الجمعة، 11 نوفمبر 2011






 


 

 

 

فوز حركة النهضة و المفاهيم الإسلامية


علوي بن عبد القادر السَّقَّاف


المشرف العام على مؤسسة الدرر السنية


13 ذو الحجة 1432



ع ق 877


هربَ طاغيةُ تونس، وسقطَ ديكتاتورُ مصر، وهلكَ طاغوتُ ليبيا، وسيتبعهم نصيريُّ سوريا بإذن الله، وفرح المسلمون بذلك، وحُقَّ لهم أن يفرحوا، كيف لا يفرح المسلم بزوال الطغيان؟! كيف لا يفرح المؤمن بزوال الظلم والاستعباد؟! من لم يفرح بذلك فليشكَّ في دينه أو عقله.


وبعيداً عن الخوض في تداعيات هذه الثورات، فالمؤمَّل أن يكون هذا السقوط في صالح المسلمين إن شاء الله، فرفعُ الظلم والاستعباد الذي وصل في بعض هذه الدول إلى التضييق في العبادات، وإظهار الكفر البواح، لا شك أن فيه خيرًا كبيرًا للإسلام والمسلمين، بعد أن ظلَّ هذا الأمر عقوداً من الزمن حتى يئس كثيرون من تغييره {وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.


ثم رأينا بعد ذلك الهروبِ والسقوطِ والهلاكِ ظهورَ واجهاتٍ إسلامية، لم يكن لها أن ترى النور في ظلِّ الأنظمة السابقة، كالجماعات السلفية والإخوان المسلمين في مصر، وحزب النهضة في تونس، وفئامٌ من الإسلاميين في ليبيا، ولا شك أن هذا أيضاً مما يُفرح المسلمين الصادقين ويبهجهم، ويغيظ الله به قلوب الكافرين والمنافقين والعلمانيين.


والمتأمل لأوضاع المسلمين في فترة ما قبل سقوط هذه الأنظمة، وما آلت إليه الأوضاع الآن – رغم ما يكتنفها من مخاوف – لا يسعه إلا أن يتفاءل بأن أوضاع المسلمين في هذه البلدان ستكون إلى الأفضل -والله أعلم-، وليست الخشية الآن من صعود نظام كسابقه، فهذا زمن قد ولَّى، والشعوب لن تقبل به وسترفضه كرفض الشعب التركي لمصطفى أتاتورك جديد، بعد أن تنعمت بحكم أردوغان وحزبه، بل الخشية من ضياع المبادئ والثوابت والمسلَّمات، وتغيير المفاهيم، ففي العقود الماضية وتحت حكم الاستعباد والظلم، والكفر أحياناً ، كان المسلمون -وعلى رأسهم العلماء والدعاة- يدعون الناس إلى عقيدة صافية ومنهج واضح، ويأمَلُون ويؤمِّلُون الشعوب بحكم إسلامي نظيف، منبعه الكتاب والسنة على فهم سلف هذه الأمة، تحكمه النصوص، ولا يهمل العقل ولا يغفل الواقع، وأعداء الإسلام يعرفون جيداً أنه لو حصل هذا فقد قامت قيامتهم، وقربت نهايتهم، إسلامٌ: شعارُه الحاكميةُ لله، ودثارُه الولاء والبراء، وذروةُ سنامه الجهاد في سبيل الله، إلا أنَّ الأمر الآن بخلاف ذلك إذ أصبحت الرايات تُرفع للعدل، والحرية والمساواة والتنمية، وليس اعتباطاً أن يكون اسم الحزب الحاكم في تركيا الآن هو (حزب العدالة والتنمية)، والحزب الفائز والذي سيحكم تونس قريباً حزب النهضة، شعاره والمكتوب تحت عنوانه: حرية -عدالة- تنمية([1]) ، فالخشية إذن في ضياع المفاهيم ونسيانها مع وصول هؤلاء للحكم، أمَّا مسألة فرح المسلم بفوز حزبٍ إسلاميٍ سُنِّي- ولو شَابَهُ تخليطٌ وضلالٌ - على نظام لا يعترف بشريعة الله، فهذا أمر لا نُزَايد عليه، وهو من الولاء والبراء الذي أمرنا الله به، وقد حكم عقوداً من الزمن خلفاءُ مسلمون لهم على المسلمين طاعة، وهم أهل بدع وأهواء، فلا شك أن فوز حزب (العدالة والتنمية) في تركيا على الحكم العلماني العسكري السابق مما يفرح المؤمن الصادق -رغم توجهاته الليبرالية-، ولا شك أن فوز (حركة النهضة) في تونس على اليساريين والعلمانيين كذلك، لكن هذا لا يمنعنا من الحديث عن حركة النهضة وزعيمها ووضعهما في ميزان النقد الشرعي، حفاظاً على المبادئ والمفاهيم الإسلامية الأصيلة، فحزب النهضة وإن كان يدعو إلى الإسلام وتطبيق شرائعه، وله جهود في ذلك يشكر عليها؛ إلا أنه حزب عقلاني يشوبه ما يشوب دعاة لبرلة الإسلام وأسلمة الليبرالية، وهذا الحكم ليس نابعاً من تصريحاتٍ حديثةٍ يمكن أن تُفسَّر على أنها تصريحات مرحلية للفوز في الانتخابات، بل هو مبني على مبادئ من صميم منهج الحزب، والذي كتبه في بياناته ووثائقه، وما صرَّح به رئيسه الأستاذ راشد الغنوشي، بل إنه صرَّح مؤخراً في مقابلة له في قناة (حَنِبَعَل)([2]) التونسية أنَّ ما يقول به الحزب الآن، هو ما كتبه قادة الحزب وهم في السجن والمنفى، وبين يدي الآن وأنا أكتب هذه الوريقات أكثر من عشرين كتاباً وبحثاً ومشاركة في ندوات ومؤتمرات وحوارات له، كتبها كلها وهو في المنفى، فلا يصحُّ أن يقال بعد ذلك إن هذه تصريحات مرحلية، بل صرَّح هو نفسه أن مثل هذا يعد نفاقاً، وأن كل ما يقوله الآن بعد فوز حزبه في الانتخابات كان يقوله اعتقاداً وقناعة، وأنه مسطورٌ في كتبه، وقد صدق، وهذا مما يميز الأستاذ الغنوشي، فهو صادق الكلمة، صريح في أقواله، جريء في عرض قناعاته، لا يتلون كما يتلون بعض السياسيين من الإسلاميين وغيرهم، والحق يقال إنَّ الرجل عقلية فذة، ومفكرٌ عميق لا يرده شيءٌ عن نقد أي فكر، ولو كان ممن هو محل إعجابه والثناء عليه، كالخميني والترابي وأضرابهما([3])، والرجل لديه وعي إسلامي جيد، وإنصافٌ في كثيرٍ من أقواله، وله أيضاً شطحٌ وشططٌ، وعقلنةٌ، وبُعدٌ عن المنهج الحق، وهو متأثرٌ تأثراً بالغاً بالديمقراطية الغربية مع نقده لكثير من تصرفات الغرب ومنهجيته، ومتأثرٌ بالثورة الإيرانية على يد الخميني، وبالحركة السودانية بقيادة الترابي، وبالمودودي مؤسس الجماعة الإسلامية بباكستان، وبالفكر العقلاني المعتزلي، وبالمنهج المميع المتساهل والذي يسمونه (الوسطي المعتدل)، وأنا أنصح المتمكن من العلم الشرعي الذي له اهتمام بالسياسة الشرعية أن يقرأ كتبه ويستفيد منها، وخاصة كتابه: (الحريات العامة في الدولة الإسلامية) ففيه خلاصة قناعاته، وموقف الحركة من مسائل السياسة الشرعية.


نشأ الأستاذ الغنوشي ناصريًّا في مصر([4]) ثم يسارياً في سوريا([5])، ثم تحول بعد ذلك إلى الإسلاميين، وترك القوميين، والذي جعله يتحول هو اكتشافه تعارض القومية مع أصول الإسلام، وأنه كان منخدعاً بها لدرجة أن عمره الإسلامي بدأ في ليلة 15/6/1966م حتى إنه اغتسل ووحَّد الله في تلك الليلة – على حدِّ تعبيره([6])، وهذا كله لا إشكال فيه، بل هو منقبة له، ودليل على فطرته الإسلامية السليمة، لكن الإشكال هو أن الفكر القومي ظل مؤثراً عليه إلى يومنا هذا، حتى إنه صرح في مراجعاته على قناة الحوار بأنه- وبعد هذه السنين الطويلة- لا يعتبر اتجاهه الإسلامي نقيضاً لاتجاهه القومي، بل هو امتداد له.


ثم أنشأ بعد ذلك حركة الاتجاه الإسلامي (حركة النهضة حالياً)، وتاريخه طويلٌ مليء بالمعاناة والنضال والسجن والاعتقال والاضطهاد والصبر والمصابرة، مما نسأل الله عز وجل أن يأجُره عليه.


والذي يهمنا هنا هو فكره ومنهجه، ومنهج حركة النهضة التي وصلت إلى الحكم في تونس بعد سنين من الاضطهاد، هل هي الحركة التي يرجو المسلم الموحِّد من فوزها أن تطبق شرع الله، وترفع ظلم العباد لأنفسهم ولغيرهم، وهل هذا التمكين هو التمكين المرجو في قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}؟ وهل ينطبق على الحركة قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}؟


حركة النهضة التي اختلف فيها الدعاة اليوم بين مؤيد ومعارض، هي حزب يرفع راية الإسلام، وهو الحزب الوحيد المؤهل الآن لحكم تونس التي قضت عقوداً في العلمنة والإلحاد، لكن هذا لا يمنعنا أن ننقده، ونبين جوانب النقص فيه، وقد جعلت ذلك اختصاراً في ثلاثة محاور.


وقبل سرد هذه المحاور من المهم أن يعلم القارئ أن الحركة –كرئيسها الغنوشي- تقلبت خلال هذه السنين، وانتقلت من حال إلى حال، حيث كان للإخوان المسلمين أثرٌ عليها في بداية النشأة، ثم انتقلت الحركة إلى التوجه العقلاني، وأصبحت تعتبر جماعة الإخوان المسلمين جماعة سلفية تقليدية!!، وإليك جدولاً أعده عبداللطيف الهرماسي قارن فيه بين منهج الحركة وتوجهاتها في السبعينات ومنهجها في الثمانينات، استلَّه من بيانات الحركة وتصريحات زعيمها، نشره مركز دراسات الوحدة العربية، ومما جاء فيه:


1- الموقف من تطبيق الشريعة


في السبعينات: - تنفيذ أحكام الله وإقامة الحدود في المرحلة الثانية من الدعوة: مرحلة قيام المجتمع المسلم، التي تلي مرحلة الدعوة والبناء.


في الثمانينات: - تأجيل المسألة إلى أن يتم إعداد الرأي العام.


- تعطيل الحدود حتى تزول أسباب الجريمة، وتتوفر شروط التطبيق.


2- الموقف من تعدد الزوجات


في السبعينات: - تعدد الزوجات مباح وجائز بصريح النص المحكم الذي لا شبهة فيه، ولا يجوز للحاكم المسلم أن يمنعه مطلقاً.


في الثمانينات: - إن حركة الاتجاه ما كانت تهدف، ولا هي تهدف الآن إلى مراجعة منع تعدد الزوجات. وهي لا تعتبر التعدد أصلاً من أصول الدين، ولا تعتبر أن حل مشكلات الأسرة يتوقف على السماح بالتعدد.


3- الموقف من الاختلاط وتعليم المرأة وعملها


في السبعينات: -الاختلاط سبيل للفجور، وحق المرأة في التعليم محدود فيما يكفل قيامها بوظيفتها الطبيعية: شؤون المنزل ورعاية الأطفال، واشتغالها لا يجوز إلا عند شدة الحاجة، وشرط أن تكون المهنة شريفة، والمرأة دون عائل.


في الثمانينات: - اعتبار أن وجود المرأة في المؤسسة غدا أمراً واقعاً لابد من مواجهته بروح جريئة، واعتبار الممانعة في تعليم البنت تصوراً بدائيًّا ليس له أساس من الدين.


4- الموقف من الديمقراطية


في السبعينات: - الإسلام يتضمن كل ما نحتاج إليه لإدارة المجتمع.


- كل محاولة لإدخال مفاهيم مثل الديمقراطية والاشتراكية هي تعبير عن شعور داخلي بالهزيمة.


- الحرية والديمقراطية والمساواة، ليست سوى أصنام حديثة أو وسائل تخدير واستعباد.


- رفض كل النظم البشرية، والقول بمفهوم الحاكمية.


في الثمانينات: -العلاقة مع الله تمر بالشعب ثم بالحاكم الملتزم بتطبيق البرنامج الذي اختاره الشعب.


- نحن لا نعارض قيام حركة سياسية، وإن اختلفت معنا اختلافاً جذرياً.


- الحاكمية للشعب وحاكمية الله تمر عبر الشعب.]([7]) ا.هـ


والحديث عن حركة النهضة لا ينفك عن الحديث عن رئيسها ومنظِّرها الغنوشي، لذلك فما يُنسب له يُنسب لها، أمَّا المحاور الثلاثة فهي:


المحور الأول: الاتجاه العقلاني في الحركة والتأثر بالفكر القومي اليساري


وهذه شهادة رئيس الحركة في انتقالها إلى العقلانية مع نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، يقول الغنوشي: (لقد نما النقد داخل الحركة، وكان للعقلانية دورٌ مهم في ذلك، بالإضافة إلى ضغوط الواقع والشعور بعزلة الحركة نتيجة للانكسارات التي أحدثتها في علاقة الفرد مع وسطه، حتى غدا التوتر والعزلة سمتين لأغلب العاملين من أبناء الحركة في علاقتهم بمجتمعهم، ... فلم تنته السبعينات إلا وقد تخلى أغلبية العاملين في الحركة عن الخوض في تلك القضايا،كما انقطع أغلبهم عن حركات الرفع، وبعضهم عن القبض في الصلاة([8])، وانقطعوا جملة عن الخوض في مسألة التوسل والتعرض للصوفية([9])، بل قطعت الجماعة خطوة أبعد، فعملت على تخفيف التوتر مع المشايخ والصوفية، وأخذت في تنظيم لقاءات مع هؤلاء وأولئك، قاطعة بذلك مع التدين السلفي الوارد علينا من المشرق في صيغة كتابات للشيخ ناصر الدين الألباني وجابر الجزائري.


كما أنه قد نما بتأثير التدين العقلاني وتنامي دور الجناح الطلابي وحجمه في قاعدة الحركة ومؤسساتها مع نهاية السبعينات، وهو جناح اضطره موقعه في مهب المعارك الأيدولوجية والسياسية في الجماعة إلى تقديم الإسلام لا كدعوة بل كرؤية أيدولوجية عالمية)([10]).


أمَّا تأثر الحركة بالفكر القومي والناصري فهذا واضح في كثير من تصريحات الغنوشي، وقد أوضح ذلك بشكل جلي فؤاد السعيد في أطروحة له بعنوان: (إعادة كتابة الناصرية إسلاميًّا - قراءة في فكر راشد الغنوشي) نشرها عبد الحليم قنديل، ختم الدراسة بقوله: (إن أطروحات الغنوشي والحركة الإسلامية التونسية قد لا ترضي القوميين بشكل كامل-وهو أمر غير وارد، وإلا تطابقت المواقف، ولم تعد هناك قضية لتناقش بين الطرفين- ولكنها بلا شك الأطروحات الإسلامية الأكثر قرباً من الفكر القومي الناصري، سواءً على مستوى منهج التفكير أو على مستوى الموقف من الاجتهاد والتجديد الإسلامي أو بالنسبة لفهم القضية الاجتماعية أو العلاقة بين الإسلام والعروبة، وهي خطوة كبيرة على طريق التقارب السياسي، بل والتطابق الفكري)([11]).


المحور الثاني: الخلل العقدي والمنهجي في الحركة


هذا المنهج العقلاني والفلسفي في الحركة أورثها خللاً منهجيًّا وعقديًّا في كثير من الأمور، فمن ذلك:


1- خلل في الموقف من الثورة الإيرانية، والإمامية الاثني عشرية:


تحدث الغنوشي عن أثر الثورة الإيرانية في الحركة ومن ذلك: (التفاعل العميق مع الثورة الإيرانية في نهاية السبعينات على نحو اختلف نوعاً ما عن تفاعل الحركات الإسلامية السلفية البحتة، فلقد بلغ الحماس هنا لهذه الثورة أوجاً لم ير مثله لدى أية حركة إسلامية أو غير إسلامية في البلاد، وكان لهذا التفاعل أثره الكبير في تجذير الفكر السياسي والحركة للجماعة في اتجاه القطيعة، مع ما قد يكون فيه من تجاوز لمقتضيات المصلحة)([12]). ويقول عن الاتجاه الإسلامي إنه: (تجاوز البعد الطائفي في التعامل مع الثورة الإسلامية في إيران)([13]).


ومن أقواله عن التيار الشيعي: (وقد تعاظم شأن هذا التيار في إثر الانتصار الباهر الذي حققته الثورة الإسلامية في إيران ضد النظام البهلوي، وكان الخطاب الإيراني الثوري التعبوي الحامل أنَّات المستضعفين، وآلام القرون، وأشواق الاستشهاد، من خلال كتابات عدد من العلماء المجاهدين الرواد الذين نظروا إلى الفكر الشيعي، وحاولوا نفض غبار القرون عنه وتقديمه رؤية إسلامية عالمية وناطقاً رسميًّا وحيداً باسم الإسلام، وكتابات الشهيد الصدر والمطهري -وشريعتي على رأسها- قد أطلقت موجة عاتية من الفكر الثوري الشيعي اجتاحت عدداً كبيراً من مثقفي العالم ومثقفي السنة، وفي غمرة الحماس لانتصارات الثورة كانت أفكار هؤلاء الرواد، بل حتى التراث الشيعي قبل أن ينفض عنه الغبار، تجد صدى متعاظماً، وكانت انتصارات الثورة تقوم مقام كاسحات الثلوج أمام الفكر الشيعي تفتح في وجهه الطريق فيتقدم دون مقاومة تذكر)([14]).


ويقول مخاطباً السنة والشيعة معاً، وأنه لا أحد من الطرفين يحتكر الحقيقة!: (فهل من فَيْأة إلى الرشد تحرر العقول من فكرة احتكار الحقيقة وادعاء كل طرف لا بمجرد أنه أهدى سبيلاً([15])، بل إن سبيل الإسلام هو سبيله ولا شيء غير ذلك، وهو نهج خاطئ علميًّا مضر سياسيًّا، ولا شك في أنه على الطرف الآخر من هذا النهج تقف الدعوة إلى تكفير الشيعة وتجاوز ما استقر عليه أهل السنة من أن الشيعة الإمامية والزيدية: هم من أهل القبلة، مع تسجيل مآخذ عليهم)([16]).


وتحدث في مراجعاته على قناة الحوار عن تركيز الحركة على البعد الاجتماعي، بدلاً عن البعد العقائدي، على خلاف السائد لدى الحركات الإسلامية في ذلك الوقت، وأنهم أخذوا عن الحركات اليسارية واستفادوا منها، وكيف أنه كان منخدعاً بفكر سيد قطب الذي تعلموا منه أن الخلافات عقدية حتى ظهرت الثورة الخمينية، فتعلموا منها أن الصراعات بين الأمم أغلبها ليس عقديًّا وتأثروا بها وعرفوا –حسب تعبيره- خطأ فكر سيد قطب وصوابية منهج الخميني.


ثم تحدث في الحوار ذاته عن تفسير قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} وكيف أن الخميني أشعل معناها في صدورهم، فأبرز بُعداً جديدً للصراع في الإسلام وهو صراع المصالح! الصراع بين المستضعفين والمستكبرين! بينما كان سيد قطب يركز فقط على آيات المائدة {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} {الظَّالِمُونَ} {الْفَاسِقُونَ} فجاء الخميني ليبين أن الصراع في العالم ليس صراعاً مبنيًّا على العقائد فحسب، وإنما هناك صراع مصالح أيضاً.


والشاهد هنا ليس هو نفي وجود صراع مصالح، فهذا لا ينكره عاقل، بل الشاهد هو تأثره بالفكر الخميني بعد أن كان متأثراً بفكر سيد قطب، بل أكَّد في تراجعاته أنه لا يوجد سبب حقيقي للتصادم بين الإسلام والغرب سوى المصالح!!


2- إعجابه بالحركة السودانية على يد الترابي، واعتباره أن من المؤثرات على حركة الاتجاه الإسلامي (حركة النهضة حالياً): (التفاعل مع التجربة السودانية، وهي محاولة من داخل الحركة الإسلامية السنية لتجاوز الرؤية المعاصرة للسلفية، وإقامة نوع آخر من العلاقة بين السلفية الأصولية وبين الواقع الحضاري المعاصر، فقد كان للتجربة السودانية تأثير فعَّال في تطوير الجماعة الإسلامية بتونس على المستوى الأصولي والاجتماعي، وعلى المستوى الطلابي)([17]).

بل من شدة إعجابه بالترابي نعته بالمجدد، فقال عنه: (ولا شك أن الريادة بين الحركات الإسلامية المعاصرة في تحرير المرأة ومشاركتها تظل للحركة الإسلامية السودانية بتأصيلات مؤسسها المجدد الشيخ الترابي ...)([18]).


3- الجهاد عنده هو جهاد الدفع، وقد صرَّح بذلك أكثر من مرة، آخرها في مقابلة معه في برنامج (الصراحة راحة) في قناة (حنبعل) التونسية.


4- اعتراف الحركة بكل التشكلات الحزبية بما فيها العلمانية والشيوعية([19]).


5- شارك بكلمة في المؤتمر القومي الإسلامي الأول عام 1415ه – 1994م،وحث فيها على أن تشارك النساء في لجان المتابعة، ورشح أحد النصارى لعضوية لجنة التنسيق، ودعم حزب الله.



6- الردة عن الإسلام جريمة سياسية يعاقب عليها الحاكم تعزيرًا لا حدًّا، وليست قضية مرتبطة بحرية العقيدة، وقتال أبي بكر للمرتدين كان سياسة لا دينًا([20]).


المحور الثالث: الخلل في السياسة الشرعية


1- ترديد عبارة أن الشرعية والسلطة للجماهير وللشعب، ومن أقواله: (إن أول ما يتعين تأكيده في هذا الصدد هو أن حركتنا هي حركة إسلامية سياسية، ذات طموحات تغييرية تنموية شاملة، تسعى إلى تأصيلها بما يتلاءم وقيم الأمة الحضارية، وتجتهد في تحقيقها استناداً على الشرعية الجماهيرية. فهي بهذا المعنى ليست حركة دينية تجزئ نظرتها للإسلام، وتحتكر الحديث باسمه، وتستمد شرعيتها من سلطة غيبية متعالية تفرض التسلط والاستبداد باسمها، وتصادر حريات المخالفين العامة والخاصة من أجل السيادة)([21]).


ويقول: (إن رفض (حركة الاتجاه الإسلامي) اعتبار نفسها دينية بهذا المعنى وتأكيدها في مقابل ذلك على طابعها السياسي بالمفهوم الإسلامي – يجعل حقها في الممارسة السياسية واضحاً ومشروعاً لا يتوقف على أن يحدده أو ينظمه طرف سياسي ما، وإنما يفرضه واقعها الجماهيري، وينظمه القانون، وعلى رأس هرمه (الدستور) الحالي للبلاد، رغم ما لنا عليه من مآخذ)([22]).


وفي سؤال وجِّه إليه:


(إذن أنتم تعملون ضمن إطار المجتمع المدني، في استمدادكم للشرعية، ولا تتوجهون إلى هرم السلطة، ولا تنظرون لأنفسكم أنكم فوق المجتمع.


أجاب: التوجه إلى هرم السلطة مبدأ عندنا، والإسلام بوصفه مشروعًا سياسيًّا، لا يختلف عن غيره من المشاريع الأخرى، من حيث إنه لا شرعية له، إلا ما يستمدها من قبول الجماهير.


فالمشروع الإسلامي، لا يستمد مشروعيته في حكم الناس، إلا برضاهم، والدولة الإسلامية بالتالي، هي دولة مدنية كسائر المدنيات الأخرى، ليس لها من شرعية، إلا ما تستمده من شعبها، وشعبها هو صاحب السيادة عليها، والاستخلاف في الأرض ليس للدولة وإنما للأمة. واستخلاف الدولة متأت من الأمة. فليس في الإسلام سلطة دينية ثيوقراطية، بل هناك سلطة مدنية تقوم بتنفيذ القانون الإسلامي بوكالة عن الأمة... وللأمة في أي وقت شاءت سحب وكالتها)([23]).


2- يخلط الغنوشي بين إجماع علماء المسلمين، وبين إجماع الرأي العام أو الشعب، وقد تكرر هذا في كثير من تصريحاته ومن ذلك قوله: (إن الإجماع الذي عُدَّ في شريعة الإسلام مصدراً من مصادر الشريعة إلى الكتاب والسنة، هذا الإجماع هو دعوة صريحة إلى الاعتراف بالرأي العام، على اختلاف اتجاهاته وميوله الأصلية الثابتة ورعايته عند التشريع، وهذا العنصر البشري الذي دخل على الشريعة جزء منها ليس غريباً عنها، بل هو رشح من هديها ما ظلت الأمة متطهرة كادحة في طريق الله، فلا عجب عندئذ أن تنظر بنور الله، وأن تغدو رؤاها جزءاً من النبوة، فالحسن ما رأته حسناً)([24]).


فالأمة عنده: الرأي العام أو الشعب، بل إنه يصرح بأن {أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} هم الأمة والشعب، وذلك بقوله: (ذهب بعض العلماء المعاصرين إلى أن {أُولِي الْأَمْرِ} ليسوا علماء الشريعة ضرورة، بل طائفة منهم ومن غيرهم ممن هم مطاعون في قومهم وأصنافهم، مثل زعماء الأحزاب والنقابات وغيرهم، ممن يحوزون على تمثيلية الأمة)[25]، ولا يلزم عنده أن يكون هؤلاء مسلمين، (أما غير المسلمين من مواطني الدولة الإسلامية، وهم الذين رضوا بإعطاء ولاءهم كاملاً للدولة الإسلامية، واعترفوا واحترموا هويتها الإسلامية، فلا مانع من أن توكل إليهم الوظائف في أجهزة الدولة، وأن يكون لهم تمثيل في المؤسسة الشورية، وسيكونون قطعاً أقلية في حكم إسلامي يقوم على أكثرية إسلامية. وإن اشتراط أن يكون أولو الأمر من المسلمين – منكم – يمكن أن يحمل على أنه شرط تغليب، يقتضي أن تكون أغلبية أولي الأمر من المسلمين؛ لضمان عدم تحول الدولة عن أهدافها)[26] (المهم هنا التأكيد على أن الهيئة الشورية في الدولة الإسلامية يمكن أن تضم أقلية أو أقليات غير إسلامية، وأن اشتراط الإسلامية إنما هو لأغلب أعضائها ولرئيس الدولة خاصة)([27]).


3- الغنوشي لا يرى شرعية أي دولة جاءت بدون اختيار الشعب عن طريق الانتخاب وصناديق الاقتراع، ولو حكمت بشرع الله، فيقول: (لا شرعية في نظام إسلامي جدير بهذا الوصف غير تلك التي تتأسس على نظام واضح وصارم من الشورى، قائم على مبايعة صحيحة تعبر عن إرادة الأمة، شعب الدولة، وذلك عبر انتخابات تتوفر على كل شرائط الصدق. لا شرعية في نظام إسلامي تستمد من مجرد وراثة أو من استخلاف أو من انقلاب أو من أي صورة من صور التسلط السافر أو الخفي عبر تزييف الانتخابات أو الاستقواء بقوى خارجية أو ادعاء وصاية إلهية على الأمة أو عصمة أو بالاستناد إلى شرعية تاريخية. إلخ. لا ثيوقراطية في الإسلام بل حكم مدني من كل وجه، الأمة، شعب الدولة مصدر كل سلطاته، وطريقه الوحيد البيعة العامة، التي لا تغني عنها البيعة الخاصة، إذ هي مجرد ترشيح)([28])، وهذا جعله- غفر الله له- يتطاول على أمير المؤمنين وخالهم معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ويسيء الأدب معه –وهذا من أثر إعجابه بالثورة الإيرانية- حيث قال عنه: (الوالي المنشق معاوية بن أبي سفيان، وقد غلبت عليه- غفر الله له- شهوة الملك ومواريث عصبيته القبلية، فلم يكتف بأن انتزع الأمر من أهله عنوة وكيداً، بل مضى لا يلوي على شيء حتى صمم على توريثه – كما يورث المتاع – لابنه الفاسق وعشيرته، فجمع في قصة مشهورة ثلة من المرشحين للخلافة، فقام خطيبه معلناً: الخليفة هذا- مشيراً إلى معاوية- وخليفته ذا، مشيراً إلى يزيد، فمن أبى ذلك فليس له غير هذا. مشيراً إلى سيفه، فقال له معاوية: اجلس، فأنت خطيب القوم). ومنذئذ بدا مسلسل الشر والفساد، مؤبِّداً الدكتاتورية وحكم الفرد على اختلاف في الصورة)([29])، فإذا كانت هذه نظرته لخلافة معاوية رضي الله عنه، فكيف هي مع الدولة الأموية وخلافة عمر بن عبد العزيز، وخلافة الدولة العباسية وأخيراً الخلافة العثمانية؟! فعلى هذا التصور فكلها أنظمة غير شرعية!!.


بل إنه على هذا النهج تكون خلافة عمر بن الخطاب خلافة غير شرعية حيث ورَّثه أبو بكر الصديق رضي الله عنهما، وكذا عثمان حيث جعله عمر بن الخطاب رضي الله عنهما واحداً من ستة ولم يجعل للشعب خياراً في غيرهم.


4- الغنوشي لا يرى طريقاً للحكم إلا عبر الديمقراطية، مهما كلف الحركة من تنازلات، وهو يدعو إلى تبنيها تبنياً كاملاً، والديمقراطية عنده تعني إشراك كافة الشعب في الحكم مسلمهم وكافرهم، ذكرهم وأنثاهم دون تمييز، ومن أقواله في ذلك: (حركة النهضة: تعتبر أبرز وأقدم ممثلي الحراك الإسلامي في تونس والأسبق إلى التبني الكامل للخيار الديمقراطي، والمطالبة بتعددية لا تستثني تياراً سياسيًّا مهما كانت خلفيته الأيدولوجية، وما توسل إليها بطرق الإقناع، جاء في البيان التأسيسي لهذه الحركة أنها ترفض مبدأ الانفراد بالسلطة الأحادية؛ لما يتضمنه من إعدام لإرادة الإنسان، وتعطيل لطاقات الشعب، ودفع البلاد في طريق العنف، وفي المقابل إقرار حق كل القوى الشعبية في ممارسة حرية التعبير والتجمع وسائر الحقوق الشرعية، والتعاون في ذلك مع كل القوى الوطنية، وحجتهم أن المذهبية الإسلامية التي استوعبت في داخلها اليهود والنصارى لهي من المرونة بحيث تستوعب داخل إطارها الشيوعيين والعلمانيين؛ إذ لم يكونوا أكفر من اليهود والنصارى)([30]).


وهو يُعَدُّ رائداً لدى الحركات الإسلامية في تبني الديمقراطية الغربية تبنياً كاملاً، وهذا شهد به عددٌ من الكتاب القوميين وغيرهم، ومن هؤلاء حيدر إبراهيم بقوله: (فقد بدأت الحركة بعد عام 1984م تعلن صراحة وبوضوح قبولها لكل شروط اللعبة الديمقراطية، وما يترتب عليها من نتائج، ويكتب بورغا: "وللمرة الأولى -حسب معلوماتنا- يتخذ مناضلوا الإسلام السياسي في العالم العربي موقفاً صريحاً مع الديمقراطية التي يطالبون بها ويدافعون -رغم الاختلافات الأيدولوجية- عن حق التعبير والتنظيم بالنسبة لجميع الأحزاب الموجودة حتى إذا كانت هذه الأحزاب تمثل النقيض الأقصى لهم مثل الشيوعيين، ويصل بهم الأمر إلى القول بأنهم على استعداد لاعتبار سلطة الشيوعيين شرعية إذا كانت تلك رغبة الشعب الذي يدلي برأيه بطريقة ديمقراطية. وقد كان كتاب الغنوشي الأخير: (الحريات العامة في الدولة الإسلامية)، كما أسلفنا جهداً فكريًّا لتَبْيِئةِ وتوطينِ الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان في فكر الحركات الإسلامية، ثم في المجتمعات والدول الإسلامية)([31])، (فحركة النهضة أصبحت تمثل تياراً عصريًّا متنامياً داخل الساحة الإسلامية العربية، وخلال ربع قرن من النضال تمكنت حركة النهضة من أسلمة الحداثة، فأكبر إنجاز للحركة الإسلامية التونسية، هو في نقلها الإسلام إلى عالم الحداثة، ونقل الحداثة إلى عالم الإسلام، وتجسيد العلاقة بين هذين العالمين اللذين ظُنَّ أصلاً أنهما لا يتصلان)([32]).


5- مفهوم الحرية يتوسع عند الغنوشي حتى يصبح أولى أولويات الحركة وسابق لتطبيق الشريعة: (مسألة الحرية – في تصورنا – ليست مسألة ثانوية، بل هي منطلق أساسي، لكل عملية نهضوية، فنحن لا نتعامل معها على أنها مسألة ظرفية، أو نريد بها استغلالاً آنياً لواقع معين، وإنما هي مبدأ وقيمة لا نتنازل أبداً عنها)([33])، وفي مراجعاته عبر قناة حوار يقول: (إن الحركة لا تعتبر أن مشكلة البلد عدم تطبيق الشريعة، وإنما هو غياب الحرية، وإن مشروع الحركة لا يتجاوز المشروع الوطني العام: مشروع الحريات والديمقراطية، بل مطالبها كلها تدور ولا تزال في الساحة التي تتلخص في حرية التعبير وحرية التجمعات وتكوين الجماعات).


6- يقول الغنوشي عن ولاية المرأة الولايات العامة: (ليس هناك في الإسلام ما يقطع بمنع المرأة الولايات العامة قضاء أو إمارة)([34])، بل صرَّح بحقها في رئاسة الدولة([35])، وهذه إمامة عظمى انعقد الإجماع على عدم جوازها، قال ابن حزم رحمه الله: (وجميع فرق أهل القبلة ليس منهم أحد يجيز إمامة امرأة)([36]).


هذا غيضٌ من فيض يجعلك تعرف كِبَر الهوة التي بين منهج هذه الحركة والمنهج الإسلامي الصحيح، وليعذرني القارئ فقد أكثرتُ عليه من النقل لكن ليعرف مدى الغفلة التي يعيشها كثيرٌ من الدعاة اليوم الذين لا يفرقون بين الفرح بفوز حزب إسلامي وبين جعله الفجر المنتظر، والفرج القادم الذي سيعيد للأمة الإسلامية مجدها ورفعتها.


ولو أن حركة النهضة وزعيمها جعلوا ذلك ضرورة تقتضيها المرحلة، أو أنه من باب تحقيق أرجح المصلحتين ودفع أفسد المفسدتين، لأمكن النظر في عذرهم، أمَّا أن يُجعل ذلك هو الدين وهو الإسلام الذي يرتضيه ربُّ العباد لعباده فهذا هو الظلم بعينه للشريعة، وما كان الهدف من هذه الوريقات انتقاص الحركة أو زعيمها، وهي أحوج ما تكون اليوم للمؤازرة والتثبيت على ما عندها من الحق، والتوجيه والإرشاد إلى مواطن الخلل والضلال، ولكنَّ هذه الوريقات المستهدف بها من التبست عليهم الأمور فخلطوا بين الفرح بفوز حزب إسلامي وبين صحة مساره وتوجهه.


وختاماً، هذه خلاصات لما سبق، أجملها في عشر نقاط:


1- حركة النهضة حركة (ليبرو إسلامية) متأثرة بالطرح العلماني، وهي إحدى شبكات ما يسمى بالإسلام المعتدل الذي أوصى تقرير راند بدعم أمثاله، ووصولها للحكم في تونس ليس هو الفجر الصادق المرتقب.


2- الفرح بفوز حركة النهضة ونصرتها من مقتضيات الولاء للمسلم، والتخوف من مستقبل ذلك له ما يبرره، خشية أن يكون ضرر عرض الأحزاب الإسلامية للإسلام عرضًا مشوهًا باسم الإسلام، أكبر من ضرر الأحزاب العلمانية نفسها.


3- الغرب لا يخشى كثيراً من وصول أمثال حركة النهضة للحكم، بل قد يدعمها ليقطع الطريق على حَمَلَة الإسلام النقي من الشوائب ومن ينعتهم بالمتشددين أو المتطرفين.


4- الإسلامُ منهجُ حياة، وهو صالح بكليَّتِه في كل زمان ومكان، والسياسةُ جزءٌ منه، أمَّا الزعم بأنه لا يصلح في زماننا هذا -زمان الديمقراطيات- إلا ما يسمى بالإسلام السياسي، فهو زعم باطل، ووصول بعض من يتبنى ذلك اليوم للحكم ليس دليلاً على صحته.


5- ليس كلُّ من تمكَّنَ من الحكم بعد اضطهادٍ وظلمٍ يكون تمكينُه من جنس ما يدخل فيقوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}، حتى يأتي بشروط التمكين فيطبق شرع الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.


6- حسنُ النية وسلامةُ المقصد لا يعني بالضرورة صواب العمل والمنهج، وإخواننا هؤلاء نحسبهم صادقين -والله حسيبهم-، وقد قدموا تضحياتٍ كبيرة، ولكنهم يحتاجون لإعادة توجيه بوصلتهم إلى الاتجاه الصحيح.


7- التأصيل الشرعي يقي مصارع الضلال، والدين الصحيح لا يقوم إلا على علم شرعي صحيح.


8- تثبيت المفاهيم والمبادئ في زمن الضياع والتفلت من أوجب الواجبات على العلماء والدعاة وطلاب العلم، وشدة الخوف وشدة الفرح كلاهما من مظنات فتنة الناس عن حقائق دينها.


9- التفاؤل بتحسُّنِ أوضاع المسلمين بعد الثورات العربية مطلوب، وعلى دعاة الإسلام اقتناص الفرص والاستفادة منها.


10- لعل الله يريد خيراً ببعض الناس؛ الذين لو جاءهم الإسلام بتشريعاته، وبصرامته لربما نفروا من أوامره ونواهيه، فقد مضت عقودٌ ودولهم تحت الاستعمار، ثم عقودٌ وهي تحت الاستعباد، عاشت خلالهما الشعوب- في ظلمٍ، وجهلٍ، وفقرٍ، وطمسٍ للمفاهيم وتغييرٍ للحقائق، وتبديلٍ لشرع الله، فانتقالها من هذه الحال إلى حال أخرى توافق شرع الله يحتاج إلى مُددٍ من الزمن، فلعل في هذا حكمة وتدرجاً إلهيًا للشعوب يهيئون من خلاله لمرحلة انتقالية على وِفقِ شرع الله، فبقدر ما يفرح المسلم بسقوط تلك الأنظمة، وبقدر ما يأسف من عدم وجود البديل الشرعي المناسب للوصول إلى السلطة، بقدر ما يستبشر خيراً لمستقبل واعد، إن شاء الله.


{وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.


وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبهِ وسلم




__________________________________________________ _______________


([1]) كما أنه ليس اعتباطاً أن تكون الوثيقة الاستراتيجية للأمن القومي الأمريكي والصادرة في مارس 2006 والتي جعلت من تشجيع الديمقراطية والحرية في الوطن العربي، الدعامة الأولى، وجاء فيها ما نصه: ((إن الدعامة الأولى والركيزة الأساسية هي: تشجيع الحرية والعدالة وكرامة الإنسان والعمل على إنهاء الطغيان لتشجيع الديمقراطيات)) انظر تقرير مؤسسة راند لعام 2007 بعنوان: تكوين شبكات من المسلمين المعتدلين.


([2]) يقال إن هذه التسمية نسبة إلى قائد قرطاجي عاش قبل الميلاد.


([3]) ولست هنا في مقام ذكر الانحرافات الهائلة لكل منهما فهذا له محله وقد أُفردت فيه مؤلفات، لكن المراد ذكر تأثره بهما.


([4]) ذكر في مراجعاته مع عزام التميمي على قناة الحوار وقد صدرت في خمس حلقات وهي موجودة على اليوتيوب بعنوان: (مراجعات مع الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة التونسية): أن الناصرية كانت تملأ قلبه وفكره وبرر تأثره وتأثر من حوله بالفكر الناصري بسبب تغطية الفكر الناصري للنقص الذي كانوا يشعرون به.


([5]) ذكر في مراجعاته أنه انخرط في سوريا بالحزب الناصري وأنضم للاتحاد الاشتراكي.


([6]) ذكر هذا أيضًا في مراجعاته.


([7]) عبداللطيف الهرماسي، (الحركات الإسلامية والديمقراطية) (ص304)، مركز دراسات الوحدة العربية.


([8]) مسألة رفع الأيدي أثناء التكبير في الصلاة والقبض باليمنى على اليسرى، من صفة الصلاة التي أمرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) والاهتمام بها واجب، أما الانشغال بها بما هو أوجب منها، أو عقد الولاء والبراء عليها فمذموم ومن ضعف الفقه في الدين، وكذا الاستهانة بها وجعلها من القشور كما يُفهم من كلام الغنوشي -عفا الله عنه-.


([9]) وهذا الانقطاع لا مبرر له إلا الاستهانة بأمور البدع وخطر المبتدعة وهذا من أثر المنهج العقلاني الذي تبنته الحركة.


([10]) راشد الغنوشي، حركة الاتجاه الإسلامي في تونس، ص 35، دار القلم 1409هـ، وانظر: بحوث ندوة (الحركات الإسلامية المعاصرة في الوطن العربي) نشره مركز دراسات الوحدة العربية عام 1987م.


([11]) فؤاد السعيد، (عن الناصرية والإسلام) ص369، تحرير: عبدالحليم قنديل.


([12]) المصدر السابق ص36


([13]) المصدر السابق ص42


([14]) راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، ص21


([15]) ما أضل السُنِّي إن كان لا يرى أنه أهدى سبيلاً من الرافضي.


([16]) المصدر السابق ص152


([17]) راشد الغنوشي، حركة الاتجاه الإسلامي في تونس ص36


([18]) راشد الغنوشي، المرأة في القرآن الكريم، ص128.


([19]) راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، ص305


([20]) المصدر السابق، ص43


([21]) المصدر السابق ص55


([22]) المصدر السابق ص55


([23]) علي العميم، العلمانية والممانعة الإسلامية، ص24، دار الساقي


([24]) راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، ص21


([25]) المصدر السابق، ص129، وهذا خلاف ما أجمع عليه علماء التفسير من أن المقصود من {أولي الأمر منكم} هم العلماء والأمراء من المسلمين.


([26]) المصدر السابق، ص130


([27]) المصدر السابق، ص131


([28]) المصدر السابق، ص176


([29]) المصدر السابق، ص175


([30]) المصدر السابق، ص284


([31]) حيدر إبراهيم علي، التيارات الإسلامية وقضية الديمقراطية، ص247، مركز دراسات الوحدة العربية


([32]) الأحزاب والحركات والجماعات الإسلامية،ص859، المركز العربي للدراسات الاستراتيجية، 2000م


([33]) علي العميم، العلمانية والممانعة الإسلامية، ص21، دار الساقي


([34]) راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، ص134


([35]) راشد الغنوشي، المرأة في القرآن الكريم، ص113


([36]) ابن حزم الأندلسي، الفصل في الملل والأهواء والنحل، (4/89).



هناك تعليقان (2):

  1. مدونه رائعه شكرا لمجهوداتكم
    تمنياتنا لكم بالمزيد من التقدم والازدهار

    ردحذف
  2. الله يحفظك ويبارك في عمرك ويسلمك يا اخي الفاضل
    هذا من طيبك ربي يسعدك ويجزاك خيرا على تفضلك بالحضور والتشجيع

    ردحذف

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..