د. عيسى بن ناصر الدريبي | |
مقال تأبين لحياة العالم الكبير الشيخ / بهاء الدين سليمان
الصينـي والذي وافته المنية الثلاثاء ١٧ من صفر ١٤٣٣ الموافق ١٠ يناير
٢٠١٢ م
بعنوان :
حياة الداعية المجاهد
الشيخ بهاء الدين سليمان ـ رحمه الله ـ
وجهاده العلمي والدعوي
الرياض/
د. عيسى بن ناصر الدريبي :
فجع
المسلمون اليوم الثلاثاء ١٧ من صفر ١٤٣٣ الموافق ١٠ يناير
٢٠١٢ م في جمهورية الصين الشعبية بوفاة علم من أعلام الدعاة
وأستاذ من كبار أساتذتها ومؤسس للحراك العلمي والدعوي في الستينيات الميلادية قامة
علمية ودعوية فردية من نوعها؛ شق الشيخ طريقه في الدعوة والتعليم أيام المحنة
الشيوعية والثورة الثقافية فسجن وأوذي منذ عام ١٩٥٨ م .علم رحمه الله أن العلم هو
أساس بقاء هذا الدين وسبب انتشاره فسلك سبيله وأنشأ أول مدرسة في بيته سرا ، هذه
المدرسة مكونة من فردين اثنين هو ثالثهما رجل وامرأة وكان ذلك قبل ثلاثة عقود عام
١٩٧٨ م بدأ بتعليم العلوم الشرعية والعربية فركز بذرة شجرة العلم التي امتدت
أغصانها وأضحت شجرة يتفىء ظلالها طلبة العلم المسلمين اليوم ظلالا وارفة.وكانت قصة
معهد الدراسات الإسلامية بلينشيا أعرق وأشهر معهد إسلامي في الصين هذا المعهد
الذي انتشر خيره في كل أنحاء الصين شرقا وغربا وشمالا وجنوبا؛ ففي كل ارض له اثر
وخبر بخريجي هذا المعهد أو طلاب طلابه الذي نهلوا من معين الشيخ العلم
والتربية والوسطية والحماس للدعوة والاعتدال والحكمة في التعامل مع كافة معطيات
الدعوة وظروفها في بلد مثل الصين فقد اجتمع على المسلمين فيه الشيوعية التي
تضرب بطوق من حديد على كل الأديان إبان قوتها في فترة ماضية إضافة لعزلة
المكان لبعده عن العالم الإسلامي. وخاصة في العقود الماضية قبل الانفتاح الصيني وفي
ظل هذه الظروف يبقى الناس يحافظون علي دينهم حسب مابقي من بقية علم في المساجد
ولدى كبار السن وهنا تنشأ الطرق الصوفية والفرق المتعددة عندما يضعف
العلم وفي ظروف كظروف الصين يحتاج التعامل مع كل هذه الأوضاع والطوائف إلى
حكمة وعلم وبصيرة وكان الشيخ ممن أوتي من ذلك حظا كثيرا وكان يغذي طلابه بفن
ومهارة عاليين في حسن التعامل مع هذه الظروف واستغلال الفرص والمتاح ويسعى للتأليف
ووحدة الكلمة ويبتعد عن الخلافيات ،يدعو ويربي ويعلم ويوجه وينصح برفق وحكمة إن
الحديث عن الشيخ – رحمه الله – لا يمكن أن أوفيه حقه في مقال مختصر كهذا وتحت
فاجعة المصيبة فأحرفي كليلة، وكلماتي مبعثرة ،وأنا أكتب: عن علم من أعلام الدعوة
في زمن كان أمثاله قلة ـإن لم يكونوا ندرة ـ،وأعتقد جازما أن فقده على الدعوة والتعليم
في الصين يساوي فقد سماحة الشيخ ابن باز على الأمة ،ومثل فقد هذين لا يعوض والله
المستعان !والناظر اليوم من المتتبعين للحركة الدعوية والعلمية في الصين
يدرك ما أقول ولكني أختصر الميزات التي أوتيها هذا الرجل فجعلت له هذه المكانة
وهذا الأثر فيما يلي :
أولا
:اهتمامه بالتعليم وفتح المدارس الإسلامية؛ ويعد معهده (معهد الدراسات الإسلامية
في لينشيا ) كما سبق ذا سبق في هذا المجال .
ثانياً: اهتمامه
بالدعوة وتربية الدعاة فيقرن العلم بالتربية على أخلاقه وقدوته العالية.فلقد
كانت للشيخ عناية فائقة بتربية الدعاة وتدريبهم ،وقد كان لتكوين الشيخ
العلمي الذي كان بجهده الذاتي أثره في تربية طلابه والدعاة في الصين.
وأفاد من
مدرسة شيخ الإسلام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم كثيرا في جانب العقائد والحرية
الفكرية فكان يديم قراءة كتبهما وأفاد من مدارس أخرى كمدرسة محمد عبده ورشيد رضا في التجديد
والمعاصرة
وأفاد من
المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب عنايته بالتوحيد والدعوة والإصلاح ، وقد ذكر لي
احد تلامذته وهو الأخ إسماعيل "ماي تساي" أن الشيخ رحمه الله بعد
أن استقرت الأمور في الصين وحصل الانفتاح الذي سمح للمسلمين بحرية التعلم والتعليم شرع
يبين للناس حقيقة دعوته ،وقد ذكر لي أنه كان يقدم سلسلة من المحاضرات عن حقيقة
دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعد صلاة الفجر من كل يوم لمدة أسبوعين
تقريبا،وكان الحضور يقرب المائة ،وهم من شخصيات ذوي سمعة في مدينة لينشيا،وكان هدف
الشيخ إعطاء الناس الموقف الصحيح من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ،وتصحيح الصورة
المغلوطة عن "الوهابية "
كما أفاد
الشيخ من المدارس الدعوية الحديثة من غير انتمائه لأي منها هذا الزاد العلمي والمعرفي
والدعوي كان له أثره على شخصية الشيخ ومن ثم صبغته المتميزة علي طلابه وكثير
من الدعاة اليوم ـ
وقد يسر
الله لي أن زرت عدة أنحاء من الصين والتقيت بعدد كبير من الدعاة في الصين منذ ما
يزيد على ثلاثة عشر سنة ـ كثير من هؤلاء الدعاة هم من غرس الشيخ
مباشرة أو ممن تربوا علي مدرسته الدعوية
ثالثا ًـ
عنايته بالمرأة المسلمة تعليما ودعوة وكان الشيخ ممن فطن لذلك مبكرا فان ثاني
اثنين بدأ بهما مدرسته في بيته امرأة وكان ذلك غريبا عند بعض علماء الصين بل
إن منهم من لا يرى أو لا يجيز تعليم المرأة ولكن الشيخ بفقهه الدعوي وبصيرته
بأهمية تكوين المرأة علما ودعوة شق في ذلك طريقا صعبا لاقى فيه المعارضة من بعض
أئمة المساجد في حينه، وبعد أن شهدت الصين عهد الانفتاح انشأ قسما خاصا في مدرسته
لتعليم الفتاة واليوم يقارب عددهن الستمائة امرأة تخرج منهن عدد نفع الله بهم
أخواتهن في الصين
رابعا ًـ
اهتمامه بالتواصل العالمي مع العالم الإسلامي فقد سعى عبر زياراته لتجسير
فجوة بعد المسلمين في الشرق الأقصى ـوخاصة بعد الانفتاح في الثمانيات ـ وزار
عددا من بلدان العالم الإسلامي واستقبل عددا كبيرا من كبار الدعاة والشخصيات
الاسلامية الرسمية والشعبية ومن المسؤلين عن الدعوة من مصر والسعودية والكويت وقطر
وسوريا وماليزيا وغيرها وكان ذلك مثار بعض الإشكالات عليه من الحكومة في حينها
ولكنهم يعرفون وزنه فلا يتعرضون له إضافة إلي وضوحه في تعامله فهو حريص علي
التواصل مع البعد الكبير للمسلمين الصينيين في العالم الاسلامي مع يقينه بأن
المسلمين الصينيين وأغلبهم من قومية (خوي أو هوي ) مكون أساس من مكونات الصين
سكانا وتاريخا فهم مواطنون صينيون مسلمون .
وقد زار
الشيخ المملكة عدة زيارات دعوية و رافقته في بعض الزيارات للمملكة كزيارته
لدار الإفتاء ومقابلته لسماحة مفتي المملكة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ
وزيارته لمعالي الشيخ عبد الله المطلق عضو هيئة كبار العلماء الذي حينما عرفته به
وبجهاده العلمي والدعوي قام وقبّل رأسه تقديرا له وكان ذلك قبل أربع سنوات
قريبا كما زاره الشيخ بهاء مجددا في بيته في ذي الحجة 1431 كما
قام بزيارة للندوة العالمية للشباب الاسلامي عام ١٤٢٨ وقد أقامت له الندوة لقاء
حافلا جمعت له المهتمين بالعمل الإسلامي في الصين
لقد كان
رحمه الله حريصا على تواصل المسلمين مع عمقهم في العالم الإسلامي وكان يسعد
بزيارتنا ويخجلنا بحفاوته وكرم ضيافته ،وكانت تربطني بالشيخ علاقة متينة ولابد لي أن
أزوه إذا زرت الصين ولا أنسى أنه في إحدى زياراتي للصين لمتابعة مشاريع
للندوة العالمية للشباب الإسلامي ضاق علي الوقت لزيارته وقد علم بمجيئ لمدينة
قريبة منه وهي" لانجو" ففوجئت به هو يأتي لزيارتي ويتحمل -رغم كبر
سنه - سفر ساعتين وهذا من أصعب المواقف التي مرت علي في حياتي!
ولذا لم
آتي للصين بعدها الا وأسعد بزيارته وأفيد من خبرته ومعرفته الدقيقة والعميقة
بواقع المسلمين في الصين وكنا نأرز إليه كثيرا في التخطيط واستشراف المستقبل
للدعوة في الصين وكان الشيخ حريصا علي حضور الملتقيات والمؤتمرات في العالم
الإسلامي متى ما أتيحت له الفرصة وقد يمنع أحيانا من التأشيرة لحضور مؤتمر
إسلامي وأنا أتحدث هنا عن تجربة مررت بها معه قبل خمس سنوات تقريبا .
خامسا ًـ
اهتمامه ببعث الطلبة الصينيين للعالم الإسلامي لتعلم العلوم العربية
والإسلامية
فقد بعث
من معهده عدة وفود تخرجوا في مختلف كليات وجامعات العالم الإسلامي في السعودية
ومصر وسوريا ولبنان والسودان وماليزيا
سادسا ًـ
حكمته في التعامل مع الواقع الصيني من حيث ماكان يتعرض له احيانا من مضايقات فلم
يكن صاحب إثارة أو مواجهة ولكنه كان يعمل بهدوء وحكمة وبما لا يسبب للمسلمين أي
إشكالات مع الحكومة
إضافة
لحسن تعامله مع المخالفين له من مختلف الطوائف والتيارات الموجودة في
الصين وكان رحمه الله صاحب منهج وسطي معتدل في التعامل مع مخالفيه من مختلف
التيارات والفرق وكان يحث علي التدرج والحكمة في التعامل والتغيير والإصلاح
والدعوة
سابعا ًـ
عنايته رحمه الله بجمع كلمة الدعاة وتنسيق الجهود وذلك من خلال الدورات الدعوية
التي يقترحها علينا لدعمها فقد أقام سنين عددا دورات لمدراء المدارس والمعاهد
الإسلامية لجمع كلمتهم وتوجيههم لتنسيق الجهود .
ثامنا ًـ قوة
الحجة والإقناع التي كان يمتلكها في حديثه ووعظه ومحاضراته ولقد لمست ذلك- وان كنت
لا افهم الصينية في بعض لقائتي به- فكان إذا تكلم اسمع ،وإذا وعظ أثر، و الجميع
يطرق له ويتفاعل مع كلماته وأحس بنبرات مؤثره وهو يتكلم ويتفاعل بشكل تدرك معه
حرقته وهو يتحدث وخاصة حينما يتكلم عن اختلاف الدعاة وأهمية التعاون والتنسيق
لمصلحة الدعوة في الصين
تاسعا :زهده
في الدنيا وتواضعه؛ وقد رأيت ذلك في لقآتي به فثيابه من أرخص الثياب ،ومنزله
متواضع جدا ،ولم يكن للشيخ حتى سيارة خاصة به ، وكان قمة في التواضع ونكران الذات
فلا يتصدر المجالس ولا يطلب ذلك ووالله إن هذا السلوك اليوم من العلامات
المفقودة عند صغار الدعاة وطلبة العلم فضلا عن بعض الكبار
عاشرا ـ
تأصيله للعمل المؤسسي وتشجيعه للدعاة لمأسسة الأعمال الدعوية والعلمية ويظهر ذلك
من حرصه على تأسيس أول مؤسسة علمية أهلية للمسلمين المتمثلة في معهده الشهير معهد
الدراسات الإسلامية وحثه للدعاة على التعاون مع المؤسسات الدعوية في العالم الإسلامي
وقد شهدت ذلك من خلال المشاريع التي نفذتها الندوة العالمية للشباب الإسلامي في
الصين بالتعاون معه وقد كان الشيخ يقدر الندوة العالمية ويوصي طلابه والمؤسسات
العلمية والدعوية بالتعاون مع الندوة لانطلاقها من مهبط الوحي ولمنهجها الحكيم
في التعامل مع أوضاع المسلمين في الصين وعنايتها بالمنح الطلابية
لتأهيل أبناء المسلمين بالعلم والمعرفة وليكونوا أعضاء فاعلين في مجتمعاتهم مع
مراعاة أوضاع بلدانهم
وأخيرا لقد كتب
الله لي شرف لقيا هذا الجبل من جبال الدعوة في الصين عدة مرات منذ أكثر من عشر
سنوات وشرف بيتي بزيارته لي ولمسجدي سابقا جامع الأمير سلطان شرق مدينة
الرياض.
وكان آخر
عهدي به في صيف العام الماضي المنصرم رجب ١٤٣٢هـ حينما زرته أنا والدكتور خالد
العجيمي وتحدثنا عن مشروع إعداد ميثاق للمدارس الإسلامية وسمعنا منه وافدنا
ولم أكن
اعلم أن ذلك آخر عهدي به في هذه الدنيا الفانية ولكن اسأل الله العظيم ان
يجمعني به في جنات النعيم اللهم إن عبدك بهاء الدين سليمان قد ودع دنيانا الفانية
فاللهم إلي جنة الخلد يارب، اللهم قدس روحه في الجنة ،وارفع درجته في أعلى عليين
مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين اللهم ارفع درجته في عليين واخلفنا
فيه خيرا
وكتبه : د / عيسى بن ناصر الدريبي
مهتم بالعمل الإسلامي في الصين مع الندوة العالمية للشباب الإسلامي
|
الجمعة، 20 يناير 2012
فجيعة الصين بداعيتها الكبير الشيخ بهاء الدين سليمان
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..