الأحد، 2 أكتوبر 2011

وزير العدل: غالبية هيئة كبار العلماء باركوا مشاركة المرأة بـ"الشورى" والبلديات


قال إن استشارة خادم الحرمين للعلماء شدت من عزيمته وأزره
لكأنه يرد على اللحيدان..والله أعلم
سبق – متابعة: أكد وزير العدل وعضو هيئة كبار العلماء الدكتور محمد العيسى أن أغلبية أعضاء هيئة كبار العلماء، إضافة إلى علماء كبار وقياديين في الأوساط الشرعية، باركوا مشاركة المرأة في الشورى عضواً وبالمجالس البلدية مرشحة لنفسها ومرشحة لغيرها.

وأوضح أن استشارة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز للعلماء في ذلك الموضوع، شدت من عزيمته وأزره بالرغم من أن هذا الأمر يتعلق في نظر البعض بحراك المجتمع ببعده الوطني دون أن يكون - من حيث الأصل - قضية شرعية، لكن نظراً لحرصه على الاطمئنان لقول العلماء فيما يمكن أن يشكل في قراءة البعض الآخر مسألة شرعية كما في توصيفه الصحيح، ولأن مسألة إقراره تتطلب قيداً مهماً يتعلق بالضوابط الشرعية، فقد ارتأى خادم الحرمين الشريفين استطلاع رأي جمع من أهل العلم داخل هيئة كبار العلماء وخارجها، وحسب ما سمعت من بعض مشايخي وزملائي في الهيئة فإن من بارك هذه الخطوة هم أغلبية أعضاء الهيئة فضلاً عن علماء كبار وقياديين في الأوساط الشرعية باركوا هذه الخطوة ومنهم من يغلب على طرحه في كثير من الموضوعات الفقهية المزيد من التحفظ والتوقي لكنه في هذا الأمر بارك الخطوة، ولا يعني أن البقية مخالفون فإني لا أدري عن مرئيات البقية فقد يكون منهم من يؤيد الفكرة، لكن فيما يبدو أن خادم الحرمين حصل على القدر الكافي من براءة الذمة واطمئنان النفس. وأضاف: بمعنى آخر فإن هذه الفكرة لو عرضت على هيئة كبار العلماء لصدر في شأنها -على أقل تقدير- قرار بالأكثرية، والأكثرية تنسب القرار للهيئة ويصنف في التراتيب الشرعية والنظامية المعمول بها على أنه قرار من هيئة كبار العلماء، ومع هذا فأي وجهة نظر أخرى أياً كانت قراءتها ومرئياتها تظل رأياً لصاحبها هي محل احترام وتقدير مادامت تحترم رأي غيرها، وخاصة أنه يمثل رأي أكثرية طليعة وكبرى المؤسسات الشرعية في الدولة وهي هيئة كبار العلماء، فضلاً عن رأي جمع غفير من قيادات المؤسسات الشرعية في القضاء والفتيا والدعوة والحسبة. 

وتابع العيسى أن من بين من رأى هذا الرأي من هيئة كبار العلماء أعمدة وقامات ومرتكزات في الهيئة تشغل عضويتها منذ تأسيسها عام 1391هـ. 

ووفقا لتقرير نشرته صحيفة "الرياض" اليوم علق وزير العدل على القرار الملكي بأنه يُمثل تحولاً مهماً في إسهام المرأة في منظومة العمل الوطني، للإفادة من رأيها ومشورتها من خلال توصيف دستوري يأخذ طابع القوة والقرب بالمشاركة في عملية التصويت لحسم القرار أو التوصية في طابعها الشوري أو البلدي، لا مُجرد إبداء المرئيَّات في سياق يكتنفه الضعف والبُعد،علما بأنَّ كثيراً من القضايا التي تهم المرأة تُطرح في الشورى والبلديات، ومن حقها تقديم صوتها وأخذه في الاعتبار وفق المبادئ والأعراف الدستورية، وبهذا القرار الموفق فعَّل خادم الحرمين الشريفين دستورياً دور المرأة الرقابي والخدمي، آخذاً في الاعتبار أن خطابه الكريم يمثل وثيقة دستورية تستند إلى أصول الشرع وضوابطه، وقد لامس محوراً أساسياً في أعمال طليعة الأجهزة الرقابية والتنظيمية والخدمية وبخاصة أن نظام مجلس الشورى من الأنظمة الأساسية المشمولة بأحكام قمة الوثائق الدستورية للدولة وهي النظام الأساسي للحكم المستمد في مواده من دستورنا الأساس الكتاب والسنة.

وأضاف أن فقهاء الإسلام أحالوا عدداً من المسائل الفقهية إلى رأي المرأة فيعبرون بقولهم:  تستشار في هذا النساء.

وعن الأصل الشرعي لهذه المشاركة بالعضوية، قال الدكتور العيسى الأصل الجواز والممانع هو الذي يطالب بالدليل، لكن بالرغم من هذا فمع المستمسك بالأصل هنا الدليل وقد تضمن الخطاب الملكي إلماحة إجمالية، فالمقام ليس مقام التفصيل والإسهاب والإفاضة، ويكفي ما استدل به خادم الحرمين الشريفين من مشورة أم سلمة - رضي الله عنها – في الحديبية، حيث كانت مشورتها خيراً وبركة على الإسلام والمسلمين. 

وأشار إلى مشورة خديجة - رضي الله عنها - للنبي صلى الله عليه وسلم وهي مشورة التسلية والتهدئة من الروع البشري المعتاد في بداية تنزل الوحي، وقد نفع الله الأمة بسداد رأيها ووقوفها بجانب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فسجلت مشاهد السيرة أعطر وأحكم رأي يستشرف حالة بدء تنزل الوحي بتكييف له ما يبرره ويدعمه، حيث قالت رضي الله عنها : "كلا، أبشر، فو الله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق "، فبهذه الكلمات المسلية عبرت عن رأيها المثبت لقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حدثها بشأن المَلك الذي نزل عليه بغار حراء، حيث قال: "لقد خشيتُ على نفسي".

وتابع العيسى أن المرأة في الشورى كانت مستشارة غير عضو منذ مدة، ولم يتغير من الحال شيءٌ سوى رفع سقف هذه المشاركة إلى العضوية، وهو في محتواه ذو جدوى تتعلق بالتصويت وهذا الأمر في غاية الأهمية فقرارها قد يكون حاسماً بقوة النظام في توجه المجلس، بخلاف السابق، ومن كان له تكييف آخر حيال عضوية المرأة فأمام مرئياته أمران:

1 - كون المرأة تعمل سابقاً ولا تزال مستشارة في المجلس وفق ضوابط الشرع الحنيف، ولم تأت نظرية تحفظه إلا مؤخراً "في العضوية دون غيرها"،ولا فرق من حيث باعث التحفظ بين تعيينها في المجلس والتعاطي معها سواء كانت مستشارة أو عضواً، ما دام التعامل معها في الحالين على حدٍّ سواء وفق ضوابط شرعية متساوية.

2 - مع المُجيز دليل الأصل وهو الجواز، فضلاً عن دليل آخر داعم للأصل وهي الأدلة التي سبق إيراد بعضها، وليس مع الممانع إلا الاستدلال بدليل سد الذرائع في سياق إفضاء الذريعة إلى المفسدة فيه دون حد الغلبة على أسوأ تقدير، وذلك أننا يجب أن نحسن الظن بإخواننا وأخواتنا مع وجوب الأخذ بالاحترازات الشرعية في مثل هذا الأمر بخاصة، وهو ما أكد عليه الأمر الملكي الكريم.

وعن بعض الدعاوى الفقهية بأن مثل هذا حرام بالإجماع، قال وزير العدل إن هذا القول في حقيقته يعود إلى حمل القضية الجزئية على القضية الكلية ويعطي الفرع محل النقاش السائغ حكم الأصل المجمع عليه، فعندما يرى أن المسألة المتفرعة عن الأصل حرام فإنه ينقلها رأساً للأصل المجمع عليه، فمثلاً يقول المخالف: إن التورق حرام في الشريعة لأنه ربا، والربا حرام بالإجماع فمؤدى هذا في رأيه حرمة التورق إجماعاً بحرمة الربا لأن التورق ربا عنده، وقد يتسلسل هذا في حلقات متصلة إلى ما هو أعظم وأخطر من القول بالحُرمة إجماعاً، والتساهل في هذا مرتعه وخيم فهو يطال أقوال أعمدة أهل العلم في المملكة في هذا الموضوع وغيره.

وأضاف: "ما تزال الأمة بخير ما دام أهل العلم فيها يحفلون بآراء إخوانهم ولا يقللون من شأنها فضلاً عن النيل منها والحط من قدرها"، وفي مثل هذا يقول الإمام أحمد رحمه الله: "لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق - يعني ابن راهويه -، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً"، وفي مقام آخر يقول: "مثل إسحاق يسأل عنه إسحاق عندنا من أئمة المسلمين"، وقال يحيى بن سعيد الأنصاري : "ما برح المستفتون يستفتون فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يرى المحرم أن المحلل هلك لتحليله ولا يرى المحلل أن المحرم هلك لتحريمه"، وقد أثر عن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -قوله: "ما يسرني أن لي باختلافهم - أي صحابة النبي صلى الله عليه وسلم - حمر النعم"، قال القاسم بن محمد وهو أحد الفقهاء السبعة: "لقد أعجبني قول عمر بن عبدالعزيز: ما أحب أن أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يختلفوا ، لأنه لو كان قولاً واحداً كان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة"، وقال القاسم أيضا: "لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم ،لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة، ورأى خيرا منه قد عمله"، ولهذا لما ألف أحد تلامذة الإمام أحمد كتاباً سماه "الاختلاف" قال أحمد سمه كتاب:« السعة » وهذا الصحيح وليس كتاب السنة كما تصحف في نسخة مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا التجلي والرحابة العلمية دلالة على سعة أفق الإمام، فمن الاختلاف ما هو سعة ومنه ما هو شر، ومن الشر التلاوم والتجهيل وما يتبع ذلك من الشرور وهي حلقات متواصلة لا نهاية لها، لكن المهم في هذا عدم الاختلاف ألبتة في شأن المعتقد وثوابت الدين وأصوله ومسلماته، بل إننا والله لا نسوغ الخلاف في عامة المبتدعات ولو لم تكن شركية، بل ولا نرى مطلقاً التساهل في الاحتياط في مسائل الأبضاع والأعراض التي يحتاط فيها مالا يحتاط فيما سواها، ولاسيما تبذل النساء وتبرجهن وخضوعهن بالقول وإبداء زينتهن، واحتكاكهن ومخالطتهن للرجال في مشهد مريب، مكدر للأعضاء، لا تقبله الفطر السوية قبل النظر في الأدلة الشرعية التي أكدت على خصال الفطرة، مهما تأول المتأولون وطمع الطامعون "وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا".

وليس فعل هذا الأمر المشين من قبل بعض النساء دليلاً على حكم الشرع في موضوعنا ولا على القرار المستند على حكم الشرع بضماناته وتحفظاته، وأن تسد الذرائع في هذالصورة ذهنية لم تحصل وهي في أسوأ الأحوال لا تفضي للمفسدة إلا في حالات معزولة ونادرة، فهو من الشطط في توظيف هذا الدليل الشرعي، وتفويت واضح للمصلحة الشرعيةبتقدير نادر وظنون لو تتبعها القرار لما صارت تنمية ولا نهضة ولا مدنية.

وتابع الشيخ العيسى: "إنه وفق معايير فقه الموازنات نجد أن ثمة مفاسد يتعين درؤها في هذا الأمر تطال الانسجام المجتمعي وسكينته، وتحول دون تحقيق رغبته وفق ضوابط الشرع، فضلاً عما يطال سمعة الدولة يقيناً فيما لها فيه سعة ومندوحة وهي في منظومتها الدولية تتوخى التسديد والمقاربة وسلوك سبيل الحكمة، وترتيباً عليه فالقرار الحكيم بمشاركة المرأة لا نسبة بينه في هذه الموازنة الشرعية وبين التحفظ على مشاركتها، ووفق قاعدة المصالح والمفاسد فإن أدنى المفسدتين ترتكب لدفع كبراهما أو لمصلحة تغمرها، هذا على التسليم هنا بوجود مفسدة صغرى.

ومضى قائلاً إن دين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، ولا وكس فيه ولا شطط؛ فشريعتنا شريعة الوسط، وما أسهل أن تغلق على الناس ما فيه صالح معاشهم وانتظام حالهم فيما يغلب على الظن ضبط الناس فيه، بحجة سد الذريعة، وما أسهل أن تحرم، ويظن البعض أنه بهذا أبرأ الذمة وخرج من العهدة وفي هذا فوات عظيم فالله تعالى ساوى بين التحليل والتحريم في الكذب عليه، «وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ»، بل إن التحريم أشد من التحليل؛ لأنه في غير العبادات يخالف الأصل فالمحلل معه الأصل وهو الحل بخلاف المحرم، وقد قال الله تعالى:«يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك»، ولو فتح باب سد الذرائع على مصراعيه ولم تكن هناك معايير ومقاييس تزن باعتدال في هذا الأمر لحرمنا كثيراً مما أحل الله لنا، فالخمر تصنع من بعض الفواكه وفي الطيبات الأخرى غنى عن فاكهتها، وعلى نظرية التوسع في سد الذرائع يتعين تحريم بيع فاكهة صنعها، ما لم نجدْ طعاماً غيرَها، سداً لذريعة تصنيعها خمراً، ولا يفوت في هذا أن في بيعها على من يخشى منه ذلك خلافا بين أهل العلم وهذا خارج سياقنا، وخُذ تبعاً لهذه النظرية تحريم بيع أو إكراء البيت للفاسق حتى لا يفسق فيه ولو لم يظهر فسقه، في سلسلة تطول لا يزمها إلا قواعد المصالح والمفاسد، وقد يكون في تفويت المصلحة مفسدة تفوق المفسدة المراعاة، والفوات في هذا يرجع للقصور في تقدير أثر المصلحة جلباً ودرءاً.

واستطرد وزير العدل: "البعض مع الأسف يترقى ببعض الفروع ليجعلها في رتبة الأصول والمسلمات وعندما يحصل الجدل العلمي حولها يكون المتلقي العام أمام قضية جدلية هيفي توصيف المجادل من مسلمات وأسس الشريعة لكنها أمام المتلقي محل جدل ونقاش بين أبناء المنهج الواحد، وينشأ عن هذا حالة من الدهشة والحيرة، وعليه فالمجادل فيها "على أنها من الأسس والأصول"، يضعف من حيث يدري أو لا يدري قوة المسلمات وهيبتها في النفوس، فالتعامل مع القضايا الفرعية بتحفظ شديد ومصادرة للرأي الآخر مع نسبة القضية إلى الأسس والأصول لإحاطتها بالحصانة العلمية لا يعمد إليه إلا من تفوته الحجة والتأصيل وسعة المدرك، وليس أمامه والحال ما ذكر سوى التقوي والتحصين بنقل الجدل العلمي إلى منطقة الحظر وهي الأصول.

وأشار إلى أن أهل العلم ما زالوا يحسنون الظن بإخوانهم، ولولا هذه السعة والرحابة العلمية لما جاءنا هذا الثراء الفقهي في مجلدات ومطولات كانت بحق من مفاخر الفقه الإسلامي في سياق إرثنا العلمي العظيم المستمد من ميراث النبوة، ولكان الناس على رأي واحد أو آراء متقاربة لا تتجاوز في طول الفقه وعرضه مجلداً أو مجلدين، وقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم الاختلاف في فهم النص وصوب كلاً من الفهمين، ولم يعنت أحداً.

وعما يثار في هذا الموضوع فيما يكثر الممانع الحديث عنه وهو سد الذرائع، قال العيسى: "تحدثنا عن هذا قريباً وقلنا إن موضوع سد الذرائع طويل ويصعب التفصيل فيه في هذا المقام، لكن نوجزه إجمالاً؛ فالذريعة إذا كانت تفضي إلى المفسدة قطعاً فهذه تسد بالإجماع، وإن كانت تفضي إليها نادراً فهذه ملغاة بالإجماع، وإن كانت الذريعة تفضي للمفسدة غالباً فهذه فيها خلاف؛ فالمالكية وهو الأشد في أبواب سد الذريعة، يرون سدها ويرى رأيهم في هذا الحنابلة، فيما ترى الحنفية والشافعية أن هذا يرجع للمجتهد، والمجتهد في هذا يعاير بمعيار المصلحة الشرعية بحسب الأحوال والمقتضيات والفتوى تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والعوائد، ومثل الدكتور العيسى في هذا بقرار هيئة كبار العلماء السابق قبل عدة سنين بعدم جواز تدوين الأحكام القضائية المسمى تقنين الأحكام، ثم صدر قبل سنة ونصف تقريباً قرار من نفس الهيئة بجواز التدوين وفي كلا القرارين استدلت الهيئة بأدلة شرعية، لكن اختلفت المقتضيات والأحوال، وهذا يدل على سعة أفق هيئة كبار العلماء وسعة مداركها الشرعية، وإذا كانت الفتوى تضبط عن الفوضى وتحصر في علماء معينين مع أنها غير ملزمة ولا يمثل الاختلاف فيها مادام في سياقه الإيجابي سوى سعة الشريعة والتيسير على الأمة، فالحكم القضائي الملزم أولى بالضبط والإحكام خاصة وأن تناقض الأحكام ليس كاختلاف الفتاوى ينسب للسعة والتيسير على الناس، بل يُنسب لتضارب أحكام الشرع في الواقعة الواحدة، وإفادة القضاء من الثراء الفقهي والبحث والتحرير العلمي وعدم الحجر عليه إنما يكون في مساره الإيجابي وهو حصراً لمحكمة المبادئ، فهي التي يسوغ لها هذا الأمر، وذلك من منطلق اختصاصها بإرساء المبادئ القضائية والعدول عنها عند الاقتضاء، ومن المسلم به أنه لا يسوغ لمن دونها مخالفة مبادئها، وهذا متقرر في كافة أنظمة السلطة القضائية، ومتعارف عليه، ومعمول به عندنا، ومن خالف مبادئها نُقض حكمه، على أن للقاضي سلطة تقديرية في بعض الوقائع وسلطة أخرى في بيان ما يراه الحق بالأسباب المقنعة وقيام المقتضي الملح، على أن يسبب في حكمه بأنه يميل لهذا الاجتهاد عدالة للمسوغات المشمولة بأسباب حكمه وأن قضاءه في جميع الأحوال بين يدي تقويم المحكمة الأعلى، وعندئذ فمحكمة الاستئناف تُقَوِّمُ هذا التوجه الجديد وتدرس مسوغاته فإن رأتهصحيحاً وافقته، ليأتي دور محكمة المبادئ وهي المحكمة العليا لتنظر فيه فإن وافقته عدلت عن مبدئها وإلا صرفت النظر عن الاجتهاد الجديد، وهيمن مبدؤها على الواقعة.

وقاعدة لا ينقض الاجتهاد بمثله تنطبق صورتها الحقيقية على الإقليم يكون على قضائه قاض واحد، وقد حكم فيه باجتهاده فترة من الزمن، ثمَّ أعقبه عليه قاض آخر، فلا يحق لمن حكم القاضي الأول في قضيته الترافع ثانية عند الجديد، ومن جهة أخرى لا يسوغ للقاضي الخلف أن يسمع أمثال هذه الدعاوى التي فصل فيها سلفه، فضلاً عن أن ينقض قضاءه بحجة مخالفته الرأي، فالاجتهاد هنا لا ينقض بمثله، وهذا التأصيل في قواعد أهل العلم لحسم مادة التناقض في الأحكام في الواقعة الواحدة، ويُكيَّف كون القاضي الخلف يحكم بخلاف قضاء السلف في القضايا المستجدة بأنه أشبه بالعدول عن المبدأ القضائي، وهو سائغ، والعدول عن المبدأ لا يبرر باتفاق معاودة نظر القضية التي فصل فيها على المبدأ السابق، مع الأخذ في الاعتبار بأن قاضي الإقليم في تراتيب من سلف يعتبر نهائياً إلا في حالات نادرة، فهو قاضي الموضوع وله الهيمنة على القضية وإرساء مبدئها القضائي في نظائرها .

وعن الضوابط الشرعية التي يمكن أن تكون في عضوية المرأة في الشورى والبلديات، قال الشيخ محمد العيسى: "تكمن في الصيانة والعفة والحفاظ على خصوصية المرأة ورعاية كرامتها وقيامها بما يجب عليها من الستر والاحتشام والتوقي والحذر من مساوئ الاحتكاك بالرجل"، وقال: "نحن على قناعة بأن هذه التحفظات ستكون محل الاعتبار، وسيعمل بها بإذن الله حملاً على حسن الظن بإخواننا وأخواتنا وطاعة أولاً وأخيراً لمولاهم جل وعلا، ثم لتوجيه من ولاه الله أمرهم تأسيساً على أمر الشرع، كما أكد هذا الأمر الكريم. وعن كيفية تنفيذ هذه الضوابط والتقيد بها بنص واضح"، قال: "هذا شأن إجرائي تنظمه اللوائح الداخلية، ويجب أن تكون هذه اللوائح حذرة كل الحذر في أي إجراء من شأنه التساهل في الضوابط الشرعية".

وحول ما ذكره في تصريح سابق عن مستقبل الخطاب الإسلامي، قال الدكتور العيسى إن الخطاب الإسلامي لا يختلف في ثوابته وأسسه لكن يختلف في أدوات إيصاله، كما تختلف بعض الأحكام الفرعية من زمن لزمن ومن مكان لمكان ومن حال لحال، ومن عادة لعادة، لا على التشهي، بل على أساس مصلحي يتغيا مقاصد الشرع، فالنص لا يمكن أن يكون عقبة على امتداد الزمان والمكان وهذا مناط عالميته وإعجازه، لكن الإشكال في فهم النص، وفي الانغلاق على الرأي والفكر والبيئة، ولن ننسى أنه كان للشافعي - رحمه الله – رأيان: رأي في العراق ورأي في مصر. ولهذا التنوع أسباب عديدة: منها اختلاف البيئة، حيث وجد في مصر من العوائد والأحوال ما يختلف عما وجده في العراق وكذلك ما وجده في الحجاز.

وأضاف: "إننا أحوج ما نكون إلى خطاب إسلامي مستنير، يرعى الأسس والأصول، ويفرق بين الثابت والمتغير، ولا تفوته الأدوات المؤثرة في إيصال رسالة الإسلام، فالصحوة الإسلامية بحاجة ماسة إلى الأخذ بيدها وترشيدها، وأضاف بأن الخطاب الإسلامي الرشيد يستحوذ على عقول المفكرين والمثقفين والساسة وله تأثير على وجدان الرأي العام، فلابد أن يتبوأ هذا الخطاب الصدارة، ويكون مؤثراً في عالم مختلف عن سابقه تماماً، والمتأمل في آيْ الذكر الحَكيم يجد فوارق في الخطاب والتشريع بين مكيِّه ومدنيه في منتهى الحسن والإعجاز".

وتابع العيسى: "يجب أن يكون هذا الخطاب متجرداً كلَّ التجرد عن الرغبات والأهواء، فله رسالة وغاية لا يحرفها عن مسارها إلا من فتن بتحريف الكلم عن مواضعه، ولا يمكن أن يعمد الخطاب الإسلامي إلى قواطع الإسلام ومسلماته وقضاياه الكبرى، ليحيل ثوابتها إلى تلاعب بالدين ومداهنة للآخرين تحت أي ذريعة، لا بفقه الواقع، ولا ظروف المرحلة ولا غيرها من المصطلحات الحديثة التي وظفت مع الأسف توظيفاً سلبياً لإذابة الثوابت والأسس عن جهل أو عمد".

وتابع مشيراً إلى أن تجديد الخطاب الإسلامي الذي نريده هو تطوير أدوات التواصل والعمق في فهم مقاصد الشريعة ومراعاة الأحوال قدر الإمكان، على ضوء ما أشرنا إليه، فهو خطاب تطوير لا تحوير، وخطاب ارتقاء لا إلغاء، وخطاب سعة ورحابة لا ضيق مساحة، وما انتشر الإسلام وبلغ الآفاق وسرى مسير الليل والنهار إلا بمعاني السماحة والسعة واللين والتيسير لا التعسير والتبشير لا التنفير، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً.

ومضى الشيخ العيسى قائلاً: "يجبُ أن يرتقي خطابنا الإسلامي إلى مستوى التحدي المعاصر ويثبت وجوده وعالميته بحضور مؤثر ومقنع، ولا يكون هذا إلا بالابتعاد في صيغته عننطاق المحلية والإقليمية، والابتعاد كذلك عن سلبية تحويله إلى خطاب دفاعي تبريري، وأي إخلال بهذه المرتكزات في مقومات خطابنا سترتد سلباً لتعيق في ثاني الحال الطموحوالآمال حيث نتطلع دوماً إلى التميز في الخطاب بتعاملنا الأمثل والحكيم مع التحولات والتعقيدات والصعوبات التي زادها تعقيداً عصر معولم لا مكان فيه إلا للأقوياء مادياً وفكرياً، وما لم نحتط لذلك ونستشرف مستقبلاً أفضل، فسيدخل خطابنا في زوايا حادة يصعب علاجها، ومن يستقرئ السيرة النبوية المطهرة يجد في هذا من الأدلة والشواهد ما يضع بها أسساً وقواعد تنير السبيل".

واختتم وزير العدل حديثه عن حوار الحضارات والثقافات قائلاً: "إن الحراك الإسلامي في هذا أخذ بزمام مبادرته المعاصرة خادم الحرمين الشريفين، وقد قلنا لا يحاور إلا القوي، أما الضعيف فإنه يجبن عن الدخول في الحوار، ونحن نعيش في خضم تحولات فكرية مقلقة، تتطلب منا إيجاد آلية جديدة في أدوات التواصل والحوار، وقد حفظت ذاكرتنا حواراً إسلامياً مضى عليه نحو أربعين سنة كان في الرياض وفي مجلس الكنائس العالمي بجنيف، وفي الفاتيكان وباريس لثلة من علماء المملكة برئاسة الشيخ محمد الحركان، وعضوية الشيخ محمد بن جبير، والشيخ راشد بن خنين، والدكتور معروف الدواليبي وغيرهم، وقد انتهت هذه الخطوة الرائدة في حينها ولم تتكرر لكونها تفتقد للمظلة بعملها المؤسسي، وهو ما عالجه خادم الحرمين الشريفين - يحفظه الله -، والإسلام يمتلك إمكانات روحية وحضارية وتشريعية عظيمة، لا بد أن نحسن إيصالها لغيرنا، وفي هذا يقول البعض:«الإسلام قضية عادلة لكن المحامي فاشل»، غير أننا نقول متفائلين إن بعض المحامين ضعيف، ولابد من تقويتهم وتبصيرهم وإسنادهم بالمادة والفكرة، وإذكاء الرؤية الاستشرافية والحضارية في عملهم الإسلامي" .


ع ق   713

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..