السبت، 11 فبراير 2012

تحرير رأي ابن باز في توبة السابّ

الحمد لله وبعد،،
       شاهدت البارحة برنامجاً حوارياً أُذيع فيه فتيا صوتية مسجلة للإمام ابن باز –أسبل الله عليه رضوانه- أوحت لعدد من المشاهدين أن ابن باز –رحمه الله- كان يرى قبول توبة
سابّ النبي –صلى الله عليه وسلم- مطلقاً، وهذا انطباع غير دقيق طبعاً، وقد أثار تشويشاً ولغطاً، وقد سأل بعض الجادين في تحري المعرفة العلمية الموضوعية عن تحرير قول الإمام ابن باز في توبة السابّ.
 
والحقيقة أن للإمام ابن باز –رحمه الله- تفصيلٌ في قبول توبة السابّ، وقبل أن أستعرض تفصيله أحب أن أوضح أن الكلام في هذه المسألة ليس المقصود به (واقعة معينة)، فالوقائع المعينة مردّها إلى القضاء الشرعي يحكم فيها بحسب البينات والأحوال والقرائن، إما بالقتل، أو التعزير بما دون القتل، أو صرف النظر عن الدعوى، بحسب البينات والقرائن المحتفة بالواقعة، ومستوى الثبوت، والموانع، ووزن ذلك كله، في الحكم وتسبيبه. وأما نحن فالواجب علينا حمية لجناب نبينا –صلى الله عليه وسلم- أن نجتهد في الاحتساب على من يسب النبي –صلى الله عليه وسلم- ليصل إلى القضاء الشرعي، هذا هو الواجب المتعين فعلاً، أما الحكم ونوع العقوبة فهذا مرجعه القضاء بحسب الاعتبارات الشرعية في الدعاوى والبينات وطريق الحكم وصفته.
 
أحب أن أؤكد فقط أن المقصود هاهنا هو التحرير العلمي للتفصيل الذي كان الإمام ابن باز يتبناه في مسألة توبة السابّ، وليس الحكم في واقعةٍ معينة.
 
ولنأتِ الآن إلى المقصود من هذه الورقة، فالحقيقة أن من له أدنى خبرة بفتاوى الإمام ابن باز المدونة في مجموع فتاواه القديمة التي جمعها الأستاذ د.محمد بن سعد الشويعر (مستشار سماحته الملازم له)، أو فتاوى ابن باز التي فرغت من برنامج نور على الدرب ونُشِرت، أو محاضرات الشيخ التي فرغت ونُشِرت، وكثير منها متداول بين طلبة العلم، وغيرها؛ استبان له أن للشيخ تفصيلاً في توبة سابّ النبي –صلى الله عليه وسلم- يفرق فيها بحسب القرائن والأحوال، وهذه الأحوال التي يفصل فيها فيها ابن باز يمكن أن تستخلص في خمس أحوال:
1-إن كان السبّ هفوة عارضة وتاب صاحبها منها؛ فإن توبته تقبل قضاءً وديانةً.
2-إن السابّ في بيئة جهل أو بيئة يتفشى فيها التساهل في السب، فنُصِح وتاب؛ فإن توبته تقبل قضاءً وديانةً.
3-إن كان السابّ مجاهراً علناً ورفعت الجناية لولي الأمر أو القضاء، فأعلن السابّ توبته؛ فتوبته هاهنا لا تقبل قضاءً، وأما الديانة فتوبته بينه وبين الله.
4-إذا تاب السابّ، ولكن رأى ولي الأمر المصلحة في قتله من باب السياسة الشرعية، لينزجر الآخرون عن هذا الفعل، فيسوغ قتله شرعاً.
5-إذا سقط قتل السابّ لمانع شرعي، فإن الإمام ابن باز يوصي دوماً بتعزيره تعزيراً بليغاً بما دون القتل (بالجلد والسجن).
هذه هي الأحوال الخمسة التي رأيت الإمام ابن باز يشير إليها في فتاويه، وسأستعرض جزءاً من شواهدها:
 
فأما تمييز الإمام ابن باز –رحمه الله- بين توبة الساب قبل أن يصل الأمر لولي الأمر والقضاء، وتوبته بعد أن وصل الأمر لولي الأمر والقضاء، وتمييزه بين التوبة قضاءً والتوبة ديانةً، واعتباره أن سب الرسول من جنس (الحرابة) لا تقبل فيه التوبة بعد القدرة، وتقبل قبل القدرة، فقد قال ابن باز رحمه الله في توضيح ذلك:
(من سب الدين وثبت عليه ذلك وجب أن يقتل، نصرة لدين الله وحماية له من سب السابين وإلحاد الملحدين، إذا ثبت لدى الحاكم الشرعي وجب عليه الحكم بقتله، غيرة لله وحماية لدينه، ولا تقبل توبته في الحكم الشرعي، أما فيما بينه وبين الله، فإن كان صادقاً في توبته تقبل عند الله عز وجل، إذا تاب توبة صادقة، وأما في الحكم الشرعي فلا تقبل، بل يجب قتله إذا ثبت لدى القاضي بالبينة الشرعية أنه سب الدين سباً واضحا، أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يقتل ردة..، ولا سيما بالسب لله ولرسوله، أما لو تاب فيما بينه وبين الله، وندم فيما بينه وبين الله؛ فهذا إلى الله، لكن لو تاب قبل القدرة عليه، لو تاب ورجع إلى الله قبل أن نقدر عليه، لا يجوز قتله حينئذ، لو جاءنا تائباً نادماً مستغفراً، يقول: لقد جرى مني كذا وكذا. فإنه لا يقتل، أما توبته بعد إمساكه، وبعد إقامة الحجة عليه، والبينة عليه، قال: تبت. فإنها لا تقبل، بل يجب قتله إذا ثبت لدى الحاكم الشرعي أنه سب الدين، أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه يقتل ويحكم بردته، ولا تقبل منه التوبة بعد القدرة عليه، كما قال الله عز وجل في حق المحاربين {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم* إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} والذي يسب الدين أو يسب الرسول صلى الله عليه وسلم من أعظم الناس محاربة لله ورسوله، ومن أعظم الناس فسادا في الأرض، فلا تقبل توبته بعد القدرة عليه، بل يجب تنفيذ حكم الله فيه، وهو القتل حتى لا يتجرأ الناس على سب الدين، أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد صنف أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتاباً جليلاً في هذا المعنى سماه "الصارم المسلول على شاتم الرسول"، وذكر الأدلة في ذلك وكلام أهل العلم، وذكر حكم ساب الله ورسوله، فينبغي أن يراجع فإنه مفيد جدا، ونخلص إلى أن من سب الله ورسوله، ثم قُدِر عليه وقامت الحجة عليه، فإن الحاكم الشرعي يحكم بردته وقتله، أما لو تاب قبل ذلك، قبل أن نعلم، وجاء إلينا تائباً نادماً، يخبر عن توبته؛ فإن الصحيح أنه تقبل توبته والحمد لله.)[ابن باز، فتاوى نور على الدرب، جمع د.الشويعر، 4/149-151].
 
فتلاحظ في هذا النص التأصيلي عدة معطيات، أولها تمييز الشيخ في السابّ بين وصوله للقضاء وما قبله، ومنها جعل الشيخ سب الرسول –صلى الله عليه وسلم- من جنس (الحرابة) والتي نص القرآن على التمييز فيها بين التوبة الاختيارية والتوبة الاضطرارية، وهذا التعليل، أعني اعتبار سب الرسول –صلى الله عليه وسلم- من جنس الحرابة والتمييز فيه بين التوبة الاختيارية والاضطرارية نص عليه ابن تيمية وشرحه في الصارم المسلول (ص389) وقد نقلت نصه في ورقة (الاحتساب على شاتم سيد البشرية).
 
ومن المعطيات الهامة في هذا النص إحالة ابن باز إلى "الصارم المسلول" والتأكيد على المقولات الأساسية التي ناضل لبرهنتها ابن تيمية في كتابه المشار إليه، وهو الكتاب الذي كرسه ابن تيمية لبيان قتل السابّ، وعدم قبول توبته قضاءً، وأنه قول جماهير أهل العلم قبله.
 
ومن المعطيات الهامة في نص ابن باز السابق أنه يعتبر أكثر حزماً في مسألة (نطاق السبّ) من كثير من أهل العلم، فأكثر أهل العلم يحصرون عدم قبول توبة السابّ قضاءً في من سب الرسول –صلى الله عليه وسلم- فقط، أما ابن باز –رحمه الله- في النص السابق فعمم وجعل الأمر في كل من سب الدين إذا وصل للقضاء لا تقبل توبته.
 
ولكن من المهم التأكيد أن ابن باز يتحدث هاهنا عن ما يمكن تسميته (السبّ المنظم) أي الذي عرف صاحبه بسب الدين والاستخفاف به، وليس السب كهفوة عارضة لم يعرف صاحبها بها، كما تدل على ذلك نصوصه الأخرى.
 
ومن المواطن التي أكّد فيها الشيخ ابن باز على هذا الاعتبار، وهو التفريق بين من عاند حتى رُفعت الجناية إلى ولي الأمر والقضاء، وما قبل ذلك، قول ابن باز رحمه الله:
(ما دام لم يرفع أمره إلى السلطان فإنه ينصح ويوجه إلى الخير، ويعلم ويدعى للتوبة، فإذا تاب إلى الله وأناب إليه فلا يُرفع أمره، لعل الله يمن عليه بالاستقامة، فإن استمر في السب والاستهزاء فيجب الرفع عنه إلى ولاة الأمور، حتى يقام عليه حد الله، ولا يجوز التساهل في حقه، بل يرفع أمره إلى المحكمة، أو إلى أمير البلد، حتى ينفذ فيه حكم الله عز وجل؛ لأن سبه للدين يسبب شرا كثيرا، فلا ينبغي أن يتساهل معه، لكن إن بادر بالتوبة والإصلاح والرجوع إلى الله، والندم قبل أن يُرفع أمره، فلا حرج في ذلك، والله يتوب على التائبين)[ابن باز، نور على الدرب، جمع د.الشويعر، 4/145].
 
ونبّه الإمام ابن باز على هذا التمييز في نواقض الإسلام الذي تبناه جماهير أهل العلم، وهو أن المرتد تقبل توبته قضاءً وديانةً، وأما السابّ فتقبل ديانةً لا قضاءً، حيث يقول ابن باز:
(والخلاصة: أن سب الإسلام أو سب الله أو سب الرسل، أو تنقصهم، أو الطعن فيهم، أو الاستهزاء بهم؛ كله كفر أكبر عند جميع أهل العلم، نسأل الله العافية، يوجب القتل، يوجب على ولي أمر المسلمين أن يأخذ هذا الساب، وهذا المتنقص ويقتله على ردته عن الإسلام، أما إذا تاب فتوبته فيها تفصيل بين أنواع الكفر، والساب لله ولرسوله لا يستتاب عند جمع من أهل العلم، لعظم جريمته نعوذ بالله، بل يقتل حدا، أما أنواع الكفر الأخرى كدعاء الأموات، والاستغاثة بالأموات، والنذر للأموات، وترك الصلاة؛ هؤلاء يستتابون، فإن تابوا وإلا قتلوا)[ابن باز، فتاوى نور على الدرب، جمع د.الشويعر، 4/143].
 
فتلاحظ في النص السابق كيف فرق ابن باز بين بقية نواقض الإسلام من الشركيات الكبرى، وبين السب، فجعل المرتد في عامة النواقض يستتاب، وخص السب بعدم الاستتابة، والفقرة الهامة جداً في هذا النص هي قول ابن باز (أما إذا تاب فتوبته فيها تفصيل بين أنواع الكفر). فتلاحظ كيف لم يجعل التوبة مؤثرة مطلقاً في نواقض الإسلام، بل نبه على التمييز بين أنواع الكفر.
 
وذكر الإمام ابن باز في مواضع متعددة أنه قد يُقتل السابّ حتى مع توبته، كقوله رحمه الله:
(المقصود أنه إذا أتى بناقض من نواقض الإسلام، ثم تاب إلى الله توبة صادقة تاب الله عليه، لكن بعضها فيه خلاف من جهة الحكم الشرعي: هل يُقتل؟ أو لا يُقتل؟ أما فيما بينه وبين الله فكل من تاب إلى الله تاب الله عليه، فالله يتوب عليه من كل ذنب، حتى الشرك، لكن هناك أموراً قد توجب قتله وإن تاب، كسب الله أو سب الرسول عليه الصلاة والسلام)[ابن باز، نور على الدرب، جمع د.الشويعر، 4/167].
 
وسئل الإمام ابن باز مرةً عن رجل وقع في عدة نواقض من نواقض الإسلام، فلم يجعلها ابن باز في مستوى واحد من حيث الاستتابة، بل فرق بين النواقض في (القتل بعد الاستتابة) و (القتل مطلقاً)، حيث يقول ابن باز رحمه الله:
(والواجب على من عرف ذلك أن يرفع أمره إلى ولاة الأمور، حتى يعامل بما يجب من استتابته، أو قتله إذا لم يتب، أو قتله مطلقاً إذا كان يسب الله ورسوله؛ فإن جمعاً من أهل العلم يرون أنه يقتل من غير استتابة، نسأل الله العافية، كما أوضح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه "الصارم المسلول على شاتم الرسول"، وكما ذكر ذلك أهل العلم في باب حكم المرتد)[ابن باز، فتاوى نور على الدرب، جمع د.الطيار والموسى، 1/105، طبعة مدار الوطن].
 
وثمة حالات رأى ابن باز فيها قبول توبة السابّ قضاءً، ولكن يسوغ لولي الأمر قتل الساب التائب من باب المصلحة والسياسة الشرعية، لينزجر بقية المتطاولين، حيث سئل مرةً عن (الجاهل) حيث جاء في السؤال:
(يقول السائل: هناك أحد الأشخاص يجهل أمر الدين ويسب الدين فما حكمه؟ وماذا عليه أن يفعل إذا أدرك خطأه أفيدوني أفادكم الله؟)
 
فكان من جواب الشيخ أنه يستتاب، حيث يقول الشيخ في تأصيل المسألة:
(الأرجح إن شاء الله أنه متى أبدى التوبة، وأعلن التوبة، ورجع إلى ربه عز وجل أن يُقبل، وإن قتله ولي الأمر ردعاً لغيره فلا بأس، لو قتله ولي الأمر سدا لباب التساهل بالدين وسب الدين)[ابن باز، فتاوى نور على الدرب، جمع د.الطيار والموسى، 1/106، طبعة مدار الوطن].
 
يمكن للقارئ أن يرى في هذا النص تأصيل الشيخ ابن باز –رحمه الله- لمسألة قتل الساب التائب سياسة شرعية، من باب المصلحة في انزجار الشانئين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يبلغ القاضي بالتعزير القتل مسألة خلافية شهيرة في باب الجنايات، بل هي من أشهر مسائله، وأجلّ من كان يقول بها الإمام مالك رحمه الله وشرحها ابن تيمية في مواضع كثيرة ليس هذا محل استعراضها.
 
والحقيقة أن الشيخ ابن باز في عدة مواضع كان يشير لكون (سب النبي) مثل الحرابة والسحر، بمعنى أنه لا تقبل فيها الاستتابة، كقوله مثلاً عن السحر (كما لا يستتاب الساحر على الصحيح).
 
وأما الأحوال التي يكون فيها الساب في بيئة جهل، أو في بيئة يتفشى فيها التساهل في السب فإن الإمام ابن باز يرى درء القتل عنه بالاستتابة، لكن يعزر بما دون القتل، يقول ابن باز:
(الواجب أن يستتاب، فإن تاب وندم وأقلع، وأظهر الخير وأظهر العمل الصالح فالحمد لله؛ وإلا قتل، ولكن التعزير لا بد منه، لا بد أن يعزر ويؤدب، حتى لا يعود إلى مثل هذا ولو تاب، وإن قُتِل فوراً ولم يستتب فهو قول جيد، وقول قوي ولا غبار عليه، ولكن الاستتابة لها وجهها، فإذا استتيب لأن الجهل يغلب على الناس، ويغلب عليهم أيضا التساهل في هذه الأمور، بسبب الجلساء الضالين وبسبب غلبة الجهل، وبسبب المخالطة الخبيثة للكفرة والمجرمين، فإذا استتيب وتاب توبة صادقة وأظهر خيرا فالحمد لله، وإلا أمكن قتله) [ابن باز، نور على الدرب، جمع د.الشويعر، 4/141].
 
في هذا الشاهد الثمين يبين الشيخ عبد العزيز –رحمه الله- ضرورة مراعاة بيئة السابّ، فإن كان في بيئة جهل، أو بيئة يتفشى فيها التساهل في سب الدين، أو بيئة كفار يغلب الظن الجهل بنواقض الإسلام، فإن الاستتابة واجبة، ويعزر بما دون القتل، فإن كان في بيئة علم ونُصِح وعاند فقد بين الشيخ سابقاً مشروعية قتله، كما بين في هذا النص أنه لو قتل دون استتابة فهو قول قوي كما قال الشيخ في النص السابق: (وإن قُتِل فوراً ولم يستتب فهو قول جيد، وقول قوي ولا غبار عليه).
 
وأما مسألة التعزير بما دون القتل إذا درئ عن ساب النبي –صلى الله عليه وسلم- القتل لمانع شرعي راجح؛ فقد نص عليه ابن باز في مواضع كثيرة، كقوله (لا بد من التعزير، لا بد من الأدب عما أقدم عليه) [ابن باز، نور على الدرب، جمع د.الشويعر، 4/141].
 
وسئل الإمام ابن باز مرةً عن رجل سبّ وتاب قبل الرفع للقضاء الشرعي:
(يقول السائل: ما الحكم الشرعي في رجل سب الدين، وعندما قلنا له بأنك خرجت من الإسلام قال بأن ذلك في ساعة غضب لا تلومني؟ هل له من توبة؟)
 
فكان جواب الشيخ عبد العزيز قبول توبته مع بقاء "التعزير بما دون القتل" حيث يقول الإمام ابن باز:
(ليس له توبة في قول جمع من أهل العلم، بل يستحق أن يقتل، ولكن الصواب إن شاء الله أنه إذا تاب توبة صادقة أنه يقبل، وكثير من أهل العلم يقولون: إن من سب الدين أو سب الله، أو سب الرسول لا تقبل توبته، لعظم الجريمة، الجريمة عظيمة، ولكن الأرجح إن شاء الله أنه تقبل توبته، ولكن إذا رأى ولي الأمر أن يعزّر، رأت المحكمة أو الأمير أن يعزر عن تساهله بجلدات أو سجن فهذا حسن، لئلا يجسر الناس على هذا الأمر، ويدعوا أنهم مخطئون، وأنهم تابوا؛ لأن الجريمة عظيمة) [ابن باز، نور على الدرب، جمع د.الشويعر، 4/143].
 
والأحوال التي نصّ الإمام ابن باز فيها على قبول توبة سابّ النبي صلى الله عليه وسلم: إما لكونها هفوة عارضة، أو كونها سباً مستوراً لم يجاهر به صاحبه ويتحدى به الناس علناً، أو كونه تاب قبل الرفع لولي الأمر أو القضاء الشرعي؛ فهي نصوص كثيرة، ومنها:
-ابن باز، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، جمع د.الشويعر (6/387).
-ابن باز، فتاوى نور على الدرب، جمع د.الطيار والموسى، (1/369).
-ابن باز، فتاوى نور على الدرب، جمع د.الشويعر، (4/174).
 
ففي مثل هذه الأحوال المذكورة كان الشيخ يفتي بقبول توبته قضاءً، ودرء القتل عنه، وبقاء التعزير البليغ بالجلد والسجن، لئلا يتجاسر الناس على ذلك.
 
وأحب أن أنبه هاهنا إلى أن فتاوى الشيخ في (نور على الدرب) التي نقلتُ عنها نُشِرت نشرتان:
أحدهما: من جمع د.محمد الشويعر، وبلغت (19) جزءاً، وفُرِّغت من (435) شريطاً، وقدم لها مفتي المملكة الحالي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، وبين آل الشيخ في مقدمته أنها بعد تفريغها من الأشرطة قرئت عليه جميعاً، في مجالس منتظمة لعدة سنوات.
 
والنشرة الثانية: هي من جمع د. الطيار والشيخ محمد الموسى، وبلغت أربع مجلدات، وطبعتها (مدار الوطن للنشر)، وكان الشيخ ابن باز ذاته –رحمه الله- قرئ عليه الجزء الأول والثاني منها، وواصلت اللجنة العلمية بمؤسسة ابن باز إخراج البقية.
 
وبين النشرتين فروق في ترتيب المادة، وفي الاستيعاب والإحاطة. ود.محمد الشويعر، والشيخ محمد الموسى، كلاهما كانا ملازمين للشيخ ابن باز رحمه الله، وشكر الله للجميع جهدهم في خدمة علم هذا الإمام.
 
 
والخلاصة الكلية التي يمكن أن تقال عن رأي الشيخ ابن باز في توبة الساب أنه يفرق بحسب الأحوال والقرائن، فيفرق بين: الجاهل، والمعاند، والهفوة العارضة، والخطأ المستور غير المعلن، وما وصل للقضاء ولم يصل، والقتل سياسة، والتعزير بما دون القتل، ونحو ذلك.
 
فمن نقل عن الشيخ ابن باز أنه يرى قبول توبة السابّ مطلقاً فقد أخطأ، ومن نقل أن الشيخ ابن باز لا يقبل توبة الساب مطلقاً فقد أخطأ أيضاً، والله أعلم.
 
 
وعلى أية حال .. مسألة قتل سابّ النبي –صلى الله عليه وسلم- حتماً هو الذي يتبناه هو قول جماهير أهل العلم، وهو الذي يتبناه عامة علمائنا، ومن ذلك:
يقول الشيخ ابن سعدي رحمه الله في تفسيره:
(قوله "إن الذين يؤذون الله ورسوله" هذا يشمل كل أذية، قولية أو فعلية، من سب وشتم، أو تنقص له، أو لدينه، أو ما يعود إليه بالأذى. وقوله "لعنهم الله في الدنيا" أي: أبعدهم وطردهم، ومِن لعنِهم في الدنيا أنه يحتم قتل من شتم الرسول، وآذاه)[تفسير ابن سعدي: الأحزاب57].
 
وقال الشيخ ابن عثيمين:
(من سب الرسول -صلى الله عليه وسلم- قُتِل وجوباً، وإن تاب؛ لأنه حق آدمي فلا بد من الثأر له صلى الله عليه وسلم)[الممتع:2/38]
وهذا هو المستقر عند بقية علمائنا، رحم الله أمواتهم، وحفظ لنا أحياءهم.
وهل هذا يعني أن هناك إجماع على عدم قبول توبة الساب قضاء؟ لا، طبعاً، بل المسألة فيها خلاف محفوظ معروف، وليس خلافاً شاذاً، وكنت قد شرحت هذا الخلاف في ورقة سابقة بعنوان (الاحتساب على شاتم سيد البشرية) ونقلت فيه أسماء المخالفين في الفقه الإسلامي ممن رأو قبول توبة الساب قضاءً، وأجلهم فيما أعلم ابو يوسف رحمه الله في كتابه الخراج.
 
وأزيد الأمر توضيحاً هاهنا بنموذجين لابن تيمية في تقرير وجود الخلاف في المسألة، أحدهما ذكره في الأخنائية، والآخر في الصفدية، حتى لا يظن ظانٌ أن هذه مسألة إجماعية، ويخلطها بمسألة (قتل السابّ الذي لم يتب) والتي هي مسألة إجماعية.
يقول ابن تيمية في الأخنائية: (ومن سب نبيًّا كان مرتدًّا مباح الدم باتفاق الأئمة، وإنما تنازعوا في قبول توبته)[الأخنائية:473].
ويقول ابن تيمية في الصفدية: (ومن سب نبياً من الأنبياء فهو كافر يجب قتله باتفاق العلماء، وفي استتابته نزاع)[الصفدية:2/311].
فهذان النصان التيميان يلخصان بالضبط: موضع الإجماع، موضع النزاع.
 
وعلى أية حال .. فالمعتبر في الشريعة ليس الخلاف، فلا يحتج بالخلاف أحد من أهل العلم، فالله سبحانه أمر برد النزاع والخلاف إلى النص (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)[النساء، 59].  وكثير من الخائضين في الشرعيات يعكس مراد الله، فكلما ذكر له نص؛ قال: (فيه خلاف)! يظن هذا حجة! وقد نبه على عدم الاحتجاج بالخلاف أهل العلم.
 
ومن ذلك ما قاله إمام المغرب ابن عبدالبر: (الاختلاف ليس بحجة عند أحدٍ علمته من فقهاء الأمة، إلا من لا بصر له، ولا معرفة عنده، ولا حجة في قوله) [جامع بيان العلم، لابن عبدالبر، 2/177].
 
وقال العالم المثقف ابن حزم: (ما قام عليه دليل وجب المصير إليه، وإن اختلف الناس فيه، فلا نقتصر على ما أجمع عليه دون ما اختلف فيه) [الإحكام، لابن حزم، 1/374]
 
وقال ابن حزم عن فكرة التساهل في النص إذا كان فيه خلاف (وبالجملة فهذا مذهب لم يخلق له معتقِدٌ قط، وهو ألا يقول القائل بالنص حتى يوافقه الإجماع!)[الإحكام، لابن حزم،1/376]
 
وقال مهندس المقاصد الإمام الشاطبي مستنكرا: (وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية؛ حتى صار "الخلاف في المسائل" معدوداً فى حجج الإباحة)[الموافقات، للشاطبي، 5/92]
 
وقال الإمام ابن تيمية رداً على من يحتج بالخلاف (تعليل الأحكام بالخلاف علة باطلة في نفس الأمر، فإن الخلاف ليس من الصفات التي يعلق الشارع بها الأحكام)[الفتاوى، لابن تيمية، 23/281]
 
وقد ثبت بالتجربة أن كل من أدمن (الاحتجاج بالخلاف في مواجهة النص) أفضى به ذلك إلى (رقة الدين) فيصبح يستصغر كثيرا من الخطايا والواقع شاهد، وقد نبّه الشاطبي على هذه العلاقة فقال (في اتباع رخص المذاهب من المفاسد: الانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف، والاستهانة بالدين إذ يصير سيالاً لا ينضبط) [الشاطبي، الموافقات، 5/102]
 
فإن قال قائل: ما العبرة إذن في مسائل الخلاف؟ قيل العبرة بـ(المرجحات) إما بين الأدلة أو بين المستدلين، ولا ينفك الباحث عن الحق من مرجحات تظهر له، عالماً أم طالب علم أم عامياً.
 
والمراد أن عصمة دم السابّ انتقلت من القطعي باعتبار إهدارها بمبيح السب، فتقابل ظنيان: أحدهما قتله بالسب الذي هو حق النبي، والآخر حفظ دمه بالتوبة، فالأمر موازنة بين ظنيين، أيهما أرجح، والذي يظهر لي –والله أعلم- هو قول جماهير أهل العلم أن القتل أرجح من العصمة، باعتبار العقوبة حق للنبي –صلى الله عليه وسلم- لا يملك أحد العفو نيابة ً عن رسول الله، والقول بالتعزير بما دون القتل ليس قولاً شاذا أو ساقطاً، بل هو قول قوي عليه جمع من أهل العلم سيما من أكثر متأخري الشافعية، وبعض الحنفية، وقد نقلت شيئاً قولهم في الورقة السابقة المشار إليها (الاحتساب على شاتم سيد البشرية).
 
وقد لاحظت في هذه المسألة، وغيرها من المسائل الشرعية التي تثار في وسائل الإعلام بين الفينة والأخرى؛ أنه يدخل فيها ويتحدث ويفتي ويرجح أقوام غير مؤهلين، ولا يراجعون كلام أهل العلم، ولا يعرفون أدلتهم واعتباراتهم، وإنما يتحدثون بالمعاني العامة التي في نفوسهم، ولا يعرفون الأدلة الخاصة في المسألة، وهذه آفة منتشرة، وهي (الترجيح في الشرعيات بالمعاني العامة دون تمحيص الأدلة الخاصة في المسألة)، وهي تنتشر بين كثيرٍ من كسالى المتصدرين للشرعيات.
 
وكنت منذ زمن مقتنع -ولا زلت على هذه القناعة- أن الانحراف الفكري المعاصر سببه الرئيس هو الاستهتار بالعلم والموضوعية والمنهجية، وسلوك طرائق الانتقاء العبثي من التراث بما يوافق الثقافة الغربية المهيمنة، والانتقاء من الخلاف الفقهي ما يوافق الشهوات، وليس دراسة التراث وتمحيصه على ضوء الدليل والبرهان والحجة، ولا زلت مقتنعاً بأن خير وسيلة لتصحيح الانحراف الفكري المعاصر هو الانتفاضة لتعظيم العلم والدليل والمنهجية والموضوعية، فإذا عُمِرت نفوس الشباب والجيل الجديد بتوقير العلم والدليل والحجة، والنفور من الانتقاء من التراث بما يوافق ضغط الثقافة الغربية المهيمنة؛ فقد وضعنا أقدامنا على الخطوة الأولى في طريق التجديد الفكري والعلمي، وأقترح على إخواني طلبة العلم، والمهتمين بحقل (فقه المنهج) أن لا يسأموا من تكرار تعظيم العلم والدليل والحجة والبرهان والموضوعية والمنهجية ونحوها، لأنها الترياق الحقيقي للخلل الفكري المعاصر، ونحن بحاجة لتكرار جرعات الدواء حتى يتماثل المرضى للشفاء.
 
والله أعلم وأحكم،،
وصلى الله وبارك وسلم على من أرسله الله شاهداً ومبشراً ونذيرا، وداعياً إلى الله بإذنه، وسراجاً منيرا، وصلى الله وسلم وبارك على من لا يؤمن أحدنا حتى يكون هو أحب إلينا من والدنا وولدنا والناس أجمعين.

ابراهيم السكران
 
ابوعمر
ربيع الأول 1433هـ
منشور في مجلة (رؤى فكرية)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..