ثقافة الفساد.. مطبخ السواليف
د/عبدالله الغذامي
الفساد ليس شيئاً يحدث بسبب المحفزات والمغريات فحسب، ولكنه يحدث أيضاً عبر الصناعة الثقافية. وللثقافة أدوار خطيرة جدًّا من حيث قدرتها على صياغة الذهنية الجماعية ومن ثم الفردية. وفي المطبخ الثقافي الذي نتعرض له على مدى حياتنا يجري نوع من البرمجة العصبية لسلوكنا من جهة ولأنماط تفكيرنا من جهة ثانية، ويشمل هذا كل ما نراه مقبولاً أو ما نراه منبوذاً، ويبدأ بالأشياء الظاهرة واليومية مثل اختيار اللباس حسب قانون الذوق، وهو قانون اجتماعي، وليس قانوناً فردياً، وكلما تكلمنا عن الذوق أو وصفنا شخصاً بأنه "ذواقة" فهذا معناه أن ذلك المرء - أو المرأة - إنما يتمثل الثقافة الاجتماعية بأدق شروطها، ويؤكد هذا ما نجده من اختلافات بين المجتمعات فيما تراه ذوقاً، ويراه غيرها سلوكاً وحشياً، مثل الدخول بالحذاء إلى المجلس أو خلعه عند الباب، ولو فعلت هذا في مجلس أوباما وخلعت حذاءك لكان هذا تصرفاً مستنكراً، ولكنك لو أبقيت حذاءك وأنت تدخل مجلس شيخ قبيلة لكان هذا قِلَّة أدب ونقصاً في الذوق، وكلا الحُكْمين صحيح حسب شروط البيئة الخاصة به.
هذا مثال ظاهري يتبعه أمثلة أخرى ذهنية؛ حيث يجري شحن الذهن البشري شحناً تدريجياً عبر مراحل عمره بواسطة ما يستهلكه من "قول اجتماعي" أو ما نسميه شعبياً بـ"السواليف"، وهي مطبخ ثقافي مهم وخطير.وفي مسألة الفساد وثقافة الفساد نستطيع أن نرى كيف تتنشأ هذه الثقافة من داخلنا عبر نوع من البرمجة المستمرة، وأجعل نفسي مثالاً أشهد عليه وأعرفه، ولقد بلغت من العمر ستاً وستين سنة، أمضيتُ معظمها في مجالس مجتمعي، وفيها كلها ما دخلتُ مجلساً صَغُر أو كَبُر إلا وسمعتُ كلاماً عن الفاسدين والفساد، وعن المشروع المسروق والمقاول السارق والمسؤول المرتشي.. إلى آخر القصص.هي قصص تأنس بها المجالس، وليست هجائيات بقدر ما هي متعة كلامية، وهذا مصدر خطرها، وذلك عبر استمتاع الناس بسردها وتسامحهم مع تفاصيلها حتى ليصير الريال ألفاً ثم مليوناً ثم ملياراً ومليارات، ويكون المتهم واحداً ثم يزيد لينتهي بأن كل الناس فاسدون. وأكثر ما تلحظه في هذا الخطاب هو تحوله إلى سرد وقَصّ إمتاعي لا يتورع عن الحديث بلا ضابط، ولا يهتم بالتأكد من الوقائع، ولا يتساءل عن صحة القصص، بل إنك تلحظ لو أن واحداً طيب القلب سأل عما إذا كانت القصة مؤكدة أو لو نبه المتكلمين إلى خطورة الغيبة والقدح بالذمم فإنه يسمع عادة ردوداً هازئة، وأقلها أن يوصف بأنه "نايم على ودنه" - حسب المثل المصري -، وهذه آلية ثقافية لفرض لغة المجلس وتوسيع دائرة الكلام.هي متعة مجالس بلا ريب، وخطرها يأتي من إمتاعيتها؛ لأنها تعمل عملها في أذهاننا دون أن نتبين خطرها؛ وذلك لأنها تبني في دواخلنا نمطية ثقافية تقول إن كل مسؤول شخص فاسد، والنتيجة الذهنية تبعاً لذلك هي تهيئتك دون أن نعي ذلك لا بوصفنا متحدثين ولا مستمعين لأن تكونَ فاسداً فيما لو صرتَ مسؤولاً؛ حيث إن المنصب رديف سيكولوجي وذهني للفساد.هذا ما تقوله المجالس دون أن تقصد ذلك، وقصدها الأساسي هو صناعة خطاب يملأ الفراغ، ويحلي الجلسة، ويشعل الفضول، وهذا هو الظن الأول، وهو تصور حقيقي وواقعي؛ إذ لا بد لكل جلسة من هذه الوجبة الشهية، وهي "الحكي"، وأحلاها ما كان عن ذوي الشأن من أصحاب الشهرة رجالاً ونساء، مسؤولين وفنانين وفنانات ورياضيين وغيرهم كالمثقفين والتجار والإعلاميين والإعلاميات، ويأتي موضوع الفساد بوصفه واحداً من أدسم الموضوعات وأكثرها إغراء، وهو شيء يحدث في أوروبا عبر صحف التابلويد، وعندنا في المجالس.تأتي صناعة الفساد ثقافياً عبر هذه الصيغة الاجتماعية، ويجري تأكيدها في الأذهان عبر تكرارها المستمر والمتنامي، وما كان في الماضي أَلْفاً - بما أن الألف كان مبلغاً مدوياً - صار الآن مليارات بما أن الأرقام فقدت قيمتها وفطريتها، وصارت تتضاعف بجنون غير منضبط. وفي هذه اللعبة الإمتاعية يجري تطوير تصور جدي وجاد بأن الفساد عام وتلقائي وواقعي، وإذا جاءتك الفرصة فكن مثل غيرك، وذاكرتك الثقافية تقول لك إنهم كلهم كذلك، ولست أنت بدعاً فيهم ولا شذوذاً أو نشازاً، ومثلما تلبس ما يلبسون وتأكل ما يأكلون، وكذلك تحب وتكره ما يحبون ويكرهون، بوصفها قاعدة لما يسمى بالذوق العام، بما أن هذا هو النموذج المصنوع للسلوك والتفكير.. إذن كن مثلهم، وقد قيل لك على مدى مجالسك كلها إنهم فاسدون و"يهبشون" بكل ما لهم من أيادٍ، وهذا هو مخزونك الحكائي على زمنك كله.هذه صورة افتراضية على القول، ولكنها شديدة الواقعية على مستوى التحليل والتدبر، ومن هنا يجري تعميم الفساد وتسويقه وتجميله ذهنياً وفي سريرة المرء الفاسد، ولن ترى شخصاً فاسداً إلا ويقول في ذهنه: "إنهم كلهم هكذا"؛ وهذا ما يسهل عليه فعلته، ولو أحس بأنه نشاز أو أنه الوحيد المتكتم والمتآمر لضاقت به الأرض بما رحبت خوفاً من الانكشاف والفضيحة.لقد نزعت المجالس فكرة الفضيحة؛ لأن "الحكي" المستمر عن الفساد، ووصف الكل به، جعلا الأمر بسيطاً عند الفاسدين حتى في لحظة الفضيحة؛ لأنه سيقول: "لستُ الوحيد، ولستُ الأول، ولن أكون الأخير"، وسيقول: "أنا مثلهم وهم مثلي.. إذن لا فضيحة".هذه صورة خطرة جدًّا، ونحن بكل تأكيد لا نملك تنظيم لغة أحاديث المجالس، ولا نستطيع وضع قوانين إدارية ولا أخلاقية لها، ولكنني أشير هنا إلى أن ثقافة الفساد تبدأ من أول لحظة يتعلم فيها الواحد منا سماع الأحاديث، وتستمر معه حتى آخر لحظة يسمع فيها الكلمات. ومن هنا نعرف كم هو متجذر فينا هذا الفساد. ولقد قلتُ من قبل إنني تعلمت أن أطرح على نفسي سؤالاً شخصياً إذا رأيتُ الفاسدين أو سمعتُ عنهم، هو:هل أنا فاسد مثلهم..؟؟!!هذا عندي هو أول قانون لمحاسبة النَّفْس، وهو أول قانون لمحاولة شفاء نفسي من ثقافة الفساد.ثم ألسنا كلنا مشاركين في صناعة الفساد؟ على الأقل عبر ترويجه في المجالس وتسويقه عبر تصوير الكون كله على أنه فاسد؛ ومن هنا تسهيل لعبة الفساد لتتنشأ في النفوس من غير مراقبة نقدية أو محاسبة أخلاقية؛ ما يجعلنا مشاركين في صناعة الفساد دون أن نعلم، ويجعلنا نصنع جيلاً يتهيأ للفساد بما أننا نقول له إن كل مَنْ سبقك كان فاسداً.للنسق الثقافي لِعَب كثيرة وخطيرة في برمجة الذهن البشري وتوجيه رؤيته، ليس في اختيار ملابسه فحسب، وإنما أيضاً في تصميم وتنميط ذهنه حتى ليصير بمنزلة الحاسوب المصنَّع ليكون هكذا، وليقدِّم هذا النوع من الخدمة، ولا يحيد عنها إلا بتنبيه عالي الدرجة كالصدمة الكهربائية.
صحيفة سبق الإلكترونية
http://sabq.org/sabq/user/articles.do?id=806
http://sabq.org/sabq/user/articles.do?id=806
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..