الخميس، 5 يناير 2012

ظاهرة العنف الجزائري


( دراسة تحليلة في محاولة للخروج من المأزق )

بقلم خالص جلبي

الأخ الفاضل تجربتكم كانت مغموسة بالدم فلم تبارك وما يحدث الآن هي ثورات لاعنفية تحدثنا فيها طويلا حتى نبت الشعر على لساننا بدون فائدة ولكن تفجرت الأرض ينابيع الأن على غير موعد بالثورات العربية السلمية إليك ماكتبت سابقا عن العنف الجزائري..خالص
 في عام 1965 م تقدم مفكر انساني هو ( جودت سعيد ) بطرح فكري لساحة العمل الاسلامي أثار ضجة ومازال في تغيير البنى الأساسية للفكر والممارسة ، في كتاب تحت عنوان ( مذهب ابن آدم الأول ) يرى فيه أن العمل الاسلامي يجب أن يتبنى الطريقة السلامية في تغيير المجتمع والسلطة ، وأن نتخلى عن العنف وسيلة للاقناع والتغيير وكل مايمت بصلة الى شجرة العنف الخبيثة من قول وتصرف وتصور ، ويرى ثالثاً وهو الأهم أن هذا الاسلوب في تغييرالفرد والمجتمع هو وسيلة الانبياء المثلى ، يتدرب الفرد فيها على عدم الدفاع عن نفسه أمام السلطة من أجل أفكاره ، ويتحمل الأذى في طريق تغيير ( اللاشرعية ) بـ ( الشرعية ) في حين أن العنف يغير ( اللاشرعية ) بـ ( اللاشرعية ) في إعادة مجنونة لحلقة العنف والعنف المضادة بدون توقف .
     كتاب مذهب ابن آدم الأول
     عرض جودت سعيد كتابه على العلماء والمفكرين ، وطلب منهم بإلحاح إرشاده الى أخطاءه في  اجتهاده . الكتاب أهمل ومازال ولم يلق قبولاً أو رواجاً ؛ فاعتبره البعض أنه خيالي ويعطل الجهاد وهو دعوة للرضوخ الى الباطل ، أو أنه كاتب مجنَّد من أطراف مشبوهة
     الذي حصل أن نبوءة هذا الرجل وقراءته للأحداث كانت مبكرة واختراقية ، وفيها الكثير من النضج والعمق ، والمخالفة لطبيعة الفكر السائد وجذوره المعرفية وشجرته الثقافية وديناميات التفكير ، وعادات التصرف اليومية ، ومعرفة مدهشة بطبيعة النفس الانسانية وحركة المجتمع ، وجدلية التاريخ ، وطرح لفكر سابق لأوانه ، قد يستفيد منه العالم العربي بعد قرن من موت هذا المفكر العبقري المجهول  .
     حماقة الشعوب عندما لاتصغي لدرس التاريخ
      الذي ثبت أن فكر هذا الرجل لو تم تبنيه لكان قد وفَّر أوقيانوس من دماء المسلمين والعرب ، ليس آخرهم القرابين الألف في الجزائر في اسبوعين من شهر الصيام عن العنف والخصام . ولكن يبدو أن الفكر لايؤثر على الأمم ، وأن الشعوب تتعلم بالمعاناة ، وأن حماقة الشعوب أكبر من الإصغاء الى نشيد المفكرين والفلاسفة والحكماء والمنظرِّين ، وأنها تعيد دفع فواتير الدم مع فوائدها المركبة ، وهو مايحدث الآن في الجزائر وهي تنزلق بسرعة جنونية تجاه الحرب الأهلية ، كما حدث في الصومال وأفغانستان ، في شهادة واضحة الى حالة التفسخ التي يعاني منها المجتمع الاسلامي في أماكن شتى .
       ضرورة النقد الذاتي
     وفي عام 1982 م نشرت كتابي ( ضرورة النقد الذاتي  ) وأشرت الى مخاطر ألغام العنف ، وقمت بتشريح الثلاثي ( التنظيم ـ السرية ـ العنف ) ورأيت  أن المجتمع مهدد بتشكيل التنظيمات السرية المسلحة تحت الأرض ، وأن محاولة الإصلاح بهذه الطريقة لن تقود الى ترميم المجتمع وبناء مجتمع عادل ، بل استبدال شريحة بشريحة بدون تغير يذكر في جوهر المجتمع ، ويبقى المجتمع يراوح مكانه يمارس صناعة الخرس والصمت والإضراب الخفي .
      العنف يولد العنف المضاد في حلقة تزداد اتساعاً ، وبؤرة نار تزداد تأججاً واشتعالاً ، فالعواطف تولد مثيلاتها كما هو معروف في آليات عمل النفس ، ومن هنا راهن القرآن على الدفع بالتي هي أحسن ، لإنها تحول العدو الى صديق حميم ( ادفع بالتي هي احسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) .
        التنظيمات السرية المسلحة
       عندما يقوم تنظيم مسلح بالانقضاض على نظام حكم ويستطيع أن يهدمه يقوض معه في الواقع ثلاثة بنى : النظام الذي قوضَّه ، ويقوض ثانياً نفسه باغتيال دماغه المفكر في جناحه المدني ، وثالثاً يقوض كامل الحياة المدنية ، و ( يعسكر ) المجتمع لتعيش حالة ( طواريء ) ، ويستبدل وضعاً ( لاشرعياً ) بوضع ( لاشرعي ) جديد ، ويُقضى عليه بنفس الطريقة التي قفز بها الى كرسي السلطة على يد قوة جديدة ، تطيح به بنفس آلية السيف ؛ فتستخدم نفس طريقته التي وصل بها الى سدة الحكم بـ ( القوة العارية ) على حد تعبير الفيلسوف البريطاني ( برتراند راسل ) في كتابه ( القوة ـ السلطان THE POWER)  .
    هذا هو الذي جعل الرسول ( ص ) أن يرفض ( الملك ) عندما عرضته عليه قريش ؛ لإنه كان يريد أن يبني مجتمعاً بطريقة شرعية ، وهو الذي جعل المسيح عليه السلام يوجه تلاميذه عندما بدأ اليهود يطاردونه ويطلبون رأسه ( وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه ) فنصح ( بطرس ) عندما استل السيف ( اغمد سيفك لأنه مكتوب أن من أخذ السيف بالسيف يهلك ) .
     يقول القانون الاجتماعي أن طول عمر الباطل لايحوله الى حق .
    لعبة الديموقراطية بين ( التكتيك ) و ( الاستراتيجية )
        هذه الفكرة لم تستوعبها معظم الحركات السياسية المعاصرة بما فيها الاسلامية ومنها فكرة الديموقراطية، فهي ترى ـ تحت هذه الآلية ـ ان لامانع من التعددية والانتخابات حتى تصل الى الحكم ، ولكن ليس بعد ذلك ؛ فإذا وضعت يدها على مقاليد السلطة تغيرت اللعبة جذرياً ، فهي ( دولة مقدسة ) فيجب أن تبقى كما هي ، ولايمكن لأي قوة أخرى أن تنزلها من سدة الحكم ، ونسيت أن لعبة الديموقراطية أوصلتها ويمكن أن تزيلها مرة أخرى ، الديموقراطية بمعنى الشورى وحكم الأغلبية ، وهي بهذا التصور وقعت في مغالطة مرتين : فهم الديموقراطية كـ ( تكتيك ) للوصول الىالسلطة ، وليس ( استراتيجية ) ذات خطوط حمراء تحترم ويحافظ عليها من قبل الجميع ، وثانياً اختلاط ( المقدس ) بالبشري ، فهم كبشر يخلطون بين ذواتهم كبشر يخطئون ويصيبون ، وبين المبدأ الأزلي الذي يصمد مع الزمن ، والفرق بين المبدأ والشخص هائل ، فهو فرق بين المؤقت والدائم ، بين النسبي والمطلق ، الكمال والنقص ، السداد واحتمال الخطأ .
     جدلية الآخر ( ايجاد الملغي أم إلغاء الموجود )
    وهذا الخلط  عند هذه النقطة بالذات هي مقتل الحركات السياسية ، ومنها حركات الاسلام السياسي المعاصرة ، عندما تتصور نفسها أنها أصبحت معادلة للمبدأ المطلق ، فتشعر بأنها تمتلك الحقيقة النهائية المطلقة ، تعلن الوصاية عليها واحتكارها ، وهو ماسيطر على الخوارج قديماً عندما كفَّروا غيرهم ، وهذا الذي بدأت تفوح رائحته مع اقتراب فوز الاتجاه الاسلامي في الجزائر في الانتخابات ، عندما ظهرت إعلانات وشعارات تقول بفكرة ( الديموقراطية كتكتيك ) ، مما أدخل الرعب في مفاصل الاتجاهات الأخرى ، أن تقع تحت ديكتاتورية جديدة بعباءة إسلامية . وهذا الشعور يجب أن لانستهين به ؛ بل نقوم بتحليله من أجل بناء مجتمع عربي معاصر ، يقوم على التعددية واحترام الرأي الآخر ، في جدلية الآخر ، بأن نوجد الملغي لا أن نلغي الموجود .
     أربع اسئلة تأسيسية في انفجار العنف
        في التحليل الأولي لانفجار العنف في الجزائر وامتداده وشراسته تطالعنا أربع اسئلة : من يمارس العنف ؟ لماذا يمارس العنف ؟  ماعلاقة العنف بنظام الفكر السائد ؟ ولماذا امتاز الجزائر بإجرام من حجم خاص ، تجاوز كل الصور الممكنة ، ولم تحترم أية خطوط تقليدية  ؛ فتم اختراق التابو والمحرم والمقدس .
   سمات ثلاثية للعنف الجزائري
        يمتاز العنف في الجزائر بثلاث سمات تطبع شكله : عدد الضحايا ، طريقة القتل ، ووقت القتل ؟‍‍! فخلال اسبوعين تمت التضحية بألف قربان انساني ، وكانت طريقة القتل مروعة لم ينجو منها الأطفال والقطط ، وكان وقت القتل شهر رمضان فقفزت جرعة الدم بمؤشر مضاد ، ومخطط معكوس ، للمخاض الروحي في شهر الصوم ، حيث يمارس ضبط النفس  ( لعلكم تتقون ) ورسمت معالم ليلة القدر باللون الأحمر ؛ فكانت دماء هي حتى   مطلع الفجر ، مما يحرض أهل العلم والفكر أن يتناولوا هذه الظاهرة المرعبة بالتحليل .
    ولعلي أستطيع أن أتقدم بوصفة متواضعة قدمناها في يومها الى الشباب الجزائري قبل الدخول في مسلسل العنف المجنون ، وهي وصفة يمكن تكرارها كجرعة ترياق مضاد لسموم العنف ، وحقنة ( لقاح ) ضد أوبئة العنف ، كما يحدث في اجتياح أمراض بيولوجية مجتمعات بعينها ، سواء في الجزائر أو أماكن أخرى ؛ فالمنطقة العربية مرشحة للانفجارات في أكثر من مكان ، والوباء الاجتماعي عندما ينتشر لايفرق ، فالكوليرا عندما تجتاح منطقة لاتسأل عن جنسية المصاب وهويته العقائدية ، ولعلي لست مبالغاً إذا قلت أن العالم العربي في كل مكان مهيء لانفجارات مروعة  ، على صورة أمراض عنف ؛ إذا لم نسرع باللقاحات ، كما نفعل نحن الأطباء بإعطاء لقاحات الكزاز والشلل للوقاية من التشنجات والهزات الاجتماعية المدمرة ، فهذا الفكر الذي أطرحه يمثل نوعية لايخسر منه أحد ويربح الجميع .
         التهاب السحايا والتهاب المجتمع
     الفرق بين الأوبئة العضوية والاجتماعية أن ( شلل الأطفال ) و ( التهاب السحايا ) نتأهب فيها لتحضير اللقاحات ، وشن حملة دعاية ، والبدء بأعطاء الحقن والجرعات لذلك ، أما في انتشار أوبئة العنف من حجم أفظع بمالايقارن من انتشار أي مرض بيولوجي معد ، فلانستشعر نفس رهبة الخطر ، مع أن ضحايا العنف تفوق كل الأمراض المعدية مجتمعة ، فعندما يصل الرقم الى ( 120000 ) مائة وعشرين ألف ضحية في الجزائر ، قريب من نصف مذابح البوسنة والهرسك ، لاأظن أن هناك مرض بيولوجي أحدث من التدمير في المجتمع الجزائري ، ماأحدث مرض العنف ، ولاتقف المشكلة عند موت من مات بل آثار الصدمة السيكولوجية .
          وحدة المرض العضوي ( الجرثوم ) ووحدة المرض الاجتماعي ( الفكرة )
     الوحدة الإمراضية ( UNIT ) في المرض العضوي هي الفيروس أو الجرثوم ، وهي في المرض الاجتماعي ( الفكرة ) فهناك من الأفكار ( القاتلة ) ماهي أشد تدميرا من فيروس الايدز والطاعون ، واعتبر فكرة العنف هي فيروس خطير من الطبقة الرابعة حسب تقسيمات المعهد البيولوجي في تصنيف خطورة الوحدات العضوية .
      العنف شجرة خبيثة جذورها الكراهية وثمرتها الخوف
قبل الدخول في تفاصيل المرض علينا أن نضع أيدينا على بعض الجذور الهامة لمرض العنف في الثقافة ، فنقرر ثلاثة أمور على غاية من الأهمية :
  1 ـ  أولاً : العنف شجرة خبيثة جذورها الكراهية وثمرتها الخوف ، بمعنى أن مرض العنف ثقافي بالدرجة الأولى وأحد تجلياته سياسي . الكراهية ارتداد على الذات ونفي للآخر ، تصب بشكل تلقائي على استبعاد وتهميش وحذف الآخر ، التي تنعكس على الطرفين في لعبة التهميش والاستبعاد ، الذي يقود بشكل آلي الى الخوف من ردة فعل الطرف المقابل . من الكراهية نبت العنف واستولد الخوف كحفيد من سلالة خبيثة ملعونة .
  2 ـ ثانياً : هذا المرض قديم فليس ابن اليوم ، وبهذا يؤكد مرة أخرى على انغراسه بعمق في جينات الثقافة العربية الاسلامية .
  3 ـ ثالثاً : هذا التحول في الحياة العقلية ضرب بعطنه في عمق الثقافة العربية الاسلامية في وقت محدد ، وارتهن الواقع في قبضة مجموعة من الأمراض الخطيرة ، لعل أهمها تأليه القوة وتهميش الفكر ، ويمكن تأريخ نقطة التحول الكبرى بمصادرة البيت الأموي للحياة الراشدية ، بتعبير ( عقيل ابن أبي طالب ) : إن صلاتي خلف علي أقوم لديني وإن حياتي مع معاوية أقوم المعاشي ، فحصل هذا الفصام والطلاق النكد في روح المجتمع ومازال ، وتاريخ الحكم بعد الحياة الراشدية هو مسلسل محموم لقنص السلطة بقوة السيف ، وسكب الشرعية على محتواه الخارجي ، وهكذا فالثقافة العربية الاسلامية تم اغتيالها بالسيف فهي تؤله القوة وتخضع لها ، وتتحول الى العبودية بين يديها ، وخسرت لعبة تبادل السلطة السلمي بدون أمل في استعادته ، حتى تم بعث فكرته وتطبيقه في الغرب .
   إشكالية مفهوم الجهاد
      بعض تيارات العنف ترى أن الصدام مع الحكومات هو لون من الجهاد . وفريق ثاني يرى أن الحكومات لاتترك متنفساً لأحد ؛ فلابد من منازلتها بالقوة والقيام ببناء التنظيمات السرية المسلحة فهي الطريق الوحيد أمامها ؛ عندما لاتمنح حرية الكلمة وتطارد ، فليس لها ملجأ سوى النشاط تحت الأرض . وفريق ثالث يرى أن التاريخ كله بني على العنف .
      لاالصدام مع الحكومات هو جهاداً في سبيل الله . ولابناء التنظيمات المسلحة تحت الأرض حلاً لإشكالية ( حرية الكلمة ) وفلسفة التعبير والنشاط الاجتماعي  . ولاتاريخ الثورات الانسانية كلها عنفاً ، فأعظم ثورة في تاريخ الجنس البشري هي ثورة محمد ابن عبد الله ( ص ) كانت بدون عنف ، ولايعني عنف بعضها تبرير العنف .
(وظيفة ) و (شروط ) الجهاد
       الجهاد بمعنى القتال المسلح يجب أن يفهم ضمن ( شروطه ) و ( وظيفته ) نظراً لخطورته بمايترتب عليه من سفك الدماء .
      الجهاد لم يشرع لـ ( نشر الاسلام ) وهذا واضح في عشرات الآيات المتناثرة في القرآن ، وحرر هذا المعنى قديماً ابن تيمية . الجهاد كـ ( وظيفة ) مسلط  ضد من يمارس ( الظلم ) على الانسان على شكلين ( إخراج الناس من ( ديارهم ) و( عقائدهم ) بالقوة المسلحة ( إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم ) .
     الجهاد كـ ( وظيفة ) لايهدف دفع الناس بالقوة المسلحة لاعتناق الاسلام فهذا واضح ومؤكد . الجهاد هو أقرب الى الدعوة لإقامة ( حلف عالمي ) لدفع الظلم عن الانسان أين كان ومهما دان ، ضد أي قوة تستخدم القوة المسلحة والإكراه ضد البشر ؛ لاعتناق أو ترك مبدأ ما ، أوترك ديارهم  ، حتى لاتكون فتنة ويكون الدين لله ، تمهيداً لإقامة ( مجتمع اللاإكراه في الدين ) .
    انتبه الى ذلك الرسول ( ص ) عن حلف ( الفضول ) فلو دعي له في الاسلام لأجاب ، دفاعاً عن المظلومين والمضطهدين في الأرض .
       ( شروط ) الجهاد تقع ضمن حدين  في ( المجاهِد ) بالكسر و ( المجاهَد ) ضده بالفتح فهو ( آلة ) ليست للاستعمال ( الفردي ) أو أن تتبناه ( جماعة ) أو ( فرقة ) أو (حزب ) يدعي لنفسه الحق في استخدام هذه الآلة الخطيرة ، التي يترتب عليها الفتنة وسفك الدم وإزهاق الأرواح .
    هذه ( الأداة ) مسخرة وجاهزة ومسموح بها وتوضع فقط في يد ( الدولة ) لأن الدولة هي التي تحتكر العنف وتمارسه ، ولكن ليس ( كل ) و( أية ) دولة ؛ فهي أداة خطيرة يجب أن تكون في يد من مُنح شرعية استخدامها ، وهي حسب مصطلحات الاسلام ( الدولة الراشدة ) التي تصل الى الحكم برضا الناس ؛  فهي ( أداة ) تستعمل عند ( الضرورة المطلقة ) وحسب ( السياسة الشرعية )  ضد ( الظالمين ) أياً كانت صورهم وعقائدهم  ولو كانوا مسلمين .
    هذه المتحارجة الخطيرة فاتت الكثيرين ؛ فأعلنوا العصيان المسلح ومنهم الخوارج قديماً ، والحركات المعاصرة المسلحة السرية الاسلامية والعلمانية على حد سواء  للإطاحة بالأنظمة ، تحت شعار الجهاد في سبيل الله ، أو العنف الثوري .
      لم تمنح المذاهب والمدارس والفرق الإسلامية بكل شرائحها وتوجهاتها شهادة الثقة للخوارج أنهم كانوا يجاهدون في سبيل الله ، كما لم تتحول السلطة الأموية الى دولة راشدية في أعينهم ، واعتبر علماء الأمة أن زمن الفتن قد بدأ ، وأن مرض الأمة الاسلامية قد باشر بالاستفحال بالصراع السياسي المشؤوم ، وأن التيارات السياسية الثلاثة ( الأموي ـ التشيع ـ الخارجي ) كلها تعبير عن مركب مرضي مشؤوم ؛ فاعتزلوا الفتنة ؛ واشتغلوا بالعلم وتثقيف الجماهير ، يقطع العمل الاكاديمي مواجهات ساخنة مع السلطة بين الحين والآخر ، وكان نصف الحل ولم يكن كل الحل .
   طاووس وهشام بن عبد الملك
       تذكر الرواية أن العالم ( طاووس ) دخل على الخليفة الأموي ( هشام بن عبد الملك فحياه ثم قال له كيف أنت ياهشام ؟ ثم جلس بجانبه ؟! فظهر الغضب في وجه الخليفة حتى كاد أن يأمر بقتله ، فنصحه من حوله بالتريث !! فتمالك هشام نفسه والتفت إليه وقال له ويلك ماحملك على ماصنعت ؟؟ قال طاووس وماصنعت ؟؟ قال خلعت نعليك بحاشية بساطي ، ولم تكنني ، وناديتني ياهشام ، وجلست بجانبي !! قال طاووس : أما أنني خلعت حذائي بحاشية بساطك فإنني أخلعهما بين يدي رب العزة خمس مرات في اليوم ولايغضب مني !! وأما أنني ناديتك ولم أكنك فإن الله كنى أعداءه فقال تبت يدا أبي لهب ، ونادى أحباءه وأنبياءه وأصفياءه فقال : ياموسى ياعيسى ياإبراهيم ، وأما أنني جلست بجانبك ، ألا أني سمعت الحديث الذي يقول من أراد أن ينظر الى رجل من أهل النار فلينظر الى رجل جالس والناس من حوله قيام .....
      تقول الرواية أن الخليفة زلزل مرتين من حضور الأجوبة وجاهزيتها وقوتها وجرأة متكلمها فالتفت الى طاووس وقال له : عظني ياطاووس : قال : إني سمعت أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب يقول : إن في جهنم حيات وعقارب كالبغال تلدغ من لايعدل في رعيته ... ثم قام وانصرف ؟!!
     انهيار الجهاز المناعي الداخلي خلف ولادة المرض
     إذا عُرِّض الحليب والشمع والبارود للنار تفاعل كل منهم بشكل مختلف ، فالحليب يفور على موقد النار ، والشمع يفقد تماسكه فيذوب ، واصبع الديناميت ينفجر .
    لايتوقف تفاعل الماء والبارود على النار كعنصر خارجي ؛ بل على مكوناته الداخلية التي تتفاعل مع مصدر النار الخارجي ؛ فيطفيء الماء النار ، وينفجر البارود بصوت مدوي .
   وكما يسري هذا القانون في الطبيعة فإنه يمسك بديناميكية البيولوجيا ، وتفاعلات النفس ، وحركة المجتمع ، وجدلية التاريخ ، وتماسك الدول ، وشروخ الحضارات .
    يندلع المرض بانهيار الجهاز المناعي أكثر منه بتسرب الجراثيم ، وتتعفن الأقدام بزيادة حلاوة الدم من مرض السكر ، وتتقرح المعدة بفرط تدفق حمض كلور الماء ، وتتشكل أمهات الدم ( الانورزم ) بضعف الجدار الوعائي الداخلي لتقود الى الانفجار الصاعق القاتل لاحقاً .
    يكاد المريب يقول خذوني ، والمنافقون يحسبون كل صيحة عليهم بسبب ضعف يقينهم الداخلي ؛ فيخافون من الانكشاف كل لحظة . وتنفجر الثورات الاجتماعية ليس من فراغ بل من تراكم ضغط داخلي وصل حده الحرج، وتندلع الحروب الأهلية بتصدع الطبقات الاجتماعية وتحول المجتمع الى النموذج الفرعوني ( وجعل أهلها شيعاً ) والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لايخرج الا نكدا ،  وتُبتَلع الحضارات في بطن التاريخ بفعل ( انتحار داخلي ) بحت ؛ كما قرر ذلك المؤرخ البريطاني ( توينبي J.A.TOYNBEE ) في سفره الضخم عن ( دراسة التاريخ STUDY OF HISTORY  )
   لايخرج الدرس التركي والأفغاني والصومالي و( الجزائري ) عن هذا القانون الذي يمسك برقبة الطبيعة ، ويسود البايولوجيا ، ويهيمن على النفس ، وتندرج تحته آلية الحركة الاجتماعية ، وينقاد له مخطط صعود وهبوط الحضارات .
    النموذج التركي والجزائري   
    النموذج التركي لم ينفجر حتى الآن ، فأربكان منذ عشرين سنة أدرك خطورة الانزلاق الى العنف فقام بتحييده ، وكما كانت تركيا الدولة الأولى التي ودعت الخلافة العثمانية ، التي لم تكن راشدة ، باتجاه القطب الأوربي العلماني ، سابقةً العالم الاسلامي نصف قرن باتجاه الحداثة ، يبدو أنها ستكون الدولة الاسلامية الأولى التي ستنجح في بناء الخلافة الاسلامية ، هذه المرة على شكل ( راشدي ) وغير بيزنطي ، بوجود اربكان وعدمه .
      تتمنى الآلة العسكرية التركية الصدام المسلح مع التوجه الاسلامي الجديد ؛ فهي الحلبة التي تتقن فيها توجيه الضربة القاضية ، وقطع رقبة الحركة الى أجل غير مسمى . أربكان وبوعي متفرد يعرف أن المستنقع يخرج البعوض ؛ فلايرهق لنفسه في حرب البعوض
. هو يريد تجفيف المستنقعات الكثيرة في هضبة الاناضول . اربكان يعرف أن حرب البعوض خاسرة وهي أقرب الى معارك دون كيشوت ؛ فهو يراهن على تغيير وعي الأمة البطيء فلايمكن اغتياله بآلة عسكرية ؛ لأنه تحرر من القوة وتأليهها .
   نموذج اربكان هو نوعية جديدة للصراع مع ( شبه الديموقراطية )  (PSEUDODEMOCRACY) في آلية تحييَّد العنف ، ونقل شكل العمل الى كتلة هلامية لايمكن كسرها أو بللورتها أو محاصرتها أو قطع رأسها ؛ فلاحرج من ألغاء الحزب ، أو تغيير الاسم ، أو أيقاف النشاط ، أو نقل صورته وطاقته الى شكل مغاير ، كما في تحولات أشكال الطاقة من الكهرباء الى الحرارة والحركة وبالعكس ، ففي جو المحنة يصبح المؤمن مثل خامة الزرع التي وصفها الحديث ( خامة الزرع تصرعها الريح تفيئها وتعدلها حتى تهيج وتنضج ، وأما المنافق فمثل الارزة المجذية يكون انجعافها مرة واحدة )
      أما النموذج الأفغاني فهو يحمل شهادة عجيبة ، على جدلية المشكلة الداخلية الثقافية في العالم الاسلامي ؛ فالسوفيات انسحبوا منذ أمد بعيد ، والصواريخ مازالت لغة التفاهم ،  وفي النموذج الصومالي تهدمت ( البنية التحتية ) بالكامل ، وفي النموذج الجزائري رسمت خطوط الكتابة والتفاهم اليومية بالدم الأحمر ، وبقتل نادر متميز لم ينجو منه الأطفال والقطط
   آلية الانهيار الحضاري داخلية بحتة
     العنف والسيف لعب الدور الحاسم في انهيارين خطيرين ، كمَّل كل منهما الآخر في أحشاء الحضارة الاسلامية ، كمرض عضال أسلمها الى الاختفاء كقوة سياسية عالمية مهيمنة .
      كانت الصدمة الأولى في مصادرة الحياة ( الراشدية ) وعجز المجتمع الاسلامي بعده عن آلية ( نقل السلطة السلمي ) ومازال ، وكانت الكارثة الثانية عقلية عندما تم تأميم ( الحركة العقلية ) بإعلان إغلاق باب الاجتهاد ، وترتب على هذا انطفاء وهج الحضارة الاسلامية .
     هذا الذي جعل مفكراً مثل ( مالك بن نبي ) يرى في واقعة طحن جيش بايزيد على يد تيمورلنك في معركة سهل انقرة عام 1402 م محصلة ذات نتائج إيجابية ، فعندما نجى الغرب من الاجتياح العثماني ، كان جنيناً يتطور ، وعالماً ينفتح على عبقريات نيوتن وديكارت وجاليلو ، وانطلاق العقل وتدشين عصر التنوير ، وبناء العقلانية والحداثة ومعها القاعدة العلمية والانطلاق التكنولوجي ، وأهم مافي التحول الجديد حل إشكالية نقل السلطة السلمي وتوزيع القوة والنفوذ والثراء في المجتمع ، وتأسيس السلام الاجتماعي وتحييد العنف ، أما العالم الاسلامي فكان يلفه شفق المغيب ، ينحدر الى الانغلاق والجمود والتوقف التاريخي ، وتأسيس لغة العنف كأداة وحيدة في الحوار الاجتماعي ونقل السلطة .
    الحضارة تتدهور بفعل انهيار الجهاز المناعي الداخلي ، أكثر من أي هجوم خارجي مهما بلغ زخمه ؛ فالانهيار العقلي في الشرق تم قبل الاجتياح الاستعماري بفترة طويلة تحت قباب القاهرة وقيروان ودمشق ، في رحلة إفلاس وضمور وانكماش عقلي واسع النطاق . وهو ماانتبه له ابن خلدون حينما أرَّخ لهذه الانهيار الذي يلف العالم الاسلامي كله مع مطلع القرن التاسع الهجري .
       هذه الحقيقة الصاعقة يجب أن نستوعبها ، فمالم نعرف نحن أين ؟ لن نعرف التوجه الى أين ؟؟؟ إننا بحاجة إلى إحداثيات تاريخية للتوجه كما نرى ؟! .
       السياسي حفيد المثقف
         مرض العنف ليس سياسياً بالدرجة الأولى ، وليس محصوراً في منطقة بعينها ، وليس فترة مؤقتة مر بها المجتمع . هذا المرض ثقافي بعمقه ، والسياسي هو حفيد المثقف ، وهو مرض مزمن ينخر في عمق الثقافة وأحشاءها الداخلية ، وتظن المعارضة أنها إذا قامت باغتيال ماتراه الباطل فسوف يسود الحق ، وهذا وهم سقيم ، وعدم إدراك الواقع ، وسنة التاريخ ، وقراءة الأحداث العالمية . وانتبه الى ذلك ابن خلدون عندما تحدث عن العصيان المسلح الذي يقوم به البعض ، ممن لايدرك سنة التغيير فيقود الى الفتن وسفك الدماء .
    الكل في نفق مسدود لاترى نهايته
       تعيش الثقافة العربية المعاصرة في معظمها حالة ازمة مستحكمة ، بين عجز الأنظمة ، ونقمة المعارضة ، ووهم تيارات الاسلام السياسي ؛ فكثير من الأنظمة يعاني من هزائم عسكرية وتردي داخلي وغرق في الديون الخارجية ، والمعارضة تتربص بالأنظمة وترى أن السيف أصدق انباء من الكتب ، وترى ان المراهنة على النجاة هي بإزاحة الأنظمة واحتلال مكانها ، فتنتهي المشاكل بعصا سحرية ودفعة واحدة ، وترى تيارات الاسلام السياسي أن كل الحل عندها . وجميع الأطراف في نفق مظلم لايتبين أحد نهايته ، وكلٌ في فلك واحد من الثقافة يسبحون ،  فلا الأنظمة نجحت ، ولاالمعارضة كانت عاقلة ، ولاتيارات الاسلام السياسي بيدها الحل .
ماذا يحدث في الجزائر ؟
     مايحدث في الجزائر اليوم ليس جهاداً في سبيل الله ؛ بل هو أقرب الى إحياء الصراع المشؤوم ( الخارجي ـ الأموي ) فلا الحكومة الجزائرية هي خلافة إسلامية تدار من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ( ر ) ولا الجماعات الإسلامية تجاهد في سبيل الله ، ومايحدث هو ( الفتنة ) التي تحدثتْ فيها الأحاديث النبوية ؛ ويتوجب في مثل هذا الحالة أن نحطم  الأسلحة التي بحوزتنا ، والاستعداد للموت على أن نقتل الآخرين ، فهذا هو مفتاح لجم حرائق الحرب الأهلية .
     حسب التقرير الخطير  الذي نشرته مجلة الشبيجل الألمانية ( العدد 3 يناير 1998م 20 رمضان 1418 هـ ) هناك مالايقل عن أربعة مجموعات مسلحة رئيسية تمارس القتل (  الحركة الاسلامية المسلحة MIA ) و ( الحركة من أجل الدولة الاسلامية MEI ) و( جيش الخلاص الاسلامي AIS )  الذراع العسكري لـ ( جبهة الإنقاذ الاسلامية FIS ) و ( الجماعة الاسلامية المسلحة ) المشهورة بكلمة ( جيا GIA) .
   ينقل التقرير عن ( نقيب ) في قوى الأمن الجزائري أخباراً خطيرة للغاية ، عن تورط مفزع لآلية قتل تقودها الدولة بماكينتها الساحقة ، الى درجة إطلاق سراح الآلاف من الشواذ والمجرمين والساديين والمحكومين بالإعدام والمؤبد كأداة في القتل المضاد ، مسلطة على عائلات الاسلاميين ، من خلال استراتيجية ( الأرض المحروقة ) فكما توجه ( العنفيون الاسلاميون ) الى اصطياد وقتل رجالات النظام والدولة ؛ فإن الدولة تعمد الى الأمكنة التي يحتمل أنها تشكل مخبأ وستار لتنفيذ العمليات ؛ فتعمد الى أهاليهم فتقتلهم بيد المجرمين المحترفين ، الذين يتمتعون ويجدون لذة بالغة بحز الرقاب ، واغتصاب النساء ، وحرق الأطفال في الأفران ، وقتل المواشي والقطط والكلاب ، ونهب الناس والبيوت ، في ظل ظروف اقتصادية مرعبة ، يشكل راتب الموظف الشهري دخلاً يتراوح بين ( 8000 الى 12000 دينار مايعادل 300 الى 700 ريال يدفع منه ثمن  كيلو اللحم 560 دينار ، وكيلو الموزبـ 360 دينار ) . هذه الأخبار الجديدة تفسر طرفاً من فظاعة القتل ، والطريقة السادية المعتمدة كأسلوب تصفية بين الأطراف المتصارعة ، حيث ينفي كل طرف الآخر ، في آليات الإعدام والإفناء المتبادل .
    آلية ومسلسل العنف    
    مايحدث هو ( فتنة ) بأعظم تجلياتها ويجب لجمها بأي طريقة من خلال تحرير الوعي في هذه المسألة ، ونحن لانريد أن ندين طرف على حساب تزكية طرف آخر ، فمستنقع العنف يستحم فيه الجميع ؛ فهو عملة متبادلة بين معظم أطراف الحوض الاجتماعي . ويجب هنا أن أقرر ثلاث حقائق :
1 ـ أولاً : إن آلية العنف عملية انتحارية داخلية كاملة ، وتفتت وتفسخ لانهاية له ، يصل الى أن الكل يقتل الكل ، وفي لبنان رأينا أموراً عجيبة من الاقتتال الطائفي ، بين الطوائف المتناحرة ، وبين أفراد الطائفة الواحدة ، في شهادة معلنة عن المعنى العدمي العابث في الحروب الأهلية .
2 ـ ثانياً : إن مسلسل العنف يمشي حلقة متصاعدة ، كألسنة النار تأكل بعضها البعض ، من حملة التصفيات الداخلية للثارات والنزاعات ، فالدولة قديما احتكرت العنف لنفسها لمنع الاقتتال الداخلي بين الأفراد ، والدولة الان تمشي نحو الانهيار ، وينتشر السلاح بين أيدي الناس ، ويختفي عنف الدولة المنظم والمؤسس والمشرعن القانوني ؛ للدخول الى وضع( اللاقانون ) والعودة الى حالة الغابة ( إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب )
3 ـ ثالثاً : إن جميع الأطراف في النهاية بعد دفع فواتير الدم وفوائدها المركبة سيشعرون أنه طريق مسدود وأن الحوار والمفاوضات هو طريق حل النزاعات ، ولكن بعد أوقيانوس من الدم
   الخروج من المأزق
       ثلاث قضايا يجب تقريرها : كانت جبهة الإنقاذ على وشك الفوز بالانتخابات فهذه واحدة ، والجيش قطع عليها الطريق وهذه حقيقة ثانية ، ولجأ الطرفان الىحل المشكلة بخطوط دموية . الطبيب الذي يعالج مريضه بقتله يتحول الى مجرم يرتدي معطفاً أبيضاً .
    ليس الوصول الى السلطة الا أول التحدي ، والعبرة هي بامتحان الجلوس على كرسي السلطة اللذيذ ، التي اعتبرها الحديث أنها (ستكون ندامة يوم القيامة ) فالاصرار على دخول مصيدة الحكم كانت ومازالت مقتل الحركات السياسية .
    كان مخرج الأزمة هو الوعي الحاد والتدريب على ممارسة ( العصيان المشروع ) من خلال استراتيجية ذات أربع مفاصل : عدم ممارسة العنف بكل أشكاله ، وتقبل العنف الذي يصدر من الآخرين بصدور مفتوحة ، وجعلهم يملون من ممارسة العنف بالصبر على تحمله ، وعدم مقابلة العنف بأي عنف ( ولنصبرن على ماآذيتمونا )
    كان ينبغي ارتكاب ( المخالفة المحددة ) بوعي وإصرار وعدم تراجع .. لايضربون ولايهربون ولايطالبون بالإفراج عن المسجونين ، بل يطالبون بأخذهم الى السجن في حملة جماعية تتناول عشرات الآلاف وهم يحملون العلم لجزائري ، تفجر الخوف من السجن ومن داخله ، وبأيديهم الورود يضعونها في فوهات بنادق الجنود ويقولون : أيها الجندي المسلم لاتقتل أخاك .. ويقولون لرجال الأمن : لاحاجة لأن تأخذوننا بسياراتكم دلونا على المكان ونحن قادمون بالتهليل والتكبير ؟؟
      إن أي نظام لايمكن أن يعتقل ربع الأمة ولا عُشْرها ، ولاالتورط باعتقال عشرات الآلاف فكيف إذا كانت مقاومة سلمية تشترك فيها كل شرائح الأمة من الجنسين .
       هذا الاسلوب يجب اتباعه لبناء الديموقراطية والتعددية واحترام الآخر والاعتراف به في بناء السلطة والمحافظة عليها ، فعندما يصل المسلمون الى السلطة ويتحولون الى هرقل جديد ، يقاومون بنفس الطريقة من تدشين ( العصيان المشروع ) وتحمل الأذى في سبيل ذلك ليس الصيام آخر أسلحته ، ونحن في شهر الصيام والتدريب على المقاومة السلمية ؛ فهو طريق أكثر ضمانة ، وأعظم بركة ، واقل تكليفاً ، تولد فيه الأمة ولادة جديدة ، ويخرج نموذج جديد للانسان رحماني القلب ، تفتح لقلبه مغاليق أسرار الملكوت ، انساني القسمات ، ديموقراطي الممارسة ، يعف عن الدم الحرام وتعذيب الانسان ، محرر من غرور القوة ووهم السلطة .
       تكتيك أبو ذر في المقاومة
     كان الرسول ( ص) يتأمل أبا ذر ذات يوم وهو قادم ثم قال : رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث يوم القيامة وحده . ماالمثير في شخصية أبي ذر ؟ كان موقفه في الانحراف السياسي هو التكتيك الذي طرحناه : يعترض على الانحراف فلايستعمل سلاح الخوارج ، ولاانتهازية الأمويين ، ولاالتظيم الشيعي المسلح المتربص للانقلاب العسكري .
     ولكنها طريقة تحتاج الى ثلاثة عناصر : شخصية كارزيمائية قيادية ، ووعي حاد وتثقيف جماهيري ، وممارسة ميدانية .. وكل هذه العناصر كان يمكن توفيرها في الصراع الجزائري ومازال لتحييد العنف ، قبل الانزلاق في أتون حرب أهلية تكلف اكثر من الثورة القديمة ضد المستعمر الفرنسي .
      إن ماهو أعظم من الاستقلال هو تحرير الذات من الذات .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..