الدهاء و القوة العقلية ليست ضمان الهداية، فالهداية مرتهنة بالاتباع و الاقتداء، أما القوة العقلية منفردة فقد تكون سببا للضياع.
ويزين الشيطان لبعض الأذكياء أن عندهم من الذكاء ما يكفيهم عن الاتباع و الاقتداء، ويوهمهم أن غيرهم المتبع أقل منهم ذكاء.
وأول
ما ظهرت الفرق الكلامية كانت تُقلِلُ من قَدْرِ العلماء لأنهم (مقلدون) أي
يتبعون النص. ويكتفون بترديد ما رووه فقط. وليس عندهم المُرْنة العقلية
التي تؤهلهم لكي يفهموا النص فضلا عن أن يستنطبوا منه. لذا حاول المعتزلة
وغيرهم نفي نِسبة كتاب الإمام أحمد (الرد على الجهمية و المعتزلة) إليه،
وشككوا في ثبوت الكتاب له. لأن الكتاب احتوى على ردود عقلية افترضوا نفيها
عن الإمام وعجزه عنها، لا سيّما في ذلك العصر المبكر. ولكنهم لم يستطيعوا
إلى ذلك سبيلاً، فقد انتشر الكتاب واُعتدَّ واُستدلَّ به، وبقيت أدلة
الكتاب وبراهينه براكين ثائرة وعاصوفاً عاتياً يقتلع أيَّ مذهب عقلي ضالٍ
حتى يومنا هذا.
وأهل
الكلام لم يكونوا أغبياء بلداء، بل كان بعضهم غاية في الدهاء والذكاء
ولكنه لم يُعطَ زكاء. ومن هؤلاء الأذكياء الضُلال (أبي هذيل العلاف). كانت
أول مناظرة له مع يهودي ذكي حيَّر الناس وفتنهم وألجمهم.
وأما
خَبر ذلك اليهودي أنه كان يأتي بالمسلم فيقرره نبوة عيسى وموسى عليهما
السلام، فيُقر المسلم بذلك ويجحد بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ويقول
إنني لا أؤمن به و لا بنبوته. ثم يقول له بعد ذلك ما دُمتَ أقررت بنبوتهما
وانا مقر بذلك أيضا، فلنجتمع على ما اتفقنا عليه، على الإثنين، و لا يجب أن
يفرقنا ثالث محل نزاع.!
فلا
يستطيع الناس الرد عليه، و كان هذا اليهودي ذا جاه ومال في البصرة، ذا
خُلق وأدب، دَيّن نفرا كثيراً من أهل البصرة إلا أنه أعجزهم في هذه.
وكان
أبا هذيل شاب صغير ذكي لَماح، ولم ينشغل بالكلام حينها بعد، فطلب من أحد
أقاربه الذهاب به إلى هذا اليهودي، وكان هذا يثني أبا هذيل عن ذلك ويُخذله،
فقال أبو هذيل: وما يضرك أنت. اذهب بي إليه فإن ألجمني فقد ألجم من هم
أكبر و أعلم مني وإن انتصرت عليه فهذا ما نريد.
فقدم
الصبي أو الشاب أبا هذيل، فاستصغره اليهودي وازدراه، فقد حيَّر من هم أكبر
منه و أعلم. فلما أراد أن يُقرِّره قال أبو هذيل: أيُ موسىً تقصد؟ إن كنت
تقصد النبي موسى الذي أقر وبشر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فنعم ذاك
أعرفه حقَّ المعرفة، و أما إن كنت تقصد شخصا آخر لم يبشر ويأمر باتباع محمد
فذاك لا أؤمن به و لا أعرفه و ليس بنبي!
فتحيَّر
فيه اليهودي، فسأله عن عيسى فقال فيه أبو هذيل ما قاله في موسى فأُلجم
اليهودي وسَكت، وفر من البصرة وترك مساكنه وتجارته وديونه التي دَينها
الناس، وانقطع شره.
ثم انشغل أبو هذيل بعلم الكلام فضَل و أضل، نسأل الله السلامة و العافية، لم يَهدهِ ذكائه لاتباع الوحيين وظن أنه بذكائه غنيٌ عنهما.
**
لاحظت أن كثيراً من اليهود و النصارى و غيرهم من أرباب الفِرق و الديانات
يكون عند الواحد منهم شُبهة واحدة يرددها ويَحيِّر الناس فيها، وليس عنده
غيرها، فإذا انقطعت انقطع. وقد ذكرتُ مثالاً لذلك في مقالة سابقة بعنوان (
النصراني المُتحدي وابن رشيق رحمه الله) فلتراجع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ، أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ، فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق تقبل أطيب تحية ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف وسيتم الحذف فورا ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..