الأحد، 1 يناير 2012

رحلات بحرية إلى مشيخات الخليج العربي في أربعينيات القرن العشرين

(مشاهدات وذكريات)
ع ق 1088أحمد عثمان البسَّام
- 1-




أولاً: من الكويت إلى قطر:

إن المشيخات التي أعنيها، والتي سأروي مشاهداتي وذكرياتي عن بعضها هنا، هي بترتيب موقعها الجغرافي من الخليج العربي: الكويت، والبحرين، وقطر، وأبوظبي، ودبي، والشارقة، وأم القيوين، ورأس الخيمة، وعجمان، والفجيرة، والتي أسميتُها

(مشيخات) لأن حكامها كانوا (شيوخاً) لها وقت أن كانت جميعها تحت سيطرة (بريطانيا العظمى)، ولم تصر (دولاً) و(إمارات)، كما لم يصبح حكامها (ملوكاً) و(أمراء) إلا بعد استقلالها.

إن حديثي عن هذه المشيخات سوف يقتصر على تلك التي زرتها، أو أقمت فيها وهي: الكويت والبحرين وقطر ودبي والشارقة، فقد زرت الكويت عدة مرات، والبحرين مرة واحدة، وكذلك قطر التي هي موضوع هذا المقال، أما دبي فقد زرتها مرتين، وسيأتي الحديث عنها في المقال القادم، أما الشارقة فهي جارة دبي، وذات الصلة الوثيقة بها والتي كنت أتردد عليها يومياً تقريباً لإنجاز أعمال أخي التجارية، إذ المسافة بينهما لا تتعدى بضعة عشر كيلاً، تقطعها السيارة في خمس عشرة دقيقة، والشارقة هي مقر المعتمد البريطاني في الخليج، الذي يمثل المقيم البريطاني في البحرين، وهي مقر الدوائر الرسمية، وفيها القاعدة العسكرية البريطانية، وفيها المطار الإقليمي، ودائرة الجمارك، ودائرة البريد والبرق، وكان يرأس دائرة المعتمد في الشارقة شخص خليجي من الجنسية الكويتية هو: (عبد الرزاق السيد)، كما أن موظفي دائرته هم من العرب الخليجيين منهم السيد (علي بن عبد الرحمن العصيمي).

هذه نبذة لابد منها، جئت بها قبل أن ألج في أهم حديث عن أول رحلة بحرية قمت بها، وكانت من الكويت إلى قطر وأنا في طريقي إلى (دبي) التي أزورها للمرة الأولى، حيث كانت أول تجربة لي مع السفرات البحرية على ظهر سفينة شراعية، التي لم يسبق لي أن قمت بها من قبل والتي واجهت الموت أثناءها، لولا أن الله سلم!

واسمح لي، أخي القارئ أن ندخل مباشرة في الحديث عن هذه الرحلة:

قمت بهذه الرحلة البحرية عام 1945م، وذلك بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، التي اندلعت عام 1939م، وكنت آنذاك فتى يافعاً أدرج في عامي العشرين، وكان غرضي من سفرتي تلك زيارة أخ لي يقيم في (دبي) التي هاجر إليها طلباً للرزق، وهو لم يبلغ العشرين من عمره بعد، وذلك مع من هاجر إليها، في عشرينيات وثلاثينيات القرن الميلادي الماضي من أبناء (الزبير) و(الكويت) وغيرهم، حيث اشتغلوا بالتجارة، مستفيدين من عزوف مواطني (دبي) عنها آنذاك، منصرفين للمهن والحرف البحرية، كبناء السفن الخشبية الشراعية، وامتلاكها والسفر بها محملة بالبضائع والركاب إلى أعالي البحار، أو العمل عليها ربابنة وبحارة، أو امتهان الغوص بحثاً عن اللؤلؤ والاتجار به، أما الذين هاجروا إليها من عرب شمال الخليج الذين أشرت إليهم آنفاً، فقد جدوا وثابروا حتى صار منهم كبار التجار، ورجال المال والأعمال الذين اندمجوا فيها وصاروا مواطنيها، والذين منهم اليوم أسر معروفة ومن أبنائهم وأحفادهم تجار بارزون، وبعضهم موظفون رسميون في دولة الإمارات العربية المتحدة، نذكر من هذه الأسر: البسَّام، العصيمي، العيسى، المهيدب، الحميدان، المحرج، الهيدان، وغيرهم!

كان السفر في الأربعينيات الميلادية إلى هذه المشيخات، بدءاً من (الكويت) وانتهاء بآخر مشيخة صغيرة في الخليج العربي وهي (الفجيرة) أمراً في غاية اليسر والسهولة، إذ لا حاجة للمسافر إلى جواز سفر أو تأشيرة دخول أو دفتر إقامة أو دفع رسوم ولا أي شيء آخر، فيما عدا (البحرين) التي يتطلب دخولها وثائق سفر نظامية!

بدأت سفرتي هذه من (الزبير) عبر مركز (سفوان) الحدودي، وبعد مسيرة بضع ساعات بالسيارة من اجتيازه، لاح لنا من بعد سور (الكويت) الذي يحتضنها من جهاتها، فدخلناها من خلال باب سورها دون أن يعترضنا أحد أو يسألنا عن شيء، ثم سارت بنا مركبتنا بضعة أكيال في أرض فضاء خالية من العمران، داخل السور المذكور قبل أن نصل أطراف الديرة التي سرنا من خلال دروبها المتربة، وأزقتها الضيقة، ومن بين مبانيها الطينية، وبيوتها المتواضعة، إذ كانت (الكويت) حينذاك، لم تمسها بعد يد التطوير والتعمير، إلا أن أحوال مواطنيها جيدة، ومصادر الرزق لديهم متعددة ومتيسرة، والتجارة فيها مزدهرة، كما أن هناك النشاطات البحرية مثل بناء السفن الخشبية الشراعية، بأنواعها وأحجامها المختلفة، والسفر بها، والعمل عليها، ربابنة وبحارة، حاملة معها البضائع والمسافرين إلى البصرة شمالاً، وإلى موانئ الخليج العربي وبحر عمان، وبحر العرب والهند وشرقي إفريقيا جنوباً، كذلك العمل على سفن الغوص لصيد اللؤلؤ والاتجار به وتصديره، وهناك أيضاً مهنة صيد الأسماك، واستهلاك بعضها في الداخل، وتصدير الفائض منها إلى الخارج!

ولا ننس النفط، ذلك الذهب الأسود الذي يمور في أعماق أرضها المعطاء، ولكن رغم العثور عليه بغزارة، إلا أن عمليات استخراجه وتسويقه بكميات تجارية لم تبدأ إلا في أواخر الأربعينيات الميلادية، ثم ازدادت، حتى بدأ استخراجه على نطاق واسع وذلك في خمسينيات وستينيات القرن الميلادي الماضي، عندئذ، انطلقت (الكويت) مندفعة بكل قوتها خارج سورها الذي هدمته وأبقت بابه دليلاً عليه، ثم امتدت وتوسعت في الصحراء من حولها، فشادت المدن الحديثة، وشقت الطرق السريعة، وأقامت المشاريع العملاقة، كالموانئ التجارية، ومرافئ تصدير النفط، ومعامل تكريره، وقبل هذا وذاك، بذلت (الكويت) كل ما تستطيع لرفع مستوى معيشة مواطنيها، وتحسين ظروف حياتهم من كل النواحي، ووفرت لهم جميع الخدمات من ماء وكهرباء ومساكن، حتى صارت (الكويت) اليوم واحة للخير والأمن والرخاء!

كانت وسيلة السفر إلى مشيخات الخليج العربي في أربعينيات القرن الماضي، قاصرة على السفن الشراعية العائدة ملكيتها إلى مواطني تلك المشيخات، كما كان العاملون عليها من الربابنة والبحارة هم من أبنائها، وكانت هناك وسيلة نقل بحرية أخرى حديثة لنقل الركاب والبضائع بين الهند والخليج تلك هي السفن البخارية العائدة للشركة الإنجليزية: (Grey Mackenzie) (كير مكينزي) التي كانت تحتكر وحدها العمل في هذا الطريق الملاحي الحيوي للدولة المسيطرة على هذا الجزء من العالم آنذاك، وهي (بريطانيا العظمى)، إلا أن هذه الوسيلة لا يستقلها سوى المسافرين الذين يحملون وثائق سفر نظامية فقط، لذا كانت الوسيلة الوحيدة المتاحة لمن لا يحمل مثل تلك الوثائق أمثالي، والتي أقلتني من (الكويت) إلى (دبي) هي سفينة شراعية كبيرة من نوع (بوم) ذات شراعين، أحدهما أكبر من الآخر يسميه البحارة الشراع (العود)، أما الآخر والأصغر حجماً فيسمونه الشراع (القلمي)، فيقومون، بتوجيه من (النوخذة) بنشرهما على صاريين خشبيين أحدهما أطول من الآخر، وهم يهزجون ويصفقون ويرقصون، فتملؤهما الريح إن كانت ملائمة، أي أنها تهب من جهة الشمال على السفينة المتجهة في الخليج جنوباً، فتنطلق، حينها، إلى أمام، وتمخر عباب البحر ضاربة أمواجه ولجته في طريقها، لا تلوي على شيء!

أما السفينة التي أقلتني، فقد واجهت، لسوء الحظ، منذ خروجها إلى عرض البحر، ريحاً جنوبية شرقية يسميها أهل البحر ريح (القوس) أو (الكوس)، وهي من أسوأ الرياح التي تواجهها سفنهم الشراعية المتجهة في الخليج العربي جنوباً، حيث إن الرحلة، في هذه الحالة، قد تستغرق ضعف المدة التي تحتاجها لبلوغ هدفها، والسبب راجع إلى أن ربان السفينة أو (النوخذة) يضطر، عندئذ، أن (يخاور) في إبحاره، وهو في لغة أهل البحر معناه (يراوغ) وبمعنى أدق، أي يسير بسفينته في خط بحري متعرج، وليس بمستقيم، وهذا ما فعله ربان سفينتنا تماماً، بعد أن قرر أن يواصل رحلته، ويخوض معركته مع البحر، أملاً منه أن يتغير اتجاه الريح لصالحه فيما بعد، وهذا ما لم يحصل، إذ إن عصف الريح أخذ يشتد، وصارت الأمواج تعلو، وبدأت تضرب السفينة بعنف من كل جانب، فصارت تتعثر في إبحارها، وتتوقف أحياناً، وقد تتراجع أيضاً، فاضطرب الشراعان العملاقان، وأخذا يؤرجحانها بشدة، ويكادان يقلبانها رأساً على عقب، هنا أصدر (النوخذة) أمره إلى بحارته بإنزال الشراعين وطيهما، خوفاً على السفينة من الغرق، وهي المحملة بأقصى طاقتها، واشتد عصف الريح، فاشتد معه هياج البحر، فصارت الأمواج العاتية تضرب السفينة وتصفعها من كل جهاتها، فهي ترفعها عالياً مرة، ثم تهوي بها إلى قعر البحر، مرة أخرى، وصارت تلعب بها كأرجوحة أطفال، أو كريشة في مهب الريح، كل ذلك يحدث، ونحن ما زلنا نراوح مع سفينتنا حول ساحل المنطقة الشرقية للمملكة العربية السعودية، وقد مضى على إبحارنا من (الكويت) ثلاثة أيام، ومع مغيب شمس ذلك اليوم، تلبدت السماء بالغيوم، وبدأ المطر يهطل يغزارة ومعه وميض البرق الخاطف، وهزيم الرعد القاصف، والسفينة تتأرجح بشدة، تارة من جانب إلى آخر، وأخرى من مقدمتها إلى مؤخرتها وبالعكس، وخشينا على أنفسنا، نحن المسافرين، من أن تقذف بنا إلى البحر الهائج، فصار الواحد منا يتشبث بأي شيء ثابت من حوله، وأصاب دوار البحر بعضنا وعدداً من البحارة، فأخذنا نتقيأ، عندها لم يتمالك النوخذة نفسه، وهو يرى بسفينته تغمرها مياه البحر والمطر، وخوفاً عليها من الغرق، أمر البحارة بأن يلقوا شيئاً من الحمولة في البحر للتخفيف منها على السفينة، فامتثلوا للأمر، إلا أن الحال بقي كما هو طوال تلك الليلة الليلاء التي لم نذق فيها طعم النوم!

وتنفس الصبح، وأشرقت شمس اليوم التالي، وهدأت الريح قليلاً، إلا أن البحر استمر هائجاً، كما استمرت الريح تهب جنوبية شرقية، فأمر (النوخذة) بنشر الشراعين وصار (يخاور) في سير السفينة، يمنة ويسرة، طوال نهار ذلك اليوم، وحل الليل، فاشتد البرد، ثم هدأ من على ظهرها إلا هدير الأمواج من حولها، فاستسلمنا للنوم، والسفينة تتأرجح بنا، فاستيقظنا صباح اليوم التالي، وقد نلنا قسطاً من الراحة، وشيئاً من الطمأنينة بعد ما عانيناه في اليومين الماضيين، وقد علمنا من (النوخذة) أننا نقترب من (قطر)، وأنه يتجه إليها بعد أن قرر قطع رحلته إلى (دبي) لعدم جدواها، بعد أن ألقى بالبضاعة من الطعام في البحر، واللجوء إلى مرفئها ليستريح وبحارته ومسافروه، وليتفحص ما أفسدته العواصف، وخربته الأمواج بالسفينة ليصلح ما يمكن إصلاحه، وليتزود بما يحتاجه من ماء وطعام لرحلة العودة إلى (الكويت)، ولينتهز فرصة استمرار ريح (الكوس)، لتصل به إليها في غضون يومين وليلة، لا أكثر!

الرحلة الثانية:

من (قطر) إلى (دبي)

المصدر : الجزيرة الثقافية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..