ذكر ملوك الروم، وما قاله الناس في أنسابهم وعدد ملوكهم، وتاريخ سنيهم
الاختلاف في نسب الروم
تنازع الناس في الروم، ولأية علة سموا بهذا الاسم، فمنهم من قال: سموا روما
لِإضافتهم إلى مدينة رومية واسمها روماس بالرومية، وعرب هذا الاسم فسمي من
كان بها روما، وكذلك الروم في لغتهم لا يسمون أنفسهم ولا يدعوهم أهل الثغور
إلا رومينس، ومنهم من رأى أن هذا الاسم اسم للأب، وهو روم بن سماحلين بن
هربان بن عقلا بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام، ومنهم من
رأى أنهم سموا باسم جدهم، وهو رومي بن ليطن بن يونان بن يافث بن بريه بن
سرحون بن رومية بن مربط بن نوفل بن روين بن الأصفر بن النفربن العيص بن
إسحاق بن إبراهيم عليمه السلام وقد قيل من الوجوه غير ما ذكرنا، وقد ذكرنا
فيما سلف من هذا الكتاب في باب اليونانيين نسب الِاسكندر واتصاله بهذا
النسب، على ما ذكره الناس في ذلك، والله أعلم. وقد ولد للعيص ثلاثون رجلاً،
فالروم الآخرة بنو الأصفر بن النفر بن العيص بن إسحاق، وقد ذكر جماعة ممن
سلف من شعراء، العرب قبل ظهور الِإسلام ذلك لاشتهار ما وصفنا فيهم: منهم
عدي بن زيد العِبَادي حيث يقول:
وبنو الأصفر الكرام ملوك الروم لم يبق منهم مذكور
|
وقد كان العيص بن إسحاق، وهو عيصو، تزوج من بنات الكنعانيين، فأكثر أولاده
منهم، وقد قيل: إن العماليق وهم العرب البادية الذين كانوا بالشام من ولد
النفار بن عيصو، وكذاك رعوئيل، بنا عيصو وهذا ما لا ينقاد إليه علماء العرب
إلا في الروم دون ما ذكرنا من العماليق وغيرهم، وهذه الأنساب كلها تتعلق
بما في التوراة وغيرها من كتب العبرا نيين.
أول ملوك الروم
قال المسعودي: وغلبت الروم على ملك اليونانيين لأخبار يطول ذكرها ويتعذر في
هذا الكتاب شرحها، وكان أول من ملك من ملوك الروم فيها ساطوخاس، وهو جاليوس
الأصغر بن روم بن سماحليق، فكان ملكه اثنتين وعشرين سنة، وقد قيل: إن أول
من ملك من ملوك الروم قيصر، واسمه غالوس بن كوليوس، ثمان عشرة سنة، وفي
نسخة أخرى أن أول من ملك من ملوك الروم بعد اليونانيين توليس، سبع سنين
ونصفاً، وكانت مدينة رومية بنيت قبل الروم بأربعمائة سنة.
أغسطس
ثم ملك بعده أغسطس قَيصر، ستاً وخمسين سنة، وهذا الملك هوأول من سمي من
ملوك الروم قيصر، وهو الثاني من ملوكهم، وتفسير قيصر بُقِر أي شق عنه، وذلك
أن أمه ماتت وهي حامل به فشق بطنها فكان هذا الملك يفتخر في وقته بأن
النساء لم تلده، وكذلك من حدث بعده من ملوك الروم ممن كان من ولده يفتخرون
بهذا الفعل وما كان من أمهم، فصارت سِمَة لمن طرأ بعده من ملوك الروم،
والله أعلم.
مولد المسيح
وغزا هذا الملك الشام ومصر والِاسكندرية، وأزال من بقي من ملوك الاسكندرية
ومقدونية وهي مصر، وقد قدمنا أن كل ملك كان يلي مقدونية والاسكندرية يسمى
بطليموس، واحتوى هذا الملك أعني أغسطس على خزائن ملوك الِاسكندرية
ومقدونية، ونقلها إلى رومية، وكانت له حروب كثيرة في الأرض، وقد أتينا على
ذكرها فيما سلف من كتبنا، وكان يعبد الأوثان، وبنى بأرض الروم مدناً وكوَّر
كوراً نسبت تلك المدن إليه: منها قيسارية، وكذلك بالشام بساحل فلسطين مدينة
قيسارية، وكان مولد المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام بها، وهو يسوع
الناصري على حسب ما قدمناه، لاثنتين وأربعين سنة خلت من ملك قيصر أغسطس
هذا، فكان من ملك الاسكندر إلى مولد المسيح ثلثمائة سنة وتسع وششون سنة،
ورأيت في مدينة أنطاكية في بعض تواريخ الروم الملكية في كنيسة القسبان أنه
كان من ملك الاسكندر إلى مولد المسيح ثلاثمائة سنة وتسع سنين، وكان مولد
يسوع الناصري لِإحدى وعشرين سنة خلت من ملك هيرثوس ملك بني إسرائيل في ذلك
العصر بإيليا من بلاد فلسطين، وهي أورشليم بالعبرانية، فمن هبوط آدم إلى
مولد المسيح في تواريخ أصحاب الشرائع من أهل الكتب خمسة آلاف سنة وخمسمائة
سنة وخمسون سنة.وأقام أغسطس وهو قيصر ملكاً بعد مولد المسيح أربع عشرة سنة
ونصفاً وكان مدة ملكه على الروم برومية وفي سائر أسفاره ستاً وخمسين سنة،
على حسب ما قدمنا من موته ولسع الحية إياه بمقدونية، وجفاف نصفه، وذهاب
سمعه.وبصره عند ذكرنا لفعل قلبطرة بنفسها في الباب الذي قبل هذا الباب.
طيياريوس وقلودييس
ثم ملك الروم بعده طيباريوس وكان مدة ملكه اثنتين وعشرين سنة، ولثلاث سنين
بقيت من ملكه رفع المسيح عليه السلام، ولما هلك هذا الملك برومية اختلفت
الروم وتحزبت، فأقاموا على اختلاف الكلمة والتنازع في الملك مائتي سنة
وثمانياً وتسعين سنة، لا نظام لهم، ولا ملك يجمعهم.ولما انقضى، ما ذكرنا من
المدة ملكوا عليهم طباريس غانس بمدينة رومية، فكان ملكه أربع سنين، والقوم
لا يعرفون غير عبادة التماثيل والصور.
مقتل أتباع المسيح
ثم ملك بعد قلوديس أربع عشر، سنة، وذلك برومية، وهو أول ملك من ملوك الروم
شرع في قتل النصارى واتباع المسيح. وقيل: إن في أيامه قتل برومية بطرس،
واسمه باليونانية شمعون، والعرب تسميه سمعان، هو وبولص، وصلبا منكسين، وما
كان من خبرهما مع سيما الساحر برومية، وهما ممن أتى إلى أنطاكية وأخبر
اللّه عزّ وجلّ عنهما في سورة يس، ثم كان لهما بعد ذلك نبأ عظيم، وذلك بعد
ظهور دين النصرانية برومية، فجعلا في أجْرِبَة من البلور، فهما على ذلك
بمدينة رومية في بعض الكنائس إلى هذه الغاية، على حسب ما قدمنا آنفاً فيما
سلف من هذا الكتاب، وأكثر من عني بأخبار العالم وسير ملوكهم وتاريخهم، يذهب
إلى أنهما قتلا برومية في ملك الخامس من ملوك الروم، وتفرق تلاميذ يسوع
الناصري في الأرض، فسار ماري إلى ما دَنَا من العراق فمات بمدينة دير قُنَى
والصافية على شاطىء دجلة بين بغداد وواسط، وهذا البلد بلد علي بن عيسى بن
داود بن الجراح ومحمد بن داود بن الجراح وغيرهما من الكتاب فقبره هناك في
كنيسة إلى وقتنا هذا، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، يعظمه أهل دين
النصرانية، ومضى توما، وكان من الاثني عشر، إلى بلاد الهند داعياً إلى
شريعة المسيح، فمات هناك، وسار آخر إلى آخر مدينة بخراسان، فمات هنالك
وموضع قبره مشهور يعظمه النصارى، ومنهم من رأى أنه مات ببلاد دقوقا
وخانيجار وكرخ حدان في تخوم العراق، وموضعه مشهور، ومات مارقس بالِاسكندرية
من أرض مصر، وقبره هناك، وهو أحد التلاميذ الأربعة الذين ألفوا الإِنجيل،
وقد كان لمارقس مع أهل مصر خبرظريف في مقتله، وقد أتينا على السبب في ذلك
في كتابنا الأوسط الذي، كتابُنَا هذا تالٍ له، وأتينا على قصته مع أهل مصر
ووصيته لهم حين أراد المسير إلى المغرب: إنه مَنْ جاءكم على صورتي فاقتلوه،
فإنه سيرد عليكم بعدي أُناس يتشبهون بي، فبادروا إلى قتلهم، ولا تقبلوا
منهم ما يقولون، ومضى، وغاب عنهم برهة من الزمان، ولم يلحق بحيث أراد، فرجع
إليهم، فلما هموا بقتله قال لهم: ويحكم أنا مارقس، قالوا: لا، وقد أخبرنا
أبونا مارقس، وعهد إلينا بقتل من يتشبه به، قال: فإني أنا مارقس، قالوا: لا
سبيل إلى تركك، ولا بد من قتلك، فقتلوه، وكان قبل ذلك سئل في بدء الأمر عن
البراهين المؤيدة لقوله، وطلبوا منه المعجزات، وقال له بعضهم: إن كنت
صادقَاَ فيما أتيتنا به فاعرج إلى هذه السماء، ونحن نراك، فنزع عنه
زربانقته وأتزر بمئزر صوف على أن يصعد إلى السماء، فتعلق به جماعة من
تلامذته، وقالوا له: إن مضيت فمن لنا بعمك إذ كنت الأب. وكان أمره بعد ذلك
على ما وصفنا.
تلاميذ المسيح
وتلاميذ المسيح اثنان وسبعون تلميذاً واثنا عشر من غير الاثنين والسبعين،
فأما الذين نقلوا الِإنجيل فهم: لوقا، ومارقس، ويوحًنّا، ومتى، ومنهم من
الاثنين والسبعين لوقا وَمَتَّى، وقد يعد مَتَى أيضاً في الأثني عشر، ولا
ادري ما معناهم في ذلك، والاثنان اللذان من الأثني عشر يوحنا بن زبدى،
ومارقس صاجب الاسكندرية، والثالث الذي ورد أنطاكية، وقد تقدمه بطرس وتوما،
وهو بولس، وهو الثالث المذكور في القرآن بقوله تعالى "فعزرنا بثالث" قال:
وليس في سائر رهبان النصرانية من يأكل اللحم غير رهبان مصر؛ لأن مارقس أباح
لهم ذلك.
ملك تيزون ملك طيطش وأسباسيانوس
ثم ملك الروم تيزون واستقام ملكه، ورغب في عبادة التماثيل والأصنام، ويقال:
إنه قتل في ملكه بطرس وبولس برومية على حسب ما قدمنا ونمى دين النصرانية
إلى الروم، فكثرت فيهم الدعاة إليه، فقتل هذا الملك منهم خلائق كثيرة، وكان
ملكه أربع عشرة سنة وأشهراً.
ثم ملك بعده طيطش وأسباسيانوس مشتركين في الملك ثلاث عشرة سنة، وذلك بمدينة
رومية، ولسنة خلت من ملك هذين الملكين سارا إلى الشام، وكانت لهما مع بني
إسرائيل حروب عظيمة، وقتل فيها من بني إسرائيل ثلثمائة ألف، وخربا بيت
المقدس وأحرقا الهيكل بالنار، وحرثاه بالبقر، وأزالا رسمه، ومَحَوا أثره،
وكانت عبادتهما للأصنام. ووجدت في بعض كتب التواريخ أن اللّه عاقب الروم من
ذلك اليوم الذي خربت فيه بيت المقدس أن يسبى كل يوم منهم سبي، يفعل ذلك من
أطاف ببلادهم من الأمم، فلا يأتي يوم من أيام العالم إلا والسبي واقع بهم
قَل ذلك أوأكثر.
جماعة من ملوك الروم
ثم ملك الروم بعدهما دوبطياس خمس عشرة سنة، عابداً للتماثيل معظمأ لها،
ولتسع سنين من ملكه نفى يوحنا التلميذ أحد الأربعة من أصحاب الإِنجيل إلى
بعض جزائر البحر، "ثم رده بعد ذلك.
ثم ملك بعده بيرنوس سنة.
ثم ملك بعده طريانوس سبع عشرة سنة يعبد الأصنام، ولتسع سنين خلت من ملكه
مات يوحنا التلميذ.
ثم ملك بعده أدريانس إحدى عشرة سنة، يعبد التماثيل، وخرب سائر ما بنى بنو
إسرائيل بالشام.
ثم ملك بعده أبطوليس برومية ثلاثاً وعشرين سنة، وبنى بيت المقدس وسماه
إيليا، وهو أول من سماه بهذا الاسم إيليا.
ثم ملك بعده غرلس سبع عشرة سنة يعبد الأصنام.
ثم ملك بعده فرموثش يعبد الأوثان، ثلاث عشرة سنة.
ثم ملك بعده سويرس ثمان عشرة سنة.
ثم ملك بعده ولد له يُقال له أبطونيس يعبد التماثيل، سبع سنين.
ثم ملك بعده أبطونيس الثاني، أربع سنين، يعبد التماثيل، وفي آخر ملك هذا
الملك مات جالينوس الطبيب.
ثم ملك بعده الإسكندر مامياس وتفسير مامياس العاجز، وكان يعبد التماثيل،
وكان ملكه ثلاث عشرة سنة.
ثم ملك بعده مقسمس يعبد التماثيل، وكان ملكه ثلاث سنين.
ثم ملك بعده غردانس يعبد التماثيل، ست سنين.
دقيوس وأصحاب الكهف
ثم ملك بعده دقيوس يعبد الأوثان، ستين سنة، وأمعن في قتل النصرانية،
وطلبهم، ومن هذا الملك هرب أصحاب الكهف، وقد أختلف الناس في أصحاب الكهف
والرقيم : فمنهم من رأى أن أصحاب الكهف هم أصحاب الرقيم، وزعموا أن الرقيم
هو ما رقم من أسماء أهل الكهف في لوح من حجر على باب تلك المغارة، ومنهم من
رأى أن أصحاب الرقيم غير أصحاب الكهف، وقد ذكرنا كلا الموضعين بأرض الروم،
وقد حكى أحمد بن الطيب بن مروان السرخسي تلميذ يعقوب بن إسحاق الكندي عن
محمد بن موسى المنجم- حين أنفذه الواثق باللهّ من سُرّ مَنْ رأى إلى بلاد
الروم حتى أشرف على أصحاب الرقيم، وهو الموضع المعروف من بلاد الروم
بحارمي، وقد ذكرنا في الكتاب الأوسط قصة أصحاب الكهف، وموضعهم، وكيفية
أحوالهم، إلى هذه الغاية، وخبر أصحاب الرقيم، وما حكاه محمد بن موسى المنجم
من خبرهم، وقد لحقه من الموكل بهم حين أراد قتله بالسم، وقتل من كان معه من
المسلمين، وأخبرنا عن خبر السد الذي بناه ذو القرنين مانعاً ليأجوج ومأجوج
.؟ قال المسعودي : ووجدت في كتاب صور الأرض، وما عليها من الأبنية المعظمة
والهياكل المشيدة، قد صور مقدار عرض السد فيما بين الجبلين دون الطول
والذهاب في الصعد تسع درج ونصف من درج الفلك، فمقدار ذلك من الجبل إلى
الجبل خمسون ومائة فرسخ، وهذا عند جماعة من أهل النظر والبحث مستحيل كونه،
وقد أنكر ذلك محمد بن كثير الفرْغَاني المنجم، وتكلم عليه، وبرهن على
فساده، وأفرد أحمد بن الطيب الذي قتله المعتضد بالله لما ذكرنا من الكهف
والرقيم رسائل، وقد أتينا على جميع ما قيل في ذلك في كتابنا المترجم
بالكتاب الأوسط.
ثم ملك جالنوس ثلاث سنين.
ثم ملك بعده يدنوس نحوا ًمن عشرين سنة، وقيل: خمس عشرة سنة.
ثم ملك بعده فورس نحواً من عشرين سنة.
ثم ملك بعده ولد له يقال له فارس نحواً من سنتين.
ثم ملك بعده قليطانس عشر سنين.
ثم ملك بعده قسطنطين.
عدد ملوك الروم، ومدة ملكهم
قال المسعودي: والذي وجدت في الأكثر من كتب التواريخ مما اتفقوا عليه أن
عدة ملوك الروم الذين ملكوا بمدينة رومية، وهم الذين قدمنا ذكرهم في هذا
الباب، تسعة وأربعون ملكاً، وجميع عدد سني ملكهم من أول ملك ملكهم على حسب
ما ذكرنا من الخلاف في صدر هذا الكتاب إلى قسطنطين هذا، وهو ابن هلاني،
أربعمائة وسبع وثلاثون سنة وسبعة أشهر وسبعة أيام، ونسخ كتب التواريخ في
هذا المعنى مختلفة، وغير متفقة في أسماء ملوكهم، ومدة ملكهم، وأكثرها
بالرومية، فحكينا من ذلك ما تأتى لنا وصفه، ولهؤلاء الملوك أخبار وسير، هي
موجودة في كتب النصارى الملكية، وقد أتينا على مبسوطها، والغرض منها في
كتابنا أخبار الزمان وما شَيدوا من البنيان، وما كان لهم في هذا العالم من
الأسفار، وباللّه التوفيق.
ذكر ملوك الروم المتنصرة وهم ملوك القسطنطينية ولمع من أخبارهم
قسطنطين وبناء القسطنطينية
ملك قسطنطين بعد أن هلك قليطانس برومية، وهو يعبد الأوثان، وكان أول ملك
انتقل من ملوك الروم عن رومية إلى بوزنطيا، وهي مدينة القسطنطينية فبناها،
وسماها باسمه إلى وقتنا هذا، وكان له لي بناتها خبر ظريف مع بعض ملوك
برجان، لخوف داخله من بعض ملوك ساسان، وكان خروجه من رومية، ودخوله في دين
النصرانية، لسنة خلت من ملكه، ولتسع سنين خلت من ملكه خرجت أمه هلاني إلى
أرض الشام، فبنت الكنائس، وسارت إلى بيت المقدس، وطلبت الخشبة التي صلب
عليها المسيح عندهم، فلما صارت إليها حًفتها بالذهب والفضة، واتخذت لوجودها
عيداً، وهو عيد الصليب، وهو لأربع عشرة تخلو من أيلول، وفيه تفتح الترع
والخلجانات ببلاد مصر، على حسب ما نورده عند ذكرنا لأخبار مصر من هذا
الكتاب، وهي التي بنت كنيسة حمص على أربعة أركان، وذلك من عجائب بنيان
العالم، واستخرجت الكنوز والدفائن بمصر والشام، وصرفت ذلك إلى بناء
الكنائس، وتشييد دين النصرانية، وكل كنيسة بالشام ومصر وبلاد الروم، فإنها
بنتها هذه الملكة هلاني أم قسطنطين، وجعل اسمها مع الصليب في كل كنيسة لها،
وليس للروم في أحرفهم هاء، وأحرف هلاني خمسة أحرف، فالأول إمالة، وهو بحساب
الجمل خمسة، والثاني- وهو الِلام- ثلاثون، والثالث إمالة أيضاً، وهي خمسة
أيضا، والرابع النون وهي خمسون، والخامس ياء، وهو في حساب الجمل عشرة، فذلك
مائة اختصاراً على ما ذكرنا، وهذه صورة الحرف الذي هو مائة بالرومية.
السنودسات الاجتماعات الستة
ولتسع عشرة سنة خلت من ملك قسطنطين ابن هلاني اجتمع ثلثمائة وثمانية عشر
أسقفاً بمدينة نيقية بأرض الروم، فأقاموا دين النصرانية، وهذا الاجتماع أول
الاجتماعات الستة التي يذكرها الروم في صلواتهم ويسمونها القوانين، ومعنى
هذه الاجتماعات الستة بالرومية السنودسات، واحدها سنورس؟ فالأول بنيقية على
ما ذكرنا من العدد، وكان الاجتماع فيه على أريوس، وهذا اتفاق من سائر أهل
دين النصرانية من الملكية والمشارقة، وهم العباد الذين تسميهم الملكية
وعامة الناس النسطورية، واتفاق من اليعاقبة على هذا السنودس أيضاً،
والسنودس الثاني بالقسطنطينية على مقدونس، وعدة المجتمعين فيه من الأساقفة
مائة وخمسون رجلاً، والسنودس الثالث بأفسوس وعددهم مائتا رجل، والسنودس
الرابع بخلقدونية، وعددهم ستمائة وستون رجلاً، والسنودس الخامس بقسطنطينية،
وعددهم مائة وستة وأربعون رجلاً، والسنودس السادس كان في مملكة المدائن،
وعددهم مائتان وتسعة وثمانون رجلاً، وسنذكر بعد هذا الموضع في ترتيب ملوك
الروم هذه السنودسات، وغلبة دين النصرانية، وزوال عبادة التماثيل والصور.
سبب تنصر قسطنطين
وكان السبب في دخول قسطنطين بن هلاني في دين النصرانية والرغبة فيه أن
قسطنطين خرج في بعض حروب برجان، أو غيرهم من الأمم، وكانت الحرب بينهم
سجالاً نحواً من سنة، ثم كانت عليه في بعض الأيام، فقتل من أصحابه خلق
كثير، فخاف البَوَار، فرأى في النوم كأن رماحاً نزلت من السماء، فيها عذاب،
وأعلاماً على رؤوسها صلبان من الذهب والفضة والحديد والنحاس، وأنواع
الجواهر والخشب وقيل له: خذ هذه الرماح، وقاتل بها عدوك تنصر، فجعل يحارب
بها في النوم، فرأى عدوه منهزماً، وقد نصر عليه، وولاه الدبر، فاستيقظ من
رقدته، ودعا بالرماح فركب عليها ما ذكرنا، ورفعها في عسكره، وزحف إلى عدوه،
فولوا وأخذهم السيف، فرجع إلى مدينة نيقية، وسأل من أهل الخبرة عن تلك
الصلبان، وهل يعرفون ذلك في شيء من الآراء والنحل ؟ فقيل له: إن بيت المقدس
من أرض الشام مَجْمع لهذا المذهب، وأخبر بما فعل مَنْ قبله من الملوك من
قتل النصرانية، فبعث إلى الشام، وإلى بيت المقدس، فحشد له ثلثمائة وثمانية
عشر أسقفاً، فأتوه وهو بنيقية، فقص عليهم أمره، فشرعوا له دين النصرانية،
فهذا هو السنودس الأول، وهو الاجتماع على ما ذكرنا، وقد قيل: إن أم قسطنطين
هلاني كانت قد تنصرت وأخفت ذلك عنه قبل هذه الرؤيا. وكان ملك قسطنطين إلى
أن هلك إحدى وثلاثين سنة، وفىِ وجه آخر من التاريخ أنه ملك خمساً وعشرين
سنة، وقد أتينا على أخباره وحروبه وخروجه مرتاداً لموضع القسطنطينية،
ووروده إلى هذا الخليج الآخذ من بحر مايطس ونيطس في كتابنا أخبار الزمان
وفي الكتاب الأوسط، وإن خليج القسطنطينية يأخذ من هذا- البحر، ويجري فيه
الماء جريَاَ، ويصب إلى بحر الشام، ومسافة هذا الخليج ثلثمائة وخمسون
ميلاً، وقيل: أقل من ذلك، وعرضه في الموضع الذي يأخذ من بحر مايطس نحو من
عشرة أميال، وهناك عمائر، ومدينة للروم تدعى سباه، تمنع من يرد في هذا
البحر من مراكب الروس، وغيرها، ثم يضيق هذا الخليج عند القسطنطينية، فيصير
عرضه- وهو موضع العبور من الجانب الشرقي إلى الموضع الغربي الذي فيه
القسطنطينية- نحواً من أربعة أميال، وعليه العمائر، وينتهي في ضيقه إلى
الموضع المعروف بالأندلس، وهناك جبال وعين ماء كثير، ماؤها موصوف، تعرف
بعين مَسْلمة بن عبد الملك وكان نزولها عليها حين حاصر القسطنطينية، وأتته
مراكب المسلمين، وفم هذا الخليج مما يلي بحر الشام، ومنتهى مصبه مضيق،
وهناك برج يمنع من فيه من يرد من مراكب المسلمين في الوقت الذي كانت
للمسلمين فيه مراكب تغزو الروم، وأما الآن فمراكب الروم تغزو بلاد
الِإسلام، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وأخبرني أبو عمير عديُّ بن أحمد بن
عبد الباقي الأزدي - وهو شيخ الثغور الشامية. قديماً وحديثاً إلى وقتنا
هذأ، وهو من أهل التحصيل- أنه لما عبر إلى القسطنطينية في هذا الخليج حين
دخل لإقامة الهدنة والفداء كان يتبين جرية هذأ الماء وتردده مما يلي بحر
مايطس، وربما يتبين في الماء الذي يلي بحر الشام فيجده فاتراً، وهذا يدل
على الَصال ماء هذين البحرين، وأنه قد دخل في بحر الروم إلى هذا الخليج
أيضاً، وسمعت غير واحد من أهل التحصيل ممن غزا غزاة سلوقية مع غلام زرافة-
وقد كانوا قد دخلوا إلى خليج القسطنطينية، وساروا فيه مسافة بعيدة- أنهم
وجدوا الماء فيِ هذا الخليج يقل في أوقات من الليل والنهار ويكثر كالمد
والجزر، وعليه العمائر والمدن، فلما أحسوا بنقص الماء بادروا بالخروج منه
إلى البحر الرومي، وأن في مدخله من بحر الروم مدينة تقرب من فم الخليج،
والخليج يطيف بالقسطنطينية من جهتين مما يلي الشرق ومما يلي الشمال، وفي
الجانب الجنوبي البر، وفيه باب الذهب مطلي على صفائح النحاس، وهو عدة أسوار
مما يلي الغرب، وفيه قصر وأعلى أسوارها الغريبة نحو من ثلاثين فراعاً، وقد
ذكر أنه أقل من ذلك، وأن أقصر موضع فيه عشرة أفرع، وأعلى موضع من سورها ما
كان مما يلي الجنوب، فأما ما كان مما يلي الخليج فسور واحد، وفيه قصر
وبواشيِر وأبراج كثيرة، ولها أبواب كثيرة مما يلي البر والبحر، وحولها
كنائس كثيرة، وقد قيل: إن لها ثلاثين بابا، ومنهم من زعم أن عليها مائة باب
صغاراً وكباراً وهو بلد عفن مختلف المهاب مرطب للأبدان لكونه بين ما وصفنا
من هذه البحار.
قال المسعودي: ولم تزل الحكمة باقية عالية زمن اليونانيين، وبرهة من مملكة
الروم، تعظم العلماء وتشرف الحكماء، وكانت لهم الآراء في الطبيعيات والجسم
والعقل والنفس، والتعاليم الأربعة- أعني: الإرتماطيقي، وهو علم الأعداد
والجو مطريقَي، وهو علم المساحة والهندسة، والاسترونوميا، وهو علم النجوم،
والموسيقى وهو علم تأليف اللحون- ولم تزل العلوم قائمة السوق، مشرقة
الأقطار قوية المعالم، شديدة المقاوم، سامية البناء، إلى أن تظاهرت ديانة
النصرانية في الروم، فعفوا معالم الحكمة، وأزالوا رسمها، ومحوا سبلها،
وطمسوا ما كانت اليونانية أبانته، وغيروا ما كانت القدماء منهم أوضحته.
الموسيقى وشرفها
وكان من شريف ما تركته المعرفة بعلم الموسيقى لأنه غذاء للنفس، ومطرب لها،
وملهيها، تبتهج عند سماعه، وتحن إلى تأليف أوضاعه، وقد نطقت الحكماء بشرفه،
ونبهت على نفاسه محله، فقال الإسكندر: مَنْ فهم الألحان استغنى عن سائر
اللذات، وقد قالت الفلاسفة: أن النغم والأغاني فضيلة شريفة كانت تعذرت عن
المنطق ليست في قدرته، فلم يقدر على إخراجها، فأخرجتها النفس ألحاناً، فلما
أظهرتها سُرت بها وعشقتها وطربت إليها، ورتبت الحكماء الأوتار الأربعة
بازاء الطبائع الأربع، فجعلوا الزير بازاء المرة الصفراء، والمثنى إزاء
الدم، والمثلث بازاء البلغم والبم بازاء المرة السوداء، وقد أشبعنا القول
في الموسيقى وأصحاب الملاهي والإيقاع وأصناف الرقص والطرب والنغم ونسب
النغم وما استعملته كل أمة من الأمم، من أصناف الملاهي، من اليونانيين
والروم والسريانيين والنبط والسند والهند والفرس وغيرهم من الأمم، وذكرنا
مناسبة النغم للأوتار، وممازجة النفس والألحان وكيفية تولد الطرب وأنواع
السرور وذهاب الغم وزوال الحزن، وعللً ذلك الطبيعية والنفسية، وما أحاط
بذلك من جميع الوجوه، في كتابنا المترجم بكتاب الزلف وأتينا على ظريف
أخبارهم وأنواع لهوهم وملاهيهم في كتاب أخبار الزمان وفي الكتاب الأوسط
فأغنى ذلك عن إعادته ههنا؟ إذ هذا الكتاب في غاية الإيجاز، وإن سنح لنا
سانح ذكرنا لمعا من هذه الجوامع فيما يرد من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى،
وإن تعذر ذلك فقد قدمنا التنبيه على ما سلف من كتبنا، على الشرح والإيضاح.
قسطنطين ولليانس
ثم ملك الروم بعد قسطنطين بن هلاني الملك المنتصر قسطنطين بن قسطنطين وهو
ابن الملك الماضي، وكان ملكه أربعاً وعشرين سنة، وبنى كنائس كثيرة، وشيد
دين النصرانية.
ثم تملك ابن أخي قسطنطن الأول لليانس فرفض دين النصرانية، ورجع إلى عبادة
الأوثان، وهو لليانس المعروف بالحنيفي. وأهل دين النصرانية لبغضهم فيه
لرجوعه عن النصرانية وتغييره لرسومها يسمون لليانس لبزطاط وغزا العراق في
ملك سابور بن أردشير بن بابك، فأتاه سهمٌ غرْب فذبحه، وقد كان سار إلى
العراق في جنود لا تحصى، ولم يكن لسابور حيلة في دفعه ولقائه لمفاجأته
إلاه، فانصر فسابور عن اللقاء إلى الحيلة في دفعه وكان من أمره ما وصفنا من
سهم الغرب. وكان ملكة إِلى أن هلك سنة، وقيل كثر من ذلك، وهو الملك الثالث
من بعد ظهور دين النصرانية.
يونياس
ولما هلك لليانس جزع مَنْ كان معه من الملوك، والبطارقة، والجيوش، ففزعوا-
إلى بطريق كان معظماً فيهم، يقال له يونياس، وقيل: إنه كان كاتب الماضي،
فأبى عليهم أن يتملك إلا أن يرجعوا إلى دين النصرانية، فأجابوه إلى ذلك
وضايق سأبور القوم، وأحاط بعسكرهم؟ فكان ليونياس مع سأبور مراسلات ومهادنة
واجتماع ومحادثة ومعاشرة، ثم افترقا، وانصرف بجيوش النصرانية مُوَادعاً
لسابور، وأخلف عليه ما أتلف من أرضه بأموال حملها إليه، وهدايا من لطائف
الروم، وشد هياكل في دين النصرانية، وردها إلى ما كانت عليه، ومنع من
الأصنام والتماثيل، وقتل على عبادتها، وكان ملكه سَنة.
ثم ملك بعله أوالس وهو على دين النصرانية، ثم رجع عنها، وهلك في بعض حروبه،
وكان ملكه إلى أن هلك أربع عشرة سنة.
يقظة أهل الكهف
وقيل: إِن في أيامه استيقظ أصحاب الكهف من رَقْدَتهم على حسب ما أخبر الله
جل ثناؤه عنهم بَعَثُوا أحدهم بورِهِهِمْ إلى المدينة، وهذا الموضع من أرض
الروم في الشمال، وللناس ممن عني بعلم الفلك في ازورار الشمس عن كهفهم في
حال طلوعها وغروبها لموضعهم من الشمال كلام كثير، وقد أخبر الله تعالى في
كتابه عن ذلك فقال "وترى الشمس إذا طلعت تَزَاوَرُ عن كهفهم "- الآية
وكانوا من أهل مدينة أفسيس من أرض الروم.
غراطاس وتدوسيس
ثم ملك بعد أوالس غراطياس خمس عشرة سنة، ولسنة من ملكه كان اجتماع
النصرانية، وهو أحد الاجتماعات فأتموا القول في روح القدس عندهم وأحرقوا
مقدونس بطريق القسطنطينية، وهو السنودس الثاني.
ثم ملك بعده تدوسيس الأكبر، وتفسير هذا الاسم عندهم عطية اللهوقام بدين
النصرانية، وعَظم منها، وبنى كنائس، ولم يكن من أهل بيت الملك ولا من
الروم، وإنما كان أصله من الأشباب، وهم بعض الأمم السالفة، وقد كانت ممن
ملك الشام ومصر والمغرب والأندلس، وقد تنازع الناس فيهم: فذكر الواقدي في
كتابه فتوح الأمصار أن بدأهم من أهل أصبهان، وأنهم ناقلة من هنالك، وهذا
يوجب أنهم من قبل ملوك فارس الأولى، وذكر عبيد الله بن خرداذبة نحو ذلك
وساعدهما على ذلك جماعة من أهل السير والأخبار، والأشهر من أمرهم أنهم من
ولد يافث بن نوح، سهم ملوك الأندلس من اللذَارقة واحدهم لذريق، وقد تنوزع
في دياناتهم: نمنهم من رأى أنهم كانوا على دين المجوس، ومنهم من رأى أنهم
كانوا على مذهب الصابئة وغيرهم من عبدة الأصنام، وقد قلنا: إن الأشهر من
أنسابهم أنهم من ولد يافث بن نوح، فكان مدة ملك تدوسيس إلى أن هلك عشر
سنين.
جماعة من ملوكهم
ثم ملك بعده أرقاديس أربع عشرة سنة، وكان على دين النصرانية.
ثم ملك بعده ابنه تدوسيس الأصغر، وذلك بمدينة أفسيس، وجمع مائتي أسقف، وهذا
الاجتماع الثالث الذي قدمنا ذكره آنفا، ولعن فيه نسطورس البطرك، وقد ذكرنا
في كتابنا أخبار الزمان الحيلة التي وقعت على نسطورس بَطْرك القسطنطينية من
صاحب الكرسي بالإسكندرية، وما كان من نسطورس، ونفيه ليوحنا المعروف
بالراهب، وما كان من يدوقيا زوجة الملك إلى أن نفي نسطورس من القسطنطينية
إلى إنطاكية ثم منها إلى صعيد مصر، والمشارقة من النصارى أضيفوا إلى نسطورس
لأنهم اتبعوه وقالوا بقوله: وإنما وسمتهم الملكية بهذا الاسم لتعَيِّرهم
وتعيبهم بذلك، وقد كانت المشارقة بالحيرة وغيرها من الشرق تَدْعَى
بالعِبَاد، وسائر نصارى المشرق يأبون هذه الإضافة إلى نسطورس، ويكرهون أن
يقال لهم نسطورية، وقد أيد برصوما مطران نصيبين رأي المشارقة في الثالوث،
وهو الكلام في الأقاليم الثلاثة والجوهر الواحد وكيفة اتحاد اللاهوت القديم
بالناسوت المًحْدَث، وكان ملك تدوسيس الأصغر إلى أن هلك اثنتين وأربعين
سنة.
اليعاقبة
ثم ملك بعده مرقيانوس، ثم ملك الروم بلخاريا زوجة مرقيانوس، وكانت ملكة
معه، وفي أيامها كان خبر اليعاقبة من النصارى، ووقع الخلاف بينهم في
الثالوث؟ فكان ملكها سبع سنين، وأكثر اليعاقبة بالعراق وبلاد تكريت والموصل
والجزيرة ومصر وأقباطها إلا اليسير فإنهم ملكية، والنوبة والأرمن يعاقبة،
ومطران اليعاقبة بتكريت بين الموصل وبغداد، وقد كان لهم بالقرب من رأس
العين واحد فمات، وصاحبهم اليوم بناحية حلب ببلاد قنسرين والعواصم، وكرسي
اليعاقبة رسمه أن يكون بمدينة إنطاكية، وكذلك لهم كرسي بمصر، ولا أعلم لهم
غير هذين الكرسيين، وهما مصر وإنطاكية.
ثم ملك بعدهما اليون الأصغر بن اليون، وكان ملكه ست عشر سنة، وفي أيامه
أحرم مسعرة اليعقوبي بطرك الإسكندرية، واجتمع له من الأساقفه ستمائة
وثلاثون أسقفاً، وفي تاريخ الروم أن عدة المجتمعين ستمائة وستون رجلاً،
وذلك بخلقدونية، وهذا الاجتماع هو السنودس الرابع عند الملكية، واليعاقبة
لا تعتد بهذا السنودس، ولهم خبر ظريف في قصة سوار في البطرك، وما كان من
أمره، وخبر تلميذه يعقوب البراذعي، ودعوته إلي مذهب سواري، واليعاقبة أضيفت
إلى منصب يعقوب البراذعي هذا،. وبه عرفت، وكان من أهل إنطاكية يعمل
البرادع.
ثم ملك بعده اليون الأصغر ابن اليون، سنة على دين الملكية.
ثم ملك بعده زينو، وهو من بلاد الأرمينيان، وكان يذهب إلى رأى اليعقوبية،
وكان ملكه سبع عشرة سنة، وكانت له حروب مع خوارج عليه في دار الملك، فظفر
بهم.
ثم ملك بعده نسطاس وكان يذهب إِلى مذهب اليعقوبي، وبنى مدينة عمورية، وأصاب
كنوزاً ودفائن عظيمة، وكان ملكه إلى أن هلك تسعاً وعشرين سنة.
ثم ملك بعده يوسطاناس تسع سنين. ثم ملك بعده يوسطانياس تسعاً وثلاثين سنة،
وقيل: أربعين، وبنى كنائس كثيرة، وشيد دين النصرانية، وأظهر مذهب الملكية،
وبنى كنيسة الرها، وهي إحدى عجائب العالم، والهياكل المذكورة، وقد كان في
هذه الكنيسة منديل يعظمه النصارى، وذلك أن يسوع الناصري- حين أخرج من ماء
المعودية- تنشف به؟ فلم يزل هذا المنديل يتداول إلى أن قرر بكنيسة الرها،
فلما أشتد أمر الروم على المسلمين وحاصروا الرها في هذه السنة- وهي سنة
اثنتين وثلاثين وثلثمائة- أعطى هذا المنديل للروم، فجنحوا إلى الهندنة،
وكان للروم عند تسلمهم هذا المنديل فرح عظيم.
ثم ملك بعده ابن أخيه نوسطيس ثلاث عشرة سنة، على رأي الملكية.، ثم ملك بعده
طباريس أربع سنين، وأظهر في ملكه أنواعاً من اللباس والآلات وآنية الذهب
والفضة وغير ذلك من الات الملوك.
ثم ملك بعده موريقس عشرين سنة، ونصر كسرى أبرويز على بهرام جوبين، فقتل
غيلة، وبعث أبرويز غضباً له بجيوش إلى الروم، وكانت لهم حروب على حسب ما
قدمنا .
ثم ملك بعده فوقاس ثمان سنين إلى أن قتل أيضاً.
ثم ملك بعده هرقل وكان بطريقاً في بعض الجزائر قبل ذلك، فعمر بيت المقدس،
وذلك بعد انكشاف الفرس عن الشام، وبنى الكنائس، ولسبع سنين من ملكه كانت
هجِرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة شَرفها الله تعالى.
ذكر ملوك الروم بعد ظهور الإسلام
ملك الروم في عهد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال المسعودي: وَجَدْتُ في كتب التواريخ تنازعاً في مولد النبي صلى الله
عليه وسلم، وفي عصر مَنْ كان من ملوك الروم: فمنهم مَنْ ذهب إلى ما قدمنا
من مولده وهجرته، ومنهم من رأى أن مولده عليه الصلاة والسلام كان في ملك
بوسطينوس الأول، وكان ملكه تسعاً وعشرين سنة.
ثم ملك بوسطينوس الثاني، وكان ملكه عشرين سنة.
ثم ملك هرقل بن بوسطينوس، وهو الذي ضرب الدنانير والدراهم الهرقلية، وكان
ملكه خمس عشرة سنة.
ثم ملك بعده ابنه مورق بن هرقل: والذي في كتب الزيجات في النجوم وعليه يعمل
أهل الحساب، وفي تواريخ ملوك الروم ممن سلف وخلف، أن ملك الروم كان في وقت
ظهور الإسلام وأيام أبى بكر وعمر هرقل وليس هذا الترتيب فيما عداها من كتب
التواريخ وأصحاب الأخبار والسير، إلا في اليسير منها، وفي تواريخ أصحاب
السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجر وملكُ الروم قيصر بن مورق.
في عهد خلفاء الإسلام
ثم ملك بعده قيصر بن قيصر، وذلك في خلافة بكر الصديق رضي الله عنه.
ثم ملك على الروم هرقل بن قيصر، ذلك في خلافه عمر بن الخطاب رضي الله عنه،
وهو الذي حاربه أمراء الإسلام الذين فتحوا الشام مثل أبي عييدة بن الجراح،
وخالد بن الوليد، ويزيد بن أي سفيان وغيرهم من أمراء الإسلام، حين أخرجوه
من الشام.
وكان الملك على الروم مورق بن هرقل في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
في عهد علي ومعاوية
ثم ملك مورق بن مورق في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأيام معاوية
بن أبي سفيان.
ثم ملك بعده قلفط بن مورق بقية أيام معاوية، وكان بينه وبين معاوية مراسلات
ومهادنات، وكان المختلف بينهما فناق الرومي غلام كان لمعاوية، وقد كان
معاوية هادَنَ أباه مورق بن مورق حين سار إلى حرب علي بن أبي طالب رضي الله
عنه، وكان بَشره بالملك، وأعلمه أن المسلمين تجتمع كلمتهم على قتل صاحبهم
يعني عثمان، ثم يؤول الملك إلى معارية، وقد كان معاويهّ يومئذ أميراً على
الشام لعثمان في خبر طويل قد أتينا على ذكره في الكتاب الأرسط، وأن ذلك من
علم الملاحم يتوارثه ملوك الروم عن أسلافهم، وكان ملك قلفط بن مورق في
الأخر من أيام معاوية وأيام يزيد بن معاوية وأيام معاوية بن يزيد وأيام
مروان بن الحكم وصدراً من أيام عبد الملك بن مروان.
في عهد الدولة المروانية
ثم ملك لاون بن قلفط في أيام عبد الملك بن مروان، وكان الملك بعده جيرون بن
رون في أيام الوليد بن عبد الملك وأيام سليمان بن عبد الملك وخلافة عمر بن
عبد العزيز، ثم اضطرب ملك الروم لما كان من أمر مَسْلَمة بن عبد الملك
وغَزْو المسلمين إياهم في البر والبحر، فملكوا عليهم رجلًا من غير أهل بيت
الملك من أهل مرعش، يقال له جرجيس، وكان ملكه تسع عشرة سنة.
في عهد الدولة العباسية
ولم يزل ملك الروم مضطرباً إلى أن ملكهم قسطنطين بن اليون، وذلك في خلافة
أبي العباس السفاح وأبي جعفر المنصور أخيه، ثم ملك بعده اليون بن قسطنطين،
وذلك في أيام المهدي والهادي، ثم ملك بعده - قسطنطين بن اليون، وكانت أمه
أريش ملكة معه، مشاركة له في الملك، لصغر سنه في أيام هارون الرشيد، فمات
قسطنطين بن اليون وسملت عينا أمه بعد ذلك لأخبار يطول ذكرها، ثم ملك على
الروم يعفور بن اسدراق، وكانت بينه وبين الرشيد مراسلات، وغزاه الرشيد،
فأعطاه القود من نفسه بعد بغي كان منه في بعض مراسلاته، فانصرف الرشيد عنه،
ثم غدر ونقض ما كان أعطاه من الانقياد وكُتم عن الرشيد أمره، لعارض علة كان
وجدها بالرقة، وفي انقياد يعفور إلى الرشيد وحَمْله الأموال والهدايا
والضريبة إليه يقول أبو العتاهية :
إمامَ الهدى أصْبَحْتَ بالـدين مَـعْـنـاً
|
وَأصْبَحْتَ تسقي كل مستمـطـرٍ رَيا
|
|
لك اسمان شُقَا من رشاد ومـن هـدى
|
فأنت الذي تدعـي رشـيداً ومـهـديَّا
|
|
إذا ما سخطْتَ الشيء كان مُسَخّـطـاً
|
وإن ترض شيئاً كان في الناس مرضيّا
|
|
بسطت لنا شرقاً وغـربـاً يَدَ الـعـلا
|
فأوسعت شرقياً وأوسعـت غـربـيّا
|
|
وغَشَّيا وجه الأرض بالجود و الـنـدي
|
فأصبح وجه الأرض بالجود مغـشـيا
|
|
وأنت، أميرَ المؤمنين، فتى الـتـقـى
|
نشرت من الِإحسان ما كان مَـطْـويا
|
|
قضى اللّه أن صَفى لهارون ملـكـه
|
وكان قضاء الله في الخلق مَقْـضـيا
|
|
تحببت الدنيا لـهـارون بـالـرضـا
|
وأصبح يعـفـور لـهـارون
ذمـيا
|
فلما عوفي الرشيد من علته دخل عليه بعض الشعراء وقد هابه الناس أن يخبروه
بغدْر يعفور، فقال:
نقض الذي أعطاكه يعـفـور
|
فعليه دائرةُ الـبـوار تـدُور
|
|
أبشر، أمير المؤمنين، فـإنـه
|
فتحٌ أتاك به الِإلـهُ كـبـيرُ
|
|
فتْح يزْيد على الفتوح، يَؤُمنَـا
|
بالنصر فيه لِوَاؤُك المنصور
|
|
فلقد تباشَرَتِ الرَعِيَّة أن أتـىِ
|
بالغدر عنه وافـد وَبَـشِـير
|
|
وَرَجَتْ بِيُمْنِكَ أن تُعَجِّل غزوَةَ
|
تشفي النفوسَ، نَكَالُهَا مذكور
|
|
يعفور، إنك حين تَغْدِرُ أنْ نأى
|
عنك الإمام لَجَاهِلٌ مغـرور
|
|
أظننت حين غدرت أنك مُفلِتٌ
|
هَبِلَتْكَ أمك، ما ظننت غُرُور
|
|
إن الإمام على اقتسارك قادر
|
قَرُبتْ دِيارك أم نأت بك عور
|
|
لَيْسَ الِإمام وإن غفلنا غَافـلأ
|
عما يسوس بحـزمـه ويدير
|
|
ملك تجَرد للجهاد بنـفـسـه
|
فعدُؤُهُ أبداً بـه مـقـهـور
|
|
يامن يريد رضا الإله بسعـيه
|
والله لا يَخْفي عليه ضمـير
|
|
لانصح ينفع من يَغُشُ إمامـه
|
والنصح من نصحائِهِ مشكور
|
|
نُصْحُ الِإمام على الأنام فريضة
|
ولأهله كفـارة وظـهـور
|
وهي طويلة، فلما أنشده إياها قال الرشيد: أو قد فعَلَ؟ وعلم أن الوزراء قد
احتالوا، فتجهز وغزاه، ونزل على هرقلة، وذلك في سنة تسعين ومائة.
الرشيد يحاصر هرقلة
وأخبرني أبو عمير عديّ بن أحمد بن عبد الباقي الأزدي أن الرشيد لما أراد
النزول على حصن هرقلة- وكان معه أهل الثغور، وفيهم شيخا الثغور الشامية
مخلد بن الحسين، وأبو إسحاق الفزاري صاحب كتاب السير- فخلا الرشيد بمخلد بن
الحسين، فقال: أي شيء تقول في نزولنا على هذا الحصن؟ فقال: هذا أول حصن
لقيتَ من حصون الروم: هو في نهاية المنعة والقوة فإن نزلت عليه وسهل الله
فتحه لم يتعذر عليك فتح حصن بعده، فأمره بالانصراف، ودعا بأبي إسحاق
الفزاري فقال له مثل ما قال لمخلد، فقال: يا أمير المؤمنين هذا حصن بنته
الروم في نَحْر الدروب، وجعلته لها ثغراً من الثغور، وليس بالاهل، فإن أنت
فتحته لم يكن فيه ما يعم المسلمين من الغنائم، وإن تعذر فتحه كان ذلك نقصاً
في التدبير، والرأي عندي أن يسير أمير المؤمنين إلى مدينة عظيمة من مدن
الروم، فإن فتحت عَمًتْ غنائمها المسلمين، وإن تعذر ذلك قام العذر، فمال
الرشيد إلى قول مخلد، فنزل على هرقلة، ونصب حولها الحرب تسعة عشر يوماً،
فأصيب خلق كثير من المسلمين، وفنيت الأزواد والعلوفات، وضاق صدر الرشيد من
ذلك، فأحضر أبا إسحاق الفزاري، فقال: يا إبراهيم قد تَرَى ما نزل
بالمسلمين، فما الرأي الآن عندك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، قد كنت أشفقت من
هذا، وقدمت القول فيه ورأيت أن يكون الجد والحرب من المسلمين على غير هذا
الحصن، وأما الآن فلا سبيل إلى الرحيل عنه من بعد المباشرة، فيكون ذلك
نقصاً في الملك. ووهناً في الدين، وإطماعاً لغيره من الحصون في الامتناع عن
المسلمين، والمصابرة لهم، لكن الرأي يا أمير المؤمنين أن تأمر بالنداء في
الجيش أن أمير المؤمنين مقيم على هذا الحصن إلى أن يفتحه اللّه عز وجلّ
للمسلمين، وتأمر بقطع الخشب وجمع الأحجار وبناء مدينة بازاء هذا الحصن إلى
أن يفتحه اللّه عز وجل، ولا يكون هذا الخبر ينمو إلى أحد من الجيش إلا على
المقام؟ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الحرب خدعة وهذه حرب حيلة لا
حرب سيف، فأمر الرشيد من ساعته بالنداء، فحملت الأحجار وقطع الأخشاب من
الشجر، وأخذ الناس في البناء، فلما رأى أهل الحصن ذلك جعلوا يتسللون في
الليل، ويُدَلون أنفسهم بالحبال.
وفي خبر أبي عمير بن عبد الباقي زيادات، منها خبر الجارية التي سبَاها
الرشيد من هذا الحصن، وهي ابنة بطريقِهِ، وكانت ذات حسن وجمال، فزايد فيها
صاحب الرشيد في المغنم، وبالغ فيها حتى اشتراها له، فبلغت من قلبه، وبنى
لها نحو الرافقة بأميال على طريق بالس حصناً سماه هرقلة على الفرات، يحاكي
به حصن هرقلة ببلاد الروم، في خبر طويل قد أتينا على جميعه في كتابنا
الأوسط.
وهذا الحصن باقٍ إلى هذه الغاية هنالك خراب يعرف بهرقلة.
وأخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرني أبو العينا، قال:
أخبرني شبل الترجمان، قال: كنت معِ الرشيد حين نزل على هرقلة وفتحها، فرأيت
بها حجراً منصوباً مكتوباَ عليه باليونانية، فجعلت أترجمه والرشيد ينظر
إليَ، وأنا لا أعلم، فكانت ترجمته. بسم الله الرحمن الرحيم، يا ابن آدم
غافص الفرصة عند إمكانها، وكِل الأمور إلى وليها، ولا يحملنك إفراط السرور
على المأتم، ولا تحمل على نفسك هم يوم لم يأت، فإنه إن يك من أجلك وبقية
عمرك يأت الله فيه برزقك، ولا تكن من المغرورين بجمِع المال، فكم قد رأينا
جامعاً لبعل حليلته، ومقتراً على نفسه، موفراَ لخزانة غيره وقد كان تاريخ
هذا الكتاب في ذلك اليوم زائداً على الذي سنة. وباب هرقلة مُطِل عَلَى واد
وخندق يطيف بها، وذكر جماعة من أهل الخبرة من أهل الثغور أن أهل هرقلة لما
اشتد بهم الحصار، وعضتهم الحرب بالحجارة والسهام والنار فتحوا الباب
فاستشرف المسلمون لذلك-، فإذا رجل من أهلها كأجمل الرجال قد خرج في أكمل
السلاح، فنادى: يا معشر العرب: قد طالت مواقفتكم إيانا، فليخرج إلي منكم
الرجل والعشرة إلى العشرين مبارزة، فلم يخرج إليه من الناس أحد، ينتظرون
إذْنَ الرشيد، وكان الرشيد نائماً فعاد الرومي إلى حصنه، فلما استيقظ أخبر
بذلك، فتأسف ولام خدمه على تركهم إيقاظَهُ، فقيل له: يا أمير المؤمنين، إن
امتناع الناس منه اليوم يطْمعه ويطغيه ويجرئه أن يخرج في غدٍ فيطلب
المبارزة ويعود لمثل قوله، فطالت على الرشيد ليلته، وأصبح كالمنتظر له، إذ
فتح الباب، فإذا الفارس قد خرج، وعاد إلى كلامه، فقال الرشيد: مَنْ له؟
فابتدره جلة القواد، فعزم على إخراج بعضهم، فضَجّ أهل الثغور والمتطوعة
بباب المضرب، فأذن لبعضهم، وفي مجلسه مخلد بن الحسين وإبراهيم الفزاري،
فدخلوا، فقالوا: يا أمير المؤمنين، قوادك مشهورون بإلباس والنجدة، وعلو
الصيت ومباشرة الحرب ومتى خرج واحد منهم وقتل هذا العلج لم يكبر ذلك، وإن
قتله العلج كانت وصمة على العسكر عظيمة، وثلمة لا تنسد، ونحن عامة لا يرتفع
لأحد منا صيت فإن رأى أمير المؤمنين أن يختار رجَلَا منا يخرج إليه فعَل،
فصوَّبَ الرشيد رأيهم وقال مخلد وإبراهيم: صدقوا يا أمير المؤمنين، فأومؤا
إلى رجل منهم يعرف بابن الجزري مشهور في الثغور موصوف بالنجدة، فقال له
الرشيد: أتخرج إليه؟ قال: نعم، وأستعين باللّه عليه، فقال: أعطوه فرساً
وسيفاً ورمحاً وترساً، فقال: يا أمير المؤمنين أنا بفرسي أوثق، ورمحي في
يدى أشد، ولكن قد قبلت السيف والترس. فلبس السلاح، وأشتدناه الرشيد فودعه
وأتبعه بالدعاء، وخرج معه عشرون من المتطوعة، فلما انقضَّ في الوادي قال
لهم العلج وهو يعدهم واحداً: إنما كان الشرط عشرين، وقد إزددتم رجلَاَ ولكن
لا بأس، فناده: ليس يخرج لك منا إلا رجل واحد، فلما فصل منهم ابن الجزري
تأمله العلج، وقد أشرف أكثر الروم من الحصن يتأملون صاحبهم، فقال له
الرومي: أتصدقني عما أسألك عنه؟ قال: نعم، قال: أنت ابن الجزري باللّه.
قال: اللهم نعم، فكُف لك، قال: بل كُف، ثم أخذا في شأنهما، فتطاعَنَا حتى
طال الأمر بينهما، وكاد الفرَسَان أن يقوما تحتهما، وليس واحد منهما خدَش
صاحبه، ثم رميا برمحيهما هذا نحو أصحابه وهذا نحو حصنه، وانتضَيَا
سُيُوفهما وقد اشتد الحر عليهما، وتبلد جواداهما، فجعل ابن الجزري يضرب
الرومي الضربة التي يظن أنة قد بالغ فيها فيتقيها الرومي، وكانت درقته
حديداً، فيسمع لها صوت منكر، ويضربه الرومي فيغوص سيفه لأن ترس ابن الجزري
كان درقة تبتية، وكان العلج يخاف أن يغوص السيف فيعطب، فلما يئس كل واحد
منهما من صاحبه انهزم ابن الجزري، فداخلت الرشيد والمسلمين من ذلك كآبة لم
يصبهم مثلها، وعطعط المشركون من حصنهم، وإنما كانت حيلة من ابن الجزري،
فاتبعه العلج وعلا عليه، فلما تمكن منه ابن الجزري رماه بوهق فاختطفه من
سرجه، ثم عطف عليه، فما وصَلَ إلى الأرض جسده حتى فارقه رأسه، وكبر
المسلمون، وانكسر المشركون، وبادروا الباب ليغلقوه، واتصل الخبر بالرشيد،
فصاح بالقُؤاد أن يجعلوا في حجارة المجانيق النار، فليس عند القوم دفع
بعدما، وعاجلهم المسلمون إلى الباب فدخلوها بالسيف، وقيل: إنهم نادوا
بالأمان، فأمنوا، وافتتاحها عَنْوَةً أشهر من قول مَنْ قال.: إنها فتحت
صلحاً، فقال في ذلك الشاعر الحكمي وهو أبو نواس:
هَوَتْ هِرَقْلَةُ لما رأت عجبـا
|
جواثما ترتمي بالنفط والنـار
|
|
كأنَ نيرانَنَا من جنب قلعتهـم
|
كمشعلات على أرسان قصار
|
وهذا كلام ضعيف ولكن قد عظم قدره في ذلك الوقت للمعنى، وعظمت لصاحبه
الجائزة، وصُبَّت الأموال على ابن الجزري، وقؤدَ، وخُلع عليه، فلم يقبل
شيئاً من ذلك، وسأل أن يُعْفى ويترك على ما هو عليه. ففي هذا يقول الشاعر
أبو العتاهية:
ألا نادت هِرَقْلَةُ بالخـراب
|
من الملك المُوَفق للصواب
|
|
غدا هارُونُ يرعد بالمنـايا
|
ويبرق بالمذكَرَةِ العضاب
|
|
ورايات يحل النصر فيهـا
|
تمر كأنها مَر السـحـاب
|
|
أميرَ المؤمنين ظفرت فاسلم
|
وأبشر بِالغـنـيمةِ
والِإياب
|
وللرشيد مع يعفور هذا بعد ذلك أخبار كثيرة، وقد أتينا على مبسوطها في
كتابنا الأوسط، وما كان من خبره في إرساله ليحيى بن الشخير حين أمره أن
يتطارش على يعفور، وما كان من يعفور وإخباره لبطارقته أن الرشيد بعث بهذا
متصامماً، وما طالبه ابن الشخير بدينار أو درهم عليه صورة الملك حين عرضت
عليه الخزائن، وما كان من انقياد يعفور بعد ذلك إلى طاعة الرشيد، وشرطه
عليه أن يحمل إليه أينما كان من ماء عين العشيرة، هي عين البربدون، وهي في
نهاية الصفاء والرقة، وغير ذلك مما عنه أمسكنا للاختصار.
ثم ملك بعد يعفور استراق بن يعفور بن استراق في أيام محمد الأمين، فلم يزل
ملكاً حتى غلب على الملك قسطنطين بن قلفط، وكان ملك قسطنطين هذا في خلافة
المأمون.
ثم ملك بعده توفيل، وذلك في خلافة المعتصم، وهو الذي فتح زبطرة، وغزاه
المعتصم بالله ففتح عمورية، وسنورد خبره فيما يرد من هذا الكتاب في أخبار
المعتصم، إن شاء الله تعالى.
ثم ملك بعده ميخائيل بن توفيل وذلك في خلافة الواثق والمتوكل والمنتصر
والمستعين.
ثم كان بين الروم تنازع في الملك، فملكوا عليهم توفيل بن ميخائل ابن توفيل
ثم غلب على الملك بسيل الصقلبي، ولم يكن من أهل ييت الملك، وكان ملكه أيام
المعتز والمهتدي، وبعض خلافة المعتمد.
ثم ملك بعده ابنه اليون بن بسيل بقية أيام المعتمد و صدراً من أيام
المعتضد.
ثم هلك فملكوا عليهم ابناً له يُقال له الاسكندروس فلم يحمدوا أمره،
فخلعوهُ وملكوا عليه أخاه لاوي بن اليون بن بسيل الصقليي وكان ملكه بقيَّة
أيام المعتضد والمكتفي و صدراً من أيام المقتدر.
ثم هلك وخلف ولداً صغيراً يُقال له قسطنطين فملك وغلب على مشاركته في الملك
أرمنوس بطريقُ البحر وصاحب غَزْوه وحروبه، فزوّج قسطنطين الصبيً بابنته،
وذلك في بقية أيام المقتدر وأيام القاهر والراضي والمتقي، إلى هذا الوقت-
وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة- في خلافة أبي إسحاق المتقي لله بن
المقتدر.
وملوك الروم في هذا الوقت المؤرخ ثلاثة، والأكبر منهم والمدبر لأمور أرمنوس
المتغلب، ثم الثاني وهو قسطنطين بن لاوي بن اليون بن بسيل، والملك الثالث
ابن لأرمنوس، يخاطَبُ بالملك، واسمه اسطفنوس وجعل أرمنوس ابنَاَ له آخَرَ
صاحبَ الكرسيّ بالقسطنطينية، وهو البطرك الأكبر الذي يأخذون عنه دينهم، وقد
كان خَصَاه قبل ذلك، وقربه إلى الكنيسة، وأمرُ الروم يدور في وقتنا هذا على
من ذكرنا من ملوكهم.
قال المسعودي: وإلى هذا الوقت انتهت أخبار ملوك الروم، على حسب ما ذكرنا،
والله أعلم ما يكون من أمرهم في المستقبل من الزمان.
مدة ملك الروم
فعدد سني ملوك الروم المتنصرة من قسطنطين بن هلاني، وهو المظهر لدين
النصرانية على ما ذكرنا، إلى هذا الوقت، خمسمائة سنة وسبع سنين، والذي أجمع
عليه من عدد ملوكهم- من قسطنطين إلى هذا الوقت المؤرخ- أحد وأربعون ملكاً،
ولم يعد بعدُ ابن أرمنوس، ووقع العدد على قسطنطين وأرمنوس اللذين هما ملكا
الروم في هذا الوقت المؤرخ، وإن أدخلنا في هذا العمد ابن أرمنوس فعدد ملوك
الروم من بدء النصرانية- وهو الملك قسطنطين بن هلاني- اثنان وأربعون ملكاً،
في مدة هذه السنين المذكورة.
وقد ذهب جماعة ممن عُني بأخبار العالم إلى أن مِنْ حين هَبَطَ آدم عليه
السلام إلى هذا الوقت، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، ستة آلاف سنة
ومائتين وتسعاً وخمسين سنة، وسنذكر فيما يرد من هذا الكتاب جملاً من تاريخ
سني العالم والأنبياء والملوك في بابٍ نفرعه لذلك، إن شاء الله تعالى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..