لقد
أثار قول الدكتور السالم بعدم انطباق الربا على "العملات الورقية لأنها
انفصلت عن الذهب..." جدلا وتعليقات مثل تعليقات الإخوة السويلم وآل حمدان.
وهي مناقشات مفيدة للباحثين عن الحق مستندين إلى نصوص الكتاب والسنة،
ولكنها مزعجة للمرددين لأقوال الفقهاء والغارقين فيها. فمن دراساتي
لموضوعات فقهية عديدة لاحظت أن الكتابات حول بعض القضايا الفقهية المهمة
تدور حول أقوال الفقهاء عبر العصور، بدلا من حول النصوص. والأصل أن ما
ننسبه إلى دين رب العالمين يدور حول نصوص الكتاب والسنة ذات العلاقة
للخلوص إلى القاعدة العامة فيها والتي تنسق بين النصوص المتعددة وتسهم في
تنقية النصوص مادون الصحيح المتضاربة.
ع ق 1061
ولعل
موضوع "الأموال" التي ينطبق عليها الربا خير مثال. فمن قراءة أقوال
الفقهاء التي أوردها الأساتذة الثلاث فقط لا يملك القارئ إلا أن يخرج
حائرا. أما من يقرأ ما في بطون معظم الكتب عبر العصور فإنه سيخرج منها بما
خرجت شخصيا...
لقد
دفعني ما خرجت به إلى العودة إلى نصوص الكتاب والسنة الموثقة أو على درجة
عالية من التوثيق حول الموضوع فكانت النتيجة التي أثبتها في الملخص الذي
ألحقه بمشاركتي هذه لمن يرغب الإسهام بجهد مخلص للوصول إلى الحق الراجح في
الموضوع. وهو بعنوان " هل ينطبق الربا على كل قرض يسدد بزيادة؟ "
ولكني أجد من الضرورة الإشارة إلى الحقائق التالية:
1. النصوص ذات العلاقة في كثير من الموضوعات تتراوح بين النصوص
قطعية الثبوت والمرفوضة. وهذه الحقيقة تقتضي التحقق من مصداقية النصوص
بالمنهج النقلي (دراسة السند) والعقلي (دراسة المتن)، بدلا من الاقتصار على
التحقق من سند النص الواحد بصورة مستقلة...
2. النصوص ذات العلاقة في معظم الحالات تتراوح بين قطعي الدلالة
وظنيها. فلابد من التأكد من مصداقية فهمها مجتمعة، وليس متفرقة متناثرة.
فيصطدم بعضها ببعض وتجعل القارئ يقف أمامها حائرا. وهذه الحقيقة تحتم على
الباحث أو الفقيه أن يدرس جميع النصوص ذات العلاقة بالموضوع المحدد للخروج
بقاعدة عامة فيها، تربط وتنسق بين أجزائها، وتنطلق منها الاستثناءات.
3. من يتأمل في التشريعات الربانية بدقة وبنظرة فيها شمولية يجد
أن المحرم محدد بدقة أو يخضع لقاعدة عامة واضحة الحكمة، تتسق مع القواعد
التشريعية العامة في مجالات الحياة الأخرى، وعبر الزمان والمكان.
4. صحيح أن الأصل في المعاملات الإباحة، ولكن بشرط غياب النص
الصريح أو الظني في المسألة. ومن النصوص الظنية في الدلالة تلك التي تحدد
القواعد العامة (لا ضرر ولا ضرار، الظلم محرم...) فقد يأتي التحريم بعلة
منصوص عليها، مثل "كل مسكر حرام". وقد يأتي بعلة مستنتجة من نصوص قطعية
الثبوت والدلالة، مثل الحديث الصحيح الذي يحرم الربا في الأصناف الستة.
وبعبارة أخرى، لتطبيق قاعدة الأصل في المعاملات الإباحة يشترط انعدام شبهة
التعارض مع النصوص الموجودة، ولا يكفي غياب النص الصريح في المسألة. فعند
وجود شبهة التعارض مع نص موجود، ولاسيما إذا كانت قوية فإن كفة "اتقوا
الشبهات" هي التي ترجح. ويكفي في إخضاع العملات (سلع، نقدية، ورقية) للربا
المحرم أنها جميعا تقوم بوظيفة تيسير عملية تبادل الخدمات والسلع، وتخزين
الثروات الفردية والجماعية.
5. القول بأن انفصال الدولار (العملات الورقية) عن الذهب والفضة
يجعلها لا تخضع للربا المحرم يحتاج إلى نص صريح يخص الذهب والفضة ويستثنيها
من النص الوارد في الأصناف الستة, ويحتاج أيضا إلى نص –على الأقل- ظني
الدلالة يثبت هذه الفرضية وصدق هذه العلة.
ولما سبق وجدت من خلال البحث في نصوص الكتاب والسنة ما يلي:
أولا
- أن الربا مرتبط بوسائل تبادل السلع والخدمات وبوسيلة تخزين الثروة أو
التي تمثلها. فهذه الوسائل هي التي تتحكم بطريقة أشمل وأقوى في الاستغلال
الواقع في مجال الثروات التي تقع بين العباد. فهي التي تمثل الممتلكات
والخدمات؛ وهي التي تحدد قيمتها. فأي صنف من العملات أو النقود (ريال،
دولار، يورو) يمثل جميع أصناف الثروات، سواء أكانت سلع أو خدمات. وهنا
تتجلى الحكمة العظمى في تحريم الربا.
ثانيا
– لا يشك عاقل بأن من هذه الوسائل العملات النقدية (الدينار والدرهم
والفلس) والتي تحوّلت إلى عملات ورقية، تُصنع من الورق ليسهل حملها
وتخزينها، ولا يزال بعضها يحتفظ باسمها قبل التحول إلى ورق. وفي ظل الحقائق
السابقة يمكن الجزم بأن السلع الست أخضعها النبي صلى الله عليه وسلم للربا
المحرم، لأنه اختارها – في عهده - وسيلة من هذه الوسائل التي تتحكم في
تبادل الثروات وتخزينها، وتفسيرا لكلمة "أموالكم" التي وردت في القرآن
الكريم عند تحريم الربا.
ثالثا
– قوة هذه الوسائل معرضة للانخفاض عبر الزمان، مثل انخفاض قيمة العملة
المحددة في الدولة المحددة. وهي معرضة للانخفاض عبر المكان، مثل انخفاض
قيمة العملة المحددة عبر الدول. ويعني انخفاض قيمة العملة أنها أصبحت تمثل
كمية أصغر أو أقل من السلع والخدمات التي كانت تمثلها عند قوة هذه الوسائل
وارتفاع قيمتها.
رابعا
- تستمد هذه الوسائل قوتها من السند الطبيعي (قيمتها الذاتية) والسند
الرسمي (مساندة الحكومة التي تصدرها). وفي حالة الاستناد إلى قوتها الطبيعة
فإن افتقارها إلى السند الرسمي أو افتقادها له لا يؤثر كثيرا في قيمتها
وفي سعة انتشارها وقدرتها على القيام بوظيفة تيسير التبادل والتخزين في
حدود قوتها الطبيعية. وكان هذا هو حال الدينار الذي يعتمد على قيمة الذهب
والدرهم الذي يعتمد على قيمة الفضة. فقد كانت الأمم التي لا تصكها
تستخدمها، وإن لم تكن خاضعة للأمم التي تصكها وتسندها رسميا. أما العملات
الورقية فعند فقدانها السند الرسمي تصبح مساوية لقطعة الورقة التي لا تستحق
من التكريم أكثر من أن تلقى في الزبالة.
خامسا:
لقد فرق الله تعالى بين القرض بزيادة مشروطة عند السداد والبيع في قوله
تعالى: {...قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ...} (البقرة : 275 ) فما هو الفرق؟
لقد
جاءت كلمة القرض في قوله تعالى: {إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً
يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ}
(التغابن: 17 ) لتعني تبادل منفعة حاضرة بمنفعة مؤجلة. وهي، في سياق
الأموال، مرادفة للسلفة وللدين الذي يعيد فيه المقترض مثل الذي اقترضه. وهي
تختلف عن الإعارة التي يعاد فيه الشيء المستعار نفسه بعد الاستنفاع به.
ومن الواضح أن آية البقرة لا تتطرق إلى الفرق بين البيع والقرض بصفة عامة،
ولكن تقارن بين البيع وبين القرض الذي يشترط الزيادة عند التسديد.
فالقرض
أنواع، ليست كلها للإحسان كما افترض البعض. 1) هناك "قرض حسن" كما وصفه
القرآن الكريم. 2) قرض غير حسن، يندرج فيه القرض للرياء، وللمن... وللحصول
على منفعة من المقترض، مثل الزيادة عند إقراض العملات وما يقوم بوظيفتها.
3) القرض للحصول على منفعة، ولكن مباحة، مثل السلم (عملات حاضرة لقاء سلعة
مؤجلة) والتقسيط (سلعة حاضرة لقاء عملات مؤجلة). ويندرج النوع الأخير في
البيع لأنه تبادل بين سلعة أو خدمة من جهة ونقود/ عملات من جهة أخرى، وليس
سلعة أو خدمة مقابل سلعة أو خدمة.
أما
كلمة البيع فجاءت، مثلا في قوله تعالى {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً
عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ
أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي
بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة : 111 )
ووردت
كلمة "البيع" ومشتقاتها في السنة لتشمل التبادل الحاضر بين نوعين من
السلع، بدون واسطة وسيلة تبادل (النقود/العملات) ويسمى مقايضة. وقد يكون
التبادل بتوسط وسيلة التبادل. وقد يكون بيع ناجز بغائب حاضر بمؤجل)، أي
يكون أحد الأطراف مقرضا للطرف الآخر. وبهذا يتضح أن كلمة "البيع" أوسع من
كلمة "القرض". فالأخير يقتصر على تبادل ناجز بمؤجل.
وهذا
يعني أنه حسب استعمالات السنة هناك تداخلا بين مدلولات كلمة "البيع ناجز
بمؤجل" و"القرض"، سواء تم اشتراط الزيادة عند التسديد المؤجل أو لم يشترط.
والسؤال: إذًا أين الفرق بين الربا والبيع؟
إن
الفرق يكمن في اقتصار الربا على القرض أو البيع المؤجل الذي يشترط الزيادة
عندما يكون المدفوع أو الناجز نقودا (عملات نبوية أو معدنية أو ورقية)
وعندما يكون المسدد المؤجل نقودا مماثلة للمدفوعة (عملة رسمية محددة، مثل
اليورو أو الريال أو...)
أما
التبادل بين السلع والخدمات التي لا تندرج ضمن العملات الرسمية فلا يلحقها
حكم الربا إذا اشترطت الزيادة عند التسديد المؤجل، ولاسيما إذا تم التبادل
باستخدام وسيلة التبادل (العملات). ويلحق بها التبادل بين العملات التي
تنتمي إلى دول مختلفة. وأؤكد على عبارة العملات الرسمية، أي المعترف بها
بين مجموعة من الناس، في عصر محدد. ولهذا أرجح ولا أجزم بأن الربا لايزال
ينطبق على الأصناف الستة التي اختارها النبي صلى الله عليه وسلم عملات في
عهده، وإن لم تعد تقوم بتلك الوظيفة رسميا. فهي عملات تستند إلى قيمها
الذاتية، ولا يؤثر عليها افتقادها للسند الرسمي في العصور الراهنة وفي
العصور القادمة.
هذا، والله أعلم
د.سعيد صيني
ع ق 1061
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..