أخطر
ما تواجهه أي مسيرة أن يضيع منها الهدف، لأنها في هذه الحالة ستكون معرضة
للتيه والضياع. وأخشى ما أخشاه أن تكون تلك حالة الثورة المصرية الآن.
(1)
في
أشهر البراءة الأولى كان ظننا أن مصادر الخطر الذي يهدد الثورة تتراوح بين
فلول النظام السابق والقوى الإقليمية والدولية التي أدركت أن مصالحها
ستتضرر بنجاحها. وكنت وما زلت أحد القائلين بأن الوضع الاستثنائي لمصر
المتمثل في ثقلها ودورها المؤثر في العالم العربي، من شأنه أن يجعل من
الثورة ولادة عسرة و"قيصرية"، في حين أنها يمكن أن تصبح ولادة طبيعية
ومحتملة في أية دولة أخرى بالمنطقة. قلت أيضا إن الديمقراطية في مصر، إذا
قدر لها أن تتحقق، فإن ذلك سيصبح مصدر استياء من جانب أطراف عدة، عربية
وإقليمية ودولية، وقد أثبتت الأشهر التي خلت صحة ذلك التقدير.
تجلى
ذلك من الموقف السلبي لبعض الدول العربية التي امتنعت عن تقديم أي مساندة
للوضع الاقتصادي الصعب الذي تمر به البلاد، وبعض تلك الدول ذهبت إلى حد
ممارسة ضغوط مختلفة على المصريين العاملين سبقت الإشارة إليها.
ما
حدث في إسرائيل لم يكن استياء وإنما كان ذعرا حقيقيا ومتغيرا إستراتيجيا
لم يكن في الحسبان، عبرت عنه كتابات المحللين التي نشرتها مختلف الصحف،
وكان ذلك واضحا في التقرير الإستراتيجي الإسرائيلي الذي صدر في شهر سبتمبر
الماضي، وفي الزيادات التي طرأت على نفقات الأمن والجيش، بعدما كانت
الحكومة قد اتجهت قبل رحيل مبارك إلى تقليصها، حتى إن وزير الدفاع
الإسرائيلي إيهود باراك لم يتردد في مطالبة الولايات المتحدة بدفع عشرين
مليار دولار إضافية لموازنة الأمن، مساهمة منها في "مساعدة إسرائيل على
تحمل تبعات الثورات العربية على أمنها القومي". وكان الوزير والنائب الحالي
بنيامين بن إليعازر قد طالب إسرائيل بالاستعداد لخوض حرب جديدة ضد مصر،
بعد الذي طرأ على نظامها من تحولات.
صحيح أن الدول الغربية -وفي مقدمتها الولايات المتحدة- أبدت استعدادا
للتعامل مع الأمر الواقع في مصر، لكنها في الحقيقة اشترطت ألا يكون ذلك
متعارضا مع مصالحها أو ماسا بمعاهدة السلام مع إسرائيل. هذا في الوقت الذي
ألقت فيه بثقل تمويلي كبير لدفع الأمور باتجاه الحفاظ على تلك المصالح.
وكانت بعض منظمات المجتمع المدني هي الوعاء الذي وجه إليه ذلك التمويل،
الذي فهمنا أنه محل تحقيق في مصر لم تعلن نتائجه.
(2)
كل
ذلك مفهوم ولا مفاجأة فيه. كذلك لم تكن هناك مفاجأة في موقف فلول النظام
السابق، ذلك أن الأولين إذا كانوا قد تحركوا تحسبا لمواقف محتملة، فإن
الفلول تضررت مصالحهم بصورة مباشرة، رغم أنني أشك في أنهم بالقوة التي
تتحدث عنها بعض وسائل الإعلام. على الأقل فذلك ما أثبتت الانتخابات
التشريعية في مرحلتيها الأولى والثانية، ناهيك عن أن دورهم في الاضطرابات
التي شهدتها مصر مؤخرا لم يثبت بعد أو لم يعرف حجمه على وجه التحديد، وكل
ما سمعناه كان إحالة شفهية إلى دورهم، أو حديثا عن "رائحتهم" كما قال
اللواء عادل عمارة عضو المجلس العسكري في المؤتمر الصحفي الذي عقده يوم 19
ديسمبر/كانون الأول.
ما
لم يكن في الحسبان هو المفاجأة التي جاءت من الداخل، والتي قامت النخب
والإعلام بدور رئيسي فيها، لم يكن الوحيد لكنه الأهم والأكثر فاعلية، ذلك
لأنه ما إن بدأت أولى خطوات التحرك لإقامة النظام الديمقراطي المنشود
وتسليم السلطة إلى المدنيين، وتمثلت في التعديلات الدستورية التي تم
الاستفتاء عليها في شهر مارس/آذار الماضي، حتى حدث أول شرخ في بنيان
الجماعة الوطنية. في تلك التجربة المبكرة ظهرت بوادر الانقسام في مصر، وكان
ذلك مؤسفا لا ريب، أما المحزن فأن الخلاف بدا في ظاهره سياسيا لكنه تحول
إلى صراع هويات.
وانطلقت
الشرارة التي أججت ذلك الصراع من اختيار أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين
عضوا في اللجنة التي أجرت التعديلات، وطالت السهام المستشار طارق البشري
الذي رأس اللجنة لما عُرف عنه من غيرة على دينه. لم يكن موضوع النقد هو
كفاءتها القانونية وإنما هويتها الإسلامية.
ورغم
أن اللجنة ضمت ستة آخرين من أكفأ رجال القانون أحدهم قبطي، إلا الناقدين
تجاهلوا دورهم، واعتبروا أن الحضور المتواضع للهوية الإسلامية في اللجنة
جريمة لم تغتفر في نظرهم حتى هذه اللحظة. ومنذ ذلك الحين والرأي العام
المصري يخرج من معركة فرعية لكي يدخل في أخرى.
ترتب على ذلك أنه خلال الأشهر العشرة التي مضت لم نلمس جهدا حقيقيا
للتوافق بين النخب، التي فشلت في الاتفاق على ما هو مشترك بينها. وفي حين
تابعنا خلال الأسبوعين الأخيرين كيف أن ثورة تونس استطاعت بالتوافق أن
تتقدم أكثر من خطوة مهمة للأمام، بحيث اشتركت الأحزاب الرئيسية الثلاثة في
إدارة البلد وترتيب وضع الدستور، فإننا وجدنا أن روح المغالبة ظلت مخيمة
على الحراك السياسي في مصر.
(3)
في
هذه الأجواء لم يتوقف التراشق بين الجماعات السياسية باختلاف مسمياتها،
وظهر السلفيون فأربكوا الحسابات وقلبوا الطاولة على الجميع بآرائهم الصادمة
وأولوياتهم المختلة، وأسفرت الانتخابات عن نتائج سجلت تقدما للتيار
الإسلامي على الآخرين فاتسعت جبهة المواجهة، وشن الإعلام حملة ترويع وتخويف
من ذلك التقدم، انضافت إلى جهود الإثارة والتهييج التي تمارس منذ لاحت
بوادر الشقاق، الذي كانت السهام تطلق فيه من فوق المنصات الإعلامية.
أخطر ما في هذه الأجواء ليس فقط أنها مزقت الصفوف وأهدرت الطاقات وعمقت
المرارات، إنما الأخطر أنها جرفت الانتباه بعيدا عن الأهداف الأساسية
للثورة، حتى الأهداف المرحلية لم تكن واضحة. فلم يكن مفهوما الهدف من
اقتحام وزارة الداخلية أو الوصول إلى وزارة الدفاع، أو إغلاق مجمع التحرير،
أو منع رئيس الوزراء من الذهاب إلى مكتبه، أو اقتحام مبنى مجلس الشعب، حتى
حرق مبنى المجمع العلمي وتحويل نفائسه إلى رماد، لم تكن معلومة أسبابه
ومقاصده ولا عرف الفاعلون الذين حرضوا عليه.
أدري أن الغاضبين الذين أرادوا أن يعبروا عن احتجاجهم أو يسجلوا
مواقفهم لم تكن لهم يد في التخريب الذي تم أو الحماقات التي ارتكبت، لكننا
لا نستطيع أن ننكر ثلاثة أمور: الأول أن ذلك كله نسب إلى الثورة والثوار.
الثاني أن أولئك الغاضبين لم يكن لديهم اتفاق واضح حول الأهداف، حتى أزعم
أن التعبير عن الغضب كان هدفا بحد ذاته. الأمر الثالث أن صفوفهم لم تخل من
المهيجين والفوضويين ذوي الأصوات العالية، الذين ظلوا يقفون دائما ضد أي
محاولة لترشيد سلوك المتظاهرين أو إدارة عجلة الدولة.
لا
يستطيع أحد أن ينكر أن التظاهر حقق المراد منه حين كان الهدف منه واضحا،
كما حدث في المحاكمة العلنية لمبارك ورجاله أو في إسقاط حكومة الدكتور عصام
شرف أو إسقاط وثيقة الدكتور السلمي، لكن ذلك التظاهر أصبح عبئا على الثورة
حين انقسم الصف وانفرط العقد واختلط الحابل بالنابل.
لا أشك أيضا في أن الأخطاء التي وقع فيها المجلس العسكري كانت من
الأسباب التي أججت مشاعر الغضب وأسهمت في توسيع نطاق الحريق، وكان أبرز تلك
الأخطاء استخدام العنف المفرط بحق المتظاهرين مما أدى إلى قتل بعضهم
وتلطيخ وجه الثورة بدماء الثائرين.
وكان
مستغربا أننا إزاء ذلك لم نلمس أي اعتراف بالخطأ الذي وقع أو اعتذار عنه،
لكننا تلقينا ردودا جانبها التوفيق، حيث لجأ ممثلو المجلس العسكري إما إلى
إنكار ما حدث أو محاولة تبريره وتوجيه الاتهام للمتظاهرين أو تحميل
المسؤولية لطرف ثالث غير معلوم.
(4)
في
مختلف الدراسات الإستراتيجية تحذير دائم من إغفال الأهداف أو الحيدة عنها،
وهو أمر مفهوم لأن الإستراتيجيات معنية بالكليات والمقاصد النهائية، الأمر
الذي يستدعي سؤالا جوهريا ينبغي أن يطرحه الباحث على نفسه دوما هو: هل
الوسائل والسياسات المتبعة تقرب من الأهداف المنشودة أم تبعّد عنها؟
لدينا مستويان في الإجابة عن السؤال، إذ لا بد أن نسجل أن المضي في
إجراء الانتخابات التشريعية وإنجاز المرحلتين الأولى والثانية يشكل تقدما
مهما باتجاه نقل السلطة إلى المدنيين، وأن ذلك حدث رغم عدم استقرار الوضع
الداخلي، ورغم تخويف البعض من إجراء الانتخابات والتحذير من احتمالات
الفوضى التي تغرق البلاد في بحر الدماء، وهي التلويحات التي كانت قد رددتها
بعض المنابر الإعلامية وحذر منها عدد غير قليل من المثقفين. من هذه
الزاوية فإن واجب الوقت الذي ينبغي أن تؤديه الجماعة الوطنية هو مساندة تلك
المسيرة ودفعها لإنجاز المرحلة الثالثة، ومن ثم تشكيل أول نواة منتخبة في
مسار تأسيس النظام الديمقراطي الجديد.
المستوى الآخر يتعلق بالحراك الحاصل في المجتمع، بالأخص في دوائر
المتظاهرين والنخبة والإعلام. وإذ نلاحظ أن الانفعال والغضب من سمات حركة
المتظاهرين الذين قد نعذرهم في بعض الحالات، فإننا نجد النخبة مستغرقة في
تصفية حساباتها، أما الإعلام فأغلب ما يصدر عنه يدور في فلك صب البنزين على
النار، ومواصلة إشعال الحرائق وتأجيجها. وحصيلة ذلك كله لا تخدم هدف نقل
السلطة إلى المدنيين، إذا لم تؤدِ إلى تعويق ذلك الهدف وتأجيله.
إننا
في أشد الحاجة إلى الاستعانة بموازنات الأصوليين في التعامل مع تحديات
المرحلة القادمة، تلك التي تتحدث عن الموازنة بين المفاسد بما يحبذ القبول
مؤقتا بمفسدة صغرى خشية أن يترتب على إصلاحها وقوع مفسدة كبرى، أو احتمال
الضرر الأصغر لتجنب الضرر الأكبر، أو تلك التي تتحدث عن تقديم درء المفسدة
على جلب المصلحة.
إذا أردنا تنزيل هذه الفكرة على أرض الواقع فإنني أزعم أن مسؤولية
الحفاظ على الثورة تفرض على الغيورين عليها أن يصوبوا وجهتهم بحيث يصبح
إتمام الانتخابات وتسليم السلطة لحكومة مدنية منتخبة هو المصلحة الكبرى
التي قد يتطلب تحقيقها احتمال وتمرير بعض المفاسد الصغرى. وما لم يحدث ذلك
فاللحظة التاريخية مهددة بأن تفلت من أيدينا، بحيث لا تبقى لنا ثورة بل قد
لا تبقى لنا دولة.
وهو أمر مقلق ومحزن، أن نشكو في البداية من افتقاد الثورة للرأس، ثم بعد مضي عشرة أشهر نخشى على الثورة من ضياع الهدف.
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..