عبدالله العودة
قبل سنوات سمعت
أحد المهتمين بالدعوة الإسلامية يحذر من “التيارات المنحرفة” مطالبا بتتبع
“هؤلاء الزنادقة” كما يرى، بل المطالبة بقتل من يستحق ذلك منهم كما يعبر،
متغنيا بالمجد التاريخي الذي صنعه الخليفة المهدي في تشكيله لجنة عباسية
لتتبع الزنادقة وقتالهم كما اشتهر عنه.
صعقتني هذه
الدعوة، وهزني أكثر قراءتي القديمة في الكتاب التاريخي الأهم في المدرسة
السلفية “البداية والنهاية” لابن كثير، حين قرأت في تاريخ المهدي فلمست
جانبا غريبا في السياسة يستخدم فيه كل الأسلحة الممكنة لتصفية خصومه وبعثرة
أوراق معارضيه، فهو لا يتورع عن استعمال أقوى العبارات الدينية صلابة لأحد
العلماء فقط لأنه يختلف معه أو يعظه.
وجرني ذلك كله
لمعرفة كيف يقدم “المهدي” هؤلاء الزنادقة، وكيف يصنفهم وهل كان بالفعل
يقتل “زنادقة” أم أنه كان يستخدم مصطلح الزنادقة لقتل زنادقة بالفعل، وهم
قليل ممن قتل، ومعارضون سياسيون ممن يختلف المهدي معهم، وهم كثر.
ليس هنا مجال
النقاش التاريخي ولا التحليل المطول ولا الصناعة العلمية، بل إشارة سريعة
لتتضح بها الفكرة الرئيسة، في أن السياسي المستبد قد لا يتورع على الإطلاق
عن استخدام الدين لخدمته، ولن يتورع على الإطلاق عن إطلاق أي وصف بمخالفيه،
حتى ولو وصمهم بالزنادقة، سواء أكانوا كذلك أم لا. هي فقط محاولة للحذر
من هذا التكفير السياسي، وصناعة الحكم بالزندقة التي استخدمها المستبد
تاريخيا وسيستخدمها طالما كانت تحميه من غضب الناس تجاه تصفية خصومه، بل
تبرر له متابعة كل من يتحفظ عليه، وفي ذات الوقت تقدمه على أنه
حامي حمى الشريعة والدين من “هؤلاء الزنادقة”، وأيضا فالوصم بالزندقة يقدم
رشوة واضحة لكل تيار تجاه التيار الآخر، فيُصفى خصوم معينون على أنهم
“إرهابيون” متشددون إذا كانوا خصوما سياسيين في ذات اليمين، ويُصفى خصوم
آخرون بأنهم “زنادقة”، متهتكين إذا كانوا خصوما سياسيين في ذات الشمال.
ولست هنا
لأؤكد ولا أنفي وجود إرهابيين ولا ملحدين، إنما القصد تسليط الضوء على “دور
المستبد السياسي” في العبث بأحلام الناس وقيمهم عبر جعله “وسيطا”
لتحقيقها.
الزنديق في
“لسان العرب” كلمة غير عربية، بل فارسية معربة، أصلها الفارسي كما يقول
الفيروز آبادي “زند كراي” وهو الذي يقول بدوام الدهر، وتشير لمن لا يؤمن
بوحدانية الله. قال الجوهري: الزنديق من الثنوية وهو معرب، والجمع
الزنادقة، وقد تزندق، والاسم الزندقة.
هذه هي
الزندقة فماذا فعل المهدي الذي يتغنى بعض “الدعاة” المعاصرين بأمجاده في
كفاح الزنادقة وقتالهم، وكيف استغل هذه المهمة لتصفية كل الخصوم السياسيين؟
يقول ابن
كثير ابتداءً: “إنما لقب بالمهدي طمعا أن يكون هو الموعود به في الأحاديث،
فلم يكن به، وإن اشتركا في الاسم; لأنه لم يشبهه في الفعل”. فهو بحسب كلام
ابن كثير نفسه لا يشبه المهدي الذي يملأ الدنيا عدلا ففي سيرته أعمال ظلم
معروفة مذكورة، ولا هو بالإمام الموثوق في أي يقيم مقصلة للزنادقة في الوقت
الذي يلمح بعض قضاته هو بأن رميه الآخرين بالزندقة قد يعود عليه هو!
المهدي حينما
ولّى العالِم المعروف شريك بن عبدالله القاضي، بدأ بفعل الشيء نفسه الذي
يمارسه كل مستبد في تصفية كل من يريد عبر إحضار معارضين له مستعدين للإفتاء
فيه، ثم إذا غضب على هؤلاء المفتين أنفسهم أحضر خصومهم الذي قد فتك بهم من
قبل فيفرحون بهذه الحظوة ويستغلونها لضرب خصومهم، وهكذا يعبث المستبد
السياسي بالتوازنات الاجتماعية والتيارات والفرق؛ ليضرب الجميع بالجميع عبر
هذه التوازنات. وهذا ما لاحظه الباحث “نيثن براون” حينما قال إن الدول
العربية المستبدة تتهرب من تفعيل دور المؤسسات في المجتمع، ودور
المجتمع المدني والأهلي غبر العبث بلعبة التوازنات الفكرية والطائفية
والقبلية والدينية.
ولنعد للمهدي
من جديد، والقصة الأكثر غرابة وفجاجة مع القاضي شريك، حينما آذى ضرارُ بن
عمرو الخليفةَ المهدي تذكّر المهدي فجأة أنه “زنديق” فأحضر من خصومه
الدينيين من يحكم عليه بالزندقة، وكان شريك القاضي ضمن السلطة القضائية
التي قضت بزندقة ضرار، وعليه فتعرض ضرار للناحية الجسدية وليس فقط تصفية
روحه المعنوية.
في هذه القصة
أعلم أن كثيرا سيعود لضرار ويقرأ عنه ليقول لي بأنه بالفعل كان زنديقا
مرتدا، وأقيم عليه حد الردة الذي يراه أولئك الفقهاء وهو القتل. حسنا، فكيف
نقول عن هذه القصة التالية ؟
شريك القاضي
نفسه، قاضي المهدي، نعم قاضيه الشرعي المولى على سلطة القضاء، الذي عينه
المهدي بنفسه، شريك الذي حكم بالزندقة على ضرار، غضب عليه المهدي هو الآخر،
وأراد أن يحكم عليه بالزندقة أيضا ليصفيه!
يا لسخرية المستبد وعبثه بالدين وبقيمه، وسأدع الرواية المختصرة التي ذكرها ابن كثير في الحادثة، يقول ابن كثير:
“وقد ذُكِرَ له [أي للمهدي] عن شريك بن عبد الله القاضي أنه
لا يرى الصلاة خلفه، فأحضره إليه فتكلم معه، ثم قال له المهدي في كلام: يا
ابن الزانية. فقال: مه مه يا أمير المؤمنين، فلقد كانت صوامة قوامة. فقال
له: يا زنديق لأقتلنك
. فضحك شريك، وقال: يا أمير المؤمنين، إن للزنادقة علامات يعرفون بها;
شربهم القهوات، واتخاذهم القينات. فأطرق المهدي، وخرج شريك من بين يديه”.
انتهت رواية ابن كثير
وربما أن سبب
إطلاق المهدي له وعدم قتله وتلفيق تهمة الزندقة عليه هو لأن شريك القاضي
نفسه قلب التهمة على المهدي وقال: إذا كان سيكون أحدنا زنديقا، فهو أنت
فصفاتك أيها المهدي أقرب لهم!، فها هو ذا المهدي الذي صفاته حسب شريك
القاضي أقرب للزندقة من شريك يتهم شريكا بالزندقة ويريد ملاحقته بذلك
وقتله!
فيا ترى لماذا
لا نشك إذا روى لنا ابن كثير نفسه أيضا عن المهدي أنه “تتبع جماعة من
الزنادقة في سائر الآفاق، فاستحضرهم وقتلهم صبراً بين يديه، وكان المتولي
أمر الزنادقة عمر الكلواذي”.
هذا أيضاً
يذكرنا بالمثال الآخر في تلك الحرب القذرة على الزنادقة التي تورط فيها
الزنادقة الحقيقيون وغيرهم من المؤمنين الموحدين لتأمين الأرض للمهدي،
ولسياسته وكرسيه وحكمه.
كان بشار بن
برد يمدح المهدي فكان المهدي يقربه ويرضى عنه، ويدنيه لكن حين وشى إليه
الوزير أنه هجاه وقذفه اكتشف المهدي أيضا فجأة أنه زنديق فنسب إلى شيء من
الزندقة، وأنه يقول بتفضيل النار على التراب، وعذر إبليس في ترك السجود
لآدم، وأنه أنشد :
الأرض مظلمة والنار مشرقة ** والنار معبودة مذ كانت النارُ
الأرض مظلمة والنار مشرقة ** والنار معبودة مذ كانت النارُ
فأمر المهدي بضربه، فضرب حتى مات. ويقال: إنه غرق، ثم نقل إلى البصرة.
وإذا كان بشار
بن برد زنديقا ومرتدا فلماذا يدنيه المهدي “أسد المعركة ضد الزنادقة”،
ولماذا يرضى عنه يوم كان يمدحه ويقول فيه الشعر، ولماذا اكتشف المهدي أنه
زنديق واستدعى أبياته القديمة ولم يرض له بكلام ولا رد حين غضب عليه وسمع
أنه قذفه وهجاه؟
المهدي الذي
أشعل الحرب الشاملة ضد هذه الزندقة روي عنه أنه قال: “ما وجدت كتاب زندقة
إلا وأصله ابن المقفع”؟ ماذا! ابن المقفع؟ كاتب أبيك المنصور المقرب
والمستشار، كيف اكتشفت أنه زنديق؟
حسب رواية
الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء: كان أبو جعفر المنصور والد المهدي يقرب
ابن المقفع ويستكتبه ويحبه ويدنيه، حتى غضب المنصور منه، لأنه زاد في كتاب
الثقة الذي أمره به المنصور فكتب في توثق عبد الله بن علي من المنصور يقول
: “ومتى غدر بعمه، فنساؤه طوالق، وعبيده أحرار، ودوابه حبس، والناس في حل
من بيعته ” ولم يكتب ابن المقفع ما كتبه هذا إلا ليمنع المنصور من الغدر
بعمه وخيانته، فلما كان ابن المقفع هو كاتب كتاب الأمان هذا وقد زاد فيه
هذه الكلمات، غضب المنصور منه غضبا شديدا وكعادة ابنه “المهدي”
فيما بعد الذي اتخذ هذه الصيغة السياسية لتصفية خصومه اكتشف أن ابن المقفع
“زنديقا” فكتب إلى عامله سفيان المهلبي يأمره بقتل ابن المقفع، وهكذا كان
فمات ابن المقفع في الثلاثين من عمره.
وفعلا بعد كل
تلك السنين تكون وتبقى الحرب السياسية القذرة التي تحاول أن تشمل جميع
الخصوم السياسيين الذين يهددون البلاط أو ينتقدون أو يريدون الإصلاح حتى
ولو كان هؤلاء ألطف لسانا وأخف قولا، فالمستبد الذي لا يثق بنفسه يخاف من
شعبه فيحسب كل صيحة عليه، فلا يجد من نفسه نصيرا إلا عبر لبس مسوح الرهبان،
واستخدام لغة دينية تخدّر الناس، وتجعلهم في معزل عن أن يأمروا بالعدل،
قيمة العدل العظيمة التي أوجبها الإسلام على كل أحد من كل احد في كل زمان
ومكان وحال.
الحرب على
الزنادقة قد لا تكون كلها من صنع السياسي وأدواته، لكن المستبد دون شك يعبث
بها ويستغلها، وهو وحده من يجعلها قذرة، فالحرب على الزنادقة هو حينما
يتخذها المستبد لتصفية جميع خصومه، ويركبها ليخيف كل من يخالفه، ويستغلها
للتلويح بعصا التكفير ضد كل من تسول له نفسه المطالبة بعدالة اجتماعية
وحقوق سياسية.
وستبقى وتكون
الحرب قذرة حينما يكون السياسي هو من “يزندق” لأجل أن يقيم مقصلة سياسية
بشعة لا تستثني أحدا من خصومه سواء أزنادقة كان فعلا أم لا!
وبعد كل هذا،
فهل سيبقى هناك مَن يتغنى بمقاصل الزنادقة التي أقامها المهدي، ليس ضد ضرار
بن عمرو، بل ضد بشار بن برد وضد شريك القاضي؟!
خاص بموقع ” المقال ” .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..