بقلم راشد الغنوشي
الرجال العظام في حياة الامم يشبهون الشمس في امتداد وعمق نفعها. وما من شك في أن العلامة المجاهد الشيخ ابن باز كان أحد أبرز الشموس التي طلعت على الامة في هذا القرن ليس فحسب بما أحيى من دارسات عقائد الإسلام وشرائعه وآدابه وبما أمات وطارد من بدع وضلالات، فجهده في ذلك معتبر مقدر، غير أن الرجل لم يكتف بالمهام المعروفة للعلماء من تأليف وتدريس وفتيا بل ظل إلى جانب ذلك طوال عمره المديد -أجزل الله له المثوبة- يتابع عن كثب أحوال العالم الإسلامي وما يجري فيه من تطورات وما يدور فيه من صراعات بين القرآن والعلمانية، بين الدعاة والطغاة فينخرط بكل ثقله في كل معركة الإسلام طرف فيها منتصرا للقرآن والسنة داحضا مذاهب الكفر والضلالة على اختلافها ذابا بكل ما أوتي عن الدعاة كلفه ذلك ما كلفه لا يلقي بالا لمنزلة هذا الذي يتورط في النيل من الكتاب والسنة رئيسا كان أم مرؤوسا مشهورا كان أم مغمورا بل إن حملته على المتورط تشتد بقدر ما تعلو منزلته في الرئاسة والشهرة محذرا إياه من غضب الله مهددا ومنذرا، ولكن دون أن يحمله غضبه على النيل من شخص المخالف والحط منه أو تملقه فهو يتلطف ويبالغ في اللطف ولكن في غير أدنى مجاملة أو مواربة. ورغم أن الرجل يعتبر أهم رموز المدرسة السلفية المعاصرة المعروفة بتشدد موقفها العقدي والفقهي في مسائل كثيرة كالبدع وفي النظر إلى المدارس والمذاهب المخالفة إلا أن الشيخ ابن باز اشتهر مع ذلك بالإنصاف وشدة التحري ورفض الاستدراج إلى النكير دون بينة جلية مع الحرص على التماس العذر للمخالف وإقامة الحجة قبل الإعلان والتشهير. وإن مجرد وجود غلبة ظن أو يقين أن للمخالف حجة أو شبه حجة أو تأويل وإن يكن ضعيفا فإن ذلك كاف لحمل الشيخ على احترامه وإيفائه حقوق الاخوة العامة في الدين كالنصح والنصرة والإكرام، وهو ما جعل من الشيخ حصنا للدعوة الإسلامية ومحضنا دافئا لحملتها مهما تباعدت بهم الأمصار وتوزعتهم الاجتهادات.
وحتى ندلل على مقالتنا هذه بمثال تطبيقي نكتفي بحديث مختصر عن جهد الشيخ رحمه الله في نصرة الإسلام ودعاته في تونس.
في عنق كل مسلم تونسي دين لابن باز رحمه الله :
لقد ابتليت تونس بعد قرون طويلة من عز الإسلام وازدهار حضارته في أرضها عبر منارتيها جامع عقبة بالقيروان وجامع الزيتونة وتحولها قلعة لانطلاق فتوحاته في اتجاه أوروبا وإفريقيا، ابتليت بالاحتلال الفرنسي الغاشم الذي صمم على تهميش الإسلام ومؤسساته وزرع البديل الفرنسي عنهما، ولم تلبث تلك السياسة أن آتت أكلها إذ تخرج جيل تونسي الجلد فرنسي الهوى سرعان ما تمهد أمامه السبيل لافتكاك زمام الحركة الوطنية من الأيدي الزيتونية المتوضئة بعد أن نجح في خداع الناس بما أبداه من غيرة دينية مصطنعة.حتى إذا تمكن بزعامة بورقيبة كانت أولى قرارات دولة الاستقلال الإقدام على ارتكاب ما لم تجرؤ عليه فرنسا نفسها من غلق جامع الزيتونة الشهير ومصادرة القضاء الشرعي وتأميم الأوقاف التي كانت تمثل ثلث الملكية في البلاد مخصصة لخدمة التعليم الإسلامي والنفع العام وكذا الإجهاز على شرائع ثابتة في مجال الأسرة كتحريم التبني والتهجم على فريضة الصيام والوعد بإصدار قانون يسوي بين الأبناء الذكور والإناث في الإرث بزعم حق أولياء الأمور أن يطوروا الأحكام بحسب تطور مفهوم العدل ونمط الحياة [تونس، الإسلام الجريح ص49].ولم تتوقف حملة بورقيبة على الإسلام وعقائده وشرائعه عند هذا الحد بل بلغ اجتراؤه وهو يحاضر الطلبة حول تاريخ كفاحه ما كان ينقل على الهواء مباشرة حد رمي القرآن الكريم بالتناقض والسخرية بالجنة والنار وبشعيرة الحج [جريدة الصباح التونسية 21 مارس 1974]
لقد هالت ابن باز هذه الجراءة على أركان الإسلام من قبل رئيس دولة إسلامية طالما صفق له العالم الإسلامي خلال كفاحه لتحرير تونس من الاستعمار وعقد عليه الآمال العراض في استعادة العزة الإسلامية. فلم يلق بالا للاعتبارات الدبلوماسية وجرد قلمه لمجادلة رئيس الدولة الإسلامية المذكور موقفا له أمام فداحة ما اقترف مما هو كفر صريح داعيا إياه في غير مواربة إلى إعلان توبته.
ولم يكتف الشيخ ابن باز من موقعه كرئيس للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بإصدار فتوى في هذا الشأن كما فعل عدد من أهل العلم والفتيا في العالم الإسلامي مثل الشيخ حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية والشيخ أبي الحسن الندوي والشيخ عبد الله بن حميد والأستاذ محمد المجدوب والشيخ عبد الله المطوع والشيخ عصام العطار والشيخ عبد الله إبراهيم الأنصاري الذين اعتبروا تصريحات بورقيبة المذكورة ردة عن الإسلام وترديدا لافتراءات المستشرقين ودعوه للتوبة ودعا بعضهم مثل الشيخ عبد الله المطوع الجامعة العربية إلى تشكيل محكمة لمحاكمته وقطع العلاقات معه،لم يكتف الشيخ بذلك بل أصدر كتابا ناقش ودحض فيه ضلالات بورقيبة واتهاماته للقرآن الكريم بالتناقض والاشتمال على الخرافات ووصفه للنبي عليه السلام بأنه إنسان بسيط يسافر كثيرا في الصحراء ويستمع للخرافات السائدة التي نقلها إلى القرآن، وأن المسلمين ألهّوا النبي!!! .وقد انتهى الشيخ بعد دحضه لهذه الترهات بأدلة العقل والنقل إلى إصدار فتوى بردة بورقيبة وزندقته وأرسل إليه داعيا إياه إلى التوبة النصوح وإعلانها بطرق الإعلان الرسمية وتأكيد الاعتقاد الإسلامي الصحيح.
ثم إن الشيخ رحمه الله تداول الرأي في هذا الشأن الذي أقض مضجعه مع عدد من كبار أهل العلم والفتيا فأجمعوا على خطر هذه الافتراءات على الإسلام تصدر عن رئيس دولة إسلامية فقرروا مراسلة بورقيبة جماعيا لدعوته إلى المبادرة بالتوبة مما نسب إليه وإعلان عقيدته الصحيحة في الله سبحانه ورسوله عليه السلام وكتابه واليوم الآخر. وقد أمضى الرسالة إلى جانب ابن باز العلامة أبو الحسن الندوي والشيخ حسنين مخلوف وأبو بكر محمود جومي مفتي نيجيريا والدكتور محمود أمين المصري.
ولقد تلقى الشيخ ابن باز رحمه الله من طريق سفير تونس بالمملكة رسالة من ديوان بورقيبة كتبها الشاذلي القليبي يشكر الشيخ على نصحه ويذكره بكفاح بورقيبة من أجل الإسلام وتضمن دستور تونس أن الإسلام دين الدولة، فاعتبر الشيخ أن ذلك لا يكفي وشدد في مطالبة بورقيبة بإعلان توبة رسمية صريحة وأن في عدم إعلان ذلك دليلا على وقوعه والإصرار عليه.
لم يكتف الشيخ رحمه الله بهذه المراسلات لبورقيبة داعيا إياه إلى التوبة بل بادر لمّا عرف منه المراوغة والإصرار فلا هو أنكر صدور تلك الضلالات عنه ولا هو رضي بالتوبة منها بادر الشيخ بتأليف كتاب ضمنه تلك المراسلات ومناقشاته الداحضة لتلك الضلالات ثم دفعه إلى الطباعة وأذن في نشره وتوزيعه على الحجاج مجانا في عشرات آلاف من النسخ لتوعية المسلمين بخطر التطاول على حرمات الإسلام وتحصين الأمة من هذه الضلالات وردع أصحابها ومحاصرتهم بسلطة الرأي العام. وذلك هو الواجب الشرعي مع مرتكب الكبيرة إذ يستعلن بها ويصر عليها فلا يبقى غير واجب التشهير به والتحذير من ضلاله. وذلك ما صار إليه الشيخ مع رئيس دولة تتبادل معها المملكة التمثيل الدبلوماسي فلم يبال الشيخ بما يمكن أن يسببه ذلك من إحراجات لا سيما والشيخ الذي يقود هذه الحملة يتبوأ في الدولة موقعا رسميا وقتها:رئاسة الجامعة الإسلامية، ولكن الحق أحق أن يتبع، وإنما ساد الإسلام بمثل هذا الصنف من الرجال الذين نذروا حياتهم لله إحقاقا للحق وإبطالا للباطل.
ماذا أثمرت جهود الشيخ؟صحيح أن بورقيبة لم يعلن توبة ولا هو تراجع عن ضلالاته ولكن هذه الحملة حالت على الأقل دونه والمضي قدما في نقض المزيد من أحكام الشريعة حتى تلك التي أعلن عزمه على نقضها مثل أحكام الميراث، كما أن حملة الشيخ على ضلالات بورقيبة لا سيما بعد نشر تلك الفتاوى في كتاب وتوزيعه على نطاق واسع خلال موسم الحج كان له أثر هام على صعيد الرأي العام بتونس حيث انتشرت نسخ كثيرة من الكتاب في البلاد وتداولتها الأيدي ودارت حولها أحاديث كثيرة بين الناس ولا سيما في وسط العلماء الذين تقوى جانبهم وتعزز بوقوف كبار علماء الإسلام إلى جانبهم. فلا عجب بعد ذلك أن مثلت تلك الفتاوى بذرة مهمة في الأرض التونسية إلى جانب بذور أخرى لن تلبث أن تتفتق عنها خلال سنين عددا الصحوة الإسلامية المعاصرة في نهاية الستينيات. وهو ما يذكر بالدور الذي تقوم به –وقد تعرض التدين في تونس لاجتياح علماني أشد- دروس الشيخ القرضاوي بارك الله له في عمره. في هذه السنين العجاف بتونس.
ابن باز يرعى النبتة المباركة:الحركة الاسلامية في تونس:
كان من الطبيعي أن لا تمر استهتارات بورقيبة بالإسلام التي بلغت حد تحديه الصيام باحتسائه شرابا في نهار رمضان على ملإ من الناس ودعوتهم للتأسي به بزعمه مقاومة التخلف دون رد فعل في بلد سلخ في الإسلام القرون الطوال قلعة عظيمة من قلاعه بل سرعان ما اهتزت الأرض وربت وأنبتت جيلا من الشباب تربى في قصر فرعون ما عتم أن اكتسح قلاع اللائكية وألجأها إلى أضيق الطريق. وصبر بورقيبة للوهلة الأولى حاسبا الأمر طيش شباب وسحابة عابرة مطمئنا إلى أن عمله قد حسم أمر الإسلام إلى الأبد وما هي الا بقايا يحاصرها التطور، لكنه عندما استيقن أن الأمر جد وأن عدوه لم يقض بل هو في نمو متعملق استدار إليه مغلقا بسرعة ملفات العداوات الأخرى معتبرا إياها ثانوية وأعلنها حربا لا هوادة فيها على الإسلام ودعاته. وكان حصاد الجولة الأولى سنة 1981 حوالي 500 من دعاة الإسلام سيقوا إلى السجون وسيموا العذاب، واستأنف بذلك هجمته على رموز الإحياء الإسلامي التي استهان بأمرها لأمد مثل الحجاب الذي بدأ بورقيبة قصته معه منذ وقت مبكر إذ كتب في الثلاثينيات مدافعا عنه في وجه الاحتلال الفرنسي معتبرا إياه رمزا من رموز الذاتية التونسية حتى إذا جاء الاستقلال قلب ظهر المجن. وفي سياق الحرب على الإسلام وتهميش رموزه جاءت حربه على الحجاب فخطب في جمهور كبير محرضا على السفور ودعا إلى المنصة متحجبة ومزق أمام الملإ حجابها فضجت القاعة بالتصفيق، وبذلك انتهى أمر الحجاب حتى ظهر مجددا في بداية السبعينيات فاستأنف بورقيبة الحرب عليه مع أول مواجهة للحركة الإسلامية إذ أصدر قانونا (رقم 108) يحظر فيه ارتداء الحجاب في المدارس وفي سائر المؤسسات الرسمية. وكان تطبيقه يشتد أحيانا ويتباطأ أحيانا أخرى حتى إذا تولى الأمر خليفة بورقيبة تم تطبيقه بشكل حديدي حتى لوحق داخل البيوت ذاتها وصدت المتحجبات حتى عن دخول المستشفيات للعلاج والوضع وحظر حتى على سيارات الأجرة حملهن.
ولقد وجد طلبة العلوم الإسلامية من التونسيين كما وجد مهاجرو الحركة إلى المملكة أجمل الرعاية من طرف الشيخ ابن باز ولم ييأس من مكاتبة القائمين على السلطة التونسية يذكرهم بحقوق الإسلام عليهم. وعندما استبد ببورقيبة سنة 1987 تعطشه للانتقام والارتواء من دماء زعماء الحركة الإسلامية إذ أعطى أمره خلال المحاكمات التي كانت تجري لقيادتهم (حوالي مائة كما شملت حوالي عشرة آلاف من قواعدهم) بإصدار أحكام إعدام على ثلاثين منهم. لقد كانت أياما عصيبة عاشتها البلاد وعاشها الضمير الإسلامي في كل مكان معلقا بين الخوف والرجاء، وكان مهاجرو الحركة بالمملكة يجأرون بعد الله إلى الشيخ فينقلون له الوقائع أولا بأول حتى إذا كانت ليلة إصدار الأحكام ذهبوا إليه عند منتصف الليل ناقلين إليه خوفهم من صدور أحكام إعدام عند الفجر وتنفيذها حالا وحذروه من مغبة حصول مكروه هو قادر على دفعه لو أنه بذل كل جاهه فحرض المسؤولين على التدخل فلم لا يفعل؟ فامتقع وجه الشيخ ورفع سماعة الهاتف طالبا مخاطبة أحد المسؤولين الكبار في المملكة في تلك الساعة المتأخرة وحرضه على التدخل حالا لدى بورقيبة، مثيرا لديه حميته الإسلامية والعربية فأجابه لبيك. وأعطى في الحال أمره -جزاه الله خيرا- بالاتصال ببورقيبة حتى إذا جاء الجواب أنه نائم ترجى إيقاظه فالأمر جلل.
الثابت أن الشيخ لم يدخر وسعا في الدفاع والذب عن الإسلام وأهله وبذل أقصى الوسع في ذلك أكان ذلك زمن بورقيبة أم زمن خليفته الذي كانت هجمته أشد وأعتى إذ لم تستهدف مجرد إضعاف الكيان أو ردعه كما حصل زمن بورقيبة وانما استهدفت الاستئصال وتجفيف ينابيع الإسلام، فلم يدخر الشيخ وسعا في هذه المرحلة من التدخل لدى أعلى سلطة في البلاد ممثلة في خادم الحرمين ذاته شفاه الله طالبا إليه بإلحاح أن يستشفع لدى حاكم تونس في الدعاة الذين كان يعلم الجميع خلال محاكمات 1992 أن خمسين رأسا منهم مطلوبة بإصرار للإعدام ولم يخيب خادم الحرمين-شفاه الله- رجاء الشيخ الذي كان يحظى لديه بكل تقدير وإجلال لا يكاد معهما يرد له طلبا. ومرة أخرى يشاء الله أن يمد في عمر الدعاة سواء أكان ذلك لهذا السبب أم لغيره فالآجال بيد الله. ولقد كتب الله لآلاف من دعاة الإسلام أن يمتحنوا بما امتحن به يوسف ولا يزالون في ظروف عصيبة ينتظرون رحمة الله ثم الدعم من الضمائر المؤمنة ضغطا على السلطة لصالح إطلاق سراح الإسلام والمسلمين كرفع الحظر عن الحجاب والمسجد، وذلك كما فعل تلاميذه من العلماء أئمة الحرمين وقادة الدعوة الإسلامية أمثال الشيخ سلمان العودة والشيخ ناصر العمر والشيخ سفر الجوالي والشيخ سعيد ابن زعير والشيخ ابن جبرين وغيرهم من علماء المملكة والجزيرة قلعة الإسلام الأولى -جزاهم الله عن الإسلام وأهله في تونس كل خير- وذلك متابعة لجهود فقيد الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد المحتسب الشيخ ابن باز أجزل الله المثوبة وأسكنه أعالي الجنان وخلف فيه المملكة وذويه وأمة الإسلام ولا سيما شعب تونس خيرا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..