراثية، مهما أشقى نفسه في البحث بين أقراصه المدمجة! ومن هنا تصبح النتيجة: صفر، فوجود اللفظ لا يعني أبدا أن المسألة مدروسة ومعروفة في كتب الفقه. والسكران في الاقتباسات المتعددة من الكتب التراثية المختلفة التي أوردها لم يثبت إلا ما أراد نقضه، فكون الاختلاط لم يرد إلا كلفظ عابر داخل مسائل السفر والقضاء وغيرها، يعني أنه لم يدرس كمسألة بعينها.
أنا هنا لست أنصر المقولة التي تقول (كونه لم يذكر في الكتب الأولى إذن فهو مباح)، بل أتعجب جدا من هذه الرغبة الغريبة في الاحتكام لمدونات الفقه… إذ أن السلفية المعاصرة لم تقم بعمل أفضل وأعظم من حربها الضروس ضد المذهبية، والرجوع المباشر لمصادر الوحي. لو كنت مكان السكران، لأجبت عن هذه المقولة التي تقول (إن الاختلاط غير معروف في الكتب الأولى) بأن هذا أمر طبيعي مثله مثل أحكام الصلاة في الطائرة وغيرها، لأن المجتمع القديم ليس كالمجتمع الحديث. ففي المجتمع القديم، مجتمع الشافعي وأحمد وغيرهم، المجتمع الزراعي التقليدي كانت مساحات الالتقاء بين الذكر والأنثى مساحات عابرة، في سوق، في سفر، في حج، عند المسجد، عند القاضي… وغيرها، ويمكن تكشف ذلك في أبيات الغزل فغالبا كان العاشق لا يجد حبيبته إلا في هذه الأماكن، التي كان الالتقاء فيها عابرا. لكن بمقابل انحسار هذه المساحات العامة، كانت الفضاءات الخاصة في المجتمعات التقليدية القديمة مأهولة بالاختلاط… فالبيت التقليدي القديم، كان يعيش فيه الأب وزوجته وابنائهما وابناء ابنائهما… وللجميع تخيل كيف كان الوضع في اوقات الاكل والاجتماع والمسامرة. ومع تغير الظروف العالمية، وبداية تشكل الدولة الحديثة القائمة على تقسيم العمل الغير معتمد على جنس محدد والمعتمدة على أجهزة بيرقراطية بحاجة إلى تعليم وما إلى ذلك، ازدادت المساحات العامة لالتقاء الذكر بالانثى في التعليم والعمل واماكن الترفيه وما إلى ذلك، بل زاد الأمر تعقيدا مع ثورة التقنية، ففضاءات الانترنت والاتصالات أوجدت مساحات جديدة للاختلاط المسمى زماني، ففي منتديات الانترنت وعبر برامج المحادثة المباشرة يتحدث الرجال والنساء. فالمسألة برمتها حادثة، ولابد من النظر إليها نظرة علمية فقهية معاصرة تتناسب والمجتمع الحديث: أما أن يقبل الفقهاء بالدولة الحديثة ويباركونها، ويضطرون الناس للعيش وفق أنماط المجتمعات التقليدية: فهذا هو الجمود والتخلف بعينه. وبدل التفتيش في الكتب القديمة عن الاختلاط والاحتجاج بوجودها في تلك الكتب على حرمتها، والاحتجاج بانعدام وجودها على اباحتها… بدلا من ذلك كان من المفترض أن يبحث الفقهاء عن هذه الصيغ الجديدة وبحث آداب التواصل بين الرجال والنساء في الاماكن العامة.
هذا فيما يتعلق بالمقولة الأولى، أما بخصوص نقد السكران للمقولة الثانية المنسوبة للمنسوبين إلى (البحث الفكري)، والتي مفادها ( أن الغرب المعاصر لا يعرف التعليم غير المختلط)؛ فقد قام بتزييف كامل المسألة. فالمقولة تتناول (التعليم غير المختلط) والسكران يتحدث عن (التعليم الأحادي الجنس)، وهو أمر مختلف عن (التعليم غير المختلط) الذي هو ترجمة السكران المتواضعة للمصطلح الانجليزي ( single-sex education)… إذ أن هناك فرق بين الأمرين. ففي التعليم الأحادي الجنس يكون طلاب الفصل كلهم من جنس واحد، لكن هذا لا يمنع أن يكون الاستاذ رجلا، ولا يمنع أن يكون المدير رجلا.. ولا يمنع أن تختلي الطالبة باستاذها في مكتبه لتسأله عن هذا الأمر أو ذاك، ولا يمنع أن تكون المدرسة لكلا الجنسين لكن الفصول خاص بجنس بعينه. والسكران يتعمد ترجمة (single-sex) بـ (غير المختلط)… وهذا فيه تزييف واضح للمسألة. فالمشكلة التي نشأت في المدارس التي تكون لكلا الجنسين، هي مشكلة التنميط. ففي هذه المدارس، يخجل الطالب الذكر من الانضمام للفرق الموسيقية والاندية الموسيقية لأنها تم اختزالها لدى الطلاب على أنها أنشطة (بناتية). ونفس الأمر بالنسبة للأنشطة الرياضية التي تجد الفتاة صعوبة في اقتحامها، بسبب كونها مصنفة على أنها أنشطة بنينية أو للبنين. هذا التنميط وغيره من المشاكل، هو السبب الرئيسي خلف فكرة المدارس أو الفصول أحادية الجنس في الغرب، أما السبب الذي حاول السكران اقحامه كمبرر لهذا الاتجاه وهو (حمل المراهقات في التعليم المختلط الذي يكبد المجتمع خسائر صحية واقتصادية) فأنا في عملية البحث المتواضعة التي قمت بها لم أجد مثل هذا المبرر، وبقليل من التفكير فيه نجد أنه مبرر- وإن صح- فهو ثانوي تعرض لعملية تضخيم سكرانية لإثبات المتلازمة الصحوية التالية: الاختلاط يجر إلى الانحلال الاخلاقي. إذ أن المراهقة التي تريد ممارسة الجنس في الغرب لن تعدم الحيلة في دولة تعتبر ذلك حقا يستوجب الحماية، فغير المدرسة هناك الحي والحديقة وأماكن الترفيه ومؤسسات العمل التطوعية… أي كل جانب من الجوانب المجتمع.
وهكذا يتبين لنا حجم التزييف في هذا المبحث… فهو أثبت وجود اللفظ اللغوي في الوقت الذي كان يتوجب عليه اثبات وجود المسألة أو المصطلح بعينه، وهو استفاد من الخلاف حول المدارس الأحادية الجنس أو المتنوعة ليتاجر بثقة القارئ به مصورا أياه خلافا بين المدارس المختلطة وغير المختلطة، ففكرة (غير المختلط) بمعنى أنه مكان لا يتواجد فيه إلا أفراد من جنس واحد ويتغيا أهدافا أخلاقية لمثل هذا العزل بين الجنسين، أي يتغيا منع الانحرافات والشرور التي يعتبرها لوازما للاختلاط، فهذه الفكرة لا توجد في الدول الحديثة إلا في المؤسسات الدينية الكنسية، كدير الراهبات وغيره.
النموذج الثاني: ذرائع الإصلاحيين؟
كالعادة يبدأ السكران بالحديث عن أشباح، يسميهم هذه المرة بـ(الإصلاحيين السياسيين)، ويضعهم كمقابلين لأهل السنة والجماعة. ثم بعد ذلك يُعمل مبضعه المانويّ ليجعل الإصلاحيين (مبعضين للوحي) وأهل السنة (محتسبين كفائيين). وعبر هذه الثنائية الجديدة يحدد مشكلة (أهل السنة) مع هؤلاء الإصلاحيين بأنها ليست في اهتمامهم بالإصلاح السياسي بقدر ما هي في (جحد أو التهوين من أمر أبواب أخرى للدين). والغريب أن السكران في كل مرة يصل عند هذه المسألة لا يوضح بالضبط كيف يهوّن الإصلاحيين من أبواب الدين الأخرى؟
ما هو ذاك الباب الذي يجحده الإصلاحيين، كما يجحد الرجل الذي في مثاله الذي أورده الزكاة رغم تركيزه على الصلاة؟
كل ما نجده كلمات عامة كـ (هم مجموعة من الناقمين على الخطاب الشرعي السلفي) و (ضلال كثير من أدعياء الاصلاح السياسي…. لجحدهم أبواب الدين الأخرى كتعظيم العقيدة وتوقير السلف ونحوها) وأنهم يتهكمون بقضايا (العقيدة والفقه ومقاومة التغريب) وأن جوهر الخلاف معهم (استخفافهم بأبواب الشريعة الأخرى وجرأتهم العظيمة على السلف) وأن مشكلتهم (لمزهم وتهكمهم لجهود حفظ العقيدة وحفظ الأعراض)، وأنهم (يلمزون الطحاوية والواسطية والتدمرية ونحوها من كتب العقيدة… ويلمزون أئمة السلف لاشتغالهم بقضايا كخلق القرآن…). فقط في الخاتمة نجد تفصيلا أكثر عند حديثه عن مآل من أشرب هواه حب الديمقراطية الغربية، فهو يتحول إلى (كثرة الحديث المنبهر المهزوم عن الحياة السياسية الغربية، والمساواة بين الكافر والمسلم في الحقوق السياسية على أساس المواطنة، والتهوك في حرية الأحزاب العلمانية في الدعوة والتغيير، واستباحة الإمامة العامة للمرأة، وجحد حد الردة، ولمز نصوص الطاعة السياسية في النصوص والسنن، واعتبار فتاوى أهل السنة والجماعة عن الخروج المسلح تكريسا للاستبداد، والتهكم بكتب العقيدة والفقه، إلخ).
فإذا اعتبرنا التفصيل الاخير هو توضيح للإجمالات السابقة: فهل الانبهار بالغرب ، وتبني أحكاما فقهية مخالفة للاحكام التي يتبناه السكران في مسائل ولاية المرأة والردة والمساواة المدنية بين المسلم وغيره، وتأويل بعض الاحاديث… هل هذا كله يستحق أن يوصف بأنه (تبعيض للوحي)؟
وألا يخرج السكران بهذا الحكم غالبية الإسلاميين والفقهاء والمفكرين المعاصرين من دائرة (أهل السنة والجماعة) لتبقى محصورة في مجموعة صغيرة جدا من السعوديين؟
تنقسم هذه المقالة إلى قسمين: قسم يتناول مسألة (تهوين شأن العقيدة والاستخفاف بها) عند الإصلاحيين، وقسم يتناول (الديمقراطية) عندهم.
في القسم الأول يضع مقولات في فم هؤلاء الذين يسميهم (إصلاحيين سياسيين) ويرد عليها. وبكل صراحة، نجد كافة المقولات التي ذكرها على لسان هؤلاء لا تضاهي مقولة خطيرة كالقول بـ(خلق القرآن)، وهي التي نقل السكران في بحثه (احتجاجات المناوئين للخطاب الشرعي) تبني عدد من العلماء المعاصرين لها، ولكنه في الوقت نفسه كان لا يذكر اسم الواحد منهم إلا مسبوقا بنعت الإمام أو العلامة ومتبوعا بالدعاء له وليس هذا فقط بل اعتذر لهم واستغفر لهم ولم يخرجهم من أهل السنة والجماعة ولم يتهمهم بتبعيض الوحي. فالسؤال: لماذا لم يسع السكران مع عبدالله الحامد وجماعته – إذ هم الوحيدون في الساحة المحلية ممن ينطلقون في إصلاحهم السياسي من مرجعية إسلامية- ما وسعه مع القرضاوي وابو زهرة وعاشور وغيرهم؟
هل القول بخلق القرآن أهون لديه أم اعتبار الكافر والمسلمين متساوين في الحقوق؟
هل تأويل آيات الله المفضي لتعطيل اسماءه وصفاته أهون لدى السكران أم تأويل حديث الردة بأنه خاص بالمرتد المحارب؟ وتأويل حديث ولاية المرأة بأنه محصور في حادثة امرأة الفرس؟
هذا فيما يتعلق بالقسم الأول، أما في القسم الثاني، فالسكران هذه المرة لم يستطع اخفاء منقوده جيد، فبحسب تسلسل الحجج المدافعة عن الديمقراطية التي أوردها، فإننا نستطيع بسهولة أن نستنتج أنه نفس التسلسل الموجود في كتاب (أشواق الحرية) لكاتبه نواف القديمي، أي أن القديمي عند السكران أحد الخارجين عن أهل السنة والجماعة والمبعضين للوحي! وهو الذي وصفه ذات مرة بأنه – والحديث للسكران- (أحد أساتذتي الذين استفدت منهم ولا زلت، وكل من اقترب منه علم ما تنطوي عليه نفسه من سمو ومروءة، ما أندر أن تجدها في غيره)!
مخيفة تقلبات الأحكام السريعة هذه!
لا علينا، فالمهم في حديثنا هذا هو المنهج المتبع، فالسكران تبنى صورة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم بأنه عبارة عن عقد، مثله مثل أي عقد بين فرد وبنك. ولم يقدم أي دليل شرعي على هذه الصورة، سوى آية (إن الذين يبايعونك)، والآية بتمامها تقول (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله…الآية) وواضح أن المقصود بها مبايعة المؤمنين للرسول في الحديبية على الموت، ولم تكن بيعة تولية ولا علاقة لها بإنشاء الدولة، ولكنها العادة السكرانية في قصقصة الآيات لتتوافق وما يريد اثباته. ومن هذا التصوير للعلاقة بأنها عقد شرعي، راح يحاكم كل ما أتى به القديمي في كتابه، معتبرا- انطلاقا من حلوليته التي وصفناها آنفا- أن تصوراته المستندة لأقوال ابن تيمية والفقهاء: وحي يوحى من السماء! والأدهى من ذلك أنه عندما تحدث عن (المطلوب) أي ما وصفه (السياسة الشرعية) اكتفى بتعريفها بالسلب بأنها (ليست هرقلية….. وليست ديمقراطية).
وهذه النقطة الأخيرة، هي التي انطلق منها القديمي في كتابه، فهو أكد على قضيتين: الأولى، أن الشريعة جاءت بأفضلية اختيار الحاكم على تغلبه، والثانية، أنها لم تمنع (إن لم تكن تحث) على مراقبة الحاكم. ثم تساءل: ما هو أقرب نظام لتحقيق هذين المبدأين؟ فوجد أن الديمقراطية هي أقرب النظم لهذين المبدأين، رافعا تساؤلا عاما: إن كنت تتفق على هذين المبدأين وترفض الديمقراطية، فما هو النظام – ولو بخطوط عامة- التي تراه مناسبا لتطبيق هذين المبدأين؟ وهذا الذي لم يورد عليه السكران سوى كلمتين لا يعلم معناهما إلا الله ثم السكران: (السياسة الشرعية).
هكذا رأينا في هذا النموذج تحقق غالبية الملامح التي استعرضناها لمنهجه التزييفي: مصارعة الاشباح (الاصلاحيين السياسيين) والمانوية (تبعيض الوحي/الاحتساب الكفائي) والحلولية (اعتبار خضوع علاقة الحاكم بالمحكوم لصورة العقد الشرعي، جزءا من الوحي، لا مجرد اجتهاد)، إدماج المفاهيم الحداثية (كمفهوم السيادة الغربي ذو الاصول اللاهوتية المسيحية كما أثبت ذلك كارل شميت)…إلخ.
خاتمة: موضوعية أم تحصين تربوي؟
لا أشك للحظة بأن السكران من أكثر الكتاب ذكاء ومعرفة وعلما، ولعلي لا أكتم سرا إن صرحت بأن الدافع الخفي وراء هذا النقد هو الحسرة على المآل الذي وصل إليه هذا الكاتب!
وقد يتساءل من يقرأ هذا النقد: هل يعقل ذلك؟ هل يعقل أن يكون شخص ما بهذا التناقض الصارخ؟ وكيف يمكن الجمع بين الاعتراف بألمعيته وذكاءه ومعرفته وبين هذا المنهج التزييفي الذي تم إبرازه؟
باختصار وبشكل مباشر: ما الذي يجعل السكران ينهج هذا النهج؟
إن جانبا كبيرا من الإجابة على هذا السؤال تقع في باب الظنون والتخرصات والتحليلات النفسية، وهذا مزلق لن ألج فيه، ولكن سأركز على جانب صغير جدا قد يكون مفتاحا للإجابة على هذا السؤال. فالمنطلق الرئيسي لهذا النقد هو اختبار دعوى العلمية والموضوعية في كتابات السكران، والنتيجة التي توصلنا إليها هو أن كتابات السكران أبعد ما تكون عن العلمية والموضوعية، وأنها فقط تتزيّا بالأدوات العلمية لتمرير مقولات مقررة مسبقا.
فالسؤال إذن: إن كانت كتاباته لا تنتمي إلى العلمية والموضوعية، فإلام تنتمي؟
في الحقيقة إن أقرب مجال يمكن إدراج الكتابات السكرانية تحته هو (الكتابات التربوية)، التي تستهدف مجموعة محددة من المنضوين في لواء تنظيم ما أو حركة ما أو تيار ما، ومحاولة (تحصينهم) من كل ما يظن أنه عامل جذب لهم.. قد يصرفهم عن هذا التنظيم أو الحركة أو التيار. ولهذا تجد شدة السكران على التنويريين والدستوريين والحقوقيين أشد بكثير من شدته على اللبراليين والعلمانيين، لمعرفته بأن قدرة الأوائل على الجذب أكبر.
إن هذه الكتابات بالنسبة للشاب الصحوي تعزز وتدعم عنده اليقين بما لديه من قناعات يحتمل أن تزعزعها بريق الشعارات الدستورية والتنويرية الجديدة… إن هذه الكتابة منظور إليها بعينيّ هذا الشاب الصحوي والذي غالبا تكون بضاعته مزجاة من الاطلاع على عالم الأفكار من حوله تبدو شديدة التماسك والمنطقية. كما أن احتمالات التزييف والخداع والتشويه غير مطروحة أبدا، لأن هذا الشاب ينطلق في قراءته للسكران مدفوعا لا بعين نقادة لما تقرأ، بقدر ما هو مدفوع بثقة مطلقة بالكاتب.
والسكران يستغل كل هذا: ثقة القارئ به، وجهله بما يتحدث عنه، واستغلال تجربته السابقة التي تحول عنها، ليبيح لنفسه كل هذا التزييف الذي يمارسه لهدف تربوي محدد وواضح: الحفاظ على هؤلاء الشباب. من هذه الزاوية يمكن فهم هذه الحدة والمفاصلة عندما يكون الحديث عن القديمي والحامد وغيرهم، والتي تتحول إلى تفهم واعتذار عندما يكون الحديث عن شخصيات بعيدة مثل القرضاوي والميداني وعاشور.
إن الكتابات التربوية التي تصر على ربط المتربين بالمربين ربطا عضويا، بحيث يتم تصويرهم بأنهم القدوة المطلقة، العارفة بكل شيئ ومصدر المعرفة الكلية… هذا النوع من التربية يستمرئ بسهولة تشويه المنافسين والافتراء عليهم وتزييف أطروحاتهم، لأن نمط التربية الذي اتبعوه يجعل إتباع الأتباع لهم مرهونا بعزلهم عن غيرهم… فلا يهم تضليل هؤلاء الاتباع، ولا يهم الكذب عليهم، ولا تمرير وعي زائف إليهم، طالما أن المحصلة النهائية هي الحفاظ على هؤلاء الاتباع في حظيرة التيار أو المذهب أو التنظيم.
ولكن ما مآل هذا النوع من التربية الشمولية التشويهية القائمة على العزل والاحتكار والتلقين والتعبئة الدائمة؟
ما مآلها في زمن لا يمكن أبدا ضبط تنقل المعلومات وعزل الافراد عن كافة المؤثرات المتنوعة؟
إن مآلها- باختصار شديد- الفشل الكامل.
ففاشلة تلك التربية التي تنهار كليا مع أول اطلاع أو مواجهة مع أي طرح مستنير.
فاشلة تلك التربية التي لا تزرع في أفرادها استقلالهم وقدرتهم الذاتية على تفحص المقولات وتوليد القناعات، أفراد لم يتم بعد فطامهم معرفيا..
فاشلة تلك التربية القائمة كلها على الثقة بقدوة مزيّف يستمرئ الافتراء والتشويه المتعمد من أجل تسكين شكوك أتباعه وتعزيز يقينهم وثقتهم!
كتب السكران مرة مقالة بعنوان (منجزات الصحوة) وراح يتغزل ويتفنن في المديح للصحوة ومنجزاتها، وبغض النظر عن الخلط بين الصحوة والسلفية واعتماد معايير لتحديد المنجز فيها الكثير من التحكم، بغض النظر عن هذا كله، ولنقبل بكل المنجزات التي أوردها السكران وبمنجزات أخرى لم يفكر بها… كل هذا سنقبل به، لكن المسألة الخطيرة التي فات السكران تورطه بها هي التالي: ماذا يعني الحديث عن المنجزات؟
ألا يعني بالضبط الحديث عن وصول الشيء لنهايته، عن موته، وبالتالي يتم استذكار ماضيه تحديدا دون حاضره أو مستقبله؟
باعتقادي أن السكران يخوض المعركة الخاطئة: معركة الحفاظ على المكتسبات من هيمنة التيارات الجديدة، التي دفعته للقول بالشيء ونقيضه والتزييف والافتراء والتشويه… في حين أني أعتقد أن المعركة الحقيقية لإنقاذ الصحوة هي في الحديث عن مستقبلها، في تحديث برنامجها المعطل منذ التسعينات، في بث الروح بها من جديد، بمراجعة نقدية لتاريخها، لا للمنجزات بقدر ما تكون مراجعة للإخفاقات، لأن الميت وحده هو من تذكر محاسنه، أما الحي فالمفترض من أجل تطويره أن يتم التركيز على إخفاقاته على العطل الكبير الذي أدى به إلى هذا الانحسار السريع والمفاجئ… وهذا هو الموضوع الذي سأحاول الكتابة فيه في قابل الأيام.
----------
د. صالح المالك يعلق على خطاب السكران الأخير
(1)
لابد أن نعترف في البداية بأن هناك بالفعل نفرا من الناس ممن يرفع شعار الإصلاح، ويتخذ موقفا عدائيا وحادا ومتوترا ضد منهج السلف، وليس فقط ضد ممارسات الأتباع والأفراد .. ولكن هذا الهجوم العدائي في الغالب لا يصدر إلا من أصحاب التوجهات العلمانية أو ممن هو خارج الانتماء الإسلامي. أي لا يلتزم بالمرجعية الإسلامية في بناء تصوراته. وهم فئة قليلة ضمن الإصلاحيين، قد يُعدّون على الأصابع إذا لم أكن مبالغا.
وحينما أقول ((قلة يُعدّون على الأصابع))، فلأن أكثر الإصلاحيين العلمانيين الذين يقفون هذا الموقف العدائي والصريح ضد منهج السلف، يحبذون رفع شعار ((الليبرالية)) دون شعار ((الإصلاح)) .. وكلامنا هنا عن الإصلاحيين وليس عن الليبراليين ..
أما الإصلاحيون الإسلاميون، فلا أعرف أحدا منهم يقف ذلك الموقف العدائي الجامح ضد منهج السلف أو حتى ضد الخطاب الشرعي السلفي. نعم؛ هناك من ينتقد ويعترض ويخالف، ولكنه لا يتخذ موقفا عدائيا ضد السلف الصالح أو كارها لهديهم وسنتهم.
ربما قد يختلف البعض معي في هذا الرأي، لكن ينبغي التنبه إلى أنني أفرق بشكل واضح بين الموقف النقدي العلمي الهادئ، والموقف الهجومي التحريضي السافر في عداوته. فالثاني مناوئ بلا شك، وهو موقف التيار الليبرالي والمتأمرك في غالبه، وأما الأول فليس بالضرورة أن يكون مناوئاً. والمشكلة أن بعض الأفاضل لا يفرق بين الموقف العدائي والموقف النقدي أو لا يحب أن يفرق بينهما، فيجعل كلا الفئتين مناوئة للخطاب الشرعي.
نعم هناك فئة من الإصلاحيين الإسلاميين ممن تأثر بالخطاب الشرعي العصراني، وعلى وجه الخصوص خطاب تيار المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ومن نحى نحوه. فصار يذهب إلى أن مرحلة السلف مرحلة زمنية مباركة بلا شك؛ ولكنها تاريخية، أي مرتبطة بظروفها الزمنية، ولا تتضمن بُعدا منهجيا مطلقا صالحا لكل زمان ومكان، وأن الأفضلية الزمنية التي جاءت بها النصوص، إنما هي لاعتبارات سلوكيه وأخلاقية، وليس لاعتبارات منهجية.
بعبارة أخرى: لم تتضمن تلك المرحلة المباركة منهجا له قواعده المنضبطة أو مرجعية منطقية ذات معالم واضحة. هذا الأمر حصل على أيدي العلماء فيما بعد، أي بعد القرون المفضلة. فالمرجعية المعصومة ـ عند هؤلاء إذن ـ منحصرة في الكتاب والسنة فقط. وأما فهم السلف، فما هو إلا فهم بشري من ضمن أفهام كثيرة ومفتوحة عبر الزمن.
وبالتالي، لا تلتزم هذه المدرسة بإطار فهم الصحابة والتابعين وأتباعهم في تلقيهم للوحي وتفسيره. وإن كانوا ينقلون ويستأنسون بكلامهم ونصوصهم، ولكن دون الالتزام بها، فهم عندهم كغيرهم من أئمة المسلمين. باختصار: ليس لإجماعات السلف قداسة عندهم.
هذا الموقف ليس موقفا صراعيا أيديولوجيا متوترا كمواقف التيارات اليسارية أو الليبرالية. وإنما هو موقف منهجي هادئ، يقوم على ((حجج وبرهان))، تحتاج إلى من يناقشها ويرد عليها بهدوء وبموضوعية. وهذه الشبه في الغالب لا تخرج عن كونها امتداد للمدارس الإسلامية في التاريخ، كالمدرسة الكلامية أو مدرسة أهل الرأي المتأخرة المتطرفة وليست الأولى المعتدلة.
لكن ينبغي أن نتنبه أنه ليس كل الإصلاحيين الإسلاميين ينطلقون من هذه الأرضية المنهجية، خاصة الإسلاميين السعوديين الذين تلقوا في الغالب تكوينا شرعيا سلفيا.
إذا سلمنا بهذا التقسيم المبدئي..
فالفئة الأولى لا تعنينا في نقاشنا، أقصد الإصلاحيين الليبراليين، لأننا كلنا متفقون في إثبات مناوئتهم للخطاب الشرعي .. مناوأةً تصل إلى حدّ الوقاحة. ولكنها في الوقت نفسه مناوأة غبية!! وفجة!! وبالتالي لا يمكن أن تجد لنفسها أرضا في الخارطة الثقافية السعودية، ولولا دعم السلطة لها وأصحاب القرار لما شكّلت أي موقع يذكر في خارطتنا الثقافية.
وهذا الذي جعل الإصلاحيين يدركون بأن الاشتغال بمناكفة هذا التيار الليبرالي على حساب معركة العدالة والحقوق وإحلال دولة القانون، هو اشتغال بخلاف الأولى، أو الانشغال بالمهم على حساب الأهم. ولا يعني هذا تضييع المهم أو إهماله كليا، لا بالطبع .. ولكن لا يكون على حساب الأولى والأهم. فدولة العدالة والحقوق والقانون والمؤسسات هي المطلب الملح الآن في الفترة الراهنة عند الإصلاحيين ويجب أن تجيش لها الخطابات والجهود والقدرات، لأن دولة العدالة والقانون هي التي تعبر صدقا عن إرادة الأمة المسلمة. وحين تتحقق إرادة الأمة، فلن يجد الشواذ من مثقفي السلطة وطلاب المنافع والمناصب أرضا في محيطها الثقافي، لأن ذلك المحيط تحكمه المرجعية التي يؤمن بها غالبية المجتمع.
وحين نقول بأن دولة العدالة والحقوق والقانون هي المطلب الملح والمقدم لدى الإصلاحيين، فلا يعني ذلك إهمال العقائد أو التقصير في تعليم الناس أمور دينهم، أو إغفال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هذا لازم لا يلتزمه الاصلاحيون. إنما هو تشنيع يشنع به خصومهم هداهم الله.
هذا ما يتعلق بالفئة الأولى والتي تتخذ موقفا مناوئا لمنهج السلف.
أما الفئة الثانية: وهي التي تتخذ موقفا نقديا تجاه السلفية، كونها تجعل من نفسها مذهبا أو منهجا له قواعده المنضبطة والمحددة .. فمع أن موقفها هذا موقف باطل مخالف للحق، إلا أن المتابع لكتاباتها لا يجد فيها تلك النزعة العدائية الكارهة لهدي السلف من حيث المبدأ، بل قد يجد فيها أحيانا التعظيم والإجلال بتلك المرحلة المباركة وبأئمتها. والخلل لديها لا يخرج عن كونه خللا منهجيا، سببه في الغالب سوء الفهم، وليس بسبب الخلفيات الأيديولوجية.
ولهذا يبقى ـ هذا التيار ـ تيارا إسلاميا، فيه خير وصلاح كثير، ولديه غيرة على الإسلام وتعظيم للكتاب والسنة وللسلف أيضاً، والمتفق معه على الإسلام أكثر من المختلف فيه، وثمة قضايا منهجية دقيقة ليس من الفقه إثارتها وإشاعتها بين الناس، إلا إذا تمت إشاعتها وإظهارها من قبل ذلك التيار، فحينها يكون البيان بما يقوم به من باب واجب النصيحة.
وهذا يعني أنه لا إشكال ولا عيب في مناقشة أفكار هذا التيار، بل وتنقد وتنقض، ولكن تحت ظلال القاعدة الدينية المحكمة: قاعدة الأخوة في الدين والالتزام بمقتضياتها: كالمحبة والرحمة والرفق واللين.. ولا ينبغي أن تعارض تلك المحكمة ببعض مواقف آحاد السلف التي يستدل بها البعض على الغلظة مطلقا والهجر والزجر ونحو ذلك. لأن تلك المواقف استثناءات خاصة، جاءت في سياقات معينة لها اعتباراتها الشرعية؛ وبالتالي لا ينبغي أن تتحول إلى قاعدة ومنهج. فالأصل في المنهج هو الرفق مع المخالفين من أهل الإسلام، والهجران والزجر والغلظة استثناء.
هذا ما يتعلق بظاهرة نقد السلفية ومناوأتها ..
(2)
ثم إنني أريد هنا أن أشيد بالمقال القيم الذي خطه أخي وصديقي الدكتور الدخيلي، لهدوئه ومنهجيته، وعمقه في استكشاف الخلل المنهجي لدى السكران في التحليل والبحث وتعاطيه مع الأفكار
وأما البيان التوضيحي الذي كتبه أخونا السكران، فمع شكري وتقديري له على شجاعته الأدبية. ومع إيماني بحقه في أن يتحول من الرأي الذي يراه خاطئا إلى الرأي الذي يراه صوابا، ومن حقه أيضاً ألا ننسب إليه ذلك الرأي القديم ولا نحاسبه عليه ما دام أنه قد تحول عنه ... إلا أن مشكلة السكران ليست في هذا النقطة، ليست مشكلته في أن يتحول من موقف إلى موقف آخر ... إنما مشكلته ـ في نظري ـ تبرز من خلال عدة أوجه:
(الأول): هو أن السكران لم يكن يستهدف في هجومه اللاذع، التيار الليبرالي المعادي، ولا التيار العصراني الناقد، وإنما كان يستهدف للأسف من هم أقرب إليه من أولئك بكثير .. إخوانه الذين يتبنون خطاب الحضارة والنهضة والإصلاح من منطلقات شرعية وضمن إطار إجماعات السلف .. حيث جعلهم (ظلما أو جهلا) قسيما لأهل السنة والجماعة أو مقابل أهل السنة والجماعة في تقسيمه الرباعي الشهير: (العلماني/ التنويري/ الإصلاحي/ أهل السنة والجماعة)..
مع أن الذين انخرطوا في إصلاح الواقع السياسي للأمة، لم يتسموا بهذا الاسم (الإصلاحيون) حتى يكونوا مقابل أهل السنة، إنما هو لقب إعلامي وثقافي أُطلق عليهم، وهم لم يطلبوه ولم يمنعوه لأنه لفظ قرآني شريف في الأصل. ومع ذلك اعتبره السكران قسيما لأهل السنة والجماعة، بل تزايدت عنده إيراد هذه المفردة (أهل السنة والجماعة) بشكل ملفت، وبطريقة غير صحيحة، وصار يقوم بإشهارها أمام مخالفيه في كل مناسبة وبشكل متكلّف، وفي آراء اجتهادية ليس لأهل السنة فيها قول محكم أو أصل منضبط، وهذا عند التحقيق ليست هي طريقة أهل السنة.
وأذكر هنا كلاما رائعا لشيخ الإسلام ابن تيمية حيث يقول: "وقد استعمل طائفةٌ من متكلمة الصفاتية المنتسبين للسنة والجماعة، واعتبر ذلك طائفة من الفقهاء ـ من أصحابنا وغيرهم ـ أنهم يعتبرون مذهب السلف بالفهم، فإذا تحصل لواحدٍ منهم في مسائل من النظر أن هذا هو الموافق للكتاب والسنة، أو لبعض أصول السلف، جعل هذا قولاً للسلف. لأن السلف عنده لا يخرجون عن الكتاب والسنة، فإذا تحقق له جزماً في قولٍ ما أنه موافق للكتاب والسنة جعله قولاً للسلف"، ثم يقول: "وهذا الطريق أصله من كلام طائفةٍ من أهل البدع المنتسبين للسنة والجماعة، ثم دخل على طائفةٍ من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم".
(الوجه الثاني): أن السكران لم يناقش إخوانه من منطلق النصيحة والتوجيه والنقد البناء، وإنما من منطلق التصنيف والتحزّب أو منطلق الكشف والفضح عن حقيقتهم، وكأنهم فرقة نابية عن منهج أهل السنة والجماعة أو خصوم للسلفية. ويكفي هنا أن نتذكر مقالته الشهيرة ((سلمان العودة من تلميع الحكومات العلمانية إلى غمز قناة الصحابة))، وأنا هنا لست بصدد الدفاع عن الشيخ سلمان، فله أتباعه وجمهوره الذين يدافعون عنه، بل إنني أختلف مع الشيخ في بعض أطروحاته وآرائه، ولكن اختلافنا معه لم إلى يصل إلى حدّ البغي والافتراء، كما فعل أخونا السكران في هذا المقال، حيث يرى بأن سلمان ((وأنا أنقل هنا كلامه باللفظ)):
1) يغمز قناة الصحابة والعياذ بالله.
2) ويسعى إلى تحريف الشريعة .
3) والتزهيد بفقه السلف.
4) والتبجح بتعليقاته على أحاديث الصحيحين.
5) وأنه ينزعج من هذه المقارنة بين نموذجية عصر الصحابة، وقتامة واقعنا المعاصر، ويحاول أن يقوض هذا الأساس عبر تلميع الواقع الفاسد، والتقليل من شأن الأنموذج الملهم (نموذج الصحابة).
هكذا يقول السكران عن الشيخ سلمان العودة، وأريد هنا أن أكرر التأكيد أن من حق السكران أن ينتقد سلمان العودة أو غيره من الدعاة، ولكن النقد شيء والمناوئة والبغي والافتراء على الدعاة والصالحين شيء آخر ..
ثم يختم مقالته: ((مايهمني أن يعرفه الإخوان هو أن كل ما قاله د.العودة ليس إلا رأس جبل الجليد))، يا الله كل تلك الطوام الخمس ما هي إلا رأس الجليد عند السكران. إذن ما هو الجليد؟!!. ثم يقول: ((وما يخفيه من تحريف الشريعة والتزهيد بفقه السلف أضعاف أضعاف ذلك، لكنه يؤجله لاعتبارات سياسية ودبلوماسية لا تخفى))، هكذا "أضعاف أضعاف" إنا الله وإنا إليه راجعون. ثم يقول: ((واسألوا جلساءه عن مجالسه الخاصة وما فيها من بجاحة بعض تعليقاته على أحاديث الصحيحين، وتهكمه ببعض فتاوى أئمة السلف الكبار، ولكن لا يمكن أن ننقده نقداً علنياً على ذلك، لأنه لم يصرح بها إلى الآن، وأسأل الله أن يكفيه شر نفسه، ويكفي المسلمين شر صفقاته)).
موضوع سلمان العودة لا يهمني الآن، فلم أذكره هنا إلا كمثال على الدعاة الذين لم يسلموا من جموح السكران غير المبرر.
(الوجه الثالث): أن السكران لديه مشكلة منهجية في التعامل مع المخالفين من إخوانه أهل السنة، ويظهر ذلك جليا حينما قال في بيانه: ((والمراد أن كل من نقدني، وأساء القول فيّ، وخاض في عرضي، بناءً على كلام لي قبل ورقة المآلات، فقد صدق وبرّ وما تجاوز الحق قيد أنملة، بل هو مأجور إن شاء الله)) .. لا أريد أن أقف عند النزعة البكائية في هذا المقطع، إنما أريد أن أبيّن أن الرجل يبدو فعلا ـ هدانا الله وإياه ـ يرى بجواز إساءة القول في المخالفين له!! والخوض في أعراضهم!! وأن من فعل ذلك فقد برّ!! وما تجاوز الحق قيد أنملة!! بل هو مأجور إن شاء الله!!! ... هكذا أنا أفهم من ذلك المقطع البكائي، وأرجو أن يكون فهمي خاطئا، ولكن مقالات السكران للأسف ما زالت تؤكد ذلك الفهم.
وهذا الفهم هو الذي يفسر لنا هجومه واستطالته على إخوانه، لأنهم لم يقتنعوا ببدعة ((أرذلية الدنيا بشكل مطلق)) كما يحاول أن يروج لذلك .. ولأنهم يتعاملون مع المخالفين بطريقة تختلف عن الطريقة السائدة التي يسلكها بعض الشرعيين.. ولأنهم يتعاطون مع الفكر الإنساني بمنهجية نقدية منفتحة تختلف عن منهجية الانكفاء والتقوقع .. ولأنهم يشتغلون بقضايا ومشاريع جديدة كانت منسية لدى الخطاب الشرعي السائد في يوما ما .. ولأنهم يطرحون خطابا شرعيا جديدا غير مألوف حول الديمقراطية والحرية والعدالة والتعايش والتعددية وحقوق الإنسان، بعد أن كان الخطاب الشرعي منعزل عن هذه القضايا والتساؤلات الملحة ومنكفئ في جزئيات الفقه العملي.
نعم؛ ربما يخطئون .. بل سيخطئون قطعا .. لأنهم يخوضون في نوازل بكر .. ليس لهم فيها سابقة إجماع أو أثر .. ولأنهم أيضاً بشر يجتهدون في البحث عن الحق كغيرهم.. وبالتالي يصيبون ويخطئون .. ومن حق السكران حينها أن يناقشهم وينتقدهم فيما يراه خطأ ومخالفا للصواب، ولكن في إطار الإخوة الإسلامية التي تجمع وتقرب وتؤلف، وليس في إطار التحزب والتقسيم والتصنيف وإيغار الصدور.
مشكلة السكران وأشباهه أنهم يزايدون إخوانهم على منهج السلف وعلى تعظيم الأثر، مع أن إخوانهم ينطلقون من نفس المنطلقات التي يؤمن بها السكران (أو بالأصح صار يؤمن بها الآن).
(الوجه الرابع)، وهو المهم في نظري، أن السكران، كما قلت في مقال سابق في مجموعة الأخ العزيز د. عبدالعزيز قاسم، بأن (السكران والنقيدان وجهان لعملة واحدة) .. وهذا الجملة قد أثارت حفيظة بعض الفضلاء، وأولهم الدكتور عبدالعزيز قاسم، وحق لهم ذلك .. فهي عبارة مستفزة بلا شك، وإن كنت حرصت وقتها أن أوضح مقصودي منها، ولكني هنا سأزيد التوضيح أكثر ..
ليس المقصود أن ((السكران والنقيدان وجهان لعملة واحدة))، أنهما على مرتبة واحدة من التدين والصلاح وإتباع الحق، لم أقصد ذلك، وإنما قصدت أنهما وجهان لعقلية واحدة، لنفسية واحدة، وهي النفسية التي لا تستطيع أن تقف إلا في الأطراف، ولا تملك القدرة على الوقوف في منطقة الوسط، بمعنى أنها إذا تحولت من طرف اليسار فإنها لا تتحول إلا إلى طرف اليمين، والعكس صحيح. هذا مشكلة الأطراف يا أصدقاء وهي مشكلة عميقة والكلام فيها طويل.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى؛ هذه العقلية حين تمارس النقد ضد مخالفيها، نجدها محبوسة بهاجس الماضي الذي كانت عليه، فالنقيدان مثلا وكذلك مشاري الذايدي وعبدالله بن بجاد حينما ينتقدون الصحوة أو الخطاب الديني، في تشددها وتحريمها لكل ما يأتي من الغرب وانعزالها عن الواقع وتكفير الناس ونحو ذلك، فهم في الحقيقة إنما ينتقدون ماضيهم وليس الصحوة، ينتقدون تدينهم وخطابهم الذي كانوا عليه في يوما، ولا ينتقدون الخطاب الديني كما هو في واقع الأمر.
كذلك السكران حين ينتقد دعاة الإصلاح والحضارة، فهو في الحقيقة إنما ينتقد ماضيه الذي كان عليه، حينما كان يتخذ موقفا متطرفا في تبنى مشروع المدنية والحضارة والإصلاح، ويتخذ في المقابل موقفا (مناوئا/ أو ناقدا) للخطاب الشرعي السلفي.
مشكلة السكران أنه يتصور بأن كل من تبنى مشروع الخطاب المدني والحضارة والإصلاح، فهو بالضرورة يكون مثله كما كان هو في الماضي. هنا تكمن مشكلة خطاب السكران الجديد. مشكلة السكران أنه يرسم صورة خيالية أو أسطورية في ذهنه بناء على ماضيه ثم يهاجم تلك الصورة. لكن هل تلك الصورة تعبر بالفعل عن واقع موجود، أما أنها تعبر عن تجربة ذاتية مر بها السكران؟!
أختم أخيرا بالخاتمة الذهبية التي ختم بها أخي وصديقي الدكتور الدخيلي، حينما قال: ((نحن بحاجة إلى الدفاع عن الخطاب الشرعي / السلفي ... لكننا بحاجة أيضاً إلى أن لا يتحول الدفاع إلى عملية تخدير تصيبنا بحالة من عدم الإحساس الحقيقي بقصورنا، هذا التخدير الذي قد يسكن الألم، لكنه لا يزيله وإنما يؤجل الإحساس به إلى وقت آخر، حيث تجتمع الآلام علينا دفعة واحدة)).
-------
تعليق الأستاذ عبدالعزيز الدخيلي على خطاب السكران الأخير
اللغة الانتمائية التي تشير إلى انتمائه إليهم، من مثل ((مشكلتنا أننا... )). فهذا اللفظ عند الكاتب لا يفرق بين النقد الذي ينقد الممارسة، بغية الوصول إلى نقد المنهج نفسه، وبين النقد الذي يتعرض للممارسات بغية الوصول المنشود إلى تطبيق المنهج على الوجه الصحيح. وعلى هذا، سيعتبر أي إسهام يتبنى بعض الملاحظات التي تعرض لها البحث جزءا من مشروع المناوأة للخطاب الشرعي / السلفي. فلا فرق ـ عنده ـ بين النقد من أجل الترشيد، والنقد من أجل الهدم وتشويه المنهج. ولا فرق بين النقد عندما يمارسه أصحاب المنهج نفسه، وبين النقد عندما يمارس من خارج المنهج لمجرد التوافق في الأطروحات المجملة، حتى وإن اختلفت التفاصيل..
(الجزء الأول)
يجنح بنا التفكير في أحيان كثيرة إلى اعتبار المواقف الثنائية / المتقابلة: الوضع الطبيعي في تقييم الأفكار والحكم عليها، ونجد في أنفسنا نوعاً من الاستجابة السريعة إلى تأييد هذا النمط من المواقف.
بينما لا تأخذ المواقف التي تحاول الفرز والتصنيف بين الرؤى المختلفة حظها من النظر والتأمل، بل ربما كانت عملية الفرز والتصنيف كفيلة بأحد طرفي النزاع إلى قذف صاحبها إلى طرفه المعاكس.
هذا هو الحال ـ أو يكاد ـ عندما تريد قراءة ما تضمتنه ورقة الأستاذ السكران في (احتجاجات المناوئين). فربما يعتبرك البعض واحداً من المناوئين لمجرد أن تبدي تحفظا هنا وهناك على هذه الورقة.
في هذا المعنى، يقول ابن تيمية رحمه الله: ((واعلم أن أكثر الاختلاف بين الأمة، الذي يورث الأهواء؛ تجده من هذا الضرب، وهو: أن يكون كل واحد من المختلفين مصيباً فيما أثبته، أو في بعضه، مخطئاً في نفي ما عليه الآخر...)) [اقتضاء الصراط المستقيم 1/128].
إن الإمساك بخيط الحق في الأقوال المختلفة أمر عسير، يحتاج قبل كل شيء إلى توفيق من الله سبحانه، وهو الذي يهدي لما اختلف فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وهو يحتاج كذلك إلى تجرد من نوازع النفس التي تدعو إلى حالة من التشبث برأيها والإصرار على مواقفها، وهذا التجرد هو من العدل الذي أمرنا الله سبحانه وتعالى به بقوله : ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? [المائدة:8].
وحول هذا المعنى يقول ابن تيمية: (وهكذا يصيب أصحاب المقالات المختلفة، إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه، وأنه على السنة؛ فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوىً أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نسب إليهم، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم، وإن كان مجتهدًا معذورًا لا يغضب الله عليه، ويرضون عمن يوافقهم، وإن كان جاهلاً سيئ القصد، ليس له علم ولا حسن قصد، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله..). "منهاج السنة" (5/254-256).
من هذه الفكرة أحببت أن أقدم قراءة فاحصة لأحد الزوايا التي تحتاج إلى مراجعة في ورقة الأخ الفاضل إبراهيم السكران.
هذه المراجعة لا تقصد إسقاط هذه الورقة النافعة، وإنما تدعو إلى ترشيدها، وهي كذلك لا تدعو إلى تضعيفها، وإنما تدعو إلى تقويتها حتى تبدو أكثر موضوعية في تناول هذا الموضوع المهم.
وفي وقت أصبح سوء الفهم لا يمثل حالة استثنائية، وإنما حالة لها حضورها الكثيف، خصوصا في القضايا المشكلة أجدني محتاجاً في مدخل هذا المقال أن أورد بعض القضايا البدهية، التي أتمنى أن لا أحتاج إلى تكرار القول فيها، وهي بدهيات مرتبطة بأهم القضايا التي سأناقشها في هذه الورقة:
القضية الأولى: (مفهوم المناوئين).
القضية الثانية: (الخطاب الشرعي وسؤال التقصير).
تتضمن القضية الأولى تسليماً بوجود المناوئين ـ بغض النظر عن مفهومه ـ، فالخطاب الشرعي / السلفي له مناوئون، بل وشديدو المناوأة أيضاً، وينبغي أن لا نشك في هذه البدهية، وهم بحاجة إلى حالة من التصدي الواعي والصادق من أهل الخطاب الشرعي حتى لا تستشري هذه المناوئة ويحصل بذلك فساد عريض.
وعن أهمية هذا التصدي، يقول ابن تيمية: (ما وقع في هذه الأمة من البدع والضلال، كان من أسبابه تقصير من قصَّر في إظهار السنة والهدى). "درء التعارض" (5/378). ويقول: (وكلما ضعف من يقوم بنور النبوة قويت البدعة). "الفتاوى" (3/104).
كما أنه من البدهي كذلك، أن هذا الخطاب المناوئ له دعاوي كثيرة، ربما لم يذكر الأستاذ السكران إلا جانب منها فقط، وهو في نظري قد تجاوز دعاوى أهم من تلك التي ذكرها، وهي الدعاوى المتعلقة بالمنهج لا بالممارسة.
أما القضية الثانية، فتتضمن تسليماً بوجود نوع من التقصير في الخطاب الشرعي، وهو تقصير أقر به الأستاذ السكران ـ بغض النظر عن نوع هذا التقصير ـ كما سيأتي.
والإقرار بهذا التقصير، يعني بالضرورة أن ثمة فرقاً بين نقد المنهج ونقد الممارسة، وفي التفريق بين الأمرين يقول ابن تيمية: (...وإذا قُدِّر أن في الحنبلية -أو غيرهم من طوائف أهل السنة- من قال أقوالاً باطلة، لم يبطل مذهب أهل السنة والجماعة ببطلان ذلك بل يُرد على من قال ذلك الباطل، وتنصر السنة بالدلائل). "منهاج السنة" (2/607.606).
ويقول في موطن آخر: (...فتقدير أن يكون بعض أهل السنة المثبتين للرؤية أخطئوا في بعض أحكامها، لم يكن ذلك قدحًا في مذهب أهل السنة والجماعة، فإنَّا لا ندعي العصمة لكل صنف منهم، وإنما ندعي أنهم لا يتفقون على ضلالة). "منهاج السنة" (3/342).
وهذه البدهية التي يؤكدها ابن تيمية هي التي يقول عنها الأستاذ السكران في إحدى مقالاته: (وبدهي أن نقد "السلفية المعاصرة" ليس نقداً لـ"السلف" ذاتهم برغم انتساب السلفيين إلى السلف, كما أن نقد المسلمين المعاصرين ليس نقداً للإسلام ذاته برغم انتسابهم اليه , وكما أن نقد الحنابلة ليس نقداً للإمام أحمد ذاته برغم انتسابهم إليه, وكما أن نقد كتاب من كتب التفسير ليس نقداً للقرآن ذاته برغم إعلانه كونه مجرد تفسير له... هذه المسافة بين "المعطى" و"تفسيره" المنتسب إليه هي أحد أصول علم الملل والفرق والمذاهب الفكرية, فأتمنى أن لا أكون بحاجة إلى إعادتها وتأكيدها مرة أخرى).
أنتقل بعد ذلك إلى مراجعة ورقة الأستاذ السكران، وسأكتفي في هذا الجزء الأول من هذه المراجعة بمناقشة الإشكالات المنهجية في الورقة، وسأتبعها بجزء آخر بإذن الله بمراجعة عدد من القضايا التفصيلية الأخرى.
* الإشكالية الأولى: (تحديد مفهوم المناوئين)
عندما نريد أن نمسك بزمام هذا المفهوم عند الكاتب، فإننا نجد أمامنا جملة عبارات ومفاهيم، ومن خلالها يمكن أن نعرف من يا ترى هؤلاء المناوئين للخطاب الشرعي / السلفي؟
أما العبارات: "فهم يستعملون مجموعة منها، كثيراً ما تتردد في مجالسهم من مثل:
(مشكلة الإسلاميين أنهم...الخ)، أو (مشكلة المشايخ أنهم..الخ)، وتارة أخرى ألاحظ أن العبارة تبدأ بلغة أكثر انتماءً مثل (مشكلتنا أننا.. الخ)". هذه العبارات الثلاثة هي مؤشر أول لتحديد معنى المناوئين.
وأما المفاهيم، فهي: نقد الخطاب الشرعي / السلفي في عدم اهتمامه بقضايا الحقوق أو المقاصد أو المنجزات الغربية ونحو ذلك مما سيأتي ذكره.
ما المهم هنا في تحديد مفهوم ((المناوئين))؟
المهم في نظري: أن (المناوئين) ـ بحسب التقرير السابق ـ: اسم جامع لكل من انتقد تلك الممارسات العملية لـ((لواقع الشرعي / السلفي))، حتى ولو كان يستعمل اللغة الانتمائية التي تشير إلى انتمائه إليهم من مثل ((مشكلتنا أننا... )). فهذا اللفظ عند الكاتب لا يفرق بين النقد الذي ينقد الممارسة بغية الوصول إلى نقد المنهج نفسه، وبين النقد الذي يتعرض للممارسات، بغية الوصول المنشود إلى تطبيق المنهج على الوجه الصحيح.
وجوهر هذه الملاحظة، يتخلص في أننا عندما لا نفرق بين الأمرين، فإن هذا سيعني توريث عدد من المشكلات الفكرية:
ـ سنعتبر أي مساهمة تتبنى بعض الملاحظات التي تعرض لها البحث جزءا من مشروع المناوأة للخطاب الشرعي / السلفي. فلا فرق ـ وهذا هو المهم ـ بين النقد من أجل الترشيد، والنقد من أجل الهدم وتشويه المنهج. ولا فرق بين النقد عندما يمارسه أصحاب المنهج نفسه، وبين النقد عندما يمارس من خارج المنهج لمجرد التوافق في الأطروحات المجملة، حتى وإن اختلفت التفاصيل.
ولذلك، جميع من انتقد الممارسة التعليمية لموضوع الصفات هم في زمرة المناوئين، حتى مع التفاوت الذي يقره الكاتب. سواء ـ كما قال الكاتب ـ أذهبوا إلى: ((عدم شرعية المبحث، أو غياب المخالف، أو مغالاة الجهد المبذول)). وجميع هذه الدعاوى الثلاث هي دعاوي المناوئين.
ربما يحسب القارئ أنني أمام مشكلة هامشية أو مفتعلة في هذا الموضوع، وحتى أبين للقارئ أننا أمام مشكلة مركزية، فإني أدعوه إلى تأمل المقارنة التي سأعقدها بين كلام الأستاذ السكران في هذه الورقة وأقارنه بكلامه من مواطن أخرى في بحوث متقدمة له.
وإذ أعقد هذه المقارنة، أتمنى أن يستحضر القارئ الكريم معي ما أشار إليه أحد الأصدقاء المقربين من الأستاذ السكران، والذي أسعفنا بشهادة ضد من يتهمه بأنه كان خارجاً عن الخطاب الشرعي أو السلفي، ثم عاد يقول فيها: ((متى خرج حتى يعود!! أنا أعرف إبراهيم من أيام "ورقة المناهج" وإلى اليوم، وبكل أمانة أن الرجل هو هو لم يتغير منهجه)). [هو الكاتب الملقب بالأعرابي في مجموعة عبدالعزيز قاسم البريدية].
ومع أني لست متحمساً لفوبيا التغيرات، والإلحاح على سؤال: هل تغير أم لم يتغير؟ بقدر ما أنا معني بمناقشة الأفكار في أي أطوارها، سواء في حالة التغير ـ كما نسميها ـ أم في حالة السكون.
من أجل ذلك، فإني أدعو القارئ إلى الاشتغال بسؤال الأفكار دون سؤال التغير، لأن البعض قد يحسب أن مجرد إثبات تغير الفكرة عند صاحبها يكفي لإسقاط المشروعية عنها، وهو أمر يدعو بلا شك إلى إعادة بوصلة التفكير في هذه القضية.
ولذلك أؤكد أن المقصود من عقد هذه المقارنة، أن أبين أهمية الإشكال المنهجي في تحديد مفهوم المناوئين.
أنقل للقارئ النصوص التالية تحت هذه الاحتجاجات:
ـ الخطاب الشرعي والظواهر المالية:
يقول الأستاذ السكران في ورقته عن المناوئين: ((من العبارات التي يرددها المحتجون ضد الخطاب الشرعي المعاصر قولهم: (عالم المدنية المعاصر أفرز العديد من أنماط وصيغ العقود الحديثة، بينما الباحثون الشرعيون المعاصرون لا زالوا يعيدون اجترار بنت لبون وبنت مخاض الخ)، طبعاً بعيداً عن بشاعة الاستهتار بألفاظ النبي rالواردة في مقادير الزكاة، لكن دعونا نتجاوز ذلك، وننظر في مدى "الواقعية العلمية" لهذا الاحتجاج، هل البحث الشرعي المعاصر لا يعرف –فعلاً- العقود المعاصرة؟)).
ولما أراد الأستاذ الفاضل أن يبين تهافت هذه الدعوى، ذكر عدداً لا بأس به من تلك الدراسات التي اهتمت بموضوع العقود، ثم قال: ((وهذه الدراسات الطريفة، التي تناولت أسئلة ذكية، تنم عن وعي واضح بالظواهر المالية المعاصرة)).
ويوجهنا إلى بعض المصادر التي يمكن من خلالها معرفة أسماء هذه البحوث، ثم يقول: ((وسيجد أكداساً غزيرة من الدراسات الشرعية الممتعة في العقود الحديثة)). هذا تقييم الأستاذ الكريم لهذه البحوث في ورقته، فلننظر ماذا قال في موطن آخر من بحوثه: ((وفي سياق هذه الخواطر السابقة حول واقع فقه المعاملات المالية المعاصرة وطموحات تطويره، يطل موضوع (فقه الأسهم) بشكل ملح، باعتباره أحد المساحات الموات الجرداء التي لم يتم إحياؤها بالبحوث التحليلية المنظمة والمتوازية مع عمقها وتجددها، وهناك على قائمة الانتظار العديد من الإشكاليات التي لم تحظ بالدارسة التحليلية من مثل...)). [الأسهم المختلطة ص 18].
وهو ينعى على الفقه الإسلامي واحدة من أهم الأخطار التي تهدد عملية التنمية الفقهية، وهي التي يقول فيها: ((ولا يشك من يعنيه أمر الفقه الإسلامي أن من أهم الأخطار التي تهدد عملية التنمية الفقهية ظاهرة الإعراض عن البحث الفقهي الجاد بما تقتضيه من ولع بتفحص النصوص والتنقيب في مدونات التراث واستقراء للاتجاهات وتحليل للمستندات وتداول النتائج والاستعاضة عن ذلك كله بالركون إلى إصدار الفتاوى بادي الرأي في القنوات الفضائية والمجلات الإلكترونية بحسب ما تمليه خواطر الوهلة الأولى، وحقيقة الأمر أن الفقه لا تبنيه ألسنة الفتاوى المرسلة وإنما تبنيه سواعد البحث المضني)) [الأسهم المختلطة 14].
ثم يساهم الأستاذ الكريم في كتابه السابق بحالة توصيفية لاذعة للبحوث المعاصرة التي تسببت في أزمة سماها بأزمة الهدر الفقهي، فيقول: ((كما أن من أهم مصادر أزمة الهدر الفقهي استنفاد جهود المجامع المتخصصة في دراسة التطبيقات الجزئية الصغيرة عبر التعسف في تعليب المعاملات المستجدة داخل الأوعية الفقهية التقليدية، وقسرها على تقمّص أشكال العقود التراثية فتخرج كثير من البحوث بصورة كسيحة تشي بحجم التكلف الهش، في مقابل إهمال بناء (منظومة القواعد المرجعية) الحاكمة لهذا العلم)).
فنحن في النص الأول أمام ((أكداس غزيرة من الدراسات الشرعية الممتعة))، وفي النص الثاني أمام ((أحد المساحات الموات الجرداء التي لم يتم إحياؤها)). وأمام حالة من (الإعراض عن البحث الفقهي الجاد) والاستعاضة عنه بالفتاوى المرسلة. وأمام (قائمة انتظار طويلة من الإشكاليات التي لم تحظ بالدراسة والتحليل)، وهو كلام يأتي في سياق حديثه عن موضوع الأسهم الذي اعتبره في ورقته من أكثر الموضوعات التي نالت حظها من العناية. ونحن كذلك في النص الأول أمام بحوث ((تنم عن وعي واضح بالظواهر المالية المعاصرة)) ((وبحوث ممتعة))، وفي النص الثاني أمام ((بحوث كسيحة تشي بحجم التكلف الهش)).
هل كان الأستاذ الكريم وهو يمارس هذا النوع من التقييم ـ الذي قد تتفق معه أو تختلف ـ واحداً من المناوئين للخطاب الشرعي؟ أم كان وهو يتحدث بهذا النوع من النقد يشعر بواجب الأمانة في توجيه دفة البحث الفقهي للجادة الصحيحة؟
هذا التساؤل لن أعيده إلا بعد استكمال جميع النصوص، لكني أردت أن أنبه القارئ إلى طبيعة التساؤل الذي أتمنى أن يستصحبه أثناء قراءة هذه النصوص المتقابلة، ليعرف مدى إشكالية تحديد مفهوم المناوئين في خطاب الأستاذ السكران.
أدع القارئ الكريم مع النصوص الأخرى:
ـ الخطاب الشرعي والفكر القانوني:
يذكر الأستاذ السكران في ورقة المناوئين ما يلي: (ومن الاحتجاجات الشائعة أن البعض يقول: ((الباحثون الشرعيون جاهلون بأسئلة وإشكاليات الفكر القانوني المعاصر))، وهذه أيضاً شائعة غير علمية كلياً، فإن الباحثين الشرعيين طرحوا دراسات كثيرة جداً في القضايا القانونية المعاصرة))، هذا هو وصف المناوئين، فلنتأمل في نص الأستاذ السكران، والذي ينعى فيه على واقع الفقهاء المعاصرين وموقفهم من علم القانون، حيث يقول:
((فالمفترض في فقهاء المعاملات المالية المعاصرة اليوم أن يتجاوزوا تلك الحساسيات التاريخية مع علم القانون، والتي نشأت في ظل مناخ من التوترات السياسية أججتها حالة الاحتجاج الشعبي ضد القسر الإمبريالي في تغريب التشريعات.
بمعنى أنه يجب على الفقهاء المعاصرين أن يعيدوا علم القانون إلى صورته الطبيعية المتوازنة من حيث كونه علماً وضعياً فيه ما يخدم الفقه الإسلامي، وفيه ما يتعارض معه، فما الذي يجعل علم الاقتصاد الوضعي ذا الصبغة الرأسمالية والمنشأ الغربي يجوز التواصل النقدي معه والتفاعل الإيجابي مع المختصين فيه، بينما يحرم هذا التواصل النقدي والتفاعل الإيجابي مع علم القانون الحديث؟ فواقع الأمر أن كلا هذين العلمين من حيث التصور الشرعي الطبيعي يقفان في ذات الخانة، وهي خانة (العلوم الوضعية) المرتبطة بالخبرة البشرية، والخاضعة للفحص الشرعي، فيؤخذ منها ويرد طبقاً للقاعدة العامة في الموقف من العلوم الوضعية، أي بحسب التوافق والتعارض مع أصول الشريعة)). [الأسهم المختلطة ص 17].
ـ الخطاب الشرعي وقضايا الأخلاق:
يقول الأستاذ الفاضل في ورقته الأخيرة: ((يردد كثير من مناوئي الخطاب الشرعي قولهم بأن الفكر الديني المحلي استغرق في القضايا الشكلية كاللحية والإسبال، وترك قضايا الجوهر الأخلاقي كالأمانة والإحسان إلى الناس وحقوق الغير ونحوها، حتى صار التدين شكلياً، وصار مفهوم التدين مرتبطاً في الوعي الشعبي بقضايا القشور، وقد لاحظت أن أكثر قضية أخلاقية يرددها هؤلاء المناوئين هي قضية "قيم العمل" أو "احترام المهنة"، وأنها قيمة أخلاقية غائبة كلياً في الخطاب الشرعي، مما أدى إلى تحوله إلى تدين مظهري مجوف غير حقيقي)).
هذا الحال الذي يصفه الأستاذ الفاضل هو الذي يقول عنه في مقال سابق، وهو يعدد القضايا والأفكار المركزية والمحورية عند التيار الإسلامي العريض في الوسط السعودي، ذاكراً إحدى القضايا المركزية في هذا الخطاب، ما يسميه: ((فقهيات الصحوة)):
((هناك مسائل جزئية فقهية جزئية ارتبطت بظاهرة التدين الصحوي، مثل: (وجه المرأة، الغناء، اللحية، الإسبال، التأمين، صلاة الجماعة) وغيرها من المسائل المشابهة التي تحتفظ بمكانة خاصة في ذاكرة الوعي الإسلامي الشعبي الذي صنعته الصحوة، والتي تتعامل مع هذه المسائل من منطلق مذهبي خالص، فهذه المسائل التي أفتى بها الرواد لا يجوز مساسها أو إثارة الزوابع حولها.
أما تيار التجديد، فلا يمتلك قداسة علمية لا لهذه المسائل ولا لغيرها من الجزئيات الفقهية، والقداسة فقط للمنهجية العلمية، وبعد ذلك يفتح الباب لكل دارسة معرفية جادة لبحث هذه المسائل أو غيرها )). [مقال للأستاذ إبراهيم السكران منشور في كتاب (الإسلاميون... سجال الهوية والنهضة) ص 195].
ـ الخطاب الشرعي والعلوم غير الشرعية:
يقول الأستاذ الفاضل في ورقته الأخيرة: ((يرى مناوئو الخطاب الشرعي بأننا (اليوم في تخلف مدني شديد وبحاجة ماسة إلى العلوم المدنية المعاصرة، ولكن أزمة الخطاب الشرعي أنه يزهد الشباب المسلم في تعلم العلوم المدنية، وأنها ضياع وقت، وأنه لا ثواب فيها)، ولذلك يعتقد هؤلاء النقاد أن ضعف الجوانب المدنية في المجتمع المسلم المعاصر ليست أولاً بسبب ضعف كفاءة المسؤولين عن التعليم، وإنما بسبب الخطاب الشرعي الذي يضخ -ولا يزال- صورة منحطة عن العلوم المدنية)).
هذه هي حجة المناوئين.
فلننظر ماذا يقول الأستاذ في حديث آخر يصف فيه واقع الخطاب الشرعي، حيث يذكر أن هناك حالة من عدم التوازن في تحديد وزن العلوم الحديثة فهم يتواصلون مع الاقتصاد الحديث لكنهم يقاطعون خبراء التشريعات الحديثة في حالة من النفور المذهلة، يقول في ذلك: ((وفي إطار محاولات الفقهاء الرواد في التواصل مع العلوم الحديثة ذات الصلة بفقه المعاملات المالية بخصوص تصوير العقود والوقائع المستجدة وتوضيح صيغ علاقاتها المؤثرة على الحكم الشرعي يلاحظ المتابع موقفاً مترعاً بالمفارقة في تحديد وزن العلوم الحديثة التي يمكن الاستفادة منها في هذا المجال.
فقد تم في هذا السياق بناء تواصل إيجابي معقول مع الاقتصاد الحديث، وتبادل للخبرات مع رجالات الاقتصاد من خلال استكتابهم في المجامع الفقهية، والاستناد إلى نتائجهم العلمية، وترجمة دراساتهم الأجنبية في تنام مستمر وملحوظ لمرجعية الاقتصاديين في الوعي الفقهي المعاصر، في مقابل القطيعة والنفور المذهل مع خبراء التشريعات التجارية والمالية الحديثة، على الرغم من أن خبراء التشريع من شُرّاح القانون ونحوهم في المجتمعات المتقدمة هم الوجه الحقيقي المقابل للفقهاء في المجتمع المسلم...)). [الأسهم المختلطة: 16].
ـ الخطاب الشرعي والاستفادة من الغرب:
يكرر كثير من مناوئي الخطاب الشرعي ـ كما يقول الأستاذ الفاضل في ورقته ـ القول بأن: ((الحضارة الغربية اليوم تمثل منبع العلوم ونموذج التفوق المذهل في كل الميادين والمجالات، ومن أعظم أسباب تخلفنا أن الخطاب الشرعي اليوم يقف حجر عثرة بين المجتمع المسلم والاستفادة من الغرب، وما لم يصحح الخطاب الشرعي موقفه الانفصالي هذا فهذا يعني أننا سنبقى في قعر التخلف)). هكذا تقول حجة المناوئين.
فما هو يا ترى توصيف الأستاذ الكريم لهذه الحالة في مقالات سابقة ؟ لنتأمل النص التالي والذي يذكر فيه الأستاذ الكريم واحدة من القضايا المركزية المحورية للتيار الإسلامي العريض في الوسط السعودي ـ كما يُعبر ـ يقول تحت عنوان ((الموقف من الحضارة)): ((تمتلك بعض الأطياف الإسلامية موقفاً سلبياً رافضاً للحضارة الغربية، فمثلاً : لسنا بحاجة إلى علوم اجتماعية وإنسانية منتجه في الغرب، والمجتمع المدني هو مجتمع يتعارض مع الشريعة، ونحو ذلك. وينطلق هذا الموقف من إطلالة مثالية بأن المسلم لا يمكن أن يكون بحاجة إلى المنتجات النظرية والإنسانية والفلسفية للغرب، وينطلق تيار التجديد في ذلك من منطلق واقعي بأن العالم الغربي، وإن كان لا يتوافق معنا في (الإيمان الديني)، لكنه قد تفوق علينا بنهضته وحضارته واقتصاده وعلومه وآليات تفكيره، وأن هناك مساحة واسعة للمشتركات الإنسانية بين الحضارات والثقافات المختلفة وهو مدخل التواصل الإنساني المطلوب)). [مقال للأستاذ السكران منشور في كتاب الإسلاميون... سجال الهوية والنهضة ص 195].
وهو الواقع الذي يسدل عليه الأستاذ الفاضل نصائحه التي تقول فيها: ((وعلى أية حال فإن استقلال الإبداع لا يعني التوتر مع منتجات الحداثة الاقتصادية المعاصرة، ولا يعني أن يكون الفقيه مهجوساً بحمل النصوص والتعسف في تصويرها كنقيض للاقتصاد الغربي، ذلك أن القيام بأمانة البيان للناس وحمل رسالة الفقه الإسلامي النبيلة ليس مرتبطاً بمخالفة خبرات الإنسان، بل مرتبط بشكل أساس بتقديم أدق منظور فقهي يستوعب مراد الشارع ومقاصده العامة التي يحبها الله ويرضاها ويتغياها في أحكامه؛ كالعدل، والقيام بالقسط، ورعاية المصالح، ورفع الحرج، وإزالة الضرر، واعتبار العرف، وإظهار الدين ونحوها من الغايات الإلهية الشريفة)). [الأسهم المختلطة 18].
ـ الخطاب الشرعي والاستقلال السياسي:
يقول الأستاذ الفاضل في ورقته الأخيرة: [من الأمور التي يشيعها بعض مناوئي الخطاب الشرعي قولهم: (الخطاب الشرعي المعاصر مجرد تابع للنظم السياسية يحركها كيف يشاء، فيبيحون ما أراد السياسي إباحته، ويحرمون ما يريد السياسي تحريمه)، وبعضهم يقول بلهجة دارجة (مشايخنا الله يخلف عليهم ورا الحكومة اللي تبيه يقولونه)، ويذكرون لذلك بعض النماذج التاريخية لفتاوى تغيرت بهدف تدعيم رؤيتهم هذه].
ويواصل الحديث عن حجج بعض المناوئين في هذا الموضوع، والتي يقولون فيها: إن ((الخطاب الشرعي لا يتحدث عن احتياجات الناس والحقوق المالية، ومفهوم الفساد المالي، وكل ذلك مراعاة للسياسي، مما يدل على عدم الاستقلال)). فمن ذلك مثلاً، أن بعض الناس يقول ((الخطاب الشرعي يغالي في مسألة طاعة ولاة الأمور)).
لينتقل معي القارئ الكريم، وليقرأ النصوص التالية للأستاذ السكران، والتي يقول فيها:
((في بالي الآن عدد من الأسماء السلفية الرنانة التي صدَّعت أسماعنا بذلك في المجالس والندوات المغلقة ـ وبعضهم يكتب في الساحة السياسية بأسماء شبه معروفة ـ ولكن أخلاق الإسلام تأبى علي التصريح بما في المجالس.. بل كثير منهم يعتذر صراحة في المجالس والندوات للنظم السياسية العربية الفاسدة بأنه ليس في إمكانها أكثر مما صنعت أمام الإمبراطورية الأمريكية...
بل بلغ الحال ببعض السلفيين إلى التبجح في المجالس بعلاقاتهم الخاصة مع الأمراء والولاة, وأصبحت نغمة مألوفة أن ترى الواحد منهم يقول (قال لي الأمير فلان كذا.. وقال الأمير فلان كذا..)، يقولها بكل استرخاء وكأن شيئاً لم يكن!...
وقد استمرت السلفية الرسمية غير حساسة بتاتاً تجاه المصالح الأمريكية ومشروع الاستعمار الأمريكي, وغير قادرة أصلاً على التقاط موجات الهيمنة وفهمها, برغم صلاح قصدها في كثير من الأحيان، لكنه نقص الوعي الذي ضرب بعمق في الأفهام.. ولذلك أفتت المؤسسة الدينية الرسمية في السعودية ـ بكامل حمولة زعامتها السلفية ـ بجواز الصلح مع إسرائيل وثار المسلمون في كل مكان على هذه الفتوى..
ثم لما هدأت الأمور، أعقبتها بفتواها الثانية في مشروعية ضخ ونشر القوات الأمريكية في المنطقة إبان أزمة الخليج.. وثارت الحركة الإسلامية حينها على هذه الفتوى..
ثم لما اندلعت أزمة لبنان وقف كثير من السلفيين في صف إسرائيل ضد المقاومة اللبنانية.. أؤكد أن كثيراً من ذلك قد يتم بحسن نية لكنه ينطوي على كثير من غياب الوعي...
والفقه السلفي المعاصر ـ للأسف ـ يخدم كثيراً مصلحة هذه النظم السياسية الفاسدة, فجمهور السلفيين المعاصرين يقفون موقفاً سلبياً من مفاهيم الشورى والمشاركة السياسية وتوسيع القاعدة الشعبية لاتخاذ القرار, فأفكار السلفيين المعاصرين تدفع باتجاه حرمان الأمة من المشاركة في صياغة واقعها...
ولذا يلاحظ المتابع أن النظم السياسية الفاسدة في العالم العربي تقمع الجهاديين, وتترصد للحركيين وتحصي أنفاسهم, أما السلفيون فهم الفرقة الوحيدة التي تتمتع بالقسط الأكبر من مناصب كبار العلماء, وإمامة الحرمين, ورئاسة الجمعيات الخيرية الرسمية, وإلقاء الدروس والدورات العلمية دون عرقلة ولا وساطات.. ونحو ذلك من هذه الامتيازات الفارهة...
فالمحصلة النهائية أن الفكر السلفي المعاصر يمنح النظم السياسية العربية مزيداً من الأوراق لتأكيد احتفاظها بالسلطة وانفرادها بها...
يعنيني كثيراً أن أوضح للقارئ الكريم خيطاً رفيعاً يفصل بعض السلفيات المعاصرة، كثيراً ما يتم خلطها ببعضها , ألا وهو الفرق بين "الجامية" و"السلفية الحكومية"..
فهاتان الفرقتان المعاصرتان يجمعهما تغييب الوعي عن "المنكرات السياسية" ويفترقان في المعركة البديلة, فالجامية تجعل المعركة مع "زلات الدعاة" والسلفية الحكومية تجعل المعركة مع "زلات المثقفين", ويشتركان كلاهما في التطبيل الخفي للنظم السياسية الفاسدة, وتعليق المنكرات على شماعة "الحاشية" و"البطانة" هربا من مواجهة الحقائق وتسمية الأشياء بأسمائها..
باختصار شديد.. الجامية والسلفية الحكومية تجعلان الصراع مع الطرف الأضعف , بينما يدعان القوي يسرح بالسلطة ويمرح, ولا يشك رجل شم أخلاق الإسلام ماتنطوي عليه هذه الممارسة من نقص في المروءة والرجولة.. )). [دور السلفية في ترسيخ المشروع الأمريكي، إبراهيم السكران].
هكذا نحن أمام حالة من الدفاع عن استقلال الخطاب الشرعي عن السياسي، تصادفها حالة من الهجوم الشامل كذلك؟
ومن المهم أن نلاحظ في هذه النصوص إلى أن الأستاذ السكران لا يحصر نقده على فرقة الجامية كما يسميهم، بل يحشر معهم (السلفية الحكومية)، والتي تضم العلماء الرسميين في هذا البلد كما هو صريح كلامه.
ومع أني لا أريد الدخول في تفاصيل النقاش حول صحة هذا الموقف الأخير ـ الذي من الضروري أن أبدي تحفظي عليه ـ لكني فقط أقول: هل يحق للقارئ أن يسأل الكاتب الكريم أين غابت هذه الأسماء التي كانت في باله، عندما أخذ في الدفاع عن حالة الاستقلال السياسي؟
أنتهي بآخر القضايا التي تعرض لها الأستاذ الكريم، والتي تدور حول:
الخطاب الشرعي ومعارك الصفات:
يقول الأستاذ الفاضل في ورقته الأخيرة: ((تتفق جمهور الطوائف الفكرية المعاصرة على نقد علاقة الخطاب الشرعي بمباحث "الأسماء والصفات الإلهية"، ويرون أن الخطاب الشرعي يقيم معارك لا داعي لها حول قضايا المعطلة والممثلة ونحوهم، في زمن نحن بأمس الحاجة فيه إلى تكثيف الجهود في قضايا المدنية والحقوق والأخلاق)).
هكذا الحال في دعوى المناوئين.
فلننظر إلى ما سطره الكاتب في أحد مقالاته حول معركة الصفات، حيث يقول: ((لكن حين تأخذ جولة سريعة في الدروس السلفية المعاصرة في علم العقيدة تتفاجأ حين ترى الدروس تمضي ساعاتها الثمينة في "صراع الأشباح" التي لا وجود لها أساساً...
أكثر شخصية حاضرة في تلك الدروس السلفية هو الجهم ومذهب الجهمية.. ولا والله مارأيت في حياتي كلها شخصاً جهمياً.. بل لا يعرف في تاريخ الإسلام مذهب له أنصاره وكتبه وتلاميذه باسم الجهمية.. وإنما هي مقالة تحكى بلا خطام عن شخصية غامضة ليس لها مؤلفات متداولة ولا تاريخ.. أما العالم الإسلامي اليوم فهو إما أشعري أو ماتريدي أو على مذهب أهل الحديث.. وهكذا تمضي ساعات طالب العلم ويستهلك جهده ووقته وعمره ـ الذي لن تزول قدماه يوم القيامة حتى يسأل عنه ـ في الرد على أشباح لا حقيقة لها ولا وجود...
بينما لو تقدم شاب مكلوم إلى أحد هؤلاء السلفيين المتصدين لدروس العقيدة بسؤال حول الفساد السياسي المعاصر وفتنة المسلمين بالاستعمار الأمريكي لتضايق من السؤال ووجه السائل إلى الاهتمام بتأصيل العقيدة أولاً!
ومتى كانت معركة الأشباح جزءاً من نور النبوة؟!
بالله عليك أخي القارئ الكريم: هل يمثل الرد على الجهمية والمجسمة ونظائرهم تهديداً للمصالح الأمريكية؟! وهذا ما يفسر لماذا استمرت أمريكا طوال السنوات الماضية في حماية ودعم آيديولوجية النظام السياسي الخليجي, وتمرير التمويلات الفلكية التي كان الخليج يضخها في طباعة كتب السلفيين المعاصرين في العقيدة..!)). [دور السلفية في ترسيخ المشروع الأمريكي، إبراهيم السكران].
بطبيعة الحال، نحن في هذه الفقرة أمام رأي حاد في الموقف من هذه القضية ـ وهو موقف بدون شك نبدي تحفظنا عليه ـ لكني أورده ليشاركني القارئ ملاحظاتي القادمة.
نعود إلى إشكالية (تحديد مفهوم المناوئين)، فنقول: هل مجرد ممارسة النقد للخطاب الشرعي / السلفي كفيل بأن يدخل صاحبه في خانة المناوئين؟ ولنتذكر كذلك وصف صديقه الملازم حين يقول ـ عمن وصف الأستاذ بأنه قد تغير في خطابه ـ: ((متى خرج حتى يعود!! أنا أعرف إبراهيم من أيام "ورقة المناهج" وإلى اليوم وبكل أمانة أن الرجل هو هو لم يتغير منهجه)).
ولذلك، نعاني في الخطاب الشرعي / السلفي من فريقين يمثلون طيفاً واسعاً، وهم من داخل الصف السلفي نفسه: فريق لا يقبل النقد، وفريق آخر لا يحسن النقد، وكلاهما واقع في طرف من المشكلة. وهكذا هو الحال في تاريخنا السلفي المعاصر... سكتنا عنه حتى حكاه الآخرون بكل حمولاتهم الأيديولوجية وشوهوا هذا التاريخ بكل إنجازاته، فخرج لنا في كل يوم خبراء جدد حول الحركات الإسلامية.
(الجزء الثاني والأخير)
بعد هذه الجولة، أطرح تساؤلات ثلاث:
(التساؤل الأول):
كيف كان ينظر الأستاذ السكران لكتابته تلك، ويقومها من خلال ورقته (المناوئين)، هل كان يعتبر نفسه وهو يمارس هذا النوع من النقد واحداً من المناوئين، أم أنه كان يشعر ـ وهو يمارس دوره في النقد ـ أنه يقوم بواجب النصح والتوجيه لبعض جوانب القصور داخل الخطاب الشرعي / السلفي الذي ينتمي إليه؟
أليست تلك التحفظات التي كان يبديها على الخطاب الشرعي، كانت تنبع عن شخص سلفي يرى أن ثمة ما يحتاج إلى تقويم واستصلاح؟
إن كان الأستاذ السكران لا يرى تلك النصوص التي سبقت مدخلة له في وصف (المناوئين)، فلماذا ساق في مقاله السابق تلك الحجج، غير مميز فيها بين صنف المناوئين وغيرهم؟
وإن كان يعد نفسه واحداً من المناوئين في تلك النصوص، فهل يعني هذا أننا سنفقد المصداقية في أخباره وأحكامه الصارمة العارمة، التي كانت تبدأ بـ(ولا يشك من يعنيه أمر الفقه الإسلامي...) و(يجب على الفقهاء المعاصرين... )، و(يلاحظ المتابع موقفاً مترعاً بالمفارقة) و(في بالي الآن عدد من الأسماء السلفية الرنانة). (لا يشك رجل شم أخلاق الإسلام ما تنطوي عليه هذه الممارسة من نقص في المروءة والرجولة). و(ولا والله ما رأيت في حياتي كلها شخصاً جهمياً...).
هل كنت ـ عندما تحمل تلك الأحكام ـ تنطلق من غير متابعة، مع أنك تشير إليها، ومن غير يقين، ومن غير واقع، مع أن في بال صاحبها (أسماء)؟
ألا يحق لنا أن نقول إن حشرك الجميع حتى من يستعمل العبارة الانتمائية (مشكلتنا...)، كان نوعاً من الظلم قد يتعدى إلى أناس هم من أكثر المدافعين عن المنهج السلفي!!
إن شعور الغيرة على الخطاب الشرعي، لا يسوغ أن نتعدى ونظلم الآخرين ونصفهم بما ليس فيهم، يقول ابن تيمية: (والشيطان يريد من الإنسان الإسراف في أموره كلها، فإنه إن رآه مائلاً إلى الرحمة زين له الرحمة حتى لا يبغض ما أبغضه الله؛ ولا يغار لما يغار الله منه، وإن رآه مائلاً إلى الشدة زين له الشدة في غير ذات الله حتى يترك من الإحسان والبر واللين والصلة والرحمة ما يأمر به الله ورسوله، ويتعدى في الشدة فيزيد في الذم والبغض والعقاب على ما يحبه الله ورسوله : فهذا يترك ما أمر الله به من الرحمة والإحسان وهو مذموم مذنب في ذلك، ويسرف فيما أمر الله به ورسوله من الشدة حتى يتعدى الحدود وهو من إسرافه في أمره، فالأول مذنب، والثاني مسرف ?إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ? [الأعراف:31]، فليقولا جميعًا: ?رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ? [آل عمران:147]...). "الفتاوى" (15/292-293).
(التساؤل الثاني):
أليس من الإنصاف والموضوعية أن نضبط مفهوم المناوئة، بأنه: مخالفة المنهج ومناصبة العداء، والنقد بقصد الهدم.
فنفرق بين النقد الذي يمارس من أجل الهدم والتشويه وتصفية الحسابات وبين النقد الذي يمارس من أجل التصحيح والتطوير، والذي يستصحب معه إيمانه بمنهجه السلفي، والتزامه بقواعد النظر والاستدلال الشرعية العلمية، لكنه لا يعطيه مسحةً من الغلو والتقديس الذي يضيع الحقيقة ويخالف الواقع؟
(التساؤل الثالث):
هل يمكننا القول، إن نقد الأستاذ السكران في كلا خطابيه المدافع والناقد، يتسم بقدر من الحدية في المواقف؟ وهل هذا يعني أن المزاج الذي يحكم كلا النظرتين، مزاج حاد النظرة والحكم والتوصيف؟ وهل هذا سيدعونا إلى أن نعيد النظر في المزاج الفكري الذي ينتج من خلاله الأستاذ السكران أفكاره؟
لا أريد من كل ما سبق، أن أتبنى رأياً موافقاً للأستاذ السكران في كلتا حالتيه، اللتين لا تعبران عن موقف موضوعي معتدل في عدد من مواضعها. إنما أردت هنا أن أبرز الحالة الفكرية التي يكتب بها صاحبنا، والنفسية التي تحكم الغيرة الشرعية عند الأستاذ الفاضل.
وعندما أقول إنه يحمل مزاجاً حاداً، فلست هنا مدافعاً عن أعداء الخطاب الشرعي، وإنما في صدد تقييم حصر الأستاذ تلك الدعاوى في صنف واحد وعدم فرزها الفرز العلمي الصحيح.
*الإشكالية الثانية: (الأجوبة ومعايير الموضوعية)
لاشك أن الأستاذ الفاضل حاول الجواب عن عدد من حجج المناوئين، وقد وفق في كثير من أجوبته، ولم يسلم من الإشكالية في أجوبة أخرى.
ولتوضيح إشكالية هذه الأجوبة، أستحضر تصويراً جميلاً يستعمله مالك بن نبي قد ينفعنا في توضيح المراد، فالوضع الذي قدم فيه الأستاذ الفاضل بعض أجوبته مثل أضواء المسرح عندما يتحكم القائمون عليه بتسليط الأضواء الكاشفة على جزء منه وتغييب هذا الضوء عن جزئه الآخر، أي إضاءة النقطة التي يريدها صاحبها، ثم يبقي ركن المسرح الآخر يغمره الظلام، وفي هذا الركن بالتحديد، تكتمل الصورة.
هكذا الحال في بعض أجوبة الأستاذ الفاضل، يُسلط الأضواء على جوانب مميزة ومضيئة ورائعة، لكنه يخفت الإضاءة عن جوانب أخرى.
إن الإضاءة التي وجهها الأستاذ الفاضل في أجوبته إضاءة صادقة، لكنها قاصرة، لأنها تجاهلت أشياء أخرى كانت محل نظر ونقد يقدمه غيورون مثله، يشتركون معه في المنهج والهدف والغاية.
هذه الحالة تكثر من الواصفين لواقعنا السلفي، نقول أشياء صحيحة، ونخفي أشياء أخرى أو قد لا نقبلها. وفي قريب من هذه الحالة، يقول ابن تيمية: (وأنت تجد كثيرًا من المنتسبين إلى علم ودين لا يكذبون فيما يقولونه، بل لا يقولون إلا الصدق، لكن لا يقبلون ما يخبر به غيرهم من الصدق...). "منهاج السنة" (7/193.192).
ويقول في موطن آخر: (فعلى الإنسان أن يصدّق بالحق الذي يقوله غيرُه، كما يصدق بالحق الذي يقوله هو، ليس له أن يؤمن بمعنى آيةٍ استدل بها، ويردّ معنى آيةٍ استدل بها مُناظِرُه، ولا أن يقبل الحق من طائفةٍ، ويردُّه من طائفةٍ أخرى). "درء التعارض" (8/404).
إن اختلاف الإضاءة من مكان إلى مكان هو الذي جعل الأستاذ السكران في مرة من المرات، يقول ـ كما في ورقته الأخيرة ـ: ((ولذلك كنت حين أسمع شخصاً يردد بعض هذه المقولات النقدية، فإني أفضل دوما أن أبدأ بالسؤال المنهجي: هل فعلاً أجريت دراسة مسحية أو استطلاعيه ـ ولو كانت عابرة ـ على منتجات الدروس الشرعية والبحوث التي ينتهجها الباحثون الشرعيون؟ وكنت دوماً أتفاجأ بردود مخيبة للآمال...)).
فهو هنا يظهر لنا مسحاً واستطلاعاً يثبت تقييما حول ما ينتجه الخطاب من دروس شرعية. لكنه يأتي موطن آخر ويعطي حكما مختلفاً، بناء على ذات المنهجية، وهي الاستطلاع والمسح في صورته العابرة والسريعة، فيقول: ((حين تأخذ جولة سريعة في الدروس السلفية المعاصرة في علم العقيدة، تُفاجأ حين ترى الدروس تمضي ساعاتها الثمينة في "صراع الأشباح" التي لا وجود لها أساساً...)). [دور السلفية...].
إن الذي جعل النتيجة تختلف هو نوع الإضاءة الموجهة. وهذه الإضاءة ـ أيضاً ـ هي التي جعلته يقول في تقييم البحوث المعاصرة حول الظواهر المالية في ورقته، أنه أمام ((أكداس غزيرة من الدراسات الشرعية الممتعة))، وهي ذاتها التي جعلته يقول في النص الثاني أنه أمام ((أحد المساحات الموات الجرداء التي لم يتم إحياؤها)) [الأسهم المختلطة].
إنه من المؤكد أن إضاءة جميع أركان المسرح ستكشف الصورة، الجميل منها وغير الجميل، لكن هذه الإضاءة بكل تأكيد ستكون مزعجة لأطراف كثيرة، لا يحبون أن تضاء جميع الأركان، وقد يتحمل قائلها من ظلم الجماهير ما لا تتحمله نفسه ولا تطيقه قواه.
*الإشكالية الثالثة: (الخطاب الشرعي وسؤال التقصير)
لا أخفي القارئ أنني فرحت عندما رأيت الأستاذ الكريم يتعرض في آخر ورقته لسؤال التقصير، ليس لأنني أقصد إلى أحب تشريح خطابنا الشرعي / السلفي، وإنما لأنني أريد من كاتب فاضل مثل الأستاذ السكران أن يكون أكثر إنصافاً وموضوعية، وهذا الإنصاف هو الذي سيقود كثيراً ممن انطلت عليه تلك الحجج إلى الإيمان بأننا نملك جواباً علمياً موضوعياً.
أما عندما يرى هؤلاء أننا نظهر أشياء ونخفي أخرى، فإننا سنفقد الثقة والمصداقية المطلوبة في خطاب الدفاع والدعوة والإقناع التي نتصدى لها. لكن جواب الأستاذ الفاضل على سؤال التقصير جاء جواباً مختزلاً إلى درجة ملفته، وسبب ذلك أنني وجدته يحصر الجواب عن هذا التقصير في الكمية، ويصمت عن الكيفية. أي أن بحوثنا في أبواب المعاملات والحقوق والأخلاق و.. و.. تحتاج إلى زيادة عدد لأنها غير كافية، فنحن فقط بحاجة إلى تكثيف الجهود في كل الحقول السابقة.
وهنا يحق لي أن أتساءل ألسنا بحاجة إلى أشياء أخرى... ألسنا مقصرين في نواحي أخرى من تلك الجوانب السابقة، ثم هل هذا الجانب الذي ذكره هو الجانب الأهم من جوانب القصور؟
لا أشك أن الجواب الواضح عن هذا السؤال ـ كما سبق ـ، سيحمل الأستاذ الفاضل عناء المعارضين، وقد يعرضه إلى حالة من الغضب ممن لا يطيقون أن يسمعوا شيئاً من نقد الممارسات العملية للواقع الشرعي / السلفي، لأن الكثير منهم وبكل بساطة يربط بين نقد الممارسة ونقد المنهج.
وهل من الموضوعية والعلمية أن نعتبر أن دفاعنا عن الخطاب الشرعي لا يكتب له النجاح حتى نبرئه من قصوره الحقيقي؟
إننا بكل اختصار نريد الدفاع، لكن الدفاع الذي يتسم بقدر من العقلانية و الموضوعية والصراحة، الموضوعية التي تدعو إلى أن لا نحشر الناس في زمرة واحدة، الموضوعية التي تدعو لأن نبين جوانب الضعف والقصور كما نبين جوانب القوة والنجاح، الموضوعية التي تستشعر أمانة الإطلاق للأحكام والأوصاف.
إن الشعور بالتقصير وحضور مطلب النقد والإصلاح موجود في تاريخ وحس المصلحين، إن هذا الشعور لا يعني عند المصلحين إلا نوعاً من تدعيم المنهج وقوته في فترات الضعف التي تمر به.
ولعل ابن تيمية، وهو الأنموذج السلفي الكبير الذي لا يفتأ الجميع ممن ينتسب إلى هذا الفكر، إلا ويستصحب مقولاته في بيان أسس هذا المنهج، قد أدى هذا الدور في صورته الدفاعية والنقدية معاً.
إن ابن تيمية لم يحمله الانتساب إلى المنهج السلفي أن يسكت عن بعض أخطائه حتى في تصور المنهج، ولذلك تجده يقول: (فإن المنتسبين إلى السنة والحديث ـ وإن كانوا أصلح من غيرهم من أشباههم، فالسنة في الإسلام كالإسلام في الملل، كما أنه يوجد في المنتسبين إلى الإسلام ما يوجد في غيرهم، وإن كان كل خير في غير المسلمين فهو في المسلمين أكثر، وكل شر في المسلمين فهو في غيرهم أكثر، فكذلك المنتسبة إلى السنة ـ قد يوجد فيهم ما يوجد في غيرهم، وإن كان كل خير في غير أهل السنة فهو فيهم أكثر، وكل شر فيهم فهو في غيرهم أكثر). "الفتاوى" (12/456.455).
ويقول عن تقييمهم: (...تارة بأن لا يعرفوا معاني نصوص الكتاب والسنة، وتارة بأن لا يعرفوا النصوص الصحيحة من غيرها، وتارة لا يردون ما يناقضها ويعارضها مما يسميه المعارضون لها العقليات... وكثير من المنتسبين إلى السنة المصنفين فيها لا يعرفون الحديث ولا يفقهون معناه... وقد رأيت غير واحد من المصنِّفين في السنة على مذهب أهل الحديث من أصحاب مالك وأحمد والشافعي وغيرهم من الصوفية وأهل الحديث وأهل الكلام منهم يحتجون في أصول الدين بأحاديث لا يجوز أن يُعتمد عليها في فضائل الأعمال، فضلاً عن مسألة فقهٍ، فضلاً عن أصول الدين). "الصفدية" (1/287.286).
ويقول في موطن آخر: (فالمنتسبون إلى أهل الحديث والسنة والجماعة يحصل من بعضهم، كما ذكرت، تفريط في معرفة النصوص أو فهم معناها أو القيام بما تستحقه من الحجة ودفع معارضها، فهذا عجز وتفريط في الحق، وقد يحصل منهم دخول في باطل: أما في بدعة ابتدعها أهل البدع وافقوهم عليها واحتاجوا إلى إثبات لوازمها، وأما في بدعة ابتدعوها هم لظنهم أنها من تمام السنة...). "الصفدية" (1/393.392).
ويقول: (وإذا قابلنا بين الطائفتين ـ أهل الحديث وأهل الكلام ـ فالذي يعيب بعض أهل الحديث وأهل الجماعة بحشو القول؛ إنما يعيبهم بقلة المعرفة، أو بقلة الفهم، أما الأول: فبأن يحتجوا بأحاديث ضعيفة أو موضوعة، أو بآثار لا تصلح للاحتجاج، وأما الثاني: بأن لا يفهموا معنى الأحاديث الصحيحة، بل قد يقولون القولين المتناقضين، ولا يهتدون للخروج من ذلك.
ولا ريب أن هذا موجود في بعضهم؛ يحتجون بأحاديث موضوعة في مسائل "الأصول والفروع"، وبآثار مفتعلة، وحكايات غير صحيحة، ويذكرون من القرآن والحديث مالا يفهمون معناه، وربما تأولوه على غير تأويله، ووضعوه على غير موضعه.ثم إنهم بهذا المنقول الضعيف، والمعقول السخيف، قد يُكَّفِرون ويُضَلِّلون، ويُبَدِّعون أقواماً، من أعيان الأمة، ويُجِّهِلُونهم، ففي بعضهم من التفريط في الحق، والتعدي على الخلق، ما قد يكون بعضه خطأ مغفوراً، وقد يكون منكراً من القول وزوراً، وقد يكون من البدع، والضلالات التي توجب غليظ العقوبات، فهذا لا ينكره إلا جاهل، أو ظالم، وقد رأيت من هذا عجائب، لكن هم بالنسبة إلى غيرهم في ذلك , كالمسلمين بالنسبة إلى بقية الملل)، "الفتاوى" (4/23-25).
ولم يمنعه انتسابه إلى الحنابلة أن يقول فيهم: (وفي الحنبلية أيضًا مبتدعة؛ وإن كانت البدعة في غيرهم أكثر، وبدعتهم غالبًا في زيادة الإثبات في حق الله، وفي زيادة الإنكار على مخالفهم بالتكفير وغيره...). "الفتاوى" (20/186-187). وغير ذلك من المواطن المهمة التي تعرض فيها ابن تيمية لأهل الحديث والمنتسبين للسنة بالنقد والتصحيح.
أختم هذه الجزء من المراجعة لألخص فكرتي فيما يلي:
أن الورقة الأستاذ الفاضل خلطت بين النقد الصحيح الذي يمكن أن يخرج من الشرعي / السلفي، والنقد المغرض الذي يخرج من غيره؟ وهي كذلك لم تكن صريحة في بيان قصور الخطاب الشرعي في جوانب عديدة موجودة في ذهن الكاتب، كما وضح ذلك في مقالات سابقة.
وربما يأتي في بحث آخر، مراجعة تفصيلية لبيان مواطن النجاح ومواطن القصور الحقيقي في الخطاب الشرعي / السلفي في القضايا التي تعرضت لها ورقة الأستاذ السكران.
وسنقارن هناك ليس بين كلام الأستاذ السكران بعضه مع بعض، وإنما بين كلامه عن تلك المجالات السابقة وبين كلام أصحاب الاختصاص أنفسهم في تقييم تجاربهم في تلك الحقول.
لننظر كيف ينظر أولئك المتخصصون إلى جوانب القصور في حقولهم، وهل هي محصورة في جانب الكمية أي: أنهم بحاجة إلى مزيد من البحوث والمشاركة؟ أم في جانب الكيفية أي في قيمة المخرجات ومدى نجاح المنهجية التي تقوم على ممارسة هذا النوع من النشاط؟ أم في الجانبين معاً؟
كما سنشير ـ هناك ـ إلى نجاح الأستاذ الكريم في الرد على مروجي النسخة المزيفة من الإمام الشاطبي في مقابل النسخة الحقيقة التي لا تساعد المناوئيين الحقيقيين على ترويج أفكارهم.
أخيراً، نحن بحاجة إلى الدفاع عن الخطاب الشرعي / السلفي... لكننا بحاجة أيضاً إلى أن لا يتحول الدفاع إلى عملية تخدير تصيبنا بحالة من عدم الإحساس الحقيقي بقصورنا، هذا التخدير الذي قد يسكن الألم، لكنه لا يزيله وإنما يؤجل الإحساس به إلى وقت آخر، حيث تجتمع الآلام علينا دفعة واحدة. (تذييل: حول تراجع أ. السكران).
بعد أن كتبت هذا التعقيب، كتب الأستاذ الفاضل إبراهيم السكران تعقيباً في [مجموعة عبدالعزيز قاسم البريدية] يذكر فيه أنه تراجع عن جميع مقالاته التي كتبها قبل ورقته (مآلات الخطاب المدني). فكتبت تعقيبا على ذلك هذا نصه:
شكر وتساؤل ورجاء:
بداية أشكر أخي الأستاذ السكران على ثنائه على تعقيبي ومدى إفادته، كما أحيي فيه تلك النفس العالية التي لا تجد غضاضة من تصريحها بتراجعها عما تعتقد أنها أخطأت فيه، غير أني لا أخفيه ولا أخفي القارئ أن الأستاذ الفاضل تجاوز جميع التساؤلات التي طرحتها في الورقة ليكتفي بإعلان تراجعه عن تلك الأفكار التي كان قد قالها من قبل.
وقد كنت أحسب أنني بينت مقصودي من عقد تلك المقارنة بين كلامه، وذكرت في تعقيبي طبيعة التساؤل الذي كنت أجري من أجله تلك المقارنة التي لا يهمها البحث في تراجع الكاتب عن أقواله من عدم تراجعه، وإنما همها شيء آخر، كما ذكرته هناك وسأعيده هنا.
لقد كان الجواب الذي قدمه الأستاذ الفاضل مفيداً لمن يهمه الجواب عن سؤال التغير. وهو مفيد كذلك لمن أورد تلك المقارنة ليجعلها نموذجا للتناقض صاحبها، وهذا غير الذي أريد. وهو مفيد ثالثاً لمن يظن واهماً أن الأستاذ السكران لا زال مؤمناً بتلك الأفكار القديمة التي قالها في تلك المقالات التي نقلتها.
نعم، هؤلاء سيستفيدون من جوابه. أما من كان مؤمناً بأن الكاتب قد غير مواقفه تبعاً لتغير قناعاته، وأنه ليس متناقضاً، وأنه متراجع عن تلك المقولات بدون شك، فهذا التصريح الذي قد قاله ربما لن يضيف إليه شيئاً كثيراً.
وغني عن القول، إنني ممن يؤمن بهذه النظرة الأخيرة، ومن أجل ذلك أرى أن الأستاذ الكريم قد تجاوز جميع التساؤلات التي أثرتها ليجيب عن شيء آخر لا دخل لتعقيبي به.
ولأنني على يقين تام أن عدداً لا بأس به ممن قرأ تعقيب الأستاذ الفاضل، ربما يحسب أن القضية قد انتهت بمجرد أن قال السكران أنه قد تراجع عن مقالاته قبل ورقة المآلات، فإنني أجدني نفسي مضطراً لأعيد ذات التساؤلات التي كنت أثرتها في تعقيبي.
الأمر الذي كنت أتقصد التنبيه إليه، يتلخص في تساؤلين:
أولاً: عندما كنت تمارس ذاك النقد الذي كنت تقوله قبل أن تتراجع عنه، هل كنت في عداد المناوئين أم كنت واحداً من عداد هذا الخطاب السلفي الشرعي يمارس النقد حتى ولو أخطأ فيه؟
وسواء عندي، كان الجواب بنعم أو لا، فطبيعة الجواب ستحدد لنا مفهوم المناوئين للخطاب الشرعي / السلفي في ورقتك؟ وهل يا ترى كل من يقدم نقداً علمياً موضوعياً للممارسات السلفية الواقعية يعد في نظرك أحد المناوئين؟ لماذا لم تصنف في مقالتك الكريمة بين أصناف النقادين، وحشرتهم في زمرة واحدة، وحشرت معهم من هم معك في نفس الصف ضد المناوئ الحقيقي؟
ألا تعتقد أن توصيفك الإجمالي لكثير من القضايا التي تعرضت لها سيدخل عدداً من أصحاب الخطاب الشرعي / السلفي نفسه في زمرة المناوئين لمجرد أنهم نقدوا خطابهم الشرعي / السلفي ببعض تلك الأمور؟
إنهم يتدبرون القرآن كما تتدبر، ويعتمدون على ذات المنهج الذي تعتمد، ويقرأون ابن تيمية الذي تقرأ، ويناصرون الشاطبي الذي تناصر، وينافحون عن المنهج الذي تنافح عنه، لكنهم مع ذلك يعتقدون أن خطابهم الشرعي / السلفي ليس خطابا خلياً من التقصير لا في جهوده ولا في تفكيره ولا في تعاطيه مع عدد من القضايا المعاصرة، تماماً كما كان يمارس ذلك ابن تيمية الذي سبق أن نقلت كلامه، وكما كان يمارسه الشاطبي وغيرهما من المصلحين. إن الذي يقودهم إلى ذلك ليس المناوءة، لكنه ذات المنطق الذي قادك إلى كتابة ورقتك حول المناوئين.
كل ما أريده هو تحرير الأفكار، حتى لا يقودنا هذا التوصيف الذي يحتاج إلى تحرير إلى عمليات هجوم وتعدي لا تقرها الشريعة على كل من يقوم بممارسة دوره في التصحيح داخل الخطاب الشرعي / السلفي. ولذلك فأنا لا أفق معك عندما تقول:
(والمراد أن كل من نقدني، وأساء القول فيّ، وخاض في عرضي، بناءً على كلام لي قبل ورقة المآلات فقد صدق وبرّ وما تجاوز الحق قيد أنملة، بل هو مأجور إن شاء الله).
نعم من حقهم أن ينقدوك، ولكن ليس من حقهم أن يخوضوا في عرضك، فمع الأخطاء التي يمكن إبدائها على ورقة المناهج وغيرها، إلا أن هذه الأخطاء لا تجيز شرعاً أن نخرج عن حدود ما رسمته لنا الشريعة ونتجاوز ذلك إلى أن يساء القول فيك، ولا أن يخاض في عرضك والعياذ بالله.
وفي هذا المعنى، يقول ابن تيمية: (فإن كثيرًا من الآمرين الناهين قد يعتدي حدود الله إما بجهل وإما بظلم، وهذا باب يجب التثبت فيه، وسواء في ذلك الإنكار على الكفار والمنافقين والفاسقين والعاصين). مجموع الفتاوى (14/481-482). (والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، كحال أهل البدع). كما يقول ابن تيمية في منهاج السنة (4/337).
ثانياً: هل جوانب التقصير التي وقعت في الخطاب الشرعي منحصرة، كما ذكرت في الجانب الكمي الذي يحتاج إلى تكثيف الجهود؟
أم أن هناك جوانب أخرى تتعلق بالجانب الكيفي يعاني منها الخطاب الشرعي / السلفي، جوانب متعلقة بمنهجيات البحث والتعاطي مع المسائل، وآليات الاستدلال، ومنهجية التفكير؟ فإن كان الجواب بنعم؟ فلماذا سكت عنها ولم تبدها بكل صدق وحيادية وموضوعية؟ أتدري لماذا أنا حريص على أن يبدي تلك التحفظات أنت لا غيرك؟ لأنك أن الأقدر من دون شك على توصيف هذا الخطأ بكل حيادية وواقعيه وموضوعية، بعيداً عن المزايدات والتكهنات والتخرصات.
مشكلتنا أيها العزيز... أن كثيراً ممن يملك الفكر السلفي الواعي يسكت عن توصيف واقعه التوصيف الصحيح... ويترك المجال إما لمناوئ حاقد على الخطاب الشرعي، وإما لكاتب قد يكون سلفياً لكنه لا يحسن النقد.
ولذلك، فإنني مؤمن بأننا نعاني في الخطاب الشرعي / السلفي من فريقين يمثلون طيفاً واسعاً، وهم من داخل الصف السلفي نفسه: فريق لا يقبل النقد، وفريق آخر لا يحسن النقد، وكلاهما واقع في طرف من المشكلة. وهكذا هو الحال في تاريخنا السلفي المعاصر... سكتنا عنه حتى حكاه الآخرون بكل حمولاتهم الأيديولوجية وشوهوا هذا التاريخ بكل إنجازاته، فخرج لنا في كل يوم خبراء جدد حول الحركات الإسلامية.
أنتهي من هذا التعليق برجاء أقول فيه: نحن بحاجة إلى قلمك المبدع، وحججك الرائعة، لكننا ندعو هذا القلم إلى مزيد من الأناة في توصيف المشكلات وتوصيف القائلين بها، حتى لا يقع الظلم على أحد لا يستحقه، يقول ابن تيمية: (فإن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال، والظلم محرّم مطلقا، لا يباح قط بحال، قال تعالى: ?وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? [المائدة:8]، وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار، وهو بغض مأمور به فإذا كان البغض الذي أمر الله به قد نُهي صاحبه أن يظلم من أبغضه، فكيف في بغض مسلم بتأويل وشبهة أو بهوى نفس؟! فهو أحق أن لا يظلم، بل يعدل عليه). منهاج السنة (5/126-128).
أصعب أنواع النقد، أن يكون الناقد مُعجب بمنقوده. ولكن العزاء من تكبد هذه الصعوبة : تحوّل هذا الاعجاب إلى محرّض لتحري العدل والموضوعية في النقد.يكاد ابراهيم السكران – المحامي المتخرج من كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود والحائز على درجة الماجستير من المعهد العالي للقضاء- مثال “المثقف المتفرد” من حيث مسيرته الثقافية القصيرة نسبيا.
ويكاد ، كذلك ، يكون أقدم ظهور علني للسكران في توقيعه لبيان العلماء المسلمين المبين لخطر التهديدات الامريكية للعراق في أواخر العام 2002م.(1) والتوقيع مع مجموعة كبيرة من العلماء – حوالي 209 – لا يبين لنا طبيعة التوجه الفكري لابراهيم السكران ، وإنما فقط يعطينا مؤشر لطبيعة الانتماء المتمركز حول قضايا المسلمين بابعادها العالمية.
بعدها بعام واحد ، في أواخر العام 2003، كان أول ظهور “فكري مستقل” له عبر الورقة التي قدمها مع المحامي عبد العزيز القاسم – الذي كان معاونا له في البحث – في الحوار الوطني الثاني المقام في مكة المكرمة بعنوان “المقررات الدراسية الدينية … أين الخلل؟”. في هذه الورقة ، قام السكران بعملية مسح لمناهج العلوم الشرعية في المرحلة المتوسطة والثانوية لمناهج البنين. وبناء على عملية المسح هذه قسّم الورقة إلى سبعة أقسام(2) : قسم يتناول الرؤية والمنهج المستخدم في تقويم المقررات، والقسم الثاني يبحث في ما تقوله المقررات عن الموقف من المخالف وتارجحه ما بين العدل والتعبئة ، أما القسم الثالث فيبحث في الموقف من الواقع الذي تقرره هذه المناهج، ويدور القسم الرابع حول الموقف من التدين ، ويتركز القسم الخامس منها حول الحضارة وموقف المقررات منها ، ويحتل المنهج العلمي القسم السادس لتاتي الخاتمة والتوصيات في القسم السابع. وكانت التوصية الرئيسية هي ” إعادة نظر جذرية في طريقة اعداد المقررات”(3).
هذه الورقة احدثت ثلاث ردات فعل متباينة ، فالتيار السلفي رفض محتوى الورقة وتوصياتها كما يتبين من ردود بعض المشايخ – كالشيخ اليحيى والشيخ الغصن وغيرهم- وتم خلع مسميات “العصراني” و”العقلاني” على السكران. بالمقابل قامت التيارات التحديثية بتبني هذه الورقات واستخدامها كوثيقة ادانة ضد التيارات الاسلامية كما يتجلى في سلسلة المقالات التي كتبت من قبل مشاري الذايدي وغيره. ومن خارج المملكة ، وفي أمريكا تحديدا ، نشرت دراسة قام بها أمريكي تتمحور حول المناهج الدينية وأثرها في تكوين الإرهاب اعتمدت كثيرا على ورقة السكران والقاسم.
بعد هذه الورقة، وفي يوم 28 اكتوبر من 2004، كتب مشاري الذايدي تحقيقا صحفيا في جريدة الشرق الاوسط عن الشيخ “محمد سرور” و “السرورية”(4). وكان من ضمن مصادر هذا التحقيق الصحفي : ابراهيم السكران باعتباره صاحب تجربة خاصة مع السرورية ، وباعتباره باحثا سعوديا ، وقد تحدث عن “الفكر السروري” باعتباره فكرا مهيمنا على مجمل الخطاب الديني السعودي.
يأتي العام 2005 ، وفي غمرة انهماك المجتمع السعودي في الأسهم وتداولها، يخرج علينا ابراهيم السكران بكتاب معنون بـ “الاسهم المختلطة” منشور من قبل “وهج الحياة للإعلام” التي يديرها نواف القديمي. في هذا البحث يشن السكران هجوما على الكليات الشرعية (5) وضعف برامجها التعليمية مما يؤثر على مخرجاتها ، وطالب بعزل “فقه المعاملات المالية” عن شجرة الفقه، كما استقلت الفرايض وغيرها من الفروع، وذلك بسبب التطور الهائل والمعقد لواقع المعاملات المالية والاقتصادية. وبعد المقدمة ، انتقل في الفصل الأول لنقد نظرية “الأسهم النقيّة” موجها نقدا جذريا لآلية الحكم بالنقاء وموضوعه ، معتبرا ان اعتماد التقرير الربع السنوي المُعلن من قبل الشركات لا يكفي للحكم على الشركة بالنقاء ، وبالتالي خلص إلى أنه لا توجد شركة “نقية” وأن كافة الشركات مختلطة. وفي الفصل الثاني يفصل في حكم الأسهم المختلطة ، ثم يليه خاتمة تلخص أهم النقاط.
وردا على مقالة لفارس بن حزام في جريدة الرياض ربط بين “المخيمات الصيفية والطلابية” ونشوء العنف والارهاب، كتب ابراهيم السكران ردا عليه نشرته جريدة الرياض في الـ 20 من مارس 2006 عنونه بـ ” النشاط الطلابي أحد خصوم العنف لا مصدره”. وفي نفس السنة في 21 من ابريل 2006 استضافته قناة الإخبارية في احد برامجها دار فيه الحديث حول الإصلاح ، وفيه وجه السكران نقدا حادا للغلو والتطرف التي تكتسيهما منتديات الساحات، مما أثار رواد هذه المنتديات لتسارع بالرد عليه.
ومع صيف 2007 طالعنا ببحثه “مآلات الخطاب المدني” وهو البحث محلّ النقد ، الذي قلب كثيرا من الموازين . فقامت المواقع السلفية التي كانت تحرض عليه وتتهمه بالعصرانية ، بتبني البحث، فتجده موجودا في “صيد الفوائد ” و “ليبرالي” و “ملتقى اهل الحديث” بل إن الساحات احتفى بالسكران وكاد ان يخلع عليه لقب “ابن تيمية الجديد”، وفتح عبد العزيز بن قاسم مقالة للاحتفاء بهذا البحث. وأما الردود فقد جاءت من القريبين جدا، من رفيق دربه “نواف القديمي” الذي ردّ عليه ببحث بعنوان “حكاية المدنية الموبوءة”، فقام السكران بالتعقيب عليه في مجلة العصر. وبعدها ، أصدر السكران تعقيبه الآخر المعنون بـ “إشكالات مثارة”، لتوضيح بعض الإشكالات التي اثيرت حول “المآلات”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش:
(1)http://www.arabiyat.com/magazine/pub…nter_322.shtml
(2) http://www.islamonline.net/arabic/co…rticle02.shtml
(3) http://www.islamonline.net/Arabic/co…ticle02g.shtml
(4) http://www.asharqalawsat.com/details…ران&state=true
(5)http://www.islamtoday.net/articles/s…5&a rtid=8834
----------------------
نظرات في ملحوظات الكاتبين
إبراهيم السكران وعبد العزيز القاسم
على مقررات مناهج العلوم الشرعية في التعليم
د/ سليمان بن صالح الغصن
الأستاذ المشارك بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة
بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
قد اطلعت على مذكرة أعدها الكاتبان/ إبراهيم السكران، وساعده عليها/ عبدالعزيز قاسم في نقد أسلوب ومحتوى مقررات العلوم الشرعية في التعليم العام.
وبعد قراءتها أحببت أن أكتب بعض ما لاحظته عليها بإيجاز – حسب ما سمح به الوقت – لعل الله أن ينفع به، ولعل الكاتبين الكريمين يجدا فيما كتبت ما يدعوهما إلى إعادة النظر ومراجعة ما سطراه في المذكرة المشار إليها.
سائلاً المولى – جل وعلا – الهداية والسداد، وأن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
هذا وقد جعلت الملحوظات في قسمين: إجمالية وتفصيلية على النحو التالي:
أولاً: الملحوظات الإجمالية العامة:
يمكن إيجاز أهم الملحوظات العامة بما يلي:
1- إن المذكرة التي اطلعت عليها بتراء لم تبدأ بذكر اسم الله – تعالى – ولا بالصلاة والسلام على رسوله الكريم، وهى في إطار معالجة المقررات الشرعية فهي بهذا حقيقة بأن تكون مقطوعة البركة في جملتها.
2- إن القارئ لهذه المذكرة يعجب بأسلوبها الرفيع، ويبهر بقدرة الكاتب على القراءة الموجهة التي تستطيع انتزاع ما تريده من الشواهد المؤيدة لوجهة النظر.
3- يلحظ أن الكاتب استشهد ببعض المقاطع من المقرر منزوعة عن سياقها الذي يبين المراد بها.
4- حذف الكاتب من بعض الشواهد التي ذكرها أول الكلام أو آخره الذي يوضح معناه.
5- اجترأ الكاتب على نقد عبارات واردة عن بعض السلف الصالح من الصحابة – رضي الله عنهم – ومن تبعهم، بل وعلى مفهوم بعض الأحاديث كما يأتي بيانه.
6- تناول الكاتب نقد عبارات وأمثلة المقرر، ولم يتعرض لتوجيه النصوص التي اعتمد عليها المقرر إلا نادراً.
7- لم يستوعب الكاتب بعض القضايا التي تناولها المقرر مما جعله يخوض فيها برؤية بعيدة عن نصوص ومقاصد الشرع، آلت به إلى نتائج غريبة، كما أن عدم استيعابه لبعض التقسيمات وتنوع الحالات جعله يرمي المنهج بالتناقض.
8- عند المقارنة بين المذكرة والمقررات يلحظ أن الكاتب صادر مفهوم المقرر في كثير من المواطن وغالط في مراده، فأنتج إجحافًا في أحكامه واتهاماته.
9- أهمل الكاتب النظرة الإجمالية المنصفة للمقررات، فلم يذكر من محاسنها إلا ما يدل على تناقضها واضطرابها – من وجهة نظره – وذلك حين يزعم أن هذا المعنى الحسن الذي قرره المنهج جاء ما ينقضه أو يخل به في موطن آخر.
10- ذكر الكاتب أن من وسائل تقويمه للمنهج معرفة مدى استيعابه لمجمل النصوص والقواعد وعدم انحيازه لمعنى دون آخر – والملاحظ أن الكاتب وقع فيما اتهم به المنهج، فلم تكن نظرته التقويمية منطلقة من مجمل النصوص الشرعية، بل أغفل الكلام على كثير من النصوص التي اعتمد عليها المنهج، ودعا صراحة إلى عدم تقرير التفاصيل التي بها يحصل تحرير المواقف وضبط الأحكام، كما يلحظ على الكاتب انحيازه لتقرير قناعات موجودة لديه، فقراءته للمنهج كانت توجهها خلفية سابقة ومنطلقات منهجية، ولذا لم يكلف نفسه الإجابة على كثير من النصوص التي اعتمد عليها المقرر.
11- ذكر الكاتب أنه راجع المقررات من خلال ستة من وسائل التقويم الفقهية، والعجيب أن النتيجة كانت رسوب المنهج في تجاوز أي منها، فقد لحظ الكاتب أن المنهج لم يعتن بشيء منها، بل وقع في التناقض والاضطراب حين تناولها، والأعجب من ذلك أن الكاتب ذكر أن ما توصل إليه من خلل في المنهج لم يكن خللاً منفردًا، بل كان كما سماه نظريات تحرك عناصر المنهج، فهو خلل في الرؤية، وليس في الأخطاء الجزئية العارضة !
12- كثر غمز الكاتب لمنهج السلف الصالح من خلال نقده للعبارات المأثورة عنهم، وجعل الخلاف بينهم وبين خصومهم وردهم عليهم معارك فكرية سياسية بعبارات تهويليه، وأن هذا الموقف من أصحاب الانحرافات العقدية مناقض لقواعد حقوق المسلم وحسن الظن به، وأن عرض مواقف السلف تجاه أهل البدع على الطلاب قد يفهم منه مشروعية القمع العنيف للمخالف، كما زعم أن القول بأن الشرك الأكبر يوجب العداوة بين صاحبه والمؤمنين منقول عن مصادر مولودة في ظروف استثنائية لا تصلح أن تكون قاعدة عامة لمناقضتها جملة من الأسس الشرعية، وأن الاعتماد على مثل هذه المراجع أوجد اضطراباً هائلاً في تنظيم الأولويات كما ورَّط الطالب في نيران معارك كلامية فكرية، كما أوحت بعض عبارات الكاتب بأن لدى المنتسبين إلى مذهب السلف الصالح زهواً بمذهبهم، ووثوقية مطلقة بعقيدتهم، وتنقصاً لعقائد المخالفين، وأظن أن قراءة مثل هذا الكلام عن الكاتب كاف في إعطاء تصور عن بعض دوافعه للكتابة في مثل هذا الموضوع.
13- ذكر الكاتب أن المقررات تجاهلت تبعًا للنظام السياسي قضايا مهمة – في نظره – كحقوق الإنسان والحريات، فهذه الموضوعات هي التي تقلقه وكأن الطالب يعيش في بلاد قمعية يحتاج فيها إلى تعريفه بحقوقه المسلوبة وحرياته المصادرة، والعجب أن الكاتب يرى أهمية مثل هذه الموضوعات للطالب في هذه المرحلة، وفي المقابل ينعى على المقرر قلقه على العقيدة، وتحذيره من الشرك والكفر، ولم يذكر المعيار الذي تعرف به أهمية الموضوع في تقديمه على غيره.
ثانيًا: الملحوظات التفصيلية:
في الحقيقة أن الرد التفصيلي على الشبهات التي أثارتها المذكرة يحتاج إلى بسط، وربما يكون في ذلك تطويل يسبب إملالاً لقارئه من غير المختصين، ولذلك سأكتفي بالرد الموجز على الملحوظات بما يبين المقصود – إن شاء الله تعالى – وسيكون ذكر الملحوظات مرتبًا حسب ورودها في المذكرة، فأقول مستعينًا بالله وحده:
1- (ص2) ذكر الكاتب أن هذا العمل – أي: نقده لمقررات العلوم الشرعية – جاء ليضبطها بأصول الشرع. أقول: في هذا الكلام تزكية للنفس واستعلاء على الآخرين، واتهام للمقررات بأنها مخالفة لأصول الشريعة.
2- (ص2) ذكر الكاتب أن المناهج لا يمكن أن تكون السبب الأساسي لتحريك العنف المسلح ضد الغرب، و في هذا اعتراف ضمني بأن مناهجنا كانت سببًا في ذلك، وإن لم تكن السبب الأساسي، وهذا الكلام كله يدور في فلك النظرة الغربية والهجمة الشرسة على مناهجنا وبلادنا.
3- (ص3) زعم الكاتب تناقض المنهج حينما دعا إلى حسن التعامل مع المسلمين وخطر تكفيرهم من جهة، ومن جهة أخرى حينما بين خلل الفرق البدعية المخالفة لمنهج السلف الصالح، والحق أنه لا تناقض بين الأمرين، فحسن التعامل مع المسلم والتحذير من تكفيره عمومًا لا يمنع من بيان انحرافه وضلاله إذا حصل منه شيء من ذلك، والضلال درجات ولا يلزم أن يكون كل ضلال كفراً كما أن انتساب المسلم للإسلام لا يعني عصمته من الانحراف والوقوع في أنواع الضلالات، إذا لم يتمثل هدي الإسلام، ويلتزم بعقائد التوحيد التي دل عليها كتاب الله – تعالى – وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم –.
4- (ص4) نقل الكاتب من مقرر التوحيد للصف الأول ثانوي عبارة " الفرق المخالفة من جهمية ومعتزلة و أشاعرة وصوفية حيث قلدوا من قبلهم من أئمة الضلال، فضلوا وانحرفوا " وفهم من هذا النص أنه اختزل أسباب الاختلاف في تقليد أئمة الضلال، وأنه سوى بين الفرق، ووصفها بالضلال والانحراف.
والجواب أن يقال:
1. إن المقرر لم يختزل أسباب الانحراف في تقليد أئمة الضلال، وإنما جعل التقليد الأعمى سببًا للانحراف، وذكره من ضمن سبعة أسباب، بين أنها من أهم أسباب الانحراف عن العقيدة الصحيحة.
2. إن المقرر لم يجعل الفرق المذكورة متساوية في الضلال، وإنما جعلها مشتركة في أحد أسباب الانحراف عن العقيدة الصحيحة وهو التقليد الأعمى للمنحرفين وهذا حق، وبهذا يتبين كيف كان فهم الكاتب المغلوط، ومصادرته لمفهوم كلام المقرر، وقطعه عن سياقه مؤديًا إلى اتهام المنهج بماهو منه براء.
5- (ص4) استنكر الكاتب وصف الأشاعرة والماتريدية بالضلال والانحراف عن منهج السلف، وهذا في الحقيقة راجع إلى أحد أمرين: إما أنه يجهل عقيدتهما ويظن أنه لا فرق بينها وبين عقيدة السلف الصالح وهذا جهل فاضح، وإما أنه يعلم انحراف الأشاعرة والماتريدية ولكنه يستعظم وصفهما بالانحراف والضلال وهذا أيضًا ناشئ من الجهل بدرجات الانحراف والضلال – وأنه لا يلزم أن يكون كل انحراف وضلال كفرًا.
6- (ص4) نقل الكاتب عبارة عن المقرر ونصها " من نفى ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله فقد كفر " وانتقدها من أربعة أوجه:
1. أن فيها عدوانًا على جمهور علماء الأمة وأتباعهم.
2. أنه لا قائل بالتكفير في هذا المقام بهذا الإطلاق.
3. أن الطالب لا علاقة له في هذا السن – الثاني ثانوي – بدقائق أحكام التكفير هذه.
4. أن في هذا تهوينا لقواعد تعظيم التكفير وبيان خطره.
والجواب من خمسة وجوه:
1. أن الكاتب يتهم جمهور المسلمين بأنهم نفاه لما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله – صلى الله عليه وسلم –، وفي هذا الكلام جرأة وتهويل يخالف الواقع والحقيقة، فالمسلمون في عامتهم على الفطرة الموافقة للكتاب والسنة في إثبات صفات الله – تعالى – ولم ينكر ذلك إلا من تلوثت فطرته، وانحرف فكره، وفسد منهجه.
2. أن الكاتب ظن أنه يلزم من وصف المقالة بأنها كفر، أو إطلاق القول بأن من قال كذا فهو كافر ظن أنه يلزم من ذلك تكفير أعيان كل من قال بذلك، وهذا الظن مخالف لمنهج السلف الصالح الذين يفرقون بين القول والقائل، والفعل والفاعل، والتكفير بالوصف والتكفير بالشخص، فلا يلزم من كون المقالة كفرًا أن يكون قائلها كافرًا، فالتكفير له شروط وموانع فقد يمنع من التكفير جهل القائل، وتأوله، وكذا الخطأ، والإكراه، كما هو معلوم.
3. أن تكفير من أنكر ونفى صفات الله – تعالى – مشهور عن أئمة السلف كما قال نعيم بن حماد – شيخ البخاري " من جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر " فكيف يزعم الكاتب بأنه لا قائل بالتكفير في هذا المقام بهذا الإطلاق.
4. أما قوله بأنه لا علاقة للطالب بهذا السن بدقائق أحكام التكفير هذه، فيقال: إن الطالب في هذه المرحلة الثانوية، من المهم أن يعلم خطر إنكار صفات الله – تعالى – وما يؤدي إليه، ثم إن هذه المسألة ليست من دقائق أحكام التكفير، بل هي من أظهرها، فهي متعلقة بأوصاف الخالق – سبحانه وتعالى – الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
5. أما زعمه بأن فيها تهويناً لقواعد تعظيم التكفير فليس الأمر كذلك، فقواعد تعظيم التكفير باقية، ولكنها ليست ما نعة من تكفير من يستحق ذلك، ثم إن تقرير مثل هذه المسألة فيها تعظيم لنصوص الشرع في نفوس الطلاب، وتحذير عن الجرأة عليها بالتحريف لا سيما فيما يتعلق بصفات الله – تعالى–.
7- (ص4) ذكر الكاتب أن المقرر يعد التحريف كفرًا، ومع ذلك يجعل تأويلات الأشاعرة تحريفًا.
والجواب:
1. أن الكاتب لم يذكر مستنده من المقرر على أن كل تحريف كفر.
2. أن الكاتب ربط ما ادعاه بأن كل تحريف كفرًا بما ورد في المقرر من تسمية تأويلات الأشاعرة تحريفًا، والكاتب بهذا الأسلوب التلفيقي يريد أن يزرع في وعي القارئ بأن المقرر يُكَفّر الأشاعرة، وهذه النتيجة التي يريد الكاتب التوصل إليها لا تدل عليها عبارات المقرر، وإنما غاية ما فيه أن تأويلات الأشاعرة لنصوص الصفات من قبيل التحريف، وهذا حق ولا يلزم أن يكون كل تحريف كفرًا.
3. أن الكلام على تحريف الأشاعرة الذي ذكره الكاتب إنما جاء في حاشية المقرر ولم يكن في صلبه، ولذا لم تكن عبارة الحاشية محررة، حيث إنها جعلت تحريف "استوى" إلى معنى "استولى" من قبيل التحريف اللفظي، والصواب: أنها من قبيل التحريف المعنوي فهي تحريف في معاني الألفاظ وليس في اللفظ نفسه.
8- (ص5) انتقد الكاتب جعل إنكار شيء من أسماء الله – تعالى – أو مما دلت عليه من الصفات وتأويلها نوعًا من الإلحاد، وزعم أن في ذلك تصعيدًا للموقف الفقهي من المخالف دون انضباط، وهذا الانتقاد يثير تساؤلاً عن مراد الكاتب، فهل يريد أن يجعل المنكر لشيء من أسماء الله – تعالى – أو صفاته، المخالف لدلالة الكتاب والسنة كالمثبت لها الموافق للوحي؟ أم أنه لا يفهم من الإلحاد إلا إنكار وجود الله – تعالى –؟ ولم يعلم أن الإلحاد هو الميل عن الحق وهو درجات ولا يلزم أن يكون كل الحاد كفراً، ومثل ذلك استنكار الكاتب ما جاء في المقرر من أن " من رد شيئًا من نصوص الصفات أو استنكره بعد صحته فهو من الهالكين " مع أن هذا المعنى مستنبط من أثر ابن عباس – رضي الله عنهما – المذكور في الباب نفسه وهو قوله" ويهلكون عند متشابهة " وربما أن الكاتب لا يعلم من الهلاك إلا الخروج من الملة دون قيد أو شرط .
9- (ص5) ذكر الكاتب أن المقرر يعرض بعض ممارسات المسلمين بمبالغة وتهويل تنطلق بالخطأ إلى مستويات مشبعة بالتضليل، ثم أورد نصًا في إنكار بدعة المولد النبوي، ويلاحظ أنه حرّفه بحذف بعض الجمل التي توضح المراد، وسأذكر النص كما أورده الكاتب، ثم أبين بعض الجمل التي حذفها ليتضح المقصود.
فالنص الذي أورده الكاتب كما يلي:
" الاحتفال بمناسبة المولد النبوي وهو تشبه بالنصارى … فيحتفل جهلة المسلمين أو العلماء المضلون … ويحضر جموع كثيرة من دهماء الناس وعوامهم ولا يخلو من الشر كيات والمنكرات، وقد يكون فيها اختلاط الرجال والنساء مما يسبب الفتنة ويجر إلى الوقوع في الفواحش … وهو بدعة أحدثها البطالون وشهوة نفس اغتنى لها الأكالون ".
ويؤخذ على الكاتب في هذا ما يلي :
حذف بعد قوله، وهو تشبه بالنصارى – عبارة " في عمل ما يسمى بالاحتفال بمولد المسيح "، وهى مهمة تبين حقيقة المشابهة.
ذكر عبارة " ولا يخلو من الشركيات والمنكرات " وحذف ما جاء قبلها وبعدها وعبارة المقرر كما يلي:
" والغالب أن هذا الاحتفال – علاوة على كونه بدعة وتشبهًا بالنصارى – لا يخلو من الشركيات والمنكرات فإنشاد القصائد التي فيها الغلو في حق الرسول صلى الله عليه وسلم إلى درجة دعائه من دون الله والاستغاثة به … "
فالمقرر لم يطلق بأن الاحتفال لا يخلو من الشرك والمنكرات، بل قال: " الغالب"، وفرق بين هذا وما أوهمه تصرف الكاتب في عبارة المقرر.
كما أن المقرر ضرب أمثلة للشر كيات والمنكرات التي يغلب وجودها في هذا الاحتفال، ولكن الكاتب تغافل عنها، ولم يذكر منها إلا مسألة اختلاط الرجال بالنساء، وكأن في هذا إيحاءً بأن كثيرًا من الاحتفالات بهذه المناسبة لا يكون فيها اختلاط، وبهذا يتحقق له المقصود بوصف المقرر بالمبالغة والتهويل.
كما أن عبارة " وهي بدعة أحدثها البطالون" منقولة عن الفاكهاني وليست من صياغة تأليف المقرر كما يوهم نقل الكاتب.
10- (ص5) زعم الكاتب أن المقرر قدم قواعد للتعامل مع المبتدعين تتعارض مع القواعد الشرعية للتعامل مع المخالف، وضرب لذلك أمثلة منها " تحريم زيارة المبتدع ومجالسته "..
والجواب عن هذا من وجوه:
1. أن النصوص الشرعية دلت على البعد عن جليس السوء وعن القعود مع الذين يخوضون في آيات الله.. .
2. إن الآثار عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في التحذير من مجالسة أهل البدع والأهواء وهجرهم كثيرة معلومة.
3. إن النقل الذي ذكره الكاتب عن المقرر حذف منه أمرًا مهمًا جاء بعده وهو عبارة " إلا على وجه النصيحة له، والإنكار عليه؛ لأن مخالطته تؤثر على مخالطه شرًا " فإذا كانت الزيارة والمجالسة فيها مصلحة شرعية فلا ينهى عنها
4. إن توجه الكاتب للتهوين من ضرر المبتدع والترحيب بمجالسته يعود بالضرر على عامة المسلمين، فإذا لم ينفرا لناس من أهل بدعة التكفير مثلاً، ولم يحذروا من مجالستهم فقد يتأثروا بشبهاتهم وأهوائهم ويصيروا مثلهم.
11- (ص5) هاجم الكاتب رسالة فضيلة الشيخ/ بكر أبو زيد في " هجر المبتدع، " وزعم أنها تفتقر إلى الحد الأدنى من قواعد العدل، وأخلاق الاختلاف المقررة في الشريعة … إلى آخر ما ذكره عن الرسالة مما فيه حط من قدر علمائنا واتهام لهم في منهجهم في تناول القضايا، وإيماء بأن كتبهم لا ينبغي أن تكون أساساً يربى عليها صغار الطلاب.
12- (ص5-6) ذكر الكاتب أن المقرر أشار إلى بعض التفسيرات العدوانية للسلوك المخالف، وذلك كافتراض التواطؤ في علاقة المخالف بالمستعمر.
والجواب: إن على الكاتب أن يقرأ التاريخ ليعرف مدى علاقة بعض أهل البدع الباطنية وبعض الصوفية بل وبعض النزعات التكفيرية بالمعتدين على بلاد الإسلام من أهل الكفر.
فهل يريد من المقرر أن يزرع في وجدان الطالب حسن الظن بالعملاء لأهل الكفر ممن لاغيرة عندهم على دينهم، ولا اهتمام لديهم بمصلحة وطنهم، في مقابل مصالحهم الشخصية وطموحاتهم الذاتية، وإن تلبسوا بلباس التدين أو نادوا بالإصلاح و ادعوا الصلاح.
13- (ص6) استنكر الكاتب ما عرضه المقرر من مواقف لبعض الصحابة رضي الله عنه ومن تبعهم من رؤوس أهل البدع، ووصف ذلك بأنه تعامل عنيف مع المخالف، قد يؤدي إلى انهيار حرمة الدماء والنفوس في وجدان الشباب.
والجواب من وجوه:
1. إن ما ذكره المقرر إنما هو مواقف لسلفنا الصالح من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم ممن هم قدوة لنا وأعلم منا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومصلحة الإسلام.
2. إن مواقف التأديب للمبتدعة المذكورة في المقرر صدرت ممن لهم ولاية فلا يرد انهيار حرمة الدماء والنفوس في وجدان الشباب.
3. هل يرى الكاتب أن ما فعله الصحابة رضي الله عنه والتابعون لهم بإحسان فيه إهدار لحرمة النفوس بغير حق، وهل يرى المصلحة في تحبيب أهل البدع للنفوس، وإيجاد الأعذار لهم أم في التحذير من سلوك طريقهم وبيان حقيقة أمرهم في الدنيا والآخرة
14- (ص6-7) انتقد الكاتب ما ذكره المقرر من وسائل لحفظ الدين. ورأى أن حماية الدين الأساسية تقوم على البرهان وجلال الله – تعالى – والفطرة والقسط والشورى والرحمة، وأرى أنه لا تناقض بين الأمرين فما ذكر في المقرر إنما جاء على سبيل التمثيل وبما يناسب المقام وما ذكر الكاتب حق ولكل مقام مقال.
15- (ص7) استنكر الكاتب مبدأ البغض في الله للعصاة ومعاداتهم، ورأى وجوب نشر المحبة والمودة بدل البغض، ولم يدرك الكاتب بأن العاصي من أهل التوحيد يجتمع في حقه الحب والبغض، فيحب من وجه ويبغض من وجه، ولا يمكن أن يتساوى من كل وجه المطيع والعاصي والصادق والكاذب، والأمين والخائن كما أنه لا تناقض بين ملاطفة العاصي وأدب الحديث معه ومعاداته، وقد يكون لكل حالة ما يناسبها من المعاملة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بهجر ثلاثة من أصحابه، وغضب في مواقف على من خالف أمره، وهكذا الصحابة رضي الله عنه ولا يصلح أن يجعل أسلوب واحد يعامل به جميع العصاة والمخالفين بحيث لا يشعر أي واحد منهم مثلاً ببغضنا لما صدر منه، كما لا يصح أن يكون بغضنا له سببًا في عدم تألفه ورعاية حقه، ووجود المحبة له.
16- (ص7) ذكر الكاتب نقولاً عن المقرر في ذكر بعض الشركيات الواقعة في بعض بلاد العالم الإسلامي، وزعم أن فيها مجازفة برسم صورة تكفيرية شمولية عن العالم الإسلامي.
والجواب:
1. إن النقول المذكورة لم تعمم الحكم والوصف على جميع العالم الإسلامي، بل نص عبارات المقرر : " أن كثيراً من الناس " كثير من هذه الأمة " جهلة المسلمين "، ويظهر من هذه العبارات الاحتياط في الوصف وعدم تعميمه.
2. أن ما ذكر شرك ظاهر، فهل ينازع الكاتب في أن التقرب للأموات بالدعاء والاستغاثة والذبيح والنذر شرك أكبر، وأن البناء على القبور والغلو في الصالحين من وسائل الشرك ؟
17- (ص8) زعم الكاتب أن المقرر يلقي عبارات إهدار الدماء، واستباحة الممتلكات بشكل فوضوي غير منظم المعنى والمعايير، ويستدل على ذلك بما جاء في المقرر من أن" الشرك الأكبر يبيح الدم والمال " " والمشرك حلال الدم والمال".
والجواب:
إن الكاتب لم يتصور الفرق بين إهدار دم المشرك وماله من جهة، وقتله وأخذ ماله فعلاً من جهة أخرى، فالأول حكم له شروطه وموانعه، بينها المقرر نفسه، والثاني تنفيذ الحكم بعد استيفاء شروطه وانتقاء موانعه وهذا خاص بمن له ولاية .
وقد جاء في المقرر نفسه خطورة تكفير المسلم، والفرق بين التكفير بالعموم والأوصاف وتكفير الأشخاص المعينين، والذي ضبط بشروط، وذكر له موانع دلت عليها النصوص الشرعية.
18- (ص8) زعم الكاتب أن المنهج قرر إهدار دم المتهم بالشرك، واستباحة ماله ولو كان جاهلاً، واستشهد على ذلك بما جاء في المقرر من أن الذي يقول: لا إله إلا الله ولا يترك عبادة الموتى، والتعلق بالأضرحة لا يحرم ماله ولا دمه.
والجواب : إن الكاتب افتات على المنهج، فالمنهج صرح بعذر الجهل، ومما جاء فيه بهذا الخصوص:
" من كان حديث عهد بالإسلام، أو من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، أنكر شيئًا مما هو معلوم من الدين بالضرورة كالصلاة أو تحريم شرب الخمر، وكذا من نشأ في بلاد يكثر فيها الشرك ولا يوجد من ينكر عليهم ما يقعون فيه من الشرك فلا يكفر إلا بعد أن تقام عليهم الحجة " وذكر بعد ذلك نقلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد بن عبدالوهاب، جاء ذكره في مقرر التوحيد للصف الثالث ثانوي (ص 28).
19- (ص8) يرى الكاتب أن المقرر جازف بأحكام كبيرة تفتقر إلى الدقة الفقهية والتناسب مع مستوى الطالب حينما نقل عن ابن القيم – رحمه الله – تقرير شريعة إباحة دم المشرك وماله، واسترقاقه كما قال رسول الله: صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله.. " الحديث المشهور. فهل يرى الكاتب أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله وما سار عليه المسلمون من مقاتلة المشركين خطأ أو على الأقل لا يناسب تقريره للطالب لما في ذلك من التحريض الذي يخالف المهمة المنتظرة ؟!
20- (ص8) انتقد الكاتب ما وصفه بتعبئة الطالب ضد الاتجاهات الفكرية المعاصرة كالقومية، ونقل عبارات من المنهج في ذلك، والحق أن الدعوة إلى القومية مخالفة لهدي الإسلام الذي جعل مدار الاتحاد والتآخي على الدين لا على القومية، فمن استبدل الوحدة الإسلامية بالوحدة العربية والدعوة إلى قوميتها بغض النظر عن دين صاحبها فقد خالف منهج الإسلام في ذلك، حيث أخرج المسلمين غير العرب من دعوته ووحدته، وقرب كفار العرب وجعلهم من عصبة وحدته. فما الضير في انتقاد هذه الدعوة التي تحييي النعرات والتحزبات الجاهلية، وتهمش الوحدة الإسلامية، ثم إن فيها دعوة إلى تسهيل الكفر في عدم وصف الكافر بما يستحق من الوصف المنفر عن فعلته. نعم ربما تحتاج عبارات المقرر إلى تفريق بين أنواع الدعوات القومية المختلفة من حيث عمق ضلالاتها وانحرافها.
21- (ص9) انتقد الكاتب تحذير المقرر من الرأسمالية ووصفها بالكفر باعتبار أن المبشرين بالنظرية تختلف انتماءاتهم الدينية.
والجواب:
إن المنهج ذكر مسوغ وصفها بالكفر، وأن سببه اشتمال نظامها على ما حرم الله، كالربا مثلاً، ومن المعلوم بأن استباحة ما حرم الله كفر بغض النظر عن دين مستحله أو قناعته وفلسفته.
22- (ص9-10) يعتقد الكاتب أن المقرر بالغ في تكفير المنتمين إلى المذاهب الإلحادية كالشيوعية والعلمانية والرأسمالية، وجازف في ذلك مجازفة تخرجه عن الموضوعية والدقة، وأن هذا الكلام يهز التقعيد النظري الذي قدم للطالب عن خطر التكفير وقيمة العدل في الموقف من المخالف " والظاهر من كلام الكاتب أنه فهم من التقعيد لخطر التكفير والعدل في الموقف من المخالف أنه لا يكفر أحد ولو جاء بما يكفر به، وأن تكفير من كفره الله ورسوله مناف للعدل، وكأنه يرى أن مقتضى العدل مع المخالف ألا تكفره مهما صدر منه، وهذه مجازفة تخالف الكتاب والسنة.
23- (ص10) ظن الكاتب أن ما جاء في المقرر من معادات المشرك شركاً أكبر يتناقض مع المحبة الطبيعية ومبدأ الإحسان للعالم كما قررته النصوص الشرعية، والحق أن هذا الظن جهل بمدلول النصوص الشرعية ومنهج السلف الصالح، فالمشرك عدو لله لا يحبه الله – تعالى– فتجب معاداته، وتحرم مودته، ولا يمنع ذلك من الإحسان إليه وبره وإمكان نشوء محبة طبيعية معه كمحبة الزوجة والولد والوالد، بل ولا يتعارض مع وجوب العدل معه وتحريم ظلمه وبخسه حقه، فلا منافاة بين الأمرين، والمقرر إنما نفى المحبة الإيمانية والموالاة الإسلامية.
24- (24 - ص10) انتقد الكاتب ما قرره المنهج من العزة على الكافرين والغلظة والشدة والترفع عليهم، ويرى أن ذلك خاص بالمعتدين، وأما غيرهم فإنما يؤمر باللين والإحسان والقسط معهم.
والجواب: – كما سبق – أنه لا منافاة بين الأمرين، فقد قال الله – تعالى – " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم " كما أمر بالإحسان لغير المعتدين وبرهم والإقساط، إليهم فلكل مقام وحال ما يناسبها؛ من الغلظة والشدة أو اللين والإحسان، أما الرفعة والعزة فلا تنافي اللين والإحسان: فالمسلم عزيز بما يحمله من الإسلام والإسلام يعلو ولا يعلى عليه كما قال الله – تعالى–: " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون "، وقال – تعالى– في وصف أهل الإيمان: " أعزة على الكافرين ".
25- (ص11-12) خلص الكاتب إلى أن المقرر لم يعرف أصول الاختلاف وقواعد التعامل مع المخالفين، وذكر تحت ذلك ستة أصول اتسم بعضها بالعمومية والإطلاقات غير المنضبطة، ومن ذلك:
1. أن الكاتب قرر بأسلوب ملبس أن رسل الله – تعالى– لم يفصلوا للناس الشرائع، وإنما ذكروا بعض التفاصيل الثانوية، واستدل على ذلك بما لا دلالة فيه، وبما مفهومه لا يوافق ما استشهد به لأجله كما في الآيتين اللتين ذكرهما مما يتعارض مع ما قرره المفسرون في معناهما.
ثم كيف يزعم الكاتب أن الشرائع لم تبين إلا القواعد العامة التي يحتاجها الناس في حياتهم، وبعض التفاصيل الثانوية، وقد قال – تعالى– " وكل شيء فصلناه تفصيلاً " وقال: "ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء، " بل لقد قال أحد اليهود لسلمان الفارسي – رضي الله عنه –:" قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة ! فقال: أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول " رواه مسلم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فكل ما يحتاج الناس إليه في دينهم فقد بينه الله ورسوله بيانًا شافيًا، فكيف بأصول التوحيد والإيمان " (مجموع الفتاوي 17/43) .
2. زعم الكاتب أن من حكمة الله – تعالى– أن تبقى مفاوز ظنية محتملة يذهب الناس في تفسيرها كل مذهب.
والعجيب أن هذا نفس كلام أهل البدع الذين يزعمون أن من حكمة إنزال المتشابه أن يجد أصحاب كل مذهب فيه ما يوافقهم، ومن ذلك ما قاله الرازي في أساس التقديس (ص 248) قال: " لو كان القرآن كله محكمًا لما كان مطابقًا إلا لمذهب واحد فكان على هذا التقدير تصريحه مبطلاً لكل ما سوى هذا المذهب، وذلك ينفر أرباب المذاهب عن قبوله وعن النظر فيه... ".
فياسبحان الله كيف تكون الحكمة في عدم هداية الناس إلى القول الحق، وإنما في التلبيس والتعمية عليهم بعمومات محتملة تثير النزاعات والخلافات بينهم !
والحق أنما يفتتن بالمتشابه ويتبعه أصحاب القلوب المريضة كما قال الله – تعالى –:" فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله".
وأما أهل الرسوخ في العلم فيردون المحكم إلى المتشابه ويؤمنون به.
3. ذكر الكاتب أن من الأصول التي أهملها المقرر: تعميق الإيمان بالتعددية، بما يعني الإقرار في الاختلاف، فهل الكاتب يرى أن الإسلام يقر كل تعدد في الدين والرأي مطلقاً دون قيد أو شرط؟ وكيف يفهم ذلك في ضوء النصوص الشرعية كقوله – تعالى–: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله "، وقوله صلى الله عليه وسلم :"أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وإني رسول الله " الحديث، وقوله: " من بدل دينه فاقتلوه ".
وهل يرى الكاتب أن لكل أحد أن يقول ما يشاء ويعتقد ما يريد من الكفر والإلحاد، ويفعل ما يختار وأن يُقَر على ذلك ولو كان فيه ما فيه باعتبار أنه وحده المسؤول عن حرية الاختيار ؟ !
وهل هذا المنهج إلا تهيئة للطالب لتقبل كل فكر منحرف، وعذر صاحبه، ومعلوم ما يحدثه هذا التوجه من شروح في بنية المجتمع الواحد، وزرع للاختلافات، وسماح لشذوذ الأفكار.
4. ما ذكره الكاتب بقوله: " نبذ الزهو المذهبي " لم يفصح بمراده ولم يذكر أمثلة واقعية له؛ فإن كان يرى أن تقرير عقيدة التوحيد في ضوء الكتاب والسنة والدعوة إليها والتحذير مما خالفها، من التوجهات البدعية والشركية إن كان يعتقد أن ذلك زهواً وغرواً مذموماً فهذه مصيبة، وفي ذلك تمييع لقطعيات الدين وقول بنسبية الحق والمعرفة.
والغريب من الكاتب أن يجعل الاعتداد بالحق والدين الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – ونبذ ما خالفه مشابهاً لاعتداد اليهود والنصارى بأديانهم – كما هو مفهوم كلاًمه–.
5. ما ذكره الكاتب من تكريس قيم التعايش فيه عمومية لم يحدد مقصوده منها، ولم يبين وجه إخلال المنهج بها!
6. ما ذكره من عدم بخس المخالف.. كلام حق وجميل، ولكن هل هذا الأصل غائب في المنهج؟
7. ما ذكره من مراعاة الوسع حق، ولكن ظاهر كلامه فيه خلط بين مراعاة الوسع وبيان الحق والرد على الانحراف، فكون الشخص يبذل وسعه، ويتوصل إلى نتيجة خاطئة ليس بعذر له في نشر باطله وسكوت غيره عن الرد عليه.
26 - (ص13-14) زعم الكاتب أن المقرر بالغ في تصوير الانحراف الواقع في العالم الإسلامي، وذلك بإشارته إلى كثرة البدع والأهواء، ووقوع الشركيات لدى كثير من المسلمين.
والجواب من وجوه:
1. إن ما ذكره المقرر حق فكثير من بلاد الإسلام وقع فيها ذلك.
2. إن هذا مصداق ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: " وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار الا واحدة " قالوا: من هي يا رسول الله قال:" من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي "، وفي رواية "هي الجماعة " رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد والحاكم وصححه ووافق الذهبي.
3. إن المنهج لم يعمم الحكم والوصف على كل المسلمين، بل ذكر أن كثيرًا منهم يحصل منهم انحرافات، وهذا واقع.
4. إن تصوير الواقع كما هو، وذكر المنهج الصحيح للتعامل معه أولى من المخادعة وتصوير العالم الإسلامي بغير حقيقته، أو الزعم بأن واقعة يمثل الإسلام الصحيح.
انتقد الكاتب عبارة المقرر بأنه " أصبحت مناهج التعليم في الغالب لا تولي جانب الدين اهتمامًا كبيرًا أو لا تهتم به أصلاً " وجعل ذلك تهويلاً ضد المؤسسات الاجتماعية.
والجواب:
إن هذا الكلام جاء في سياق ذكر أسباب الانحراف عن العقيدة فهو يتكلم كلامًا عامًا، لا يقصد بلدًا بعينه، ولذا قال: في الغالب، وهذا الكلام حق، فإن الناظر في مناهج التعليـم في كثـير من بلاد الإسلام يجد تهميشًا لتعليم أمور الدين والعقيدة الصحيحة، بل لا تكاد تجد بلداً يولي اهتماماً بتعليم أمور الدين والعقيدة الصحيحة خاصة في مناهجه كما في المملكة العربية السعودية؛ لأن الدين الإسلامي وهو أساسها ومنهج حكمها، ولذا كثر الشغب والهجوم على مناهجها من أعدائها ومن بعض أبنائها العاقين لها ولمنهجها.
27 – (ص14) انتقد الكاتب ما ذكر في المقرر من سبل توقي الانحراف في العقيدة بالعناية بتدريس العقيدة الصحيحة وإعطائها الحصص الكافية من المنهج ويرى أن في ذلك إجحافًا بارزًا.
والجواب:
أن هذا الكلام ذُكر في المقرر في سياق بيان سبل توقي الانحراف عن العقيدة عمومًا فهو لا يتحدث عن بلد بعينه.
والناظر في واقع كثير من بلاد الإسلام يجد إجحافًا في تدريس العقيدة حال وجوده.
ثم نتساءل: هل الاهتمام والعناية بتدريس العقيدة الصحيحة يعد إجحافًا بالبرنامج التعليمي ؟ وهل يضبط الانتفاع بالعلوم وينضبط توجه المتعلم وإخلاصه لوطنه إلا بالعقيدة الصحيحة ؟ !
28 – (ص14) صادر الكاتب مفهوم عبارة المقرر في بيان انحراف وسائل الإعلام، وحملها ما لا تحتمل، ونص العبارة " أصبحت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة في الغالب أداة تدمير وانحراف، أو تعنى بأشياء مادية أو ترفيهية، ولا تهتم بما يقوم الأخلاق ويزرع العقيدة الصحيحة، ويقاوم التيارات المنحرفة ".
وقد زعم الكاتب أن العبارة تجعل وسائل الإعلام منسلخة عن العقيدة منحلة الأخلاق.. وهذا التعميم من الكاتب باطل لا تدل عليه عبارة المقرر لأنه جاء فيها" في الغالب" ولم تجعل الحكم على الجميع كما زعم الكاتب، وذكرت أن وسائل الإعلام لا تهتم بما يقوم الأخلاق ويزرع العقيدة الصحيحة ولم تقل إنها منسلخة عن العقيدة منحلة الأخلاق.
29 – (ص15) انتقد الكاتب تحذير المقرر الطلاب من تصديق ما تبثه الإذاعات الأجنبية ووكالات الأنباء الحاقدة... ولا أدري ما العيب في هذا التحذير الذي هو بمثابة التحصين للطلاب ضد سلبيات الإعلام، وكأن الكاتب يريد أن يزج بالطالب في كل واد وأن يشتت ذهنه ويمزق سلوكه، ويشككه في ثوابته، ويوغر صدره على بلده باستماعه كل ما يبث عبر تلك الوسائل الأجنبية الحاقدة والمشبوهة، وكأنه يفترض في الطالب أن لديه القدرة على كشف ألاعيب وخداع وشبهات الحاقدين والمتربصين.
30 – (ص15) نقل الكاتب عن المقرر عبارة محرفة في كفر من حكم بغير ما أنزل الله حكمًا عامًا في دين المسلمين، وزعم أن في ذلك تقديم قواعد خطرة للطالب في تكفير الأنظمة والحكومات معزولة عن ضوابط التطبيق، والجواب:
1. إن عبارة الكتاب ليس فيها ذكر للأنظمة ولا الحكومات.
2. إن الحكم المنقول فيمن بدل شرع الله اعتمد في المقرر على فتاوى الشيخ/ محمد بن إبراهيم (مفتي الديار السعودية في وقته).
3. إن المقرر قدم قبل هذا ذكر ضوابط التكفير وخطره وشروطه وموانعه، فالمحذور المذكور منتفٍ.
4. إن هناك فرقًا بين الفعل والفاعل، فلا يلزم من جعل الفعل كفرًا تكفير كل من فعله كما هو معلوم من مذهب أهل السنة والجماعة.
كما أن الكاتب انتقد غمز المقرر لمن لا يتحاكمون إلى شرع الله إلا في الأحوال الشخصية فقط، ورأي وجوب وصفهم بالإسلام.
كما رأى أن التنبيه على هذه الثغرة خطير لما ينتجه من التأثير على نفسية الطالب واعتزاله،. وهنا يتبين اضطراب الكاتب وتناقض وجهته، فحيناً نراه يدعو للانفتاح وجعل الطالب يسمع كل ما يقال وينشر ويعرض، وفى حينٍ آخر يدعو إلى إغفال الحديث عن الواقع وتناسيه وتعمية الأحكام على الطالب.
31- (ص16) انتقد الكاتب ما اشتمل عليه المقرر من التخويف من الشرك والنفاق، والتحذير من الردة والبدعة، ورأى أن هذه التهويلات والمبالغات تمزق السكن النفسي للفرد، وتطوق أنفاس الإنسان وحركاته وسكناته، وأوهم أن المقرر صور تلك الأمور" الشرك، والنفاق، والبدعة، والردة " كقوة خارقة لا يمكن مقاومتها.
والجواب من وجوه:
1. إن الخوف من الشرك والنفاق أمر تعضده النصوص الشرعية والآثار السلفية، فقد قال الله – تعالى– عن نبيه إبراهيم عليه السلام:" واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرًا من الناس" قال: إبراهيم التيمي: "ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم" فمن ذا الذي يدعي العصمة من الوقوع في الشرك، وكيف لا يخاف وهو محبط للأعمال وموجب للخلود في النيران. وقال ابن أبي مليكة: " أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه "
2. إن المقرر لم يجعل تلك الأمور مما لا يمكن مقاومته، بل هذه دعوى ومصادرة لمفردات المنهج المتكاثرة في بيان أسباب توقي هذه الأمور.
3. إن الواجب التحذير والتخويف من الوقوع في كل ما يضر بالدين، كما أنا نحذر من كل ما يضر بالصحة والمجتمع ووحدة الصف وأمن الوطن ونحو ذلك، وليس في هذا التحذير تمزيق للسكن النفسي، بل فيه دفعة للمشاركة وتقوية للشعور بالانتماء.
4. إن مفهوم كلام الكاتب أن الواجب إشعار الطالب بخطر تلك الأمور دون تخويفه من الوقوع فيها، وتحذيره من قربها، وبمعنى آخر إفهام الطالب بخطرها وتطمينه من الوقوع فيها، فعلى هذه الرؤية ينبغي الاقتصار على إشعار الطالب بخطر المخدرات مثلاً دون تحذيره من أسبابها، ولا تخويفه من مضارها، ولا تنبيهه على عدم الانخداع بأصحابها، بل يشعر بأنها خطر وأنه في مأمن من الوقوع فيها، وهكذا في كل أمر مماثل.
5. إنه يجب على المسلم ألا يركن إلى علمه ولا يثق بفهمه أو يستغني عن ربه، بل عليه أن يكون دائم الصلة بربه مستشعرًا فقره إليه، طالبًا العون منه على الثبات على الحق وتجنب الشرك وأسبابه.
6. إن انتقاد الكاتب لمنهج السلف الصالح في التحذير من الشرك، وأن الشخص قد يقع فيه وهو لا يشعر إن هذا الانتقاد مخالف لمقتضى النصوص الشرعية في التحذير من الشرك وبيان خطره، ومن ذلك قوله: " أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر"، قالوا: يا رسول الله وما الشرك الأصغر؟ قال: "الرياء " رواه أحمد وغيره، وفي حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: "أيها الناس اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل" فقال له من شاء الله أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يارسول الله ؟ قال: " قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئًا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم " رواه أحمد وغيره. وكيف لا يُخاف ولا يُخوف من الشرك، وقد قال الله – تعالى– فيه: " إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ".
ومعالجة الإرادات والنيات من أشد الأشياء فقد يكتب الشخص نقدًا أو يعرض مشروعًا أو يقول قولا أو ينفق مالاً يريد به المكانة والشهرة أو أي أمر دنيوي آخر، وإن كان ظاهر حاله أو يظن في نفسه الانتصار لدينه والحرص على وطنه – نسأل الله السلامة والعافية–، ولأن هذا الأمر يتعلق بالنية وهى مصاحبة للشخص في عامة أحواله جاء التركيز عليها، و الحث على تنقيتها.
7. يلحظ على الكاتب جرأة في نقد بعض مدلولات النصوص الشرعية، والإيهام بأن النقد موجه لمفاهيم المقرر التي هي في الحقيقة مستقاة من النص نفسه، كما يلحظ عليه نسفاً للآثار السلفية، وعدم اعتبار لمدلولها كما في غمزه لأثر ابن أبي مليكة، ولكلام ابن القيم في هذا المقام.
32- (ص18-19) عرض الكاتب لموقف المقرر من الحضارة، فاتهمه بالاضطراب والتناقض، ونقل عنه بعض النصوص في هذا الموضوع.
والناظر في هذه النصوص المنقولة يلحظ تناقض الكاتب نفسه، وعدم فهمه، ومصادرته للحقيقة.
فقد نقل عن المنهج حثه على تعلم الصناعات المفيدة واتخاذ القوة والانتفاع بما أباحه الله لنا من الزينة والاتجاه نحو البناء والتنمية.
ثم يصور اضطراب المنهج في هذه القضية حينما وجه بعدم استحقاق أهل النظرة المادية للحياة وصف العلم وإن كان لديهم خبرات وصناعات.
والجواب:
1. إن المنهج أشاد بالأخذ بما هو نافع من الأمور الحياتية وما توصلت إليه الحضارات مما هو مفيد ونافع.
2. لا تناقض بين الإشادة بالأخذ بالنافع الدنيوي وذم من يكون همه هو الحياة الدنيا فقط مع الغفلة عن الآخرة.
3. إن المقرر لم يجعل العلماء الذين انحصر همهم وعلمهم في الصناعة والمخترعات الدنيوية جهالاً في فنهم ودنياهم، بل جعلهم جهالاً في أمور دينهم وهذا هو مدلول قوله– تعالى–:" وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون " فأثبت لهم العلم وعدم العلم، فهم علماء في الدنيا جهال بالآخرة، والعجيب أن الكاتب يأخذه الهوى في مصادرة مفهوم عبارة المقرر إلى أن يجعل مدلولها أن علماء الحضارة ثلة من الجهال هكذا بإطلاق موهم، وأن الذي يستحق وصف عالم هو العابد فقط.
فأين هذه العبارة وهذا المفهوم من المقرر، وإنما الذي جاء فيه عدم استحقاق أهل النظرة المادية وصف العالم بإطلاق، وأنه إنما يطلق هذا الوصف الشريف على أهل معرفة الله وخشيته، ولم يقل العابد، فالعالم هو من يخشى الله تعالى كما قال – سبحانه – : " إنما يخشى الله من عباده العلماء ".
وما ورد في الشرع من إطلاق مدح العلماء ورفع درجاتهم، وأنهم ورثة الأنبياء إنما يستحقه من هو أهل لذلك ولا يستحقه العلماء الماديون الغافلون عن الله والدار الآخرة، هذا هو مقصد المقرر كما يفهم من سياق كلامه وليس كما صوره الكاتب وأوهم بما نقله من بعض النص.
وما ذكره الكاتب من عدم التلازم بين قضية التقدم المدني في الحضارة المعاصرة وقضية الإيمان هو مفهوم عبارة المقرر.
33- (ص20) في أول (ص 20) نقل الكاتب نصًا حذف منه ما يرد عليه مأخذه، إذ إن المحذوف من النص فيه اعتراف بما عند الدول الكافرة من تقدم صناعي، وحث على تقليدهم في النافع من ذلك، وفي الجد وإعداد القوة، كما أن فيه تحذيرًا من تقليدهم في أخلاقهم وعاداتهم السيئة، كما أن الكاتب قطع نصًا آخر واقتصر منه على عبارة " والتي كثيرًا ما تقوده إلى الدمار كما هو مشاهد في المجتمعات الجاهلية ".
فأوهم الكاتب أن المقرر يجعل كل ما تقدمه الحضارة المادية المعاصرة يقود إلى الدمار، وسياق كلام المقرر في الواقع لا يدل على ذلك، وإنما فيه أن مقومات الحياة المادية كثيرًا ما تقود إلى الدمار إذا كان مجتمعها لا تسوده عقيدة صحيحة، وهذا حق واقع مشاهد لا ينكره إلا مكابر أو جاهل.
34- (ص20) جعل الكاتب إضمار العداوة للكفار وبغضهم من التحريض والاستعداء على المسالمين والحق أن ما قرر الكاتب جهل بنصوص الشرع فإنه لا تلازم بين البغض والاستعداء، فالمسلم يبغض الكافر؛ لأنه عدو لله محاد له، والله – تعالى– نهى عن تولي الكافر وموادته كما قال – تعالى–: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق " الآية، وقال – تعالى–:" لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله " الآية، والنصوص الشرعية في هذا المعنى كثيرة معلومة، فالكافر تجب معاداته، وفي المقابل لا يجوز الاعتداء عليه، ولا منافاة بين بغضه والإحسان إليه وتأليف قلبه وتحبيب الدين له.
فلا منافاة بين العداوة القلبية والمداراة والإحسان والتأليف والعدل.
35- (ص21-22) ما ذكره الكاتب من الوقائع في الاستفادة مما عند الآخرين من النافع المفيد لامشاحة فيه والمقرر لم ينفه، بل أكد عليه، ومن ذلك ما جاء في كتاب التوحيد للصف الأول ثانوي في موضوع تقليد الكفار قال: " تقليدهم في الأمور التي ليست من خصائصهم، بل هي أمور مشتركة كتعلم الصناعات المفيدة واتخاذ القوة والانتفاع بما أباحه الله لنا من الزينة التي أخرج لعباده والأكل من الطيبات من الرزق، فهذا لا يعد تقليداً بل هو من ديننا، والأصل أنه لنا وهم لنا فيه تبع".
36- (ص22) قرر الكاتب جواز النقل عن الثقافة الدينية اليهودية مستدلاً بحديث " حدثوا عني بني إسرائيل ولا حرج " وقول أبي هريرة رضي الله عنه " كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ".
ويلاحظ بأن الكاتب اتخذ منهج الانتقائية للنصوص الشرعية وتجزئتها بما يخدم غرضه ورؤيته.
فالحديث المذكور ليس فيه ما يدل على جواز النقل عن الثقافة الدينية اليهودية بل مدلوله في إباحة التحديث عنهم بما لا يتعارض مع ديننا وشريعتنا، فالمنقول عن بني إسرائيل إما أن يأتي في شريعتنا ما يؤيده فيصدق وإما أن يأتي ما يعارضه فيكذب، وإما ألا يرد هذا ولا ذاك فلا يصدق ولا يكذب ويبقى الخبر في هذه الحالة معلقًا محتملاً، وهذا ما يفيده ما حذفه الكاتب من بقية أثر أبي هريرة رضي الله عنه ، فقد جاء في تكملته : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: آمنا بالله وما أنزل " الآية.
فحذف الكاتب بقية رواية أبي هريرة المبينة للحقيقة المخالفة لما يهدف إليه.
وإباحة التحديث عنهم فيما لا يعارض شرعنا إنما هو في ذكر القصص والأخبار، أما العقائد والأحكام فلا يجوز أخذ شيء منها لا من التوراة ولا من الإنجيل؛ لأنها محرفة منسوخة، وقد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى في يد عمر رضي الله عنه صحيفة من التوراة.
فكيف يقرر الكاتب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أزال عن الصحابة رضي الله عنه هذه الحواجز في التردد في النقل عن الثقافة اليهودية.
37- ص22-23 لا حظ الكاتب وجود موضوعات في مقرر التوحيد والفقه كرر الكلام عنها في مقرر الحديث وهذه ناحية لا حاجة لإطالة الكلام فيها، وإن كان من المعلوم أنه ليس كل تكرار مذمومًا، وأن التناول للقضايا في مقرر الحديث يختلف هدفه عنه في مقرر الفقه أو التوحيد كما هو معلوم عند أهل الاختصاص.
38- (ص23-24) عاب الكاتب على المنهج تزهيده في الدنيا واحتقار مظاهرها وعدم الانبهار بمعطيات الحضارة المادية، وذكر أن سبب هذا العيب في هذا التوجيه هو القلق على العقيدة.
والحق أن مسألة التزهيد في الدنيا وعدم الاغترار بها والركون إليها أمر تواترت بتقريره النصوص الشرعية مما لا حاجة للإطالة بذكره.
وما نقله الكاتب عن المقرر من أن الانبهار بمعطيات الحضارة المدنية سبب في الانحراف العقدي قد حذف منه أوله المبين للمقصود، والذي جاء في المقرر:
" الغفلة عن تدبر آيات الله الكونية وآيات الله القرآنية، والانبهار بمعطيات الحضارة المادية.... " الخ.
فعبارة المقرر ظاهرة في أن الغفلة عن الآيات المقرونة بالانبهار بالحضارة المادية ونسبة ما تم التوصل إليه إلى الجد البشري وحده، ونسيان عظمة الخالق – سبحانه– الذي دلهم وعلمهم وأقدرهم هذا من أسباب الانحراف عن العقيدة.
ويلحظ أن هذا الكلام المذكور في المقرر في تسعة أسطر اجتزأ الكاتب قليلاً منه وذكره بعيدًا عن سياقه، لينتج مراده من التشنيع على المقرر باختزاله الانحراف عن العقيدة بالانبهار بالحضارة المادية.
39- (ص25) زعم الكاتب أن المقرر يُحمٍّل العبارات الدلالات الكفرية دون نظر في قصد قائلها، مثل ما ورد في المقرر من قول " الدين ليس في الشعر"، وقول: " جاءكم أهل الدين، للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والاستهزاء بالقائمين على أعمال البر"، والحق أن المقرر لم يهمل قصد قائلها، بل ذكر هذه العبارات في سياق من يقولها استهزاء بالدين وأهله وشعائره كما دلت عليه آية سورة التوبة " قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ".
فإيراد الكاتب لهذه الأمثلة على عدم اعتبار المقاصد مصادرة للسياق ومغالطة للمضمون.
40- (ص26) يفترض الكاتب فهمًا خاطئاً للعبارات التي نقلها عن المقرر، مثل زعمه تجاهل المقرر عذر المخطئ في عبارة " الناس قد يقعون في الشرك وهم لا يدرون"، وعبارة "الشرك قد يتسرب إلى الإنسان من حيث لا يشعر"
والجواب:
أن هذا الفهم لهذه العبارات غير صحيح، فليس فيها عدم عذر المخطئ، وإنما فيها احتمال وقوع الشرك من الشخص وهو لا يدري أو لا يشعر، وذلك راجع إلى خفاء الشرك في بعض الأمور أو جهل الإنسان وعدم احترازه، وهذا هو مفهوم النصوص الشرعية كما سبق في النصوص التي وصفت الشرك بأنه أخفى من دبيب النمل وإرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قول: " اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئًا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلم".
41- (ص26) انتقد الكاتب ما جاء في المقرر من العذر ببعض حالات الجهل دون بعض، فهو يرى أن الجاهل معذور مطلقًا دون تفصيل.
ولعل الكاتب لم يطلع على أقوال العلماء في هذه المسألة، وأن هناك أمورًا لا يتصور فيها الجهل، وذلك كتنقص الرب – تعالى– بالسب مثلاً فلا يعذر صاحبه بحجة جهله بأن تنقص الرب مخرج من الدين كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في (الصارم المسلول).
42- ( ص26) زعم الكاتب أن عبارة المقرر توحي بإطلاق الكفر على الجاهل ونقل عن المقرر من العبارات قوله: " إن ما ينذره جهلة المسلمين من نذور للأولياء والصالحين من أموات المسلمين كأن يقول: يا سيد فلان إن رزقني الله كذا أجعل لك كذا، فهو شرك أكبر"، وقوله: " الناس قد يقعون في ألوان من الشرك وهم يجهلون ".
والحق أن هذه العبارات ليس فيها ما يوحي بإطلاق الكفر على الجاهل، وإنما فيها إطلاق وصف الشرك على الفعل لا على الفاعل، ومن المعلوم أن هناك فرقًا بين الفعل والفاعل، فالفعل قد يكون شركًا وفاعله لا يكفر إلا عند توافر الشروط وانتقاء الموانع، وقد جاء في مقرر التوحيد للصف الثالث ثانوي بيان خطر التكفير، وأنه لا يحكم على الشخص إلا بعد قيام الحجة عليه.
وكذا يرد على الكاتب زعمه (ص 26) أن المقرر تجاهل عذر المتأول وأوحت عباراته بإطلاق الكفر على كثير من المذاهب المخالفة، كما في الموقف من الصفات الإلهية والصحابة فيرد عليه بما سبق من ذكر عذر الجاهل؛ لأن المتأول في حكم الجاهل، وفرق بين وصف الفعل بأنه كفر والحكم على الشخص الفاعل أو القائل بأنه كافر، ثم إن المقرر نص على العذر بالتأويل كما في مقرر التوحيد للصف الثالث ثانوي.
43- (ص26) انتقد الكاتب عدم عذر الخائف الوارد في عبارة الشيخ محمد بن عبدالوهاب والتي قال فيها بعد ذكر نواقض الإسلام العشرة: " ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره ".
والجواب:
إن الخائف غير معذور في إظهار الكفر، وإنما يعذر في إخفاء إيمانه، وهناك فرق بين الخائف والمكره – كما نص عليه الشيخ – فالمكره له أن يظهر الكفر، وأما الخائف بلا إكراه فليس له أن يظهر الكفر بمجرد الخوف، والفرق بين الأمرين ظاهر، وعلى هذا فالعبارة ليس فيها إلغاء لعذر الخوف مطلقًا، فالخائف يعذر في جانب دون جانب – كما دلت عليه النصوص الشرعية–.
44- (ص26) ذكر الكاتب من نماذج اضطراب المنهج ما قرره عن ممارسة الأنشطة الأسبوعية كأسبوع الشجرة والمرور، حيث يجعلها فسقًا ومعصية، والمشارك فيها آثم؛ لأنها تقليد للكفار ثم نقل النص من المقرر، وهو: " تخصيص بعض الأيام والأسابيع للنشاط في بعض الأعمال واتخاذ الأيام الوطنية والقومية، وهذا محرم وفسق "، ثم قسم الكاتب الأنشطة التي يمارسها غير المسلمين إلى نوعين:
• إما أن تكون شعائر دينية وممارسات تختص بهم، فهذا لا يجوز للمسلم ممارسته.
• والثاني أنشطة اجتماعية يتخذونها بشكل مدني لتدبير شؤونهم العامة، وهذه أجازها الكاتب بثلاثة شروط:
1. تحقيق المصلحة.
2. الخلو من الموانع الشرعية.
3. انتفاء قصد التشبه.
والجواب:
1. إن المنهج لم يمثل بأسبوع الشجرة وأسبوع المرور– كما زعم الكاتب–.
2. أن الكاتب حذف أول عبارة المقرر التي تبين المقصود، وهى قوله:" تقليدهم فيما ابتدعوه في دينهم من الأعياد الباطلة والمناسبات كأعياد المولد، وتخصيص بعض الأيام والأسابيع..." الخ. فظاهر عبارة المقرر أن المحضور أيام وأسابيع دينية، وهو ما قرر الكاتب عدم جوازه للمسلم.
3. ذكر الكاتب من شروط جواز موافقة الكفار في الأنشطة المدنية خلوها من الموانع الشرعية وانتقاء قصد التشبه، وهذا حق.
فإذا لم توجد المخالفة الشرعية، ولم يقصد التشبه بهم في أمر فيه مصلحة فلا مانع من الأخذ به، بل قد يحث على ذلك كما قرره المنهج في القسم الثاني من أقسام تقليد الكفار.
وبهذا يظهر أن الكاتب ناقض نفسه، وزايد على المنهج بما ليس فيه.
45- (ص27-28) أكثر الكاتب من انتقاد المنهج في النهي عن نسبة النتائج إلى أسبابها، وجعل ذلك من الشرك الأصغر.
وانتقد في هذا السياق بعض العبارات الواردة عن السلف في ذلك مثل ما ورد عن مجاهد من التمثيل بقول الرجل: " هذا مالي ورثته عن آبائي "، وتمثيل بعض السلف بقول: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقاً، كما انتقد ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه من التمثيل بنحو قول الرجل: لولا الله وفلان، ولولا كليبة لأتانا اللصوص.
ويرى الكاتب أن المتلفظ بها إذا لم يقصد الشرك فلا تكون شركاً، وإنما تكون شركًا أكبر إذا قصد بها مساواة السبب بالله – تعالى–.
والجواب من وجوه:
1. إن الكاتب في عرضه لهذه المسألة لم يذكر الحالة التي يكون فيها مثل تلك الأقوال شركًا أصغر، وكأن الشرك عنده في هذه الحالات لا يكون إلا أكبر مخرجًا من الملة، وإن قائل مثل هذه العبارات إما أن يقصد مساواة السبب بالله فيكون مشركًا شركًا أكبر خارجاً من الملة، وإما ألا يقصد مساواة السبب بالله فلا يعد كلامه لاشركًا أكبر ولا أصغر، ولو كان ظاهر العبارة المساواة.
2. إن ما ذكره من عدم ضرر العبارة التي ظاهرها التشريك وعدم النهي عنها مخالف لما أثر عن السلف الصالح في هذا الباب، بل مخالف للأحاديث الصحيحة كما في حديث " لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان ". فالحق أنه ينهى عنها مطلقًا دون نظر في قصد صاحبها، وقصد صاحبها يصرفها إما للشرك الأكبر أو الأصغر، وكل ذلك منهي عنه.
3. إن ما استدل به الكاتب من الآيات التي ظاهرها التشريك والتسوية بين الخالق والمخلوق؛ كقوله – تعالى– : " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه، ونحوها قد أجاب عنها العلماء بما يلي:
أ - إن التكلم بعبارة التشريك كما في الآية لا يجوز إلا لله – تعالى–، فكما أنه – تعالى– يقسم بما شاء من مخلوقاته، ولا يجوز للمخلوقين أن يقسموا فكذلك هنا.
ب - إنه ورد النهي عن التشريك والتسوية بين الخالق والمخلوق في الفعل الواحد، " والآية أخبر الله تعالى بها عن فعلين متغايرين، فالله تعالى أنعم على زيد بالإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم أنعم عليه بالعتق، وهذا بخلاف المشاركة في الفعل الواحد، وكذا بقية الآيات المشابهة لذلك،( ينظر تيسير العزيز الحميد ).
4. إن قول: لولا فلان لم يحصل كذا " إن أراد به مجرد الخبر الصدق المطابق للواقع فلا بأس به، ومثله قول: " هذا مالي ورثته عن آبائي".
وإن أراد بمثل بذلك السببية فله ثلاث حالات:
أ- أن يكون السبب خفيًا أو لا تأثير له إطلاقًا كأن يقول: لولا وجود قبر الولي في المكان الفلاني لاحترقت القرية مثلاً، فهذا شرك أكبر.
ب- أن يكون السبب صحيحًا ثابتًا شرعا أو حسًا فهذا جائز نسبة الشيء إليه، بشرط: إلا يعتقد أن ذلك السبب مؤثر بنفسه أو ينسى أن الله – تعالى– هو المنعم حقًا كما قال – سبحانه وتعالى–:
" وما بكم من نعمة فمن الله "، ويدخل في هذا القسم ما مثل به الكاتب من قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمه: " ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ".
ج- أن يضيفه إلى سبب ظاهر لكن لم يثبت كونه سببًا لا شرعاً ولا حسًا، فهذا النوع من الشرك الأصغر، وذلك كتعليق التمائم، واعتقاد أنها سبب دفع العين؛ لأنه أثبت سببًا لم يجعله الله سببًا، فكان مشاركًا لله في إثبات الأسباب( ينظر في هذا التقسيم القول المفيد للشيخ ابن عثيمين)، فالكاتب يريد أن يجعل جميع العبارات الواردة في المنهج من القسم الثاني الجائز دون قيد أو شرط، وهذا لا يصح .
ثم إن المقرر لم يجعل هذه العبارات شركًا مطلقًا، بل قّيد وفصّل فقد جاء في كتاب التوحيد للصف الثالث المتوسط ما نصه:
" يغفل كثير من الناس فلا يذكرون إلا الأسباب وينسون خالقها ومسببها – سبحانه –، فيقولون مثلاً: لولا الطبيب أو المهندس أو السائق... الخ لحصل كذا من الضرر، وهذا لا يجوز إلا إذا كان يعتقد أنه مجرد سبب, وأن الأمر كله بيد الله وكان هـــذا السـبب صحيحًا، والطريقة الأفضل أن يقال: لولا الله ثم فلان.
فالمقرر لم يجعل مثل هذه العبارات شركًا مطلقًا كما زعمه الكاتب، بل جعل فيها تفصيلاً كما سبق، والعبارات الواردة في المقرر جاء النهي عنها إما باعتبار نسيان المنعم الحق والغفلة عنه، أو لاعتقاد أن السبب مؤثر بنفسه أو لنسبة شيء لشيء وليس سببه ظاهراً.
46- (ص28) ذكر الكاتب أن المقرر يعطي العبارات التلقائية والعفوية أبعادًا أفخم من حجمها الطبيعي، كما يجعل من أنواع الإلحاد إطلاق اسم المهندس الأعظم أو القوة المطلقة على الذات الإلهية.
والجواب من وجوه:
1. إن أسماء الله – تعالى– توقيفية، كما قال سبحانه " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون ".
2. بما أن أسماء الله – تعالى– توقيفية، فمن سمى الله تعالى بما لم يسم به نفسه أو يسمه به رسوله صلى الله عليه وسلم فقد ألحد في أسمائه، أي: مال عن الحق فيها.
3. إن الإلحاد أنواع ودرجات وليس كل إلحاد كفرًا.
4. إن الحكم يكون على الفعل والبدعة بغض النظر عن قصد صاحبها، وسبق التفريق بين القول والقائل، فالحكم على القول وليس على القائل، فالقائل لا يحكم عليه إلا بعد توافر الشروط وانتقاء الموانع.
47- (ص29) طالب الكاتب بإعادة النظر في إعداد المقررات؛ لأنها بوضعها الحالي اعتمدت على مصنفات السلف الصالح، والتي وصفها بأنها جرى تدوينها في ظروف المجادلات الفكرية، والمعارك الدينية السياسية، وأنه لا حاجة إلى تدريس الطالب وتعريفه بالفرق البدعية وفساد مناهجها، وعلل ذلك بأنه لا ينتمي إليها من جهة، وأن حججها لا تصل إليه من جهة أخرى.
والجواب:
1. إن الطعن في تأليف المناهج لكونها اعتمدت على كتب المتقدمين ليس بصحيح؛ لأن كل مؤلف سيعتمد على مرجع قديم أو حديث، وما يقال في القديم يمكن أن يقال مثله في الحديث، والمعارك الدينية والسياسية موجودة في جميع مراحل التاريخ القديم والحديث، فالشأن إذن فيما يحمله المرجع من صواب أو خطأ لا في ظروف تأليفه .
2. إن الدعوة لعدم اطلاع الطالب على المذاهب المنحرفة وبيان فسادها بإطلاق بحجة أنه لا ينتمي إليها ليس بسديد، فافتراض أن ملايين الطلاب ليس عند أحد منهم شيء من التأثر أو الانتماء لشيء من هذه المعارك الفكرية والعقائد البدعية مخالف للواقع، ثم لو فرض ذلك، فلماذا هذه الدعوة إلى الحجر الفكري على الطالب مما فيه فائدة، وأين التحصين ضد هذه الانحرافات، فالمنهج كما يعالج واقعًا، فإنه يحصن من متوقع وممكن، لا سيما مع هذه الثورة المعلوماتية في العصر الحاضر، والتي جعلت العالم – كما يقال – قرية واحدة أو بيتًا واحدًا.
3. إن زعم الكاتب بأن حجج أصحاب ما سماه بالمعارك الفكرية لا يصل إلى الطالب ليس بصحيح، فشبهات أولئك مبثوثة عبر القنوات الفضائية ومواقع الانترنت وفي الكتب المنشورة وغيرها.
فكان الواجب تعريف الطالب بذلك وتحذيره منها ببيان فسادها وانحرافها.
48- (ص29) رأى الكاتب أن المقررات تجاهلت تبعًا للنظام السياسي ومبادئه المكتوبة والعرفية قضايا مهمة، ومنها: تجاهل تنظيم قنوات المشاركة الشعبية والتعبير عن الرأي بطريقة متمدنة، وزعم أن المقررات تخاطب الطالب بصفته الفردية بما يناقض مؤسسات المجتمع، وأنها تصمت عن آليات اندماج الطالب في مجتمعه ومشاركته فيه، ثم قرر أن من واجبات المقررات الدينية والنظام السياسي فتح آفاق المشاركة المدنية.
والجواب أن يقال:
إن ما سماه الكاتب بالمشاركة الشعبية أو المدنية والتعبير عن الرأي عبارة فضفاضة لم يبين مقصوده بها ولا تطبيقات لها.
فإن أراد بذلك إشراك الطالب في مؤسسات مجتمعه، وإسهامه في تنمية وطنه وإبداء آرائه وإشعاره بفاعليته وأهمية عطائه فهذا موجود مبثوث في المناهج عمومًا، وليس هناك حجر عليه ولا تجاهل له، لا من المقررات ولا من النظام السياسي، وأما إن أراد بذلك الزج بالطالب في هذا السن وهذه المرحلة في معارك وقضايا أكبر من مستواه فهذا في الحقيقة ظلم له، وتشتيت لجهوده، وإشغال لفكره ووقته بما يعيق مسيرته وتحصيله.
وأما ما أشار إليه الكاتب من أهمية توضيح آليات اندماج الطالب في مجتمعه فهو مطلب مهم وموجود، ولكن يوصى بالتوسع فيه، ثم إنه ليس خاصًا بالمقررات الشرعية، بل في جميع المقررات كالعلوم والتربية الوطنية وغيرها.
49- (ص30) ختم الكاتب مذكرته بذكر توصيان مَّر أكثرها أثناء كلامه السابق، وهي بمثابة تلخيص لما بسطه، ومنها:
1. أنه دعا إلى تنقية المقررات من آثار المعارك الكلامية والسياسية في تاريخ الجدل العقدي، وأن الواجب ترك ذلك للمختصين.
والجواب:
إن مقررات العقيدة وكتب التوحيد ليس فيها معارك سياسية، وإنما فيها قضايا عقدية، وإذا كان الكاتب يرى أن ما حصل من السلف الصالح من ردود ومواقف تجاه أهل البدع كان دافعها سياسيًا وليس دينياً فهذا يحتاج إلى معرفة نواياهم المخالفة لظاهر حالهم.
وأما دعوته إلى ترك الردود على أولئك المخالفين مطلقًا فقد سبق القول في أهمية تحصين الطالب ضد تلك الأفكار المنحرفة، والأهواء المضلة، لا سيما مع هذا الانفتاح والدعوة إلى العولمة.
نعم يمكن إعادة النظر في بعض الجزئيات العميقة التي لا يكاد يستوعبها الطالب إن كانت موجودة، فتعاد صياغتها بما يتناسب مع وضع الطالب.
2. دعا الكاتب إلى تنقية المقررات من النزعات التكفيرية، وهذا فيه اتهام خطير للمقررات، وقد سبق بيان مخالفته للواقع، وأن المقرر بين عظم التكفير وخطره وموانعه وشروطه.
أما إن كان يدعو إلى عدم تكفير من دلت النصوص على كفره فهذه نزعة إرجائية تحتاج من الكاتب إلى إعادة قراءة نصوص الوحيين والصدور عنهما.
3. أطلق الكاتب القول بأن النصوص دلت على الكف عن تكفير أهل القبلة وعصمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وأن هذا ما استقر عليه كبار فقهاء الأمة، وهذه القاعدة حق ولكن لها استثناءات وضوابط، فهل يريد الكاتب الكف عن تكفير أحد من أهل القبلة ولو جاء بمكفر، كعبادة غير الله والطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً؟ وهل يعتقد أن دم كل واحد من أهل القبلة معصوم حتى لو استحل دماء المسلمين وفارق جماعتهم أو زنى وهو محصن ونحو ذلك، فإذا كان للكف عن تكفير أحد من أهل القبلة والقول بعصمة ماله ودمه وعرضه استثناءات وشروط، وقد ذكر في المقرر بعضها فلا يصح إطلاق القول في ذلك كما لا يصح تخطئة من كفر بقيود واستيفاء شروط.
4. ما ذكره الكاتب (ص 30) في رقم (3، 4، 5، 6، 8) حق في جملته، وذلك غير غائب عن المنهج.
5. اضطرب الكاتب حينما دعا إلى ضبط منظور فقهي للتعامل مع الآخرين برؤية عامة، ونهى عن التفصيل في ذلك، وهذا في الحقيقة ليس بسديد فإن الضبط إنما يتأتى بذكر التفاصيل والحالات وإعطاء كل حالة حكمها.
أما أن يكون في الكلام عمومية، فإنه يتقاطع مع النصوص الشرعية المفصلة والمبنية.
6. ما ذكره الكاتب برقم ( 9 ) سبق الحديث عنه.
" الخاتمة "
وبعد هذه الجولة السريعة مع هذه الملحوظات، فإن الناظر فيما سطره الكاتبان الكريمان ليتساءل عن الدافع لهما في هذا الهجوم العنيف على مقررات العلوم الشرعية، وعلى مقررات العقيدة بالذات، وفي هذا الوقت على وجه الخصوص؟
ونتساءل عن رؤية الكاتبين وملحوظاتهما على تلك المقررات، هل حدثت لهما في هذه الأيام، وهذه الظروف؟ أم أنهما كانا يريانها من قبل ولم يجدا الوقت المناسب لإظهارها ؟
وهل سبق أن قدما ملحوظاتهما هذه للجهات المختصة المعنية، أو تم عرض ما كتبا إلى أحد علمائنا الأفاضل، ما دام الدافع لهما نصرة الدين وحب الوطن، أم أنها جاءت في هذا الوقت وبهذا الأسلوب لتحقيق غرض معين؟!
ثم على فرض صحة تلك الملحوظات فلمصلحة من تنشر بتلك الطريقة العنيفة التي تتوافق مع أصوات الأعداء في الطعن في مناهجنا ومؤسساتنا، وأبنائنا، وقياداتنا؟ وهل عدم الكاتبان الأسلوب الأمثل في النصح والنقد الهادف البناء المتواضع ؟
هذه التساؤلات أترك الإجابة عنها للكاتبين الكريمين، واللذين آمل منهما مراجعة ما كتباه بإنصاف وموضوعية ومحاسبة ومراقبة لله – تعالى–.
سائلاً المولى– جل وعلا– أن يثبتنا على الصراط المستقيم، و ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، و أن ينصر دينه، وأن يحفظ بلادنا من كل سوء، وأن يديم أمننا ويوفق ولاة أمرنا لكل خير، ويكف عنا كيد الأشرار وبأس الكفار إنه على كل شيء قدير.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،،،
وكتبه
د/ سليمان بن صالح الغصن
الأستاذ المشارك بقسم العقيدة
والمذاهب المعاصرة بكلية أصول الدين
بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض
----------------
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد..
فقد كان من سوالف الأقضية أني تابعتُ بعض ما يكتبه الأستاذ إبراهيم السكران مما يقذفني به نقلة مقالاته في المنتديات،وأسراب الحمام الزاجل المرفرف في سماء البريد الإلكتروني،ومما حثني على قرائتها أيضاً غير ذلك الإلحاح الإعلامي باسم الرجل = إلحاح الإعلامي عبد العزيز قاسم ولهجه بذكر اسم الرجل في برنامجه البيان التالي.
وكان من سوالف الأقضية أيضاً أنني كنتُ أرضى بعض أفكاره وأرد أخرى ،ولربما أسررتُ بنقد ما أرده لتلك الحمامة الزاجلة التي أرسلت لي المقالة،وربما كتمتُ غير مستكتم،ولم أنشط يوماً لجعل هذا النقد عاماً ؛لعلة أحياناً ،ولغير علة إلا الكسل أحياناً أخرى.
ثم قذفت علي المدافع آنفة الذكر صبيحة هذا اليوم بمقالة الأستاذ الأخيرة والتي سماها : ((عصر دبلجة الواقع)).
وكالعادة عرفتُ منها وأنكرتُ،وكادت تلقى مصير أخواتها من مقالة الأستاذ وغيرها مما تطوف به العين كل يوم فتعرف منه وتنكر ثم تُعدي عنه إلى غيره فالعمر قصير والحوادث جمة.
لكني إذ انتهيتُ من قراءة تلك المقالة بالذات= أحسستُ بضيق شديد يُطبق على نفسي،وطلبتُ علة هذا الضيق فوجدتُ أني كما أكره الباطل وأحب للرجل أن يرتد عنه = فإني أكره كرهاً شديداً أن يرتد الرجلُ عن الباطل إلى الباطل،وأكره أكثر من أولئك أن يرتد الرجل عن الباطل إلى الحق ثم هو ينتصر للحق بالباطل،فإن الباطل المتدثر بدثار الحق المستتر بين ثنياته هو أخفى ولربما أكثر خطراً من الباطل المحض الذي يأتيك بوجهك الذي تعرفه كفاحاً من غير تقية ولا دُلسة.
وطلبتُ زوال هذا الضيق عن نفسي فوجدته لا يزول إلا بتنقية الحق الذي انتصر له الأستاذ من أسلحة الباطل التي شهرها والإبقاء على أسلحة الحق وحدها لينتصر حق بحق ولتبق ساحة الحق طاهرة الذيل عن أن يحوجها مقام النصرة والبيان لأن تطلبه بباطل الحكم وساقط البرهان.
وقصداً إلى المطلوب أقول : لستُ أخالف الأستاذ في أن بعض نقاد الواقع السلفي يمارسون فبركة الصور ودبلجة الواقع فهذا حق لا يماري فيه ذو نهية وبصيرة ،لكن الأستاذ وهو يبين هذا الحق دفاعاً عن أهل الحق امتطى مطايا الباطل التالي ذكرها :
أولاً : الإجمال المعيب بل والقبيح جداً في توصيف ونقد نقاد الواقع السلفي،وأخشى أن تلك بقية من حال الأستاذ قبل،فلئن كان أهل باطل يعرفه الأستاذ من قبل ينقدون أهل الديانة والشريعة نقداً مجملاً مستطيلين بعيوب فريق وأخطاء فريق وزلات فريق على أمة بأسرها فيعممون ويجملون = فقد حشر الأستاذ نقاد الواقع السلفي في سلة واحدة وظن أنه بذلك غير ملوم ولا معاب ،بينما العيب في ذلك يركبه من ساسه لراسه كما يقول الناس عندنا،وفي رواية أخرى يتناقلها الناس يقولون : ((صوابع إيديك مش زي بعضها))،وعقلاء الناس ربما قالوا : لا يستويان مثلاً من أراد الحق واجتهد في طلبه ومقصوده الإصلاح وإن أخطأه،ومن غرضه نقد الواقع السلفي ؛لأنه هو النموذج الغالب المسيطر فلئن قُضي عليه اهترئت ورقة التوت وتفرق من الصف ما يُدني زمان هزيمته،وهذا الحشد والإجمال للمخالفين للحق يستخفه كثير من المدافعين عن الحق؛لأنه يسهل مهمتهم ولا يحوجهم إلى تنويع المخاطبة بحسب درجة المخطيء وقصده وحجته وسالف أصله وسالم منهجه ،كما أنه لا يحوجهم لتلك المجاهدة العنيفة التي تقتضيها إقامة العدل والقيام بالقسط بين الناس.
وطلب السهولة ومركب الخفة في تقرير الحق ونقض الباطل كثيراً ما يوقع القائم بالحق في مزالق لا ترضي الحق جل وعلا وليس أهون تلك المزالق= الغضب على من لا يغضب عليه الله ورسوله، وعقوبة من ربما عفى الله عنه ،وتأثيم من لعل الله يأجره ،وليس أهون تلك المزالق إلقاء التهم وتوزيع التصنيفات وتشريح النوايا على نحو لئن صلح مع جنس من مخالفي الحق=فليس يصلح يقيناً مع كل مخالف للحق،ولكن باب الفصل بين أجناس المخالفين للحق وما يستحقه كل منهم من الأحكام وأنواع المخاطبات باب عسر لا يلج منه فيحسنه إلا الفقهاء بدين الله القائمين بالعدل الشاهدين به ،ولعل نصيحتنا تسوق الأستاذ لشيء من طلب هذا الباب = فيعفيه الفقه به من ذلك المزلق الخطير الذي وقع فيه في مقاله والذي ظهر فيه وفي مقالات سابقة ظهوراً لا يحوج كشفه إلى بيان،ومع ذلك فلا بأس من بيان مختصر :
عبر الأستاذ بتعبير الطوائف الفكرية عن ناقدي الواقع السلفي المتوسلين لنقده بدبلجة الواقع وساق صوراً معلومة لهذه الدبلجة وأصاب ولاشك ان هناك مبالغة في تصوير الواقع بهذه الصورة،ولكن خطأ الأستاذ : يتمثل في أنه لم يتنبه إلى أن الذين فعلوا ذلك ليسوا أمة واحدة،بل منهم من فعله على سبيل القصد والعمد للكذب والفبركات عل حد تعبير الأستاذ ،ومنهم من رأى صورة الواقع هكذا كما هي في بعض هذه الأمثلة (وإلا فبعضها لا أعلم من أهل العلم والفضل والاجتهاد من يتهم الواقع السلفي بها ) ،أقول : هناك من يرى تلك هي صورة الواقع السلفي خاصة فيما يتعلق بمسألتي سد الذرائع والاجتهاد والخلاف وليس هو في رؤيته تلك أبداً بالوصف الذي وصفه الأستاذ فقال أنه : (("كذب محض وشهوة افتراء تعيث بنفوسهم ونقمة على الاسلاميين وطلبة العلم والمتبعين لمنهج السلف تدفعهم لتشويههم بهذا الشكل.)).
فإن قال الأستاذ : إنما عنيتُ بهذا الوصف صنفاً معيناً من نقاد الواقع السلفي = قلنا فهذا إذاً هو الإجمال المعيب الذي سيمتطيه من يحب أن يصفع بكلماتك وجه بعض المصلحين من أهل العلم السلفيين الذين يرون أن هناك أخطاء ليست نادرة في تلك الأبواب،وسواء علينا صوابهم وخطأهم في ظنهم فليسوا هم أبداً بمن يعاقب على اجتهاده فتكون عقوبته الشرعية هي تلك الألفاظ التي فاحت من فمك وليسوا أبداً ممن يسوغ للمرء أن يشيع في الناس مقالة تحتمل منه أنه أرادهم بهذا الخطاب احتمالاً له من الوجاهة ما يرجع بالعيب على من صاغ المقالة ولم يحترز ولم يبين طبقات الناس ممن يخالفهم وطبقات أحكامهم..
بقيت الأخرى والسوأة : أن يكون الأستاذ يرى أن كل من ذهب في مثال ولو واحد من أمثلته فرأى الواقع كما هو كذلك ولم ير أن ذلك دوبلاجاً بل أداه اجتهاده ونظره إلى أن هذا هو الواقع = أن يكون الأستاذ يرى أن كل من ذهب لهذا ولو اجتهاداً أنه كذاب يصدر عن محض وشهوة افتراء تعيث بنفوسهم ونقمة على الاسلاميين وطلبة العلم والمتبعين لمنهج السلف تدفعهم لتشويههم بهذا الشكل أو كما قال لا فض فوه.
فإن كان يرى ذلك = فأخشى أن الأستاذ قد قادته الحمية في رجوعه لحظيرة الحق حتى ما انتبه أن بعض أفراد حظيرة الحق قد يقع منهم من البغي والعدوان وعدم مراعاة العدل مع مخالفيهم ما يتنزه منه وعنه الحق ،ويوجب على الداخلين في الحظيرة أن يتنزهوا منه ليتم لهم صلاح أعمالهم؛ فإنه لا تقبل صلاة رجل أحدث حتى يتوضأ،ولربما قاد الأستاذ عدم تنبهه هذا فخلط لحماً بعظم وظن أن ذلك البغي والعدوان مادام داخل الحظيرة فإنه يعطيه صك غفران يَجُبُ عنه ما يعلق بسيفه في معركة الانتصار للحق.
ونعم. المنتصر للحق مجاهد ولكن المجاهد قد يكون باغياً ظالماً، وقد يلج أبواباً تبلغ به أن يتبرأ حملة الحق بالحق من فعله،ولا أحسب الأستاذ إن كان قد أراد الثانية إلا قد بغى وظلم ظلماً أحب له أن يرجع عنه حباً سيعدل حبي لرجوعه عن باطله القديم..
ثانياً : وهي جهة الباطل الأخرى التي دخلت على المقال وإن كانت درجة بطلانها أخف من سابقتها = أعني سلوك الأستاذ مسلك المغالطة في تقرير وجه حجته وموضع ذلك : أن منازعيه من أهل العلم والفضل الذين يرون أن بعض تلك الأمثلة موجودة في الواقع لا يقولون أن الواقع السلفي خلو بمرة من مراعاة وجه الصواب فيها،ولو قالوا هذا = لساغ لك حينها أن تورد أمثلة فتح عدم اعتبار أهل العلم لسد باب الذرائع أحياناً أو مراعاتهم لفقه الخلاف أحياناً ،وإنما محل النزاع بينك وبينهم : أن ما تراه أنت نادراً كمثال الدبيان يرونه هم غير نادر بل كثير،ولاشك أن وجه الحجة في هذا النزاع لا يكون بذكر أمثلة على فتح الذرائع أو مراعاة فقه الخلاف وإنما يكون بمناقشة حججهم على هذه الكثرة ومناقشة الأمثلة التي يذكرونها او تشبه أن تكون مقصودهم،بل ومناقشة مطالبتهم بآثار مراعاة فقه الخلاف في فتاوى أهل العلم مادمت تزعم أنها موجودة،فهم ربما سألوك عن آثار مراعاة فقه الخلاف في مسألة صلاة الجماعةوالتي لم يكن ينبغي أن يقودنا شذوذ الرجل الذي انتصب للكلام فيها عن أن نبين رتبتها في الخلاف والفرق بين موارد الحكم الشرعي فيها وموارد السياسة الشرعية.
وهذه هي نفسها مغالطتك في مقالك عن الإقليمية فذهبت تعدد العلاقة بين العلماء المحليين والعلماء من أماكن أُخر ،وفاتك في خضم المغالطة أن تدخل في محل النزاع فتذكر مستوى هذه العلاقة حين حدث خلاف الرأي (كما حدث مع الألباني وخروجه من المملكة مثلاً ) .
أما مستواها في وفاق الرأي فلم ينازعك فيه أحد أصلاً لتجعله حجة على موطن النزاع.
فليس النزاع في أنهم يراعون فقه الخلاف في مسائل هي من مسائل الاجتهاد وأكثرها من المستجدات وإنما النزاع في دعوى مخالفيك أن من أهل العلم من لا يراعي فقه الخلاف في أبواب هي من الخلاف السائغ لولا أن بعض أهل العلم نشأ على قول فيها فيريد أن يصادر قول غيره وأن ذلك ليس بقليل..
وليس النزاع في عدم فقه العلماء بضوابط سد الذرائع وليست هذه هي دعوى جنس مخالفيك بل أهل الفضل والاجتهاد من مخالفيك يقرون لأهل العلم بالفضل ومعرفة ضوابط الباب جملة ولكن دعواهم هو أن هناك توسعاً في تطبيق القاعدة في أبواب، وخطأ في تطبيق الضوابط واعتبارها في أبواب،ومثل ذلك لا يناقش بأن هناك توسعاً في عدم تطبيقها في أبواب أخرى بل تلك منك مغالطة وإنما وجه الحجة هو مناقشة تلك الأبواب المدعى فيها التوسع في التطبيق نفسها ورد دعوى أنها توسع في التطبيق ..
وأرجو أن يكون واضحاً أنني بهذا لا أنتصر لقول من يعيب العلماء بعدم مراعاة الذرائع أو من يتهمهم بالإقليمية ،أو عدم مراعاة فقه الخلاف،فلم أشتغل بذلك أصلاً،وإن اشتغلت= فلا أرى صواب رأي أولئك المجتهدين المصلحين تماماً بل ولي مقالات في نقد بعض مسالكهم،وإنما غرضي بيان موضع المغالطة في حجتك،ولو صدرت تلك المغالطة مع حسن مخاطبة وعدل مع مخالفيك = لهان أثرها،أما أن تكون تلك المغالطة في الحجة مع إجمال يخلط المجتهدين بأهل الريب والفتن = فذلك هو ما يخالف تمام الصدق ،ويخدش حجة إحقاق الحق، ويُضيع مقام رحمة الخلق..
فجماع مقالك أخي الأستاذ إبراهيم : هو أنه انتصار للحق ورد لمسلك غير حسن أصبت في تصوره لكنك في انتصارك وقعت في نوعين من المغالطة (ولنجعلها غلطاً لا مغالطة) :
الأول : مغالطة التعميم في الحكم على من يرى الواقع كذلك في بعض الأمثلة فعممتَ وأجملت فيمن يرى ذلك وحكمت الحكم الذي ذكرتَ،والحال لا يخرج عن خطأ في التعميم بهذا الظلم لعلك لم تقصده ولعلك تحفظ مقام المخالف لاجتهاد وقصد للحق.
أولعلك ترى جميع مخالفيك يستحقون ذلك الحكم وأحسن الظن بك وأبرئك أن تكون تقصد الثانية،وتهمة الإجمال المعيب والتعميم والغلط الخطابي أسهل من تهمة الظلم والبغي والعدوان على المجتهدين القاصدين للحق وإن أخطأوه.
النوع الثاني من الغلط الذي وقعت فيه : مغالطة في الحجة والاستدلال بأن تجاهلت المطلوب ورحتَ تحتج على مالايخالفك فيه منازعك الذي لم يدع أصلاً أن السلفيين لم يصيبوا في جنس تلك الأمثلة وإنما دعواه في جهة أخرى هي وقوع الخلل فيها بصورة ظاهرة وليست نادرة مما يستوجب العلاج ،وليس ادعاؤك لكثرة الصواب بأولى من ادعائه لكثرة الخطأ حتى تصلح كثرة الصواب التي ادعيتها حجة على كثرة الخطأ التي يدعيها،وإنما طريق الحجة هو نقد كثرة الخطأ الذي يدعيها لا الاحتجاج عليه بكثرة الصواب التي لا ينكرها بعض مخالفيك..
هذا ما أردتُ بيانه إحقاقاً للحق وحباً له ورحمة بالخلق وإعذاراً لهم..
والحمد لله رب العالمين..
---------------------
نص رسالة عبد العزيز قاسم
عن مقالة التغريب للسكران
جاءتني اتصالات ورسائل عدة من أحبة يشكرون لي نشر مقالة أخي إبراهيم السكران الأخيرة، والحقيقة أنني بثثتها في المجموعة ولم أقرأها للأسف، وقد ظننتها من مطولات أبي عمر التي يتحفنا بها، كتدبر القران الكريم ولذة المناجاة، وجملة قراءاته الإيمانية الفذة، فأعدت إرسالها دون قراءتها للأسف، ولو تمعنت جيدا فيها، لأوقفتها – رغم أن عشرات المواقع تناقلتها في نفس الآن- إلا أن حقّ أخي إبراهيم السكران عليّ كان يقتضي مني النصح، ولكنت استمهلته، وأنا بمنزلة كبيرة في نفسه، لأن المقالة كانت متجاوزة برأيي، وحادة جدا، وفيها تعيين لأشخاص رحلوا عن الدنيا، والمقالة عموما مخالفة لأسلوب أبي عمر الحكيم في الكتابة والنصح..
وسبق أن أبنت رأيي الشخصي بالمقالة بأن في بعض جوانبها أخطاء أخالفه تماما فيها، وبعض جوانبها حقّ، ولكن السؤال: هل هذا الأسلوب مجدٍ في تغيير الواقع، وقد سبق إلى ذلك رموز الصحوة في التسعينيات وانظروا إلى ما انتهوا إليه، ولكن بعد أن كلفوا الدعوة خسائر لا تعدّ ولا تحصى، وتأملوا في مقالة أحد أبرز الناشطين السياسيين وقد كتب قبل سنوات، وأطلق وصف البرامكة وما إلى ذلك، بذات النفس الذي قفاه أخي السكران، ولم تصنع شيئا..
شخصيا أرى أن الالتفاف خلف علمائنا الكبار، ذوي الحكمة والتجربة والبصيرة، ومنهجهم السلفي في مناصحة الولاة هو الأجدى، والله أعلم، وأن مثل هذه الأساليب الحادة، والحماسة بلا خطام، تحمّل الدعوة والدعاة والعلماء أكلافا أكثر بكثير من مجرد تسجيل موقف.. ولا يرمينني أحد بأنني جامي، فلربما هذه آخر الأوصاف التي تصطف إلى ألقاب عديدة في سجلي، ولكن حماسة الشباب والاندفاع واستعداء المسؤول، كلفت الدعوة على مدى تاريخها الكثير والكثير..
هذا الرأي مني سيعتوره كثير من الشك من ذوي النظرات المستريبة دوما، أن وراء الأكمة ما وراءها، ولكنه والله الذي لا اله إلا هو يقين واعتقاد حق، ولا يهمني من تسجيل هذا الموقف أحد، سوى ما أدين الله به، وما أعتقد بأنه صواب وحق، وهو ما امتثلته طوال مسيرتي الفكرية، فلم أوقع على أي بيان وقد عرض علي الكثير منها، ولم أتعاط أية أنشطة سياسية، لأنني إعلامي وفقط إعلامي ولا أتجاوز هذا اللقب أبدا..
أقول هذا قطعا لأية ظنون من كتابتي لهذه السطور، لأن أقصى ما سيلحقني من نشر مقالة أخي السكران إيقاف هذه المجموعة البريدية التي لم تكلفني سوى سعي صديق كريم بإنشائها في مدة خمس دقائق فقط، دون أن أصرف قرشا واحدا..وأذهب بعدها إلى ابنتي الأحبّ في الدنيا غادة لألعب معها في الاكس بوكس وأشاهد طيور الجنة وسبونج بوب وبسيط، وأتفنن برسم شخصياتها الكرتونية، وأحكي لها عن سيلفر وقراصنة جزيرة الكنز.. غير أنني لم أرد أن تمرّ هذه الحادثة دون تذكير أخوتي من الصف الإسلامي بذلك، فأنا على يقين من ثمة (سلمانات) و ( عواجيات) و(عايضات) و (سكرانات) جدد سيأتون بذات النفس، ويجترون ذات الأسلوب دون اتعاظ من التاريخ والنتائج..
أسفت على النشر بالدرجة الأولى؛ لأنه كان من حق أخي إبراهيم السكران وأخوّته عليّ إيقاف مقالته، واستمهاله في النشر، ومراجعته في بعض المواضع، التي لو نبّه إليها لانتبه، وبثي المقالة كان خطأ مني غير مقصود.. وثلة من الدعاة –المشتركين بيننا- الذين ناقشوا معي المقالة وجرأتها الشديدة، أبانوا أنهم غير موافقين على هذا المنهج، وحبيبنا إبراهيم بالتأكيد يشكر على غيرته وحماسته، ولكن لا بد من ضبط هذه الاندفاعية، ولربما يقرأ الآن كلامي – هو ومن يوافقه على هذا النهج- ولن تصل إلى ما أمّلت منه بنفسه، فسلطة الجماهير والعوام على الداعية تصنعان العقل الجمعي وتغيبّانه عن تلمس الطريق الأرشد، غير أنني أكيد من أن أخي السكران سيضع هذه الكلمات في أرشيفه، ولربما يعود إليها بعد سنوات عديدة، وقد أنضجته تجارب الحياة، وعركته الأيام وتقلباتها، ويعرف أن ما بثثته واستوقفته فيها حق إن شاء الله..
أسفت لنشر المقال ثانيا؛ لأنه فعلا لا يخدم هدفي وما كرست له مقالاتي وبرامجي في تمتين اللحمة الوطنية بين أطياف المجتمع الفكرية، وربطهم بولاة الأمر لمصلحة هذا الوطن الذي يمرّ بظروف استثنائية حسّاسة..
أعتذر لعشرات الزملاء الذين بعثوا مداخلات عن مقالة السكران بأنني أوقفت النشر، ولنعيّد بقلوب ملؤها الحب لهذا الدين والوطن وولاة الأمر، وندعو أن يجمع الله شملنا، ويصلح قادتنا ويرزقهم البطانة الصالحة، ويوفق علماءنا على قول الحق والنصيحة التي أوجبها الله عليهم..
كل عام وأنتم بخير
عبدالعزيز قاسم
30 رمضان 1431 هـ
------------------------------------------
السكران والأسماء المستعارة والإساءة الأخلاقية
الدكتور عبد العزيز قاسم، لا زلت أتابع ما تنشره في مجموعتك البريدية بشكل يومي، مطلعا على ردود الأفعال من قضايا الساحة، ومجموعتك تتميز بصداها الواسع بين النخب والعامة، وأتابع ما يطرحه أيضًا الكاتب إبراهيم السكران، وتعجبني كثير من تأملاته القرآنية، واستبساله في توطين القرآن في صدور الشباب، وهذا لا يمنع أن يكون لي تحفظات على بعض أطروحاته أو على الأقل تساؤلات، فأنا ممن يستهدي بطرحه في بعض المواضع، وكم أتمنى بما عهدت عليه من وضوح وشفافية أن ينورني بتوضيحات حول ما سأورده في هذه الرسالة.
قبل عدة أيام نشر الأستاذ السكران مقالا رائعًا وسماه "عودة المدرسة التجريحية"، وكم وقفت وقفات مع هذا المقال الذي يعيد المختلفين ويربطهم بالمنهج القرآني عند التشاحن والخلاف، ومما أثارني هو بعض المواقف التي أعرفها عن الأستاذ إبراهيم، والتي في الحقيقة جعلتني في تشكك حول مقاصد الكاتب وفقه الله.
وكان مما قاله في المقال:
"والله يا إخوان إننا مسؤولين أمام الله ونحن نرى بعض النزقين يتسببون في انتكاسات لا يعلمها إلا الله بسبب تهييج نفوس الشباب ضد العلماء والدعاة بدلاً من مساندتهم، فيجب أن نصنع شيئاً.
تذكروا يا إخوان قول الله تعالى في تناصر المؤمنين (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [التوبة، 71] وقارنوا ذلك بهؤلاء الذين يتفننون في خذلان أهل العلم والدعوة بحجة أنهم عبيد الحكومة وخدم الاستبداد.
وتأملوا قول الله تعالى في سلامة الصدر لأهل الإيمان ونبذ الغل تجاههم (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر، 10] وقارنوا ذلك بهؤلاء الذين امتلأت قلوبهم بالغل على أهل العلم والدعوة بحجة أنهم يشرعنون الاستبداد السياسي وغيرها من شماعات الظلم والجور."
ولتسمح لي يا دكتور عبد العزيز بوضع بعض الخطوط والتساؤلات حول مقاصد السكران، والفئة التي يدافع عنها، وحدود الإساءة في الألفاظ والأخلاق والفحش فيها.
حدود الإساءة في منهج السكران:
في بداية الأمر، دعونا نتعرف على حدود الإساءة عند إبراهيم السكران، فهو يقول:
"أطلعني أحد الإخوان قبل فترة على مقطع يوتيوبي مسجل يعرض فيه من صممه كلمات للدكتور سلمان العودة، حول الإم بي سي حين كان يذمها، ويعرض فيه من صممه صوراً لحيوانات في محاولة للإساءة للدكتور سلمان، مهما بلغ الاختلاف مع الدكتور سلمان في مسائل منهجية معينة، هل يقبل مسلم أن يضع أخاه المسلم في مثل هذا القالب الحيواني؟! اللهم إني أبرأ إليك مما صنع هذا البذئ."
فحدود الإساءة هي فقط في وضع صورة الشيخ سلمان العودة في قالب حيواني!
لكن ماذا عن اتهام عقيدته، واتهام ديانته، والتشكيك بنواياه، والغوص فيما يفكر فيه سلمان العودة مما لم يقله لسانه؟
لنأخذ جولة على بعض ما نشره إبراهيم السكران.
سلمان العودة
الدور العقدي للعودة عند السكران:
حيث يقول عن الشيخ سلمان العودة وبرنامجه على قناة ام بي سي أنه:
"يقوم بدور سئ يتمثل في.. محو المضمون العقدي في العقل المسلم"
ويقول عن من امتدح العودة من كتاب الصحف:
"عرفوا أهمية الدور الذي يقوم به العودة ككاسحة ألغام لردم بقايا العزة العقدية والتمسك الفقهي في منهج أهل السنة"
ويقول عن البرنامج أيضًا:
"إذا كان برنامج من البرامج الفضائية الدينية يشيع أمراضاً عقدية ومفاهيم شرعية مغلوطة فهذا يعني أن كثرة المشاهدين تعني زيادة عدد المصابين، وليس زيادة عدد المحصنين!"
فكل هذا الاتهام والطعن في عقيدة العودة ومنهجه هو جائز على طريقة السكران، فلا بأس أن تتهم العودة بأنه يمحو المضمون العقدي، لكن لا تضع صورته مع صورة حيوان!
السكران وشرف العودة وعرضه:
يقول السكران:
"أرجوك أبق فيك ذرة شرف"
فلا بأس على منهج السكران في اتهام الأعراض الذي يعتبر جائزًا عنده بل وفيه أجر –وسيأتي الإثبات-، لا بأس أن تتهم شرف العودة، لكن لا تضع صورته مع صورة حيوان.
السكران وموقف العودة من الكتاب والسنة والصحابة واتهام نيته:
وعن الإسلام الذي يقدمه سلمان العودة:
"إنه نمط مدجن من التدين يدع مالله لله ومالقيصر لقيصر .. إسلام أليف لايؤذي مشاعر الحكام العرب .. إسلام لايتم اعتماده عبر الكتاب والسنة بل عبر جامعة الدول العربية"
ويقول:
"ما يهمني أن يعرفه الإخوان هو أن كل ما قاله د.العودة ليس إلا رأس جبل الجليد، وما يخفيه من تحريف الشريعة والتزهيد بفقه السلف أضعاف أضعاف ذلك، لكنه يؤجله لاعتبارات سياسية ودبلوماسية لا تخفى، واسألوا جلساءه عن مجالسه الخاصة وما فيها من بجاحة بعض تعليقاته على أحاديث الصحيحين، وتهكمه ببعض فتاوى أئمة السلف الكبار"
ويقول:
"فهذا الفارق الفلكي بين واقع الصحابة الذي زكاه القرآن، وواقعنا الفاضح اليوم، هو أهم مرتكز يرتكز عليه الاسلاميون الدعويون في منهجهم .. وهو النبراس الذي يضئ لهم طريق الحل ..
ولذلك كله ينزعج العودة من هذه المقارنة بين نموذجية عصر الصحابة، وقتامة واقعنا المعاصر .. ويحاول العودة أن يقوض هذا الأساس عبر تلميع الواقع الفاسد، والتقليل من شأن النموذج الملهم"
ويقول:
"نحن أمام جامية جديدة لكنها جامية زين العابدين بن علي ومبارك والأسد! جامية الفنادق الفارهة وردهات الدبلوماسيين.
تحول العودة من طريق الضغط على الحكومات العربية للحكم بالشريعة في كل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاعلامية .. إلى طريق إنتاج نمط مدجن من التدين يتناسب مع مصالح اللاعبين الكبار"
ويقول:
"من الإسلام الكابلي .. إلى الإسلام السبتمبري .. كان سلمان العودة بطل القصتين .. لأنه الوحيد بين زملائه الذي استوعب متطلبات الدوي الإعلامي!"
ويقول:
"فأما (الاسلاميون الحكوميون) فقد ناهضوا (التحريف الثقافي للشريعة) لكنهم داهنوا (الفساد السياسي).
وأما (الإسلاميون الاصلاحيون) فقد ناهضو (الفساد السياسي) .. لكنهم داهنوا (التحريف الثقافي).
وأما مدرسة حجر الزاوية .. فقد لبست العباءتين كلتاهما .. وصار صاحبنا يلاين الليبرالية الثقافية والاستبداد السياسي كلاهما .. بل ويستجهل ويستحمق من تأخذه الغيرة في أحد الملفين .. واكتفى بأن يعقد حلقات ينصح فيها الفتاة في شهر العسل بأن تضع وردة حمراء في غرفة نومها ..! وكأنها تجهل نصائحه المستهلكة !!"
فعلى منهج السكران، يجوز أن تتهم ديانة العودة، وأنه لا يعبأ بالكتاب والسنة، وإنما يقدم إسلامًا وفق رغبات الرؤساء والملوك، وأن العودة لا يعبأ بالتحصين الثقافي ولا أعرض المسلمين، وأن العودة يبحث فقط عن الدور الإعلامي لا غير، لكن لا يجوز أن تضع صورة العودة مع حيوان!
السكران وحاكم والمطيري والحامد والأحمري والنفيسي والحبيل:
لم ينحصر دور السكران في الإساءة إلى الرموز الدعوية والعلمية والفكرية والإصلاحية على سلمان العودة فقط، بالرغم من أن العودة هو صاحب النصيب الأكبر من كل هذه الإساءات، ولو قارنا على سبيل المثال ما كتبه السكران في حق "الليبراليين" أو حتى في حق "الصهاينة" فلن يبلغ معشار ما كتبه السكران عن العودة.
ورغم ذلك فقد تعدى الأمر إلى الإساءة إلى رموز أخرى، لها مكانتها ولها تاريخها النضالي، وتحمل هم القضايا الكبرى في واقعنا المكبل بالاستبداد.
فيقول عن حاكم المطيري مثلا:
"ونتيجة لذلك سمعته مرة يتهجم على الاسلاميين باستهتار في موقفهم من الماركسيين والقوميين والليبراليين الوطنيين لأن هؤلاء كلهم –في نظره- يهدفون للحرية السياسية! لقد استبد بي الذهول وأخذ مني كل مأخذ! أما انحرافاتهم العقدية الخطيرة، ومشاقتهم لله ورسوله في قضايا الاقتصاد والسياسة والأخلاق؛ فيتكلف الاعتذار لها بأعذار فاترة، ويرى أنه لاداعي لأن ننظر إليها، المهم هو كون الشخص يدفع باتجاه الحرية السياسية والثورة على المظالم العامة."
"ويدفع باتجاه تسفيه كل المطالب الشرعية الأخرى، كتوحيد الشعائر، وتوحيد التشريع، وتزكية النفوس بمقامات الإيمان التي يحبها الله، ونشر السنن، وإماتة البدع، والحفاظ على الفضيلة والعفاف، الخ الخ."
فحاكم المطيري والذي يعتبر ممن له مواقف متصلبة من حكم الديقراطية، ينظر له السكران أنه يهون من جانب التوحيد، وليس فقط كذلك، بل ويدفع باتجاه "تسفيه" كل المطالب الشرعية! وهذا تصريح لا ينطبق إلا على كافر بالله العظيم! فمن يدفع باتجاه تسفيه توحيد الله جل وعلا؟
من يقول بتسفيه التوحيد؟ لم يقله إلا المشركون والمنافقون كما حكى عنهم الله في كتابه:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ }البقرة13
ولم يحكر هذا الموقف على حاكم المطيري فحسب، بل وضم معه عدد كبير من الكتاب وسمى بعضهم، وضم إليهم مجموعة كتاب في مجلة العصر!
"تقارب كثيراً مع د.النفيسي ود.عبدالله الحامد ود.الأحمري ومهنا الحبيل وبقية المجموعة النضالية السياسية التي تكتب في مجلة العصر."
السكران وابن بيه:
ماذا من موقف السكران من الشيخ عبد الله بن بيه، وهو العالم الموريتاني المعروف الشهير، وله جهوده التي لا تنكر في على اتساع العالم الإسلامي وبين الأقليات الإسلامية في أمريكا وأوروبا.
كما يبدو أن الموقف بالنسبة للسكران محسوم من ابن ابن بيه، فابن بيه بالنسبة له، مشكوك في نواياه، ومميع للعقيدة.
فمن وصفه لمؤتمر مادرين الذي عقد في تركيا قبل أشهر قوله:
"ومافيه من الميوعة العقدية"
أما التشكيك بالنوايا واتهام الشيخ القائم على المؤتمر فقد قال فيه:
"التلبيس على الناس باسم ابن تيمية والدفاع عن ابن تيمية وتصحيح فتوى ابن تيمية، وتبين أن الأمر كله بيان منهزم مبيّت بليل، وكان من أخلاق العلم أن لايتستر مهندس المؤتمر ابن بيه بابن تيمية وهو يعلم جيداً أن ابن تيمية يتعارض جذرياً مع أفكاره حول (الموقف من الكافر)."
وأتسائل فعلًا: إذا كانت هذه أقوال إبراهيم السكران في علماء ودعاة ومفكرين وإصلاحيين، كلهم من الخط الإسلامي، فمن يقصد يا ترى عندما بث رسالة للشباب ويقول لهم:
"والله يا إخوان إننا مسؤولين أمام الله ونحن نرى بعض النزقين يتسببون في انتكاسات لا يعلمها إلا الله بسبب تهييج نفوس الشباب ضد العلماء والدعاة بدلاً من مساندتهم، فيجب أن نصنع شيئاً.
تذكروا يا إخوان قول الله تعالى في تناصر المؤمنين (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [التوبة، 71] وقارنوا ذلك بهؤلاء الذين يتفننون في خذلان أهل العلم والدعوة بحجة أنهم عبيد الحكومة وخدم الاستبداد.
وتأملوا قول الله تعالى في سلامة الصدر لأهل الإيمان ونبذ الغل تجاههم (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر، 10] وقارنوا ذلك بهؤلاء الذين امتلأت قلوبهم بالغل على أهل العلم والدعوة بحجة أنهم يشرعنون الاستبداد السياسي وغيرها من شماعات الظلم والجور."
السكران واتهام الأعراض:
لنعد بالذاكرة قليلا، ونستعيد ما كان يواجهه السكران في مرحلة "ما قبل المآلات"، والمتابع لما كان يكتب في تلك الفترة وما يقال عن السكران، لن يعدم تلك الألفاظ الشنيعة عليه، ولن يعدم اللعن والسب والشتم، والدخول في النوايا والتشكيك في الدين، واتهام العرض.. إلخ.
فما الموقف الشرعي من تلك التصرفات؟
يقول السكران في مقاله الأسماء المستعارة مبينًا الموقف الصحيح الذي يجب أن يكون عليه أصحاب المعرفات المجهولة:
"مهما بلغ الاختلاف مع الأخ الفاضل بدر العامر في مسائل منهجية معينة، هل يصل الأمر إلى أن يطعن هذا الطاعن في عرضه؟! لاحول ولا قوة إلا بالله."
ولكن ماذا قال السكران سابقًا عن الخوض في الأعراض، هل هو حرام؟ هل هو مكروه؟ هل هو مباح؟ لا أبدًا؛ بل هو على منهج السكران على أجر بإذن الله:
"والمراد أن كل من نقدني، وأساء القول فيّ، وخاض في عرضي، بناءً على كلام لي قبل ورقة المآلات فقد صدق وبرّ وما تجاوز الحق قيد أنملة، بل هو مأجور إن شاء الله"
وهذا يعني بكل وضوح أن من هو على منهج السكران "القديم" فإن من الخوض في عرضه والإساءة إليه جزاؤه الأجر والمثوبة من عند الله!
وياللعجب، هل الأخلاق والمروءة والأمانة والعدل هي حكر على فئة معينة يفصل لها السكران مقايسها، وبالتالي فالولوغ في أعراضهم حرام حرام حرام، ومن يخالفهم فالطعن فيه على أجر من الله!
ويناقض نفسه بقوله:
"كنت مرة أتابع سجالاً على الشبكة، فنطق أحدهم بعبارة "فاحشة"، فأنكر عليه آخر هذه العبارة، فذهب هذا المتفحش يذكر أدلة على موقفه، الحقيقة أنني اندهشت حين رأيت هذا المتفحش لديه "شرعنة" مسبقة لما يقوم به!"
فمن جعل هذا الباب مشروعا وصاحبه مأجور وعلى حق؟ أليس هو السكران؟ لماذا الدهشة إذًا؟
إبراهيم السكران
من يقف خلف الأسماء المستعارة؟
من العجائب ما يقوله السكران عمن يقف خلف المعرفات المستعارة!
فيقول:
"أول وأضخم حقيقة بدهية قطعية أمتلئ بها إيماناً أن هذه الكتيبة المستعارة لا تمثل الإسلاميين من قريب ولا من بعيد، ووالله لا يزعم أنها تمثل الإسلاميين رجل يخاف الله تعالى"
ويقول:
"هناك احتمالان مطروحان: هل هذه الأسماء المستعارة المتفحشة هم مجرد فتيان صغار فيهم طيش المراهقة و لا موجِّه لهم واستمتعوا باللعبة؟ أم هم أناس من خارج الصف الإسلامي يريدون تشويه الإسلاميين؟"
أترك الإجابة للقارئ..
هذا الموضوع كتبه : ابو مصعب العاقولي
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
مقالات بعضها فيه حق وانصاف..وبعضها فيه جور وظلم وتحامل..
ردحذف