ملخص الخطبة
1-
الخوف من عدم قبول التوبة.2- الذين يقعون في أنواع الذنوب ويقولون بأن
الله غفور رحيم.
3- غلب علينا الرجاء الذي يضعف الهمم.
4- خوف الصحابة رضي الله عنهم ونماذج منه.الخطبة الأولى**اما وبعد:
فإنه ينبغي للعاقل أن يكون على خوف من ذنوبه وإن تاب منها وبكى عليها، فإن أكثر الناس قد سكنوا إلى قبول التوبة وكأنهم قد قطعوا على ذلك, وهذا أمر غائب, ثم لو غفرت بقي الخوف بعد فعلها, ويؤيد الخوف بعد التوبة أن في حديث الشفاعة في الصحاح أن الناس يأتون إلى آدم عليه السلام يوم القيامة فيقولون: اشفع لنا فيقول: ذنبي, فيأتون بعده نوحاً وإبراهيم وموسى عليهم السلام فيقولون مثل ذلك، فيأتون بعدهم عيسى عليه السلام فلا يرى نفسه أهلاً لطلب الشفاعة ويحيلهم إلى نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم, فإن هؤلاء الأنبياء الكرام صلوات الله وسلامه عليهم إذا اعتبرت ذنوبهم لم يكن أكثرها ذنوباً حقيقة, ثم إن كانت فقد تابوا منها واعتذروا وهم بعد ذلك على خوف منها، ثم إن الخجل بعد قبول التوبة لا يرتفع، وما أحسن ما قاله الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: واسوأتاه منك وإن عفوت، واحيائي وخجلي منك وإن عفوت عن ذنوبي وقبلت توبتي.
فأفٍ ـ والله ـ لِمُختار الذنوب مؤثر لذة لحظة تبقى حسرة لا تزول عن قلب المؤمن وإن غُفر له, الحذر الحذر من كل ما يوجب خجلاً, وهذا أمر قبل أن ينظر فيه تائب أو زاهد لأنه يرى أن العفو قد غمر الذنب بالتوبة الصادقة وما ذكرته يوجب دوام الخجل. هذا وإن كان اللوم متوجهاً في حق اللذين تابوا فاعتمدوا على عفو الله ونسوا ذنوبهم بعد أن تابوا منها فلم يعودوا يتألمون بسببها فإنه أشد توجهاً في حق الذين هم مقيمون على الذنوب ولم يتوبوا منها, وهم مع ذلك على عفو الله معتمدون, فإن كان الله تعالى قد قال في الآية الثانية من سورة المجادلة: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ فقد قال كذلك في الآية السابعة والأربعين من سورة إبراهيم: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ, وإن كان قال في الآية التاسعة والأربعين من سورة الحجر: نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ فقد قال بعدها مباشرةً: وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الاْلِيمُ, وإن كان قد ثبت في الصحيحين من حديث عثمان رضي الله عنه أنه توضأ ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه بشيء غفر له ما تقدم من ذنوبه)) ومعنى هذا بيان سعة عفو الله وفضله ورحمته, إن كان ذلك قد ثبت فقد ثبت أيضاً في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)), وعند الترمذي في هذا الحديث: ((لا يرى بها بأساً يهوي بها في النار سبعين خريفاً)), يتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً ولا يعبأ بها ولا يرى حرجاً من النطق بها فيستخف ويستهتر فتكون سبباً في أن يهوى في النار سبعين خريفاً, أعاذنا الله من ذلك. هذا وإن آيات وأحاديث الوعيد لكثيرة جداً, فلا ينبغي لمن نصح لنفسه أن يتعامى عنها ويرسل نفسه في المعاصي ويتعلق بالرجاء وحُسن الظن, قال تعالى في سورة البقرة: وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة:225], وقال في موضعين اثنين من سورة آل عمران: وَيُحَذّرْكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [البقرة:28، 30].
قال أبو الوفاء بن عقيل: "احذره ولا تغتربه", أي احذر الله ولا تغتربه فإنه قد قطع اليد في ثلاثة دراهم، وجلد الحد في مثل رأس الإبرة من الخمر, ودخلت امرأة النار في هرة، واشتعلت الشملة ناراً على من غلّها وقد قتل شهيداً.
وإذا كان الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم عاشوا على الخوف من ذنوبهم وماتوا على ذلك, وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يبعثون يوم القيامة وهم كذلك خائفون وجلون خجلون، فما بالنا آمنين، غير وجلين ولا خجلين, غلب علينا الرجاء الذي يضعف الهمم وتميل معه النفوس إلى الركون والدعة, وقلّ حظ أنفسنا من الخوف الذي هو أنفع شيء لها في هذه الدنيا, فمعه تدوم الطاعة وتقاوم الرغبة في العودة إلى الذنوب ويدوم الحياء من الله قال تعالى في الآية الأخيرة من سورة ق: فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45]، وقال في سورة إبراهيم: وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:14]. وقال في سورة الملك: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:12].وقال في سورة الرحمن: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46].
فالحذر الحذر لا يغلبنكم الرجاء على نسيان الذنوب وإن تبتم منها, فإن الله تعالى قال في سورة آل عمران: وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:175].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين, وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم النبيين وإمام المرسلين, اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين, وسلم تسليماً كثيراً.***أما بعد:
فإن كان فيما سبق من أحوال الأنبياء والرسل دلالة على خوفهم من الذنوب فإن من تأمل كذلك أحوال الصحابة رضي الله عنهم وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف, ونحن بين التقصير بل التفريط والأمن, فهذا الصديق رضي الله عنه ذكر أحمد رحمه الله أنه كان يقول: (وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن), وكان يُمسك بلسانه ويقول: (هذا الذي أوردني الموارد)، وكان يبكي كثيراً ويقول: (أبكوا فإن لم تبكوا فتباكوا), ولما حضرته الوفاة قال لعائشة رضي الله عنها: (يا بُنية إني أهبت من مال المسلمين هذه العباءة وهذا الحلاب وهذا العبد) أي نالي مما فرضه المسلمون لي عباءةً وحلاباً وعبداً, فأسرعي به إلى ابن الخطاب وقال: (والله لوددت أني تلك الشجرة تؤكل وتعضد).
وهذا عمر رضي الله عنه كان في وجهه خطان أسودان من كثرة البكاء, ودخل عليه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بعدما طُعن عمر يبشره ويعدد له مناقبه ويقول له: لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راضٍ, ومات أبو بكر وهو عنك راضٍ, ومصّر الله بك الأمصار, وفتح بك الفتوح, وفعل بك وفعل, فأجابه عمر رضي الله عنه قائلاً: (وددت أني أنجو لا أجر ولا وزر).
وكان رأسه في حجر ابنه عبد الله رضي الله عنهما فقال له: (ويحك ضع خدي على الأرض, عسى الله أن يرحمني) وقال: (ويل لأمي إن لم يغفر لي) ثلاثاً ثم قضى رضي الله عنه.
وهذا عثمان رضي الله عنه كان إذا وقف على القبر بكى حتى يبل لحيته, ويقول: (لو أنني بين الجنة والنار ولا أدري إلى أيتها يؤمر بي لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتها أصير).
وهذا علي رضي الله عنه بكاؤه وخوفه وكان يشتد خوفه من اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى, وكان يقول: (طول الأمل يُنسي الآخرة, واتباع الهوى يصد عن الحق, ألا إن الدنيا ارتحلت مدبرة, والآخرة ارتحلت مقبلة, ولكل واحدة منها بنون, فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا, فإن اليوم عمل ولا حساب, وغداً حساب ولا عمل)
وهذا تميم الداري رضي الله عنه قام ليلة حتى أصبح, يقرأ آية واحدة من سورة الجاثية هي قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21], أيحسب الذين اجترحوا السيات أن نعاملهم معاملة الذين آمنوا وعملوا الصالحات, وأن نساويهم بهم في موتهم وحياتهم ساء ما يحكمون.
وهذا ابن عباس رضي الله عنهما كان أسفل عينيه مثل الشراك البالي من الدموع, وقال البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان: "باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر".وذكر هذه الآثار فقال: "وقال إبراهيم التيمي: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً"، ما عرضت قولي على عملي وقارنت بينهما إلا خشيت أن أكون مكذباً.
وقال ابن أبي مليكه: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه, ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل.
ويُذكر عن الحسن: "ما خافه إلا مؤمن- أي ما خاف النفاق وحسب له الحساب- ولا أمنه إلا منافق". أفنظن أن الخوف يضرنا وأن البكاء يُهلكنا.
لقد سأل رجل الحسن البصري رحمه الله فقال له: يا أبا سعيد كيف نصنع بمجالسة أقوام يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير؟ فقال: والله لأن تصحب أقواماً يخوفونك حتى تدرك أمناً خير من أن تصحب أقواماً يؤمنونك حتى تلحقك المخاوف.
فلا بأس إذن بالخوف ولا بالبكاء من خشية الله. إن أحدنا لو ذكر آية أو حديث وعيد فبكى لانتدب له أكثر من شخص يقولون له: لا تقنط ولا تُقنط, عظِّم رجاءك في الله. وليس الأمر كذلك، فإنا عودنا قلوبنا القسوة, وأعيُننا الجمود, ولم نعد نطيق أن يُخوفنا أحدٌ ويُبكينا فنقول عظم رجاءك في الله، حتى أصبحنا لا نرى من يخاف ولا من يبكي إلا قليلاً ممن رحم الله، فأصبحنا بين تقصير أو تفريط وأمن ونزعم أننا متابعون للصحابة والسلف الذين كانوا في غاية العمل مع غاية الخوف, فلا بأس بالخوف إذا كان يدفعنا إلى الطاعة والعمل لا إلى اليأس والقنوط ورحم الله القائل:
واحسرتي واشقوتي من يوم نشر كتابيه
واطول حزني إن أكن أوتيته بشماليه
واحرّ قلبي أن يكون مع القلوب القاسية
فعودوا قلوبكم رحمكم الله الرقة, وأعينكم البكاء من خشية الله, وإياكم والإفراط في الأمن والضحك فإن رقة القلب وصفاءه لا سبيل إليها إلا الخوف والبكاء والندم على الذنوب والخوف من آثارها ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون
الذنوب والمعاصي طريق التعاسة والشقاوة
-الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي*******ملخص الخطبة
1- المعاصي هي سبب التعاسة والشقاء. 2- المعاصي سبب حرمان الرزق. 3- المعاصي سبب صوت القلب وقسوته. 4- المعاصي سبب بعض الخلق للعاصي. 5- المعاصي سبب لنسيان العلم. 6- المعاصي سبب لضياع العمر. 7- المعاصي سبب لرد الدعاء. 8- لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار. 9- سوء الخاتمة من نتائج المداومة على العمل السيئ.
الخطبة الأولى*****أما بعد:
فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه وتعالى، ثم أما بعد:
فيقول سبحانه وتعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس:1-10]، ويقول جل في علاه: أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مّن رَّبّهِ فَوَيْلٌ لّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:22]، ويقول سبحانه وتعالى: فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَاء [الأنعام:125].
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، تحدثنا قبلُ عن السعادة وأسبابها وطريقها وعرفنا أن السعادة في الإيمان بالله والعمل الصالح، وحديثنا اليوم عن التعاسة والشقاوة وطريقها وأسبابها.
إن طريق التعاسة والشقاوة هي المعاصي والذنوب، فلا إله إلا الله ما للذنوب والمعاصي من آثار وعواقب، فما تهدمت الشعوب ولا فسدت القلوب ولا خربت الأسر إلا من الذنوب، وما بخست الأرزاق ولا قست القلوب ولا جفت العيون إلا من الذنوب، وما غضب الجبار وما أقيمت النار وما نصب الصراط وكان هناك حساب وعقاب إلا مع الذنوب والمعاصي.
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها…من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء من مغبتها…لا خير في لذة من بعدها النار
أوّل آثار الذنوب والمعاصي وعواقبها الضيق والهم والحزن والغم والأسى واللوعة، يقول سبحانه وتعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه:124]، فنجد من سكن القصور الشاهقة وركب السيارات الفارهة وجلس على الموائد الشهية، ولكنه مصر على معصية الله، فلا يجد الراحة ولا السعادة ولا الطمأنينة بل يجد التعاسة والشقاوة لأنه عصى الله سبحانه وتعالى.
ومن آثار الذنوب والمعاصي وعواقبها حرمان الرزق، وحرمان الرزق على قسمين: حرمانه أصلاً ووجوداً، وحرمانه بركة ونوراً.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما: (إن للحسنة بياضاً في الوجه ونوراً في القلب وسعة في الرزق ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه وظلمة في القلب وضيقاً في الرزق وبغضاً في قلوب الخلق).
والله سبحانه وتعالى يقول: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالأرْضِ [الأعراف:91]، ويقول: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجا ً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2].
جاء في تفسير هذه الآية أنها نزلت في مالك بن عوف لما أسره الكفار والمشركون في مكة فأنقذه الله من الأسر وجاء إلى المدينة وهو يجر وراءه قطعان الإبل والأغنام غنيمة من المشركين بفضل الإيمان والتقوى.
وهذا عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الذي أسس دولته على الإيمان والتقوى فلم يُبْقِ في عهده فقيراً ولا مسكيناً ولا عزباً ولا رقيقاً، مات عمر بن عبد العزيز وخلّف بعده خمسة عشر ولداً، دخل عليه أصحابه يعودونه وهو في مرض الموت فقالوا له: ماذا تركت لأبنائك، قال: تركت لهم تقوى الله، إن كانوا أبراراً فالله يتولى الصالحين، وإن كانوا فجارً فلن أعينهم بمالي على الفجور.
وأما الخليفة هشام بن عبد الملك فخلف لكل واحد من أبنائه مائة ألف دينار من الذهب، ولكنه ما خلف لهم طاعة الرحمن ومخافة الديان، فماذا كانت النتيجة بعد عشرين سنة، قال أهل التاريخ: أصبح أبناء عمر بن عبد العزيز يسرجون الخيول في سبيل الله منفقين متصدقين من كثرة أموالهم، وأما أبناء الخليفة هشام بن عبد الملك أصبحوا في عهد أبي جعفر المنصور يقفون في مسجد دار السلام ويمدون أيديهم ويقولون: من مال الله يا عباد الله، فهذا هو حرمان الرزق يا عباد الله.
ومن آثار الذنوب والمعاصي وعواقبها قسوة القلب أو موته، يقول سبحانه وتعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذالِكَ فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الانْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:74].
ويقول سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل لما عصوا الله: فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّواضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ [المائدة:12].
وإذا مات القلب ـ يا عباد الله ـ تبلد الإحساس فلا يشعر صاحبه بأي ذنب أو معصية.
من يهن يسهل الهوان عليه ……ما لجرح بميت إيلام
في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت رسول الله يقول: ((تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه)).
يقول عبد الله بن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب……وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب……وخيرٌ لنفسك عصيانها
ومن آثار الذنوب والمعاصي وعواقبها: البغض في قلوب الخلق.
والحب أيها الناس هبة من الله سبحانه يقسم كما تقسم الأرزاق من فوق سبع سموات، فالقبول من الله تعالى وحده.
أخرج الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الأدب باب المقت من الله، أي الحب والقبول من الله تعالى وحده، ثم أورد حديث رسول الله : ((إذا أحبّ الله العبد قال لجبريل: إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه، قال: فيحبونه، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله العبد قال لجبريل: إني أبغض فلاناً فأبغضه فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، قال: فيبغضه أهل السماء ثم يوضع له البغض في الأرض)).
الحب والقبول لا يكون إلا إذا استقام العبد على طريق الله سبحانه وتعالى.
يقول أبو الدرداء: (لو أطاع طائع ربه وراء سبعة أبواب لأخرج له أثر طاعته على الناس، ولو عصى عاص ربه وراء سبعة أبواب لأخرج الله آثار معصيته للناس).
يقول أحد السلف: (إني لأعصي الله فأرى أثر ذلك في خلق زوجتي وابني).
ومن آثار الذنوب والمعاصي وعواقبها نسيان العلم، يقول سبحانه وتعالى: وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلّمُكُمُ اللَّهُ ومعنى الآية أن من لم يتق الله لا يعلمه الله سبحانه وتعالى العلم النافع، فأعظم أسباب تحصيل العلم تقوى الله سبحانه وتعالى.
قال ابن الجلاد: نظرت منظراً لا يحل لي فقال لي أحد الصالحين: أتنظر إلى الحرام، والله لتجدن غبه ولو بعد حين، قال: فنسيت القرآن بعد أربعين سنة.
وكيع بن الجراح شيخ الإمام الشافعي عليه رحمه الله الذي كان يقول:
أحب الصالحين ولست منهم……لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي……وإن كنا سواء في البضاعة
فيرد عليه الإمام أحمد ويقول له:
تحب الصالحين وأنت منهم……ومنكم قد تناولنا الشفاعة
يأتي الإمام الشافعي إلى شيخه وكيع ويقول له: يا إمام ما أحسن دواء للحفظ؟ قال: والله ما رأيت دواء للحفظ مثل ترك المعاصي، فأنشد الشافعي قائلاً:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي…فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نورٌ…ونور الله لا يؤتى لعاصي
ومن آثار الذنوب والمعاصي وعواقبها ضياع العمر، والعمر هو حياة الإنسان وهو أغلى شيء وأثمن شيء، فإذا ضيعه الإنسان فقد خسر الدنيا والآخرة، يقول سبحانه وتعالى: أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [فاطر:37].
العمر إذا فات لن يعوض وكل شيء يمكن تعويضه إلا العمر فما من يوم جديد ينبثق فجره إلا وينادي ويقول: يا ابن آدم أنا يوم جديد وعلى عملك شهيد فتزود مني فإني إن ذهبت لا أعود إلى يوم القيامة.
نسير إلى الآجال في كل لحظة…وأيامنا تطوى وهن مراحل
ولم أر قبل الموت حقاً كأنه…إذا ما تخطته الأماني باطل
وما أصبح التفريط في زمن الصبا…فكيف به والشيب للرأس شاعل
ترحل من الدنيا بزاد من التقى…فعمرك أيام وهن قلائل
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، ومن آثار الذنوب والمعاصي وعواقبها عدم استجابة الدعاء، وقد ذكر الرسول : ((الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يرفع يديه إلى السماء ويقول: يا رب، يا رب، يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك)).
كيف نرجو من الله عز وجل إجابة الدعاء ونحن ما زلنا مصرين على الكبائر من الذنوب، وكيف نرجو من الله عز وجل إجابة الدعاء ونحن متهاونين بالصلوات الخمس معرضين عن بيوت الله متنكبين عن مساجد الله، وكيف نرجو من الله عز وجل إجابة الدعاء ونحن نأكل أموال الناس بالباطل مصرين على أكل الربا وعلى التعامل بالربا وعلى أكل الرشوة، والرسول يقول: ((أطب مطعمك تستجب دعوتك)).
هذه بعض آثار الذنوب وعواقبها في الدنيا، وهي والله من أكبر أسباب تعاسة الإنسان وشقاوته في الدنيا والآخرة.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعصمنا وإياكم من الزلات وأن يوفقنا سبحانه إلى الطاعات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:41].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم لما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.******الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأصلي وأسلم على من بعثه الله جل وعلا هدى ورحمة للعالمين محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وعلى آله الطيبين الطاهرين.
عباد الله, اتقوا الله حق تقاته، واسعوا في مرضاته, وتدبروا القرآن الكريم, وتمسكوا بسنة خاتم النبيين, وتفقهوا في الدين, واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.*************أما بعد:
فإن على العبد أن لا ينظر إلى صغر المعصية والذنب، ولكن ينظر إلى عظمة من يعصي، إلى عظمة الخالق جل في علاه.
والإصرار على الصغيرة يحولها إلى كبيرة كما قال العلماء، فلا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار، يقول سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [المائدة:135].
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((إن الشيطان يئس أن يعبد في جزيرة العرب، ولكن رضي منكم بما تحقرون من الذنوب)).
فإياكم ـ يا عباد الله ـ ومحقرات الذنوب، فإنهن والله يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، فيكون من المفلسين.
يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما تعدون المفلس منكم؟ قالوا: من لا دينار له ولا درهم، فقال صلى الله عليه وسلم: المفلس من يأتي يوم القيامة بأعمال كالجبال من صلاة وصوم وصدقة، ويأتي وقد لطم هذا، وشتم هذا، ونال من عِرض هذا، وأخذ من مال هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته أُخذ من سيئاتهم ثم طرحت على سيئاته فطرح في النار)) ـ عياذاً بالله ـ.
المؤمن ـ يا عباد الله ـ كما جاء في الحديث يرى ذنوبه كأنها جبل يريد أن يسقط عليه، وأما المنافق فيرى ذنوبه كأنها ذباب طار على أنفه فقال به هكذا.
أعظم آثار الذنوب وعواقبها ـ يا عباد الله ـ سوء الخاتمة التي طيشت قلوب المتقين وحيرت أفئدة العابدين، أسأل الله لي ولكم حسن الخاتمة.
إذا عاش الإنسان على المعصية وداوم عليها وأصر عليها فإنه سوف يموت عليها ويبعث يوم القيامة عليها عياذاً بالله.
ذكر أن رجلاً نظر إلى امرأة لا تحل له فتولع قلبه بها حتى مرض بسببها، فجاء الناس يعودونه وهو في سكرات الموت وقالوا له: قل: لا إله إلا الله، فقال لهم: أين الطريق إلى حمام منجاب، وهو طريق محبوبته ومعشوقته.
وهذا مجنون ليلى لما انحرف عن منهج الله ومرض بالعشق والغرام مرض حتى مزّق ثيابه وبكى وبكى حتى بكى له الناس، ثم مزق ثيابه وأكل بعض جسمه ومات على هذه الحالة السيئة.
وذكر أن الفضيل بن عياض عاد أحد تلامذته وهو في سكرات الموت فقال له: قل: لا إله إلا الله، فقال التلميذ: أنا بريء منها ومات على ذلك، فرآه الفضيل بن عياض بعد أربعين يوماً وهو يسحب به في نار جهنم فقال له: كيف ختمت لك هذه الخاتمة وقد كنت أعلم تلامذتي؟ قال: بثلاثة أشياء: أولها النميمة، وثانيها الحسد، وثالثها كان بي مرض فقال لي الطبيب اشرب الخمر فشربته.
وهذا شاب في عصرنا الحاضر يا عباد الله كان معرضاً عن ذكر الله وعن منهج الله إلى أن جاءه هادم اللذات، أتته سكرات الموت وهو في سيارته في حادث انقلاب، فجاء الناس إليه ولقنوه الشهادة وقالوا له: قل: لا إله إلا الله، فقال لهم: هل رأى الحب سكارى مثلنا.
هكذا ـ يا عباد الله ـ عاش على هذه الأغنية الماجنة ومات عليها.
فنسأل الله لنا ولكم وللمسلمين الستر والسلامة والعافية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..